الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَاب الْخَامِس
فِي معرفَة العالي والنازل
وَقد عظمت رَغْبَة الْمُتَأَخِّرين فِي طلب الْعُلُوّ حَتَّى كَانَ ذَلِك سَببا لخلل كثير فِي الصَّنْعَة
وَقَالُوا الْعُلُوّ قرب من الله تَعَالَى
وَهَذَا كَلَام يحْتَاج إِلَى تَحْقِيق وَبحث
وَقَالَ بعض الزهاد طلب الْعُلُوّ من زِينَة الدُّنْيَا
وَهَذَا كَلَام وَاقع وَهُوَ الغالبين على الطالبين لذَلِك وَلَا أعلم وَجها جيدا لترجيح الْعُلُوّ إِلَّا أَنه أقرب إِلَى الصِّحَّة وَقلة الْخَطَأ الطالبين يتفاوتون فِي الإتقان وَالْغَالِب عدم الإتقان فِي أَبنَاء الزَّمَان
فَإِذا كثرت الوسائط وَقع من كل وَاسِطَة تساهل مَا كثر الْخَطَأ والزلل
وَإِذا قلت الوسائط قل
فَإِن كَانَ النُّزُول فِيهِ إتقان والعلو بضده فَلَا تردد فِي أَن النُّزُول أولى
أَحدهَا الْعُلُوّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قلَّة الوسائط بَيْننَا وَبَين الرَّسُول صلى الله عليه وسلم
وغالب مَا يَقع من هَذَا لمشايخنا الْيَوْم بِالْأَسَانِيدِ الجيدة ثَمَانِيَة رجال وَلنَا تِسْعَة وَقد يَقع أقل من هَذَا فَيكون لنا ثمانيا وَقد يَقع أقل مِنْهُ فَيكون لنا سباعيا وَلَكِن لَيْسَ فِي دَرَجَة الأول بِالنِّسْبَةِ إِلَى جودة الرِّجَال
وَثَانِيها الْعُلُوّ إِلَى إِمَام من أَئِمَّة الحَدِيث كمالك وسُفْيَان وَاللَّيْث وَالْأَعْمَش وَغَيرهم
وَأَعْلَى مَا وَقع لنا إِلَى مَالك رحمه الله سِتَّة رجال وَأكْثر مِنْهُ سَبْعَة
وَوَقع لنا إِلَى سُفْيَان سِتَّة فِي أَحَادِيث كَثِيرَة بِسَبَب طول عمره وتأخره بعد مَالك رحمهمَا الله تَعَالَى
وَثَالِثهَا الْعُلُوّ إِلَى صَاحِبي الصَّحِيحَيْنِ ومصنفي الْكتب الْمَشْهُورَة
وَأَعْلَى مَا وَقع لنا إِلَى البخار رحمه الله خَمْسَة رجال وَأَعْلَى مَا وَقع لنا إِلَى أبي دَاوُد خَمْسَة أَيْضا وَالْأَكْثَر فِي هَذَا سِتَّة
وَرَابِعهَا علو التَّنْزِيل
وَهُوَ الَّذِي يولعون بِهِ وَذَلِكَ أَن ينظر إِلَى عدد الرِّجَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَايَة أما إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو إِلَى بعض رُوَاة الحَدِيث
وَينظر الْعدَد بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وَتلك الْغَايَة فيتنزل بعض الروَاة من الطَّرِيق الَّتِي توصلنا إِلَى المصنفين منزلَة بعض الروَاة من الطَّرِيق الَّتِي لَيست من جهتهم لَو أردنَا تَخْرِيج الحَدِيث من جهتهم فَيحصل بذلك علو
مِثَاله أَن يكون بَيْننَا وَبَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم تِسْعَة أنفس وَيكون أحد هَؤُلَاءِ المصنفين بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَبْعَة مثلا فيتنزل هَذَا المُصَنّف بِمَنْزِلَة شيخ شَيخنَا فَإِن اتّفق أَن يتنزل منزلَة شَيخنَا وكأنا سمعنَا ذَلِك الحَدِيث من ذَلِك المُصَنّف سموهُ مصافحة
وخامسها الْعُلُوّ بقدم السماع وَإِن اسْتَوَى الْعدَد
كَمَا إِذا روى شيخ من شُيُوخنَا حَدِيثا عَن شيخ قديم الْوَفَاة كالحافظ أبي الْحسن الْمَقْدِسِي عَن السلَفِي وروينا نَحن ذَلِك الحَدِيث عَن من تَأَخَّرت وَفَاته كَابْن بنت السلَفِي فَإِن الْمَقْدِسِي توفّي سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة وَتُوفِّي السبط سنة إِحْدَى وَخمسين فالعدد بِالنِّسْبَةِ إِلَى السلَفِي وَاحِد إِلَّا أَن الأول أقدم فَهَذَا يعدونه علوا ويثبتون لَهُ مزية فِي الرِّوَايَة
وَمن النَّاس من يعد الْعُلُوّ الإتقان والضبط وَإِن كَانَ نازلا فِي الْعدَد وَهَذَا علو معنوي وَالْأول صوري ورعاية الثَّانِي إِذا تَعَارضا أولى وَالله أعلم
وَذَلِكَ فِي أُمُور صلى الله عليه وسلم َ - الأول
فِي الْفرق بَين الْغَرِيب والعزيز
الْغَرِيب قد ذكرنَا أَولا مَا يُشِير إِلَيْهِ
وَأما الْعَزِيز فَعَن ابْن مَنْدَه أَنه قَالَ
الْغَرِيب من الحَدِيث كَحَدِيث الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وشبههما من الْأَئِمَّة مِمَّن يجمع حَدِيثهمْ إِذا انْفَرد الرجل مِنْهُم بِالْحَدِيثِ يُسمى غَرِيبا
فَإِذا روى عَنْهُم رجلَانِ وَثَلَاثَة واشتركوا فِي حَدِيث يُسمى عَزِيزًا
فَإِذا روى الْجَمَاعَة عَنْهُم حَدِيثا سمي مَشْهُورا صلى الله عليه وسلم َ - وَثَانِيها معرفَة المدبج
وَهُوَ رِوَايَة الأقران بَعضهم عَن بعض وهم المتقاربون فِي السن والطبقة
يروي كل وَاحِد مِنْهُم عَن الآخر كعائشة وَأبي هُرَيْرَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ
فَإِن تَبَاعَدت الطَّبَقَة والريبة فَلَيْسَ من ذَلِك بل يكون من روية الأكابر عَن الأصاغر صلى الله عليه وسلم َ - وَثَالِثهَا معرفَة المؤتلف والمختلف
وَهُوَ أَن يشْتَرك اسمان فِي صُورَة الْخط ويختلفا فِي النُّطْق
كحيان وحبان الأول بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَالثَّانِي بِالْبَاء ثَانِيهَا
وكبشير وَبشير الأول بِفَتْح الْبَاء وَالثَّانِي بضَمهَا وَالثَّانِي بِالْبَاء ثَانِيهَا صلى الله عليه وسلم َ - وَرَابِعهَا معرفَة الْمُتَّفق المفترق
وَهُوَ أَن يشْتَرك اثْنَان أَو أَكثر فِي الِاسْم وَاسم الْأَب وَالْجد مثلا ويفترقان فِي نفس الْأَمر وَهَذَا هُوَ الْمُشْتَرك
وَهُوَ فن مُهِمّ لِأَنَّهُ قد يَقع الْغَلَط فيعتقد أَن أحد الشخصين هُوَ الآخر وَرُبمَا كَانَ أَحدهمَا ثِقَة وَالْآخر ضَعِيفا فَإِذا غلط من الضَّعِيف إِلَى الْقوي
صحّح مَا لَا يَصح وَإِذا غلط من الْقوي إِلَى الضَّعِيف أبطل مَا يَصح
وَقد يَقع هَذَا فِي الْأَنْسَاب كَمَا يَقع فِي الْأَسْمَاء وَيَقَع الأشكال فِيهِ إِذا أطلق النّسَب من غير تَسْمِيَة صلى الله عليه وسلم َ - وخامسها الألقاب
وَهُوَ مَا وضع لتعريف ذَات مُعينَة لَا على سَبِيل الاسمية العلمية وَهَذَا قد يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْمعرفَة بِحَال الرجل إِذا أردنَا الْكَشْف عَنهُ وَيكون مَشْهُورا بلقبه فيذكر بِهِ فِي الْإِسْنَاد
فَإِذا أردنَا كشفه من كتب التواريخ مثلا الَّتِي رتبت على الْأَسْمَاء والحروف فطلبناه فِي الْحَرْف الَّذِي هُوَ أول فِي اللقب لم نجده مَذْكُورا بلقبه فطلبناه فِي كتب الألقاب فَوَجَدنَا اسْمه فِيهَا فرجعنا إِلَى التواريخ فَعرفنَا حَاله مِنْهَا
وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ إِذا كَانَ مَشْهُورا بنسبه فذكرناه بلقبه فِي الْإِسْنَاد فَإِن لم نَعْرِف أَن لقبه لم نهتد إِلَى الْكَشْف عَن حَاله
وَقد نهي عَن التنابر بِالْأَلْقَابِ بقوله
{وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} وَنزلت حِين قدم النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة وللرجل مِنْهُم اللقب واللقبان
غير أَنه قد سومح بذلك إِذا كَانَ التَّعْرِيف بالشخص متوقفا عَلَيْهِ لشهرته
فَإِن كَانَ بِحَيْثُ يتَأَذَّى لَهُ وَلَا يتَوَقَّف التَّعْرِيف عَلَيْهِ فَهُوَ دَاخل تَحت النَّهْي مَعَ عدم الْمعَارض صلى الله عليه وسلم َ - وسادسها الموافقات
وَهُوَ أَن يروي حَدِيثا من غير طرق الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين إِلَى أَن يُوصل بشيخ أحدهم فَيكون مُوَافقَة فِي شَيْخه
وَقد كثر حرص الْمُتَأَخِّرين على ذَلِك وَإِنَّمَا يحرصون عَلَيْهِ بِشَرْط أَن يَعْلُو إِسْنَاده على الطَّرِيق الَّتِي يروونها إِلَى الْأَمَام
مِثَاله أَن أَكثر مَا يَقع لمشايخنا الْعُلُوّ إِلَى الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين كالبخاري وَمُسلم وَغَيرهمَا بِأَن يرووا عَن خَمْسَة إِلَيْهِ
فَإِذا رووا من غير طَرِيق ذَلِك الإِمَام عَن خَمْسَة إِلَى شَيْخه كَانَ ذَلِك عَالِيا مُوَافقا كَرِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم وقتيبة بن سعيد فَإِذا رووا عَن خَمْسَة إِلَى قُتَيْبَة كَانَ على الشَّرْط الْمَذْكُور فِي الْعُلُوّ والموافقة
وَمن غَرِيب مَا وَقع فِي ذَلِك ونادره حَدِيث آخر فِيهِ مُوَافقَة البُخَارِيّ وَمُسلم مَعًا مَعَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا روى عَن شيخ غير شيخ الآخر وَهُوَ حَدِيث أبي بكر بن أبي شيبَة عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد فِي فَضِيلَة الصَّوْم
فَإِن مُسلما رَوَاهُ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَالْبُخَارِيّ رَوَاهُ عَن خَالِد بن مخلد فَوَقع مُوَافقَة لَهما مَعَ اخْتِلَاف شيخهما وَهُوَ عَزِيز
وَأما الْمُوَافقَة لَهما مَعًا فِي شيخ وَاحِد يرويان عَنهُ فموجود متيسر
وَقد صنف فِي هَذَا الْفَنّ خلق كثير وحرص عَلَيْهِ الْمُتَأَخّرُونَ وَجَاء الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي فصنف فِي ذَلِك كتابا ضخما أنبأ عَن تبحره فِي هَذَا الْفَنّ
وسابعها الْإِبْدَال
وَهُوَ أَن يروي أحد الْأَئِمَّة المصنفين عَن شيخ آخر فيروى هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه عَن غير شيخ ذَلِك الإِمَام عَن ذَلِك الآخر
مِثَاله أَن يروي البُخَارِيّ حَدِيثا عَن قُتَيْبَة عَن مَالك
فيروى الحَدِيث من غير جِهَة البُخَارِيّ عَن أبي مُصعب عَن مَالك فَيكون أَبُو مُصعب بَدَلا من قُتَيْبَة وَمن شرطهم فِي ذَلِك أَيْضا الْعُلُوّ وَالله أعلم