الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل
نورد فيه بينات من كتب العهدين، أعني من التوراة والإنجيل على أن نبينا الأعظم محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الموعود به أيضاً والمشار إليه، والمنبأ عنه [من الأنبياء] كعيسى عليه السلام، بالأدلة الواضحة والبراهين المتينة كما قد تراها صريحة 1.
1 البشارة بالنبي عليه الصلاة والسلام واضحة في التوراة والإنجيل، وقد بين الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، وبينه رسوله عليه الصلاة والسلام في السنة المطهرة في نصوص عديدة. نذكر منها: قوله تعالى {النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات} الأعراف (157) . وقوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} البقرة (89) ، وقوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} البقرة (146) ، وقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} الصف (6) .
ومن الأحاديث: حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني عبد الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين ترين". حم4/127. وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال: "يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي كأنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام". حم 5/262. وهذه البشارات الواردة في التوراة والإنجيل، قد كتب فيها العلماء، فمنهم: "ابن ربن الطبري" صاحب كتاب" الدين والدولة"، و"المهتدي السموأل" في" إفحام اليهود"، و"الجعفري" في" تخجيل من حرف الإنجيل"، و"شيخ الإسلام ابن تيمية" في" الجواب الصحيح"، و"عبد الأحد داود" في"محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس"، و"الشيخ رحمة الله الهندي" في "إظهار الحق"، و" أحمد حجازي السقا" في"البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل".وغيرهم كثير، اهتموا بإبراز البشارة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وشهدوا بأن التوراة والإنجيل قد جاءت فيهما بشارات كثيرة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الشهادة الأولى
هو ما ورد عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثامن عشر والعدد الخامس عشر من قول سيدنا موسى، إذ قال لقومه بني إسرائيل:"إن نبياً من بينك ومن اخوتك مثلي يقيمه الرب"1، ولم يقل من شعبك كما ترجمت إلى اللغة العربية، بل من بينك لأنها في اللغة العبرانية (مقربيخا) أي: من بينك، وفي العدد الثامن عشر أيضاً، قال: "إن الرب
1 في. ن. ع النص هكذا" يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون".
إلهكم سيقيم نبياً من إخوتكم مثلي، فاسمعوا له وكل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها"1.
أقول: إن هذه الشهادة هي بلا ريب (منطبقة) على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من حيث إن إسماعيل وخلفه الذين منهم نبينا كانوا يسمون إخوة لبني إبراهيم، [أعني: إسحاق وخلفه عليهما السلام] ، لأن الله تعالى قال لهاجر رضي الله عنها امرأة سيدنا إبراهيم عن إسماعيل ابنها: "بأن قبالة إخوته ينصب المضارب2، ومن حيث إن إسحاق أبا يعقوب، (وذريته) بني إسرائيل دعواإخوة لإسماعيل3، فإسماعيل هو أخوهم بلا شك، فمن ههنا (ألغز) 4 النبي موسى عليه السلام بكلامه، وأشار إشارة خفية غير صريحة في النسق، حسب عادة الأنبياء بإخفاء بعض مقاصدهم وتكلمهم بالرموز عن أن الله تعالى سيقيم نبياً5 بينهم من إخوتهم* أي من بني إسماعيل
1 النص في. د هكذا"إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كل مايكلمكم به، ويكون كل نفس لاتسمع لذاك النبي تباد من الشعب".
2 تكوين 18:25.
3 في النسختين" أن إسحق أبو يعقوب وخلفه بني إسرائيل دعيو إخوة لإسماعيل"، وصوابها ما أثبت.
4 في النسختين"لغزور" ولامعنى لها، ويبدو صوابها ما أثبت. ومعنى ألغز أي: مال بكلامه عن وجههأو عمى مراده وأضمره على خلاف ما أظهره. المعجم الوسيط 2/830.
5 في. ت"من مابينهم" وصوابها ما أثبت.
(*) حاشية: (اعلم أنّ قوله من إخوتكم هو قول ملغوز فائق الحكمة، لأنه لو كان قصد موسى عليه السلام عن أن النبي الذي وعد به هو من بني إسرائيل لكان ينبغي له أن يقول عوضاً من إخوتكم، إن منكم يقيم الرب نبياً أو من أسباطكم أو من سلسلتكم أو من نسلكم أو من زرعكم أو من بنيكم أو من مولوديكم، وبحيث إنه قد ترك ذكر هذه السلسلة النازلة لزم أن يكون الحق كما شرح المؤلف بتطبيق العلامات والقرائن الدالة عليه من موسى عليه السلام في هذه الشهادة.
المباينين لهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لكونه نبياً، ومن ولد إسماعيل، لأن من عادة الكتب المنزلة أن تسمي أولاد الأعمام عن بعدٍ بعيدٍ: إخوة، ومثل ذلك قد ورد في القرآن الشريف، إذ أنه دعى النبيين اللذين هما هود وصالح، إخوة لعاد وثمود1، وهما على بعدٍ بعيدٍ من أولاد الأعمام أيضاً.
وفي سفر العدد في الإصحاح العشرين [في العدد الرابع] يقول: "وأرسل موسى من قادش إلى ملك أدوم2 قائلاً: هكذا يقول أخوك إسرائيل"3. مع أن الآخرين هم من بني الأعمام عن بعدٍ بعيدٍ.
1 وفي هذا يقول اللهعز وجل {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء آية123،124) . وقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء آية 141،142) .
2 في. ت" وأرسل موسى إلى ملك قادش"، وصوابها ما أثبت كما هو في. د وكذلك في العهد القديم.
3 العدد 14:20، ووصف موسى الملك أدوم بأنه أخو إسرائيل، لأن الأدوميين هم نسل عيسو أخو يعقوب عليه السلام، وهو الذي سمى أدوم كما قالوا في التكوين 8:36:ط"فسكن عيسو في جبل سعير وعيسو هو أدوم وهذه مواليد عيسو أبي أدوم". انظر: قاموس الكتاب المقدس ص649. وقالوا في سفر التثنية 8:2:" فعبرنا عن إخوتنا بني عيسو الساكنين في سعير".
وأما قولنا: إن هذه الشهادة (منطبقة) على نبينا صلى الله عليه وسلم (بسبب أنه لايشاركه غيره فيها) ، لأنه إن ادعت اليهود أن هذه الشهادة قيلت عن يشوع بن نون [وليست عن] نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، (فنرى أنها لا تتفق مع دعواهم بل تنفرعنها نفوراً) 1 ظاهراً، لأن يشوع كان حاضراً معهم وعند موسى مقيماً بخدمته، وقد أشار عنه بعبارة صريحة قبل هذه في الإصحاح الثالث2 من التثنية بقوله:"فليكن يشوع بن نون خادمك فهو يدخل عوضك وهو يقسم الأرض لإسرائيل"3. فما (ينبغي) أن يذكره لهم باسم نكرة بعد [إشهاره] لهم باسمه العلم.
وثانياً: إذا ادعت النصارى أن هذه الشهادة قيلت عن المسيح، فيقال لهم هذا الجواب؛ وهو: أن موسى قال "نبياً مثلي الذي يقيمه الله"، وهم: أعني النصارى، يدعون أن عيسى هو (إله وإنسان)، فإذاً: ليس هو كموسى، من كون أن موسى إنسان فقط، وعيسى على زعمهم إله لموسى حتى، ولا ناسوت عيسى مثل ناسوت موسى، لأن ناسوت موسى هو من زرع بشري، وناسوت عيسى من غير زرع بشري، بل ناسوت عيسى من بتول فقط، (وموسى كان من امرأة مثل بقية النساء مفضوضة) 4، فما يكون
1 في النسختين" فقد ننظرها تنفر من دعواهم نفوراً ظاهراً" واستقامتها كما أثبت.
2 في النسختين" الأول" وصوابها ما أثبت.
3 التثنية 28:3.
4 هكذا في النسختين، ويقصد أنها ثيب مثل بقية النساء المتزوجات.
المسيح مثل موسى، لأن موسى قال عن النبي الذي وعد به:"إنه نبي مثلي"، حتى ولا شريعته مثل شريعته، لأن شريعة عيسى فضلية، وشريعة موسى عدلية1، ولا إنذاره مثل إنذاره، لأن موسى كان لبني إسرائيل حاكما وغنياً وبالسيف، وعيسى كان فقيراً ومحكوما عليه هذا على موجب زعمهم ولا كان لعيسى سيف مثل موسى ولا حكم.
وأيضاً [أقول] إنه لم [يُقَل في الإنجيل عن] عيسى2 (على التغليب) اسم 3 نبي على الحقيقة بالاسم والفعل*.
1 يقصد أن شريعة عيسى جاءت بتغليب التفضل والإحسان، أما شريعة موسى فجاءت بإقامة العدل وأخذ الحق والقصاص، كما قال متى في إنجيله 39:5 عن المسيح أنه قال:" سمعتم أنه قيل عين بعين وسنبسن، وأما أنا فأقول لكم: لاتقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومنأراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا، ومن سخرك ميلاً واحدا فاذهب معه اثنين".
2 في. د" ولاإنذار عيسى بالزهد والسيرة النسكية كان مثل إنذار موسى، لأن موسى كان ينذر بالسعة وحسن الحال".
3 في. ت" لم يقال على عيسى بوجه التغلب" وما أثبت من. د.
(*) حاشية: (اعلم أنّ التغليب المقول من صاحب التأليف قد يراد به عند أصحاب علم البديع بالمثال، علىأن اسم نبي قد ورد مقولا في الإنجيل على عيسى مرتين أو ثلاثة، وأما في القرآن الشريف قد ورد مقولا على رسول الله مرات عديدة، وتكثير هذه المرات قد يقال له عند العلماء: التغلب، وهو تكراره في الاستعمال كرات عديدة، النبي النبي النبي النبي)[وقد تكرر على عيسى في الإنجيل مرتين أو ثلاثة فقط] . وقد اختلف نص الحاشية في. د، إلا أن معناهما واحد.
ويشوع بن نون كان نبياً أيضاً، ولكنه الآخرلم يغلب عليه اسم النبي، أعني: أنه لم يُقَل عنهما: يشوع النبي أو المسيح النبي في الغالب مثلما يقال: موسى النبي أو النبي محمد عليهم الصلاة والسلام.
وفي القرآن الشريف ترى هذه اللفظة، أي: اسم النبي مكررة مرات على نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتكون النبوءة من سيدنا موسىصادقة عليه، كما صدقت عليه لفظة "من إخوتكم"، من كونه من بني إسماعيل المبارك1 إخوة بني سيدنا إبراهيم الذين منهم بني إسرائيل، الذين رمز لهم موسىعليه السلام أن من إخوتهم يقام النبي الموعود به.
وإن كان بنو2 عيسو أخو يعقوب، يسمون أيضاً إخوة لبني إسرائيل عن بعدٍ بعيدٍ، كما جاء عنهم في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثاني3، إلا أنه ماقام منهم نبي مثل محمد صلى الله عليه وسلم حتى نستدل عليه من شهادة الحال، مع أن عيسو تزوج (محلة) 4 ابنة إسماعيل.
1 يقصد ما أورد اليهود في كتابهم من أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام" وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جدا اثنى عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة". التكوين 20:17
2 في. ت" بني عيسو" وصوابها ما أثبت من. د.
3 تثنية 4:2، وجاء فيه" وأوصى الشعب قائلا: أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير".
4 في النسختين" بمخملات" وصوابها ماأثبت كما هي في سفر التكوين 9:28.
فينتج إذاً: أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو المشار إليه من موسى دون (شك) ، ومع ذلك فإن موسى بيّن بما أضاف من قولٍ مقصوده1، وهو:"بأن كل نفس لاتسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها"، فلفظة استئصال يستدل منها على أنها كانت نبوءة من موسى على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه يستأصل كل من لايسمع له (بسيفه البتار) ، وأن هذه الوصية هي صادقة عليه بهذا الوجه المشروح، ولا تصدق على المسيح؛ لأن المسيح قال: إنه ماجاء ليميت أنفس الناس، وذلك يقول: تستأصل، وليست كما تصور النصارى: أنها مقولة على الخراب الذي عمله تيطس ملك روما2، الذي خرب بيت المقدس الشريف، وقتل اليهود الذين كانوا فيها3، وعلى ظنهم أن ذلك كان بسبب عيسى، مع أن تيطس كان غير مؤمن
1 في النسختين" أن موسى بين المخفار بالقول المضاف لهذا" وفصاحتها ما أثبت.
2 تيطس أو تيطوس إمبراطور روماني بعد زمن المسيح عليه السلام توفي سنة 81م. معجم الحضارات السامية ص290.
3 قام الإمبراطور الروماني تيطوس حين كان قائداً لجيوش أبيه في فلسطين بحصار بيت المقدس سنة 70م ثم استولى عليها بعد حصار خمسة أشهر، وقتل من أمكنه قتله من اليهود، ويقدر قتلاهم بأكثر من مليون شخص، وزالت بفعلته تلك الدولة اليهودية، ولم يصبح لهم وطن بعدها. انظر: معجم الحضارات السامية ص29.
ولا (مطيع) لعيسى*، وكان قتله لهم بسبب (عصيانهم) له بالأمور (الملكية) ، لا لأجل الأمور الدينية، أي (لم يكن قتله لهم) لأنهم (لم يتبعوا) عيسى (ولم يطيعوه) ، لأنه هو أيضاً كان (مضطهداً لأتباع عيسى)1.
وربما كان يوجد نصارى (كثيرون) مختبئين، وقد قتلهم تيطس نفسه أيضاً مع اليهود، لأن حربه وقعت بعد أربعين سنة من عيسى2 وكان قد (تنصركثيرون) 3 في تلك الأراضي.
(وبالاختصار أن) هذه الشهادة من موسى عليه السلام، أي لفظة "تستأصل" هي وحدها كافية بأنها مقولة على نبيناصلى الله عليه وسلم، [وظهر (تحقيقها) ] منه (ومن صحابته) وليس [من] غيره*، لأنه كان المنتقم [والمستأصل] من قبل الله للذين لم يسمعوا له.
(*) حاشية: ( [اعلم أنه] بالتبعية لكلام النبوة ينبغي أن يكون تيطس من المقتولين المستأصلين لأنه ماسمع لعيسى فكيف يسوغ أن يقال بأنه هو المستخلص حق عيسى والنائب عنه، والمنتصر لدينه) .
1 في النسختين" مضطهداً لعيسى" وفصاحتها ما أثبت.
2 يقصد بعد رفع عيسى عليه السلام.
3 في النسختين في الموضعين" كثيرين" وصوابها ما أثبت.
(*) حاشية: (اعلم أنّ لفظة تستأصل في العبراني [مبنية] للمجهول، والقصد منها ليس الحصر بالاستئصال أن يكون متعلقاً بشخص النبي الكريم فقط، بل وبصحابته المنتصرين لدين الله القيم) .
الشهادة الثانية
في إنجيل يوحنا في الإصحاح الأول [في العدد الحادي والعشرين] يقول: "وأرسل [الفريسيون] يسألون يوحنا المعمداني قائلين له: ألنبي أنت؟ فأجابهم: كلاّ. فأجابوه: ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ "1.
أقول: إن هذه الشهادة (تتضمن) أن الفريسيين علماء اليهودإلى زمن مجئ عيسى عليه السلام، كان متداولاً بينهم عن آبائهم وأجدادهم (المتناقلين) لكلام النبي موسى عليه السلام، بأن الله –تعالى- (سيرسل) نبياً، وهم في انتظاره كالمسيح عليه السلام، وحيث إن علماء اليهود كانوا متحيرين في مجئ النبي المخبر عنه من موسى، ومعربسين2 قصة يوحنا ابن زكريا عليهما السلام، من أنه كان يسكن البراري كولد إسماعيل3، فأرسلوا يسألونه: ماتقول عن نفسك؟ فلما جاوبهم بأنه ليس هو المسيح ولا إيليا ولا النبي، اعترضوا وقالوا له: مابالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟.
1 يوحنا 1: 19- 26، وقد اختصرها المصنف.
2 هكذا في النسختين ولم أتمكن من فهمها، إلا أن تكون ويعرفون.
3 ورد عن يوحنا" يحيى بن زكريا" عليهما السلام في إنجيل مرقس 4:1" كان يوحنا يعمد في البرية
…
وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه ويأكل جراداً وعسلاً بريا".
فيظهر من (مضمون) كلامهم أنهم في (انتظار) ثلاثة أنفار عظام، قد كان الأنبياء السابقون أخبروا1 بمجيئهم وأسمائهم، وهم: المسيح وإيليا والنبي.
فمن ههنا ينتج أن المسيح (شخص) ، وإيليا (شخص) ، والنبي (شخص) آخر2، وحيث إن الانتظار كان للنبي أيضاً، الذي هو غير المسيح، واسمه وارد بالسؤال بعد المسيح، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان وروده بعد المسيح، وهو خاتمة المطلوب3. فمن هذه الشهادة سقطت:
أولاً: دعوى اليهود الزاعمين أن شهادة موسى السابقة هي مقولة عن يشوع بن نون، (لأنها لو كانت مقولة عن يشوع بن نون) لما كان علماء اليهود لحد زمان عيسى يسألون (المعمداني) عن النبي قائلين: ألنبي أنت؟ أجابهم: كلاّ.
وثانياً: تسقط دعوى النصارى القائلين: إن النبي المقول عنه من موسى هو المسيح، لأنه ظهر من سؤال الفريسيين علماء اليهود القائلين:"إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي" أن النبي غير المسيح.
1 في. د" أنذروا".
2 في النسختين" المسيح آخر وإيليا آخر والنبي آخر".
3 يقصد خاتمة مطلوب اليهود في السؤال الذي وجهوه ليحيى عليه السلام.
فإذا المسيح هو المطلوب الأول (لهم) 1، والنبي هو المطلوب الأخير لقولهم:"إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي".
و (لو) كان النبي (هو) المسيح كما فسره النصارى، لكان ينبغي ليوحنا بن زكريا عندما سأله علماء اليهود عن المسيح وإيليا والنبي أن يجاوبهم: إن سؤالكم هذا هو جهل مبين، لأن المسيح هو (نفسه) النبي، فصمته عن مجاوبتهم، ونفيه بأنه ليس هو النبي هومصادقة كلية شرعية على أن الموعود به نبي آخر غير المسيح، وهو سيد الكائنات الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.
1 في النسختين" منهم" وصوابها ما أثبت.
الشهادة الثالثة
في إنجيل يوحنا في الإصحاح الخامس عشر يقول: "وإذا جاء البارقليط1 الذي أرسله إليكم من عند الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لي وأنتم أيضاً شاهدون" 2 *.
أقول: إن هذه الشهادة (المقصود بها) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
أولاً: من اسم "بارقليط".
ثانياً: من قوله: "هو يشهد لي".
ثالثاً: من تسميته له: "روح الحق".
1 لفظة" البارقليط أو الفارقليط" وردت هكذا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1831،1821م في لندن، أما الطبعات الأخرى فذكرت كلمة"المعزي أو روح الحق" وطبعة الملك جيمس ذكرت Confouter والتي تعني"المعزي"، أما طبعة New American Bible فقد ذكرت كلمة Advocate والتي تعني"المحامي أو المدافع". ويبدو أن المصنف رحمه الله وقف على الطبعات التي تذكر هذهالكلمة، وهي "البارقليط" ومن تلك الطبعات التي ورد فيها كلمة "البارقليط" نسخة البشينا السريانية، ولعل المصنف اطلع عليها حيث هي فيما يظهر لغته. وانظر كلام عبد الأحد داود عنها في كتابه"محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس" ص207-229، وكذلك كلام الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه" إظهار الحق"(4/1185) .
2 يوحنا 26:15.
(*) حاشية: (اعلم أنّ هذه الشهادة مترجمة على موجب أصلها باليوناني [مع كون في نصفها ويدمس (هكذا، ولعل مراده قوسان) بشكل هلالين اللذين يدلان على أن الموجود فيما بين الهلالين هو دخيل] ) .
رابعاً: من قوله عنه إنه: "من الأب ينبثق".
أما عن قوله: "إنه ينبثق من الأب"؛ فهو بمعنى يخرج ويرسل، كما هو (مصرح به) في قواميس اللغة اليونانية، والكنائس الغربية هكذا تفسرها أيضاً، وهذا الإرسال (جاء) مصرحاً به عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1،وقوله:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ} 2.
وأما تسميته له صلى الله عليه وسلم بأنه "روح الحق"، فنرى هذا الاسم من جملة أسمائه الشريفة المندرجة في كتاب دلائل الخيرات3، (المجموعة) من الكتاب والسنة4.
أما5 اسم "بارقليط"(فهي لفظة) يونانية، من معانيها في القواميس: المعزي6 والناصر، والمنذر، والداعي، {والاسم المطابق
1 الأعراف آية (158) .
2 الفتح آية (28) .
3 دلائل الخيرات ص 52.
4 كتاب دلائل الخيرات، تأليف محمد بن سليمان الجزولي الشاذلي المتوفى سنة 870هـ، والكتاب عبارة عن أدعية وصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من الأسماء التي ذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم لا دليل عليها من الكتاب والسنة.
5 في النسختين" أما قوله عليه" واستقامتها كما أثبت.
6درس البروفسور عبد الأحد داود كلمة"الفارقليط" من ناحية لغوية، فقال عنها: إنها لاتعني المعزي أو المحامي، وتهجئة الكلمة هي"باراكليتوس" ParaklYtos ومعناها في الأدبيات الكنسية"شخص يدعى للمساعدة، محام، وسيط"، وإن الكلمة اليونانية التي تعني المعزي ليست باركليتوس بل"باراكالون" Paracalon ثم ذكر أن كلمة باراكليتوس Paraklytos هي صورة مشوهة عن كلمة يونانية اخرى هي Periqlytos"برقليطوس"، وتعني من الناحية اللغوية"الأمجد والأشهر والمستحق للمديح"، وهذا مايعني بالضبط اسم "أحمد" باللغة العربية. والصعوبة الوحيدة التي ينبغي حلها والتغلب عليها هي: اكتشاف الاسم السامي الأصل الذي استخدمه عيسى المسيح عليه السلام إما بالعبرية أو الآرامية. انظر: محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس ص216، 223. وهذه المعلومات المذكورة عن تقارب المفردتين"باراكليتوس، وبرقليطوس"بالنطق، واختلافهما في المعنى في اللغة اليونانية، وأن الأخيرة منهما تعني معنى قريباًمن"محمد" و"أحمد" ذكرها أحد قسس النصارى في رسالة أرسلها للشيخ رحمة الله الهندي، وأثبت ملخصها الشيخ، وبين أن الاختلاف بينهما يسير، وأن من عادة أهل التثليث التبديل والتلاعب بالألفاظ حسب أهوائهم، بل قد يعدون هذا من المستحسنات. انظر: إظهار الحق 4/1187.
هو الداعي} *.
فالنصارى الذين آمنوا وأسلموا في العصور القديمة قد فهموا (أن معنى هذه اللفظة) منصرف إلى القرآن الشريف، وإلى سيد المرسلين الأعظم صلى الله عليه وسلم.
فأما (انصرافها إلى) النبي الأعظمصلى الله عليه وسلمفمن كونه قد وصف بمثل هذه الأوصاف في الكتاب المنزل، كقوله تعالى في سورة النساء
(*) حاشية: (اعلم أنّ لفظة بارقليط إذا ترجمتها للعربي حرفاً بحرف بالمطابقة هي الداعي، ومشتقة من دعى يدعو، وهو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الحاشية ليست في. د.
{وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} 1. وفي سورة الاحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2.
أما النصارى الذين في الدهور المتأخرة، (المتناسلين) 3 من أولئك، فلم يفهموها إلا عن الروح الذي حل على الحواريين4، مع أن الروح الذي (يدّعون) أنه حل عليهم (لم يسم)"بارقليطاً" من الذين حل عليهم، ولا سمي روح الحق، ولا دعي المنبثق من الأب مثلما سماه عيسى لما وعد به، بل إنه سمي من الحواريين روح، وقوة، وألسنة كالنار*.
وأما قوله: "إن البارقليط يشهد لي":
فأقول: إنه يظهر من معناه بأن سيدنا عيسى (يقصد) 5 شخصاً آخر غير شخصه، يشهد له بالحق، وغير الحواريين6. وإثباتاً لهذا الدليلئ
1 النساء آية (75) والآية ساقطة من. ت.
2 الأحزاب آية (45-46) .
3 في النسختين" المتنزحين" وصوابها ما أثبت.
4 يقصد به ماذكره سفر أعمال الرسل 1:2"ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى".
(*) حاشية: (اعلم أنه قد أوصاهم أن لايبرحوا أورشليم إلى أن يلبسوا قوة من العلا بورود الروح القدس عليهم، ولم يقل إنهم يلبسوا بارقليطاً أي داعياً) . وهذه الحاشية ليست في. د.
5 في النسختين" يتعمد".
6 في. ت"شخصاً آخر غير الحواريين يشهد له بالحق" وما أثبت من. د.
هو تعمد إشارته في نسق هذه الجملة1 الواحدة، القائلة عن البارقليط: هو يشهد لي وأنتم أيضاً شاهدون.
فبقوله هذا يظهر أن المزمع والعتيد أن يأتي ويشهد له، هو غير الشاهدين الحاليين، ولو كانا واحداً لما قال: هو يشهد لي، بصيغة الزمان المستقبل البعيدكما في اليوناني*، وأنتم أيضاً شاهدون بصيغة الزمان الحال*.
وأيضاً أقول: إنه لوكان معناه بأن البارقليط الحال يتكلم في المحلول فيهم2 لكان قال: إذا جاء البارقليط الذي أرسله إليكم هو يشهد لي بواسطة ألسنتكم، مثلما قال في موضع آخر عن الروح الذي حل عليهم "بأن روح أبيكم يتكلم فيكم"3، وحيث أن ههنا ثنى موضوع كلامه بقوله: يشهد لي وأنتم أيضاً شاهدون وغيّر أزمنة الشهادة، فيظهر أن الشاهدين له هم غير الشاهد الفريد الذي هو نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.
1 في. د" العبارة" والجملة غير واضحة، ويظهر لي أن صوابها"وتوضيحاً لهذا الدليل فقد تعمد المسيح الإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نسق هذه الجملة".
(*) حاشية: (اعلم أن في اللغة اليونانية يوجد فعلان للمستقبل فعل بعيد وفعل قريب، وهذه اللفظة وجدت مكتوبة في وزن الفعل البعيد، أعني: يشهد لي بمعنى سوف يشهد) .
(*) حاشية: (ولفظة شاهدون قد يراد بها في اليوناني ليس الفعل الحالي فقط، بل والمستمر) .
2 يقصد على دعوى النصارى أن المراد بالفارقليط هو الروح القدس.
3 متى 20:10.
وأما اسم بارقليط: فيحمل معناه أيضاً على القرآن الشريف، لأنه أي القرآن قد ورد من الله تعالى منبثقاً وخارجاً من لدن عنايته، مُعَزياً1 بلفظه المحكم لرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ولخواصه أيضاً.
فأما ما أورده تعالى من التعزيةلرسوله، فمثل قوله {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} 2، وقوله تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} 3، وقوله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر} 4.
وأما ما قاله تعالى من التعزية (لأصحابه) فقوله {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} 5، وقوله تعالى {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 6.
وبالإجمال أقول: إذا أمعنت النظر في القرآن الشريف ترى أكثر معانيه منصرفة إلى التعزية وأجناسها7.
1 يقصد مواسياً ومصبرا.
2 آل عمران آية (176) .
3 المزمل آية (10) . والآية ليست في. د.
4 المدثر آية (7) .
5 آل عمران آية (186) .
6 آل عمران آية (153) .
7 وذلك أن القرآن الكريم تضمن كثيراً من قصص السابقين، وفي قصصهم عبرة للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وتعزية لما يصيبهم من جهد وبلاء في الدعوة إلى دين الله عز وجل.
وإن قيل: إن البارقليط كان الوعد (فيه للحواريين)، لأن سيدنا عيسى قال لهم: إنه يرسله إليهم. والقرآن جاء بعد الحواريين بستمائة سنة.
فأجيب: إن قوله: أرسله إليكم مثل1 قوله لهم: "وها أنا معكم كل الأيام وإلى إنقضاء الدهر"2. فالحواريون لم يبقوا إلى انقضاء الدهر، بل خلفهم الذين بقوا إلى انقضاء عالم عيسى عليه السلام3. انتهى*.
والحال (أن قوله) : "سيقيم لكم" مثل قول عيسى ههنا: "إنه يرسله إليكم"، فالضمير في اللفظتين متساوي للمخاطبين.
1 في النسختين (يحله أيضا) ولا يتضح بها المعنى المقصود.
2 متى 20:38.
3 هكذا في النسختين ولم يتبين لي معناها، إلا أن يكون قصد: إلى انتهاء زمن رسالة عيسى عليه السلام ببعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
(*) حاشية: (اعلم أنّ مثال ذلك قد قاله موسى أيضاً في تثنية الاشتراع: إن الرب إلهكم سيقيم لكم نبياً مثلي. وقد يفسره النصارى على عيسى الذي جاء بعد موسى بنحو ألف وقريب الستمائة سنة) .
الشهادة الرابعة
إن سيدنا داود عليه السلام في المزمور الخامس والأربعين، المعنون في العبراني: من بني قورح من أجل الحبيب قد ترنم به1.
أشار إشارة مطابقة لسيد الخلق نبينا الأعظم حبيب الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فاض قلبي كلمة صالحة، أقول أنا أعمالي للملك، لساني قلم كاتب سريع الكتابة، بهي في الحسن، أفضل من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الدهر، تقلدْ سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك، استله وانجحْ، واملكْ من أجل الحق، ورأفة العدل، وتهديك بالعجب يمينك، نبلك مسنونة أيها القوي، الشعوب تحتك يسقطون في قلب أعداء الملك2، كرسيك يا ألوهيم إلى دهر الداهرين، عصا الاستقامة عصا ملكك، أحببتَ العدل وأبغضتَ الإثم، من أجل ذلك مسحك ألوهيم إلهك3 بدهن البهجة، أفضل من رفقائك،
1 عنوانه في ن. ع "لبني قورح قصيدة ترنيمة محبة".
2 العبارة في المزمور 45 هكذا "نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك شعوب تحتك يسقطون".
3 في نسخة. ت "يا ألوهيم إلهك"، وفي. د "ياألوهيم وبالعربي ياطايق إلهك". وفي النسخة العربية للعهد القديم "الله إلهك".ومثل ما في العهد القديم الطبعة العربية "الله إلهك" ذكرها الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق"4/1143، وذكر أنها هكذا في النسخة الأردية والفارسية، وغيرها من التراجم، وأن بولساعتمد في رسالته للعبرانيين هذا اللفظ، كما أفاد أن أحد النصارى، وهو صاحب كتاب "مفتاح الأسرار" ذكر أن النص هكذا "من أجل ذلك ياالله مسح إلهك". هكذا، وردها الشيخ رحمة الله الهندي، لكونها مخالفة لكلام بولس وسائر الترجمات الأخرى. والحق أنها تحريف من النصارى، لتنطبق فيما يزعمون على المسيح عيسى عليه السلام، باعتبار أنه الله -تعالى الله عن قولهم-. ولعل نسخةً من هذه النسخ هي التي نقل عنها الشيخ زيادة بن يحي هنا. وهي خطأ، والصواب ما أثبت، كما في النسخة العربية، والنسخ التي أفاد عنها الشيخ رحمة الله الهندي. والله أعلم.
المر1 والميعة2 السليخة3 من ثيابك4، من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك".
أقول: والحق أن [سيدنا] رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم يفيض من قلبه كلمة
1 هو صمغ من شجرة ذات شوك رائحته ذكية. قاموس الكتاب المقدس ص852.
2 الميعة: هي شجرة صغيرة تنمو في جميع الأرض المقدسة، وهي ذات رائحة ذكية. قاموس الكتاب المقدس ص940 وكلمة "الميعة" ورد بدلاً عنها في ن. ع. كلمة "العود"، وهو أحد أنواع العطور الشرقية الغالية الثمن القوية الرائحة. قاموس الكتاب المقدس ص647.
3 السليخة: من العطر، شيء كأنه قشر منسلخ ذو شعب، والسليخة من البان، دُهنُ ثَمَرٍه قبل أن يربب بالطيب. فإذا ربب ثمره بالمسك اختلط الدهن بروائح الطيب ويسمى منشوش. لسان العرب (3/2063)
4 في. د "من أقصى ثيابك" وقال بعدها: حاشية "اعلم أن لفظة أقصى هي على موجب لفظها العبراني".
أما النسخة العربية فالعبارة فيها هكذا "من قصور العاج سرتك الأوتار".
صالحة، وهي كلمة الشهادة بالتوحيد، التي هي "لا إله إلا الله"1، وأعماله كانت متجهة نحو: الملك المتعال2، ولسانه قلم كاتب سريع الكتابة3، بهي في الحسن4، أفضل من بني البشر5، لأنه لما كانت النعمة تنسكب على شفتيه الشريفتين كان يباركه الله، وتهبه تلك الفصاحة التي
1 قال تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} إبراهيم آية (24) . قال ابن عباس: "الكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله". انظر تفسير ابن كثير 2/484.
2 الآيات التي تدل على إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم وابتغائه وجه الله بأعماله عديدة، منها قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} الجن آية (20) ، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} الزمر آية (14) ، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} الأنعام آيتا (162، 163) .
3 مراده والله أعلم تشبيه المعلومات التي وردت على لسانه عليه الصلاة والسلام بقلم الكاتب، سريع الكتابة لكثرتها.
4 روى الترمذي في الشمائل عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر" انظر: الشمائل ص 22. كما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو عندي أحسن من القمر". الشمائل ص26
5 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع". أخرجه مسلم 4/1782.
تدل عليها كتب الحديث التي تكلم بها1، وهو القوي الذي كان سيفه على فخذه2، وصاحب الحسن والجمال، الذي استله ونجح وملك، وأجرى الحق (والعدل مع الرأفة) 3، التي هي شريعة الفضل والإحسان، الممتزجة بالعدل4، وهو القوي الذي نباله مسنونة، الذي تساقطت تحته الشعوب، الذي كرسيّ ملكه يدوم إلى دهر الداهرين5،
1 سيأتي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: "وأعطيت جوامع الكلم". انظر: هامش ص 159.
2 عن ابن عمر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لاشريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري". أخرجه حم 2/50،92.
3 في النسختين "ورأفة العدل" وصوابها ما أثبت، ومراده من ذلك أن طلب الحق في الشرع مشروع {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} البقرة آية:(194) . مع التنبيه على أن العفو والسماحة أفضل في مثل قول الله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} الشورى آية (40-43) .
4 في النسختين "مقدامها بالعدل" واستقامتها كما أثبت.
5 عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي، وإني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض
…
ولاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لايضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل". حم 5/278.
الذي عصا الاستقامة عصا ملكه، الذي أحب العدل وأبغض الإثم1، الذي مسحه الله بدهن الابتهاج أفضل من رفقائه الأنبياء2 عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام جميعاً.
فالنصارى الغير منورين3 يفسرون هذا المزمور على سيدنا عيسى بنوع من المجاز، حيث إنه لم (تنطبق عليه) الحقيقة اللفظية، ولم يدركوا أنه إذا [وجدت] حقيقة للكلام فلا محل للمجاز، لأنه إذا وجد (نبي قد سل) 4 سيفاً حقيقياً (فلا يجوز) الالتفات إلى نبي استل سيفاً مجازياً، وهم إلى الآن يقولون: إن هذا المزمور مقول عن عيسى عليه السلام.
1 قال تعالى: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم} الأعراف آية (157) .
2 أوجه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة، من ذلك ماروى مسلم في صحيحه 5/8 كتاب المساجد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون".
3 في. د "الغير المرتشدين".
4 في. ت "نبياً مستل سيفاً"، وفي. د "نبي مسل سيفاً".
وأما النصارى القدماء فقد فهموه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو واضح (الدلالة) عليه، لأن عيسى عليه السلام (لم يعرف له فصاحة في كلامه) ، بل كان كلامه بالبساطة، (بناءً) على دعوى النصارى، ولا تقلد سيفاً على فخذه، ولا نعت بالقوة، ولا كان شهيراً بالحسن والجمال، ولا استل سيفاً من أجل أن يحكم بالحق ورأفة العدل، بل إن أحد حوارييه {الذي هو بطرس} حين استل سيفاً منعه قائلاً:"اردد سيفك إلى غمده"1، مع أنه ما نجح ولا ملك في حياته، بل لما جاؤا ليصيروه ملكاً هرب2، {ولا كان له عصا الاستقامة الذي هو الرمح} ، ولا جاء بالشريعة العدلية على زعم إنجيلهم، بل كان يبدله بالقول:"من ضربك على خدك الايمن حوّل له الآخر"3، الشئ الذي ما قبلته الطبيعة، ولا صار شريعة [دائمة أو عامة] ، ولا كانت له نبال مسنونة {ولا غير مسنونة} ، ولا تساقطت تحته الشعوب، ولا كان ذا عيش رغد وابتهاج، وأنه ماكان يتعاطى العطورات في ثيابه ومنازله إلا مرة أو مرتين، من امرأة
1 متى 51:26.
2 يوحنا 15:6 وفيه "وأما يسوع فإذا علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده".
3 متى 39:5.
في أواخر ظهوره1*. ولا كان له منازل شريفة العاج ولا حقيرة، لأنه هو قال عن نفسه:"إن ابن البشر ليس له موضع يسند إليه رأسه"2.
فإذاًً: هذه الشهادة هي بالحق دالة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من كونها منطبقة عليه من كل جهاتها، لأنه كما قلنا عنه: إنه هو الذي كان يفيض قلبه كلمة صالحة، كلمة الشهادة بالتوحيد، وكانت شفتاه ولسانه متحركين بالفصاحة، أفضل من بني البشر، وهذا دليل أفضليته على الخلق ولذلك باركه الله، وهو الذي كانت أعماله متجهة نحو الملك المتعال، سبحانه وتعالى، وهو الذي كان قوياً وتقلد سيفه على فخذه ونجح وملك، وملكه إلى الآن باق، وإلى يوم القيامة، يجري في شرائعه الحق، ويحنو بالعدل، أي إن أحكامه تبتدئ بالحق (وترغب) بالرأفة3 [وتثيب عليها] ، وهو صاحب الوجه المنير بالحسن والجمال، وهو الذي رشق الكفار الذين عصوا دينه الشريف بعد نصحه لهم بنبال مسنونة، وقوته {مع تلك العصا الذي هو رمحه المستقيم تصدق نبوءة داود هذه} 4، وتساقطت تحته شعوبهم، وهو الذي مسحه الله بدهن البهجة، [أفضل من
1 مرقس 3:14.
(*) حاشية للناسخ: (إن الطيب الذي سكبته الامرأة على عيسى كان عطورات، إلا إن ههنا ذكر داود أنه (مرّ) أي مسك وهو علامة للنبي.)
2 متى 20:8.
3 في النسختين "تبتدىء في الحق وتفوض الرأفة" وفصاحتها ما أثبت.
4 هكذا العبارة في. ت، أما في. د فقال "وقوته تصدق النبوة".
رفقائه الأنبياء] وثيابه الشريفة بالمرّ والميعة والسليخة، وهذه الروائح الطيبة التي كانت تصدر من منازله [السامية] ، ومن [أقصى] ثيابه الشريفة هي مخلوقة بجسمه الشريف1، تفضلاً من الله تعالى الذي مسحه وأرسله رحمة للعالمين2، وكان صحابته الكرام رضي الله عنهم إذا صافحوه تبقى رائحة المسك في أيديهم المدة الطويلة3، وإذا توجه إلى محل وأرادوا (اللحاق به) يستدلون في الأزقة من الروائح الطيبة ويعرفوا أين توجه4، وهذه كانت من أقل معجزاته الشريفة.
1 عن جابر بن سمرةرضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً، قال: أما أنا فمسح خدي، قال: فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار". وعن أنس رضي الله عنه قال: "ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست شيئاً ديباجاً قط ولاحريراً ألين ملمساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعن أنس أيضاً قال: "دخل علينا النبيصلى الله عليه وسلم فقال (نام القيلولة) عندنا فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ النبيصلى الله عليه وسلم فقال "يا أم سليم ماهذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو أطيب الطيب". أخرج الروايات الثلاث: مسلم في الفضائل 4/1814.
2 قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء آية (107) .
3 ذكر ذلك القاضي عياض في الشفا ولم يعزه. انظره 1/ 87.
4 روى ذلك البخاري في التاريخ الكبير عن جابر رضي الله عنه 1/ 399.
وبالاختصار إن هذه العلامة تكفي للشهادة عليه* صلى الله عليه وسلم، وأما باقي المزمورفقد (يؤول) على زوجته، وباقي نسائه الفخام، رضي الله عنهن وعلى جواريه، (ويؤول) أيضاً على سمو ديانته ومركزها التي شبهها داود بالملك1.
تنبيه2: (اعلم أنّ لفظة ألوهيم المرقومة في أصل الشهادة في المزمور الخامس والأربعين في جملة "كرسيك يا ألوهيم"، وفي قوله "مسحك يا ألوهيم" فلفظة ألوهيم هي عبرانية، وتترجم إلى اللغة العربية "إله" ويقال لها معربة، وتترجم أيضاً إلى معناها العربي "طايق"3 لكون لفظة ألوهيم هي مشتقة من "إيل" بفتح الياء، وتعريبها:"طايق" كقولنا: مالي طاقة أي
1 في النسختين "بالملكة" وتصويبها من المختصر.
2 هذا التنبيه ورد حاشية في نسخة. د.
3 في نسخة. د استخدم محل ألوهيم في المواضع السابقة "طايق".
ما لي قوة1، فهذه لفظة ألوهيم التي تترجم إله معربة وتترجم: طايق (على) معناها [العربي] تقال وتطلق على أفاضل [المخلوقين] الناطقين، وتقال على الخالق جل وعلا، وهكذا وجدت في التوراة والإنجيل، ومن القرائن تعرف كما قررنا عنها في الباب الأول من هذا الكتاب2.
ثم إن لفظة ألوهيم هنا (في قوله) : "مسحك يا ألوهيم إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك"، تفيد من القرائن المشروحة أنها مقولة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكونه من أشرف الناطقين، مثلما سمى بها عيسى وموسى عليهما السلام بلفظة تعريبها "إله"، وأما نحن بهذا المزمور لم نعربها ولا نكتبها إله، لعدم استعمالها عند العرب في هذا الشرع الطاهر على الخلق، بل أبقيناها على أصلها العبراني " ألوهيم "3.
1 كأنه يريد أن يقول: إن معنى "طايق" أي مطيق، وأرى أنه يقصد بها القادر القوي. والله أعلم.
2 انظر الباب الأول البيان الأول والثاني.
3 في نسخة. د ورد السطران الأخيران هكذا "وأما في هذا المزمور لم يعربها المؤلف ويكتبها إله، لعدم استعمالها عند العرب في هذا الشرع الطاهر على الخلق، بل أبقاها - أي المؤلف رحمه الله على أصلها العبراني ألوهيم". وهذا النص يدل على أن نسخة. د ليست منقولة عن نسخة المؤلف، وأن ناسخها قد تصرف فيها.
الشهادة الخامسة
إن "إشعيا" النبي1 في التوراة في الإصحاح الخامس عندما أنهى كلامه (عن قصاص) الذين تركوا شريعة الرب رب الجنود، وأنه اشتد غضبه على شعبه، وألقى يده عليهم، وصارت جثثهم في الشوارع، ومع هذا كله2 لم يرتد غضبه ويده عالية، أضاف إلى قوله هذه العبارة والرمز على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله يرفعه، وينصبه علامة للأمم، ودليلاً ليهديهم به، قد تكلم في العدد السادس والعشرين وقال: "ويرفع علامة للأمم من بعيد ويصفر به من أقصى الأرض، وهو ذا يأتي سريعاً بخفة [ليس](فيهم) تاعب ولا عائي] 3 لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حقويه، ولا ينقطع سير حذائه، سهامه حادة، وجميع قسيه موتورة، حوافر خيله مثل الصوان، وبكراته [أي نوقه] مثل العاصف، زئيره4 كالأسد، وبنهم يدرك الفريسة ويحوزها5، وليس من ينجى، ويهر عليه في ذلك اليوم
1 هكذا في النسختين، ونبوته لم تثبت عندنا بنص صحيح، فالتوقف في ذلك أولى.
2 في النسختين "وأن هذه كلها" ولايستقيم بها المعنى، وما أثبت يتفق مع النص في العهد القديم.
3 في. ت "تاعباً ولاعائيا" وما اثبت من. د.
4 في النسختين "وزيرانه" وكذلك هو في المواطن القادمة، وصوابها ما أثبت، وفي ن ع "زمجرته".
5 في النسختين "ويجوز" ولا معنى لها.
كهدير البحر1، وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة، والنور اعتم لضبابها.
أقول: وبالحق إن هذه الشهادة (منطبقة) على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قلنا، ومن كل جهاتها لأن قوله:"ويرفع علامة للأمم"؛ يعني أنه هو العلامة المرفوعة للأمم*، والدليل الهادي، ليقودهم إلى نور دين الله الحق، وهو الذي رفع للأمم أولاً، كما عيسى رفع لليهود أولا، وبعده (عمموا) نبوته2.
1 في النسختين "ويمهر عليه في ذلك اليوم مهرت البحر"، ولم أقف على معنى مناسب ليمهر، ومهرت البحر. ويظهر أنها خطأ، وما أثبت من النسخة العربية إشعيا 5:26-30، إلا أنها فيه بصيغة الجمع، هكذا:"يهرون عليهم في ذلك اليوم كهدير البحر"، كما أن النص فيها على صيغة الجمع فبدايته يقول:"يصفر لهم فإذا هم بالعجلة يأتون سريعاً ليس فيهم رازح ولاعاثر لاينعسون". و"الهر"كما في القاموس المحيط ص639 ضرب من زجر الإبل. فيبدو أن معناها أي يزجرون أعداءهم بصوت كهدير البحر.
(*) حاشية: (اعلم أنّ مامن أحد من الأنبياء الذين هم من بني إسرائيل رفع علامة للأمم ولا أنذرهم، حتى ولا عيسى، بل محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده رفع للأمم وهو من الأمم، كما تنبأ عليه إشعيا، ومن غلاقة شرح هذه الشهادة قد ترى هذا المعنى صريحا ظاهراً) .
2 في النسختين "وبعده عمت نبوتهما"، ويظهر لي أنها خطأ، وصوابها ما أثبت على معنى أن النصارى بعد المسيح ادعوا عموم رسالته. والله أعلم.
وقوله: "من بعيد" مشيراً على أن هذه العلامة ليست هي من أرض إسرائيل1 التي تكلم فيها إشعيا هذه الإشارة، أي [قوله]"ويرفع علامة للأمم" بل من أرض بعيدة، وإيضاح ذلك قد يظهر من العدد الذي يتلوه، حيث يكشف هذا الرمز بقوله:"ويصفر به من أقصى الأرض"، فقوله:"من أقصى الأرض"، يكشف أنه ليس من أرض إسرائيل ترفع العلامة، بل إنها ترفع من بعيد من أقصى الأرض، حيث رمز عنها بهذا الكلام، فكأنه يقول: إن نهاية وأقصى أرض إسرائيل هي الأرض التي خرج منها نبينا صلى الله عليه وسلم، أعني: مكة المشرفة، التي هي عند أقصىأرض إسرائيل، لأن إقليم العرب لا فاصل بينه وبين أرض الموعد2.
1 أرض إسرائيل: مراده الأرض التي كان يسكنها بنو إسرائيل في زمن إشعيا.
2 أرض الموعد: المراد بها عند اليهود ما وعد الله به إبراهيم عليه السلام، وذكروه في التكوين 15:18 "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" فهذه أرض الموعد عندهم، ولو صح هذا النص فإن الأرض المذكورة قد صارت ملكاُ لأبناء ابراهيم الذين هم أبناء اسماعيل وإسحاق وذريتهما، وليس كما يدعي اليهود أنها خاصة ببني اسرائيل فقط، لأن تخصيصها ببني اسرائيل دليل على عدم صحتها، لأن بني اسرائيل لم يمتد ملكهم في أي فترة من فترات تاريخهم الى المساحة التي يزعمون أنها من النيل الى الفرات، فتخصيصها بهم دليل على عدم صحتها، مع أن منطوقها لايدل على ذلك بل يدل على عموم أبناءابراهيم عليه السلام. وأرض الموعد حولها النصارى إلى الإيمان بالموعد أو الوعد، وهو الإيمان بالمسيح، أو أن الله سيرسل المسيح عليه السلام، فمن آمن به على ما يعتقدون فقد نال الموعد أو الوعد. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص1030.وقد استخدمها المصنف رحمه الله فيما يظهر على المعنى الذي يقصده اليهود، وهي المنطقة المتاخمة للجزيرة العربية من ناحية الشمال.
ثم إن هذه الجملة قد تضمنت دليلاً رمزياً آخر، لئلا تجهل العلامة، وأنه عربي بقوله:"ويصفر به"؛ يعني ينادى به، لأن في اللغة العبرانية يقول: ويصفر به، أي أن الله تعالى نادى به الناس كالصفير1، كعادة العرب لكونه صلى الله عليه وسلم عربياً، لأن العرب ينادون بالصفير عند كمائنهم وأغراضهم الخفية2.
وقوله: "يأتي سريعاً بخفة، ليس (فيهم) تاعب ولا عائي، لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حِقْويه، ولا ينقطع سيرحذائه، سهامه حادة، وجميع قِسِيِّه موتورة".
1 في النسختين "كبالصفير" ولامعنى لها، وصوابها فيما يبدو ما أثبت.
2 قال في اللسان 4/2460 الصفير من الصوت بالدواب إذا سيقت، ولم أقف على أن العرب كانوا يتنادون بالصفير، إنما ورد في معنى قوله تعالى {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} الأنفال آية (35) ، أن المكاء هو الصفير، والتصدية هوالصفق. وروى مسلم في صحيحه 1/72 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم". والفدادين هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم وأموالهم ومواشيهم. انظراللسان 5/3363.
فالحق أنه صلى الله عليه وسلم أتى بجيوشه بخفة، وما كان في أعوانه تاعب*، ولا كان ينعس، بل إنه سهران في عبادة الله سبحانه وتعالى، و (نشر) دينه الشريف، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل كله حتى ترم قدماه الشريفتان1، فأمره تعالى في القرآن العظيم شفقة عليه وحباً وتعظيماً له بقوله له {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} 2.
(*) حاشية: (اعلم أنّ الخفة وعدم التعب اللذين ذكرهما إشعيا في جيوش النبي صلى الله عليه وسلم هما برهانان قويان ظاهران، مشيران على الملائكة الذين كانوا يحاربون معه وعنه، كما خبرهم مشاع في القرآن الشريف في سورة الأنفال بألف، وفي سورة آل عمران بخمسة آلاف {لأنهم أي الملائكة ماكان يعتريهم ألم ولا تعب ولا عي، وسريع إتيانهم إلى مساعدة رسول اللهٍ} . هكذا قال في الحاشية، والذي أراه: أن ذلك لايقصد به الملائكة، لأن لهم صفات شهيرة، فلو كانوا هم المقصودين لوصفهم بها، والذي يظهر أن المقصود بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين ما تأخروا، ولا تقاعسوا عن غزوة أو وجهة يوجههم إليها نبيهم الكريم، بل كانوا يبادرون لطاعته في كل ما يأمرهم به بلا كلل ولا ملل، يدل على ذلك سيرتهم في بدر وأحد والخندق وتبوك، وغيرها. والله أعلم.
1 روى البخاري في التهجد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنهقال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً". صحيح البخاري مع الفتح 3/14.
2 المزمل آية (1-4) .
و"لا انحلت منطقة حقويه"، يعني أن عزيمته نشيطة، و"غير منقطع سير حذائه"، يعني أن قدميه الكريمتين1 غير فاترة عن السعي بالخير والعبادة، و"سهامه حادة"، يعني بما أنه (لا يوجد) من يساويه ممن كان يضرب بالسهام من قبل الله لأعدائه المعاندين بتلك القسي الموتورة، ويؤكد2 هذه المعاني غلاقة3 القول، بأن "حوافر خيله مثل الصوان"، كما وصفت تلك الخيل في القرآن الشريف في قوله تعالى {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} 4. ثم إن ههنا إشعيا قد أظهر بنبوءته أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو المقول عنه هذه الأقوال وليس سواه، (لأن) عيسى عليه السلاملم تكن عنده خيل، وإنما نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الذي كانت تقدح حوافر خيله، مثل الصوان المطابق لقوله تعالى {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} .
[ثم قال إشعيا "وبكراته" أي نوقه، مثل العاصفة. فلفظة نوقه هي أعظم دليل على المصطفى صلى الله عليه وسلم، من حيث أن عيسى ما كان عنده نوق ولاجمال، "وزئيره كالأسد، وكان يدرك الفريسة ويحوزها، وما كان أحد يتخلص منه"، ههنا سمى إشعيا]"زئيره كالأسد". وفي الإصحاح الحادي
1 في النسختين "أقدامه الكرام" وصوابها ما أثبت.
2 في النسختين "ويطابق" وصوابها ماأثبت.
3 يقصد خاتمة الكلام.
4 العاديات آية (1-2) .
والعشرين قال: "فصرخ الأسد"1. ونعم هذا التشبيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان سلطان البشر، كما أن الأسد سلطان الحيوانات بالفروسية والشجاعة.
وآخر الأدلة من إشعيا على نبينا صلى الله عليه وسلم: "يدوي عليه في ذلك اليوم دَوِيَّ البحر وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة والنور اعتم بضبابها"2.
وقد صدق الدليل الأخير على أن نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي كان ينادي؛ كان يزعق على الكفر كدَوِيّ البحر، وانتهره وزجره وروعه؛ أي الكفر، وهوالذي نظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة بالكفر ضيقة، وبالحقيقة كانت الأرض مظلمة بالكفر عابدةللمخلوقات.
وقوله: "والنور أظلم بضبابها" يعني أن نور الاعتقاد بالله الذي كان موجوداً على الأرض عند النصارى واليهود القدماء3 قد غطّاه ضباب الإلحاد والجحود حينما ضلّوا4 عما تسلموه من موسى وعيسى عليهما السلام، وهذا بالحقيقة هو النور الذي أظلم بضبابها، [أعني بالأمكنة المشرفة مثل مكة والقدس وغيرهما وهؤلاء أركان القدس] .
1 إشعيا 8:21، وفيه "ثم صرخ كأسد".
2 في. د "أركانها"، وفي. ن. ع5: 30 "والنور قد أظلم بسحبها".
3 في. د "يومئذ" بدل القدماء.
4 في. د "تاهو".
الشهادة السادسة
إن متّى الإنجيلي قد كتب [عما] رمز به سيدنا عيسى عليه السلام في الإصحاح الحادي والعشرين بقوله: ذلك المثل بعدما قتل الفعلة أولئك العبيد المرسلين من عند صاحب الكرم حتى وابنه بالنية1 *. قال: "وإذا جاء رب الكرم ماذا يصنع بأولئك الفعلة؟ فقالوا له: الأرديا بالردى يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته. ثم قال أيضاً يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رذله2. البناؤون هذا صار رأساً
1 نص المثل كما أورده متى في 33:21 عن المسيح أنه قال لليهود "اسمعوا مثلاً آخر كان إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة، وبنى برجاً وسلمه إلى كرامين وسافر، ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ أثماره، فأخذ الكرامون عبيده، وجلدوا بعضاً، وقتلوا بعضاً، ورجموا بعضاً، ثم أرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك، فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً: يهابون ابني، وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا: هذا هو الوارث هلم نقتله، ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه" وبقية النص ذكره المؤلف.
وقوله هنا "حتى وابنه بالنية" يقصد أن ما ورد في المثل من أن الكرامين قتلوا ابنه، أن اليهود لما قصدوا قتل المسيح عليه السلام وسعوا في ذلك وصفهم بقتله لأنهم نووا ذلك وعزموا، وإن لم يكونوا في الحقيقة تمكنوا من فعل ذلك.
(*) حاشية: (اعلم ولتأكيد أنه بالنية لا بالفعل، (أن وقت) قول سيدنا عيسى (هذا المثل) ما كان قتل على زعمهم، وهو ذكر أنهم أخرجوه خارج الكرم وقتلوه) .
2 في. ت "برزله"، وفي. د كما أثبت، وفي ن ع "رفضه".
للزاوية، من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا، من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لآخرين لأمة يصنعون ثمرته1، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط عليه فإنه يطحنه".
أقول: وبالحق إن سيدنا عيسىعليه السلامأعطى هذا المثال نبوءة منه، رامزاً به عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من دون شك، لأنه بعدما (ذكر) الكرم: الذي هو الشريعة الموسوية2، والفَعَلَة هم: بنو إسرائيل، وأن صاحب الكرم (أرسل) عبيده: الأنبياء عليهم السلام، الذين كانوا (يحضونهم) على عمل الثمار فكانوا، أي الفعلة يقتلونهم، أي عبيد رب الكرم عوضاً عن عملهم الصلاح3، وأكمل4 بابنه الذي كان بيده إتمام شريعة موسى، كما قال هو عن نفسه:"ما أتيت لكي أحل الشريعة لكن لأكملها"5، {وكملها بالفضل} ، فهو: أي عيسى عليه السلام بعدما ذكر هذه الأفعال6، وقرر
1 في النسختين "يصنعون ثمرتها"، وفي ن. ع "تعمل أثماره".
2 في النسختين "الموسائية" وصوابها ما أثبت.
3 في. د "الثمار".
4 في النسختين "وأطبق" ولامعنى لها، وصوابها ما أثبت.
5 متى 17:5.
6 في النسختين "المفاعيل".
لهم شريعته الفضلية ولم (يقبلوها منه) 1، لا بل إنهم كانوا (قدهموا) بقتله لولا (أن الله تعالى) رفعه إليه، وحوارييه عليهم السلام كانوا (مجتهدين) 2 بتنفيذها، ولأجل ذلك كانوا يحاربون ويقتلون وتزور كتبهم3، ويترك أكثرها ويقل زمان حسنها4. أفاد عليه السلام إذ قال – (لتأكيد) العبارة ـ:"فاذا جاء رب الكرم ماذا يفعل بأولئك الفعلة؟ فأجابوه: الأرديا بالردى يهلكهم، ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين، ليعطوه ثمرته في حينها". هنا انكشف مجيئ صاحب الكرم، وأنه يهلكهم*. وظهر أيضاً أن
1 في النسختين "ولم تأخذ مفعولها منهم" وفصاحتها ما أثبت.
2 في النسختين "مهمين" وفصاحتها ما أثبت.
3 في. د حاشية ليست في. ت وهي (اعلم أنك إن أردت أن تعرف البينة من كتب النصارى أين وجد مشاراً بالتحريف في كتبهم ذاتها، فعليك بمطالعة كتب مؤرخيهم، وفي رسالة بولس إلى أهل قرينته الإصحاح الثاني والعدد السابع عشر، وفي رسالة بطرس الثانية الجامعة الإصحاح الثالث العدد السادس عشر، ثم إذا أردت أن تعرف أين وجد ذكر أناجيل غير الأربعة الموجودة الآن وقد اختفت، فعليك بمراجعة إنجيل لوقا الإصحاح الأول العدد الأول، فإنك تجد المطلوب الذي قاله المؤلف رحمه الله تعالى، عدا الشكوك اللاحقة المحررة في الباب الخامس التي تؤكد ذلك التحريف) .
4 لم أستطع فهم مراد المصنف الأخير، إلا أن يقصد (وتهجر كتبهم حتى تضيع وتصبح غير مقبولة) .
(*) حاشية: (اعلم أنّ معنى الهلاك الذي ذكره عيسى ههنا هو نفس الاستئصال الذي ذكره موسى، إذ إن موسى في الشهادة الأولى قال: كل نفس لا تسمع لذاك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها أي تهلك، وههنا عيسى قد كشف هذا الهلاك وفي أي زمان بقوله: إذا جاء رب الكرم فإنه يهلكهم) .
صاحب الكرم الموعود به من عيسى، هو غير عيسى الواعد به، ومن المحقق أنه من بعد مجئ عيسى عليه السلام ما جاء غير نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب الشريعة الغرّاء.
ومن قوله: "إذا جاء" أن المسيح يقصد شخصاً آخر غير شخصه، ومجيئه مستقبلاً، وحيث إن الله تعالى بحسب ذاته العلية لا ينتقل من مكان إلى مكان من كونه حاضراً في كل مكان1، فلزم أن يكون المجيئ [المقول
1 قول المصنف "إن الله لا ينتقل من مكان
…
إلخ" يحتاج إلى تعليق وتقييد، فإنه قد ثبت بالأدلة الشرعية أن الله تعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا، فقد روى البخاريأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا". انظر البخاري مع الفتح 3/35 كتاب التهجد.
كما ورد في القرآن الكريم إتيانه يوم القيامة ومجيئه، وفي ذلك يقول جل وعلا {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة 210) ، وقال {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر22) . فهذه الأدلة تدل على أن الله يأتي ويجيء وينزل، فإذا قصد المصنف نفي مثل ذلك بقوله السابق فقوله خطأ، وإذا قصد غير ذلك فإن الأولى التوقف وعدم نفي شيء إلا بدليله الشرعي، حتى لانكون متقولين على الله عز وجل ما لاعلم لنا به، وقد قال جل وعلا {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء (36) . أما قوله "من كونه حاضراً في كل مكان" فإن قصد بعلمه وسمعه وبصره وتدبيره فهو حق، وإن قصد بأن الله بذاته في كل مكان، فهو باطل غير صحيح، لأن الدليل دل على أن الله فوق سماواته على عرشه. قال جل وعلا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه (5) .
عنه] من عيسى: " إذا جاء رب الكرم"، يقصد به رسوله وحبيبه محمداًصلى الله عليه وسلم 1، أعظم الرسل من الله سبحانه {ويشهد بمثل ذلك القرآن الشريف بقوله في سورة (الفتح) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} 2، وسمي رب الكرم على وجه الاستعارة للمسند إليه، لأن له أُعطيت الأحكام والشريعة،
1 قوله "رسوله وحبيبه". لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب الله تعالى، فإن الله يحب ويُحَب، كما قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} آل عمران (31) ، وقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} البقرة (165) . ومرتبة المحبة حسب ما ورد في الشرع تحصل لأفراد المؤمنين، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم خصوصية بها، إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بمرتبة أعلى منها، وهي مرتبة الخلة، كما قال عليه الصلاة والسلام "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله". أخرجه م. في فضائل الصحابة،4/1855. قال في الفتح 7/23:"والخلة أرفع رتبة من المحبة"، وقال في اللسان 2/1252:"الخليل الذي أصفى المودة وأصحها". وأصحاب التصوف والكلام يرون: أن المحبة أرفع من الخلة. انظر: الشفا،1/284. ولا شك أن ذلك خلاف ما دل عليه الحديث السابق، فقد أبى عليه الصلاة والسلام أن يصف أبا بكر بالخلة، مع أنه وصفه بالمحبة، كما في حديث عمرو بن العاص، أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها". أخرجه. م في فضائل الصحابة 4/1856.
2 الفتح 10.
وقد تأخر مجيئه حتى يكمل شر اليهود بقتلهم التابعين لعيسى، بل (وكذلك) الكافرين وغيرهم، من الذين غلوا بعيسى عليه السلام، حتى إنهم تجاوزوا به حدّه (وجعلوه) إلهاً، فلما جاء صلى الله عليه وسلم، بعد سيدنا عيسى عليه السلام كان الله تعالى معه معاضداً ومساعداً، لكونه له رسولاً ونذيراً، لأنهعليه السلام أهلك الأرديا {الذين أشار عنهم عيسى} ، وأما سيدنا عيسى فما جاء مرة أخرى حتى يستدل عليه به، ولا غيره أتى بعده وأهلك الأرديا، الذين أشار عنهم هو، و"دفع الكَرْم"، أي: الشريعة، إلى خلافهم، (وإنما) الذي جاء وأهلك الأرديا هو نبينا الكامل صلى الله عليه وسلم * وأن الذين عملوا (مفاسد) من عهد عيسى [وماتوا من العصاة إلى زمان نبينا كثيرون] ، وأما سيدنا عيسى فلم يقصدهم ولا كانوا كالمرسلين1، بل إنه قصد رجلاً رب كرم، يدفع الكَرْم إلى فعلة آخرين،
(*) حاشية: (اعلموا أنه قد يتوهم بعض من علماء النصارى ويقولون: إن هذا المجئ هو متعلق بعيسى وإنه سوف يأتي بالقيامة. والحال أن القيامة (إذا قامت يكون) زمان الأعمال والشريعة قد مضى وانتهى وليس يوجد أعمال وشرائع (يؤديها) البشر وهنا عيسى عليه السلام يقول: ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته. فيظهر من قوله هذا أنه يوجد بعد مجئ رب الكرم الذي وعد فيه عيسى زمان (فيه) أعمال وثمار ترجى من البشر، وهي هذه التي ابتدت من حين ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نزع الملكوت، وأعطاها لأمته الشريفة حتى يثمروا، كما تنبأ عنهم ههنا عيسى عليه السلام. وقد اختلف نص الحاشية في. د قليلاً عما هو في. ت.
1 هكذا في النسختين ولم يتبين لي مراده منها.
أعني دفع الكرم الذي هو الشريعة الطاهرة إلى آخرين، الذين هم (ذرية) إسماعيل عوضاً عن بني إسحاق ويعقوب1 عليهم السلام، الذين كانت الشريعة عندهم، وحواريي سيدنا عيسى هم (من نسلهم)، وأما الفعلة الآخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لمطابقة قوله:"إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة لكي يصنعوا ثمرتها"، ولم يقل ههنا لأمم، بل قال: لأمة، لكونه (قصد هنا) الأمة الإسماعيلية، التي أخذت البركة قبل إسحاق عليه السلام2، التي إمامها ونبيها هو محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ومنها3 تنبث إلى غيرها*.
فمن هنا يتضح أن الجملتين أعني قوله: "ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين"، وقوله إذ سمى الكَرْم "ملكوت"، وأنه ينزع منكم ويعطى لأمة يصنعون ثمرته، هما مقولتان من عيسى عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته
1 في. د "عوضاً عن بني إسرائيل".
2 جاء في. د حاشية ليست في. ت ونصها "لاحظ هذه البركة التي لإسماعيل في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر والسابع عشر، التي ما أخذت مفعولها إلا في ذات شخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم". وهي قريبة من معنى الحاشية الآتية الواردة في. ت.
3 في. ت "تنبت"، وفي. د "من تنبث"، ويبدو أن صوابها ما أثبت ويكون معناها: من ذرية إسماعيل تنتشر البركة على باقي الأمم.
(*) حاشية: (اعلم أنّ البركة المقولة من الله سبحانه في سفر التكوين إلى سيدنا إبراهيم المتعلقة في إسماعيل لم (تتحقق) إلا في المصطفى صلى الله عليه وسلم وسليله، التي صدقت عليه هذه البركة مع كل علايمها وعليك في مراجعتها) .
الطاهرة، وليس على غيره، ولكي يتأكد أن [هذا] الإعطاء هو لهذه الأمة؛ أضاف إلى ذلك إشعاره بحقارتها من نسب الحجر لها، إذ قد شبهها بحجر مهمل*. [والحق أن (ذرية إسماعيل كانوا) عند بني إسرائيل كحجر مهمل ومرذول عند البنائين، لأن (ذرية إسماعيل كانت متناسلة من أمة، وأبناؤه عند) 1 اخوته إسحاق ويعقوب وخلفه كحجر مرذول عند البنائين]2.
ولهذا أورده سيدنا عيسى بهذا القول الذي تنبأ عنه داود سابقاً إذ قال: "الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأساً للزاوية"3. أعني أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحجر الذي كان ثميناً وكريماً في طبيعته، إلا أنه كان عربياً4 غريباً عن بني إسرائيل، وكان غير معدود مع الحجارة الذين هم خلف إسحاق ويعقوب.
(*) حاشية: ليست في. ت "اعلم أن بطرس أحد حواري سيدنا عيسى عليه السلام نظراً (لشدة محبته) لعيسى عليه السلام سماه حجراً، إذ إن التسمية بالحجر مفرداً هي صفة محمودة".
1 في. ت العبارة هكذا "إسماعيل وذريته كان متناسلاً من لدمه وبناته مع اخوته"، وفي. د "إسماعيل وذريته كان كتناسلاً من لضمه وبناته مع اخوته". ولامعنى لها ظاهر، وكتبتها حسب مافهمت من النص.
2 ما بين االقوسين جعله حاشية في نسخة. ت وهو ضمن المتن في. د ويبدو أن الصواب ما في نسخة. د لارتباط الكلام واستقامته.
3 المزامير 22:118.
4 في النسختين "أعرابياً" وصوابها ما أثبت.
فهذا هو المصطفى المكرم الذي اختاره الله سبحانه أن يكون رأساً للزاوية، لأن [الزاوية من جملة أشكالها] الشكل المثلث للرؤوس المتساوية الجهات، ومعناه أن عيسى وموسى هما رأسان للزاوية شهيران، وحبيبه المصطفىصلى الله عليه وسلم هو الرأس الثالث لهذه الزاوية المشار إليها من عيسى في هذه العبارة، التي هي قوله:"وهذا صار رأساً للزاوية"، لمطابقة كلام النبي داود الذي أوردناه آنفاً.
وأقول أيضاً إن عيسى عليه السلام دُعي من إشعيا: "حجر زاوية"1 كما تراه مصوراً أمامك:-
…
محمد صلى الله عليه وسلم
…
موسى عليه السلام
…
عيسى عليه السلام
وأشار عنه2 إشارة أخرى غير الإشارة التي أشارها {داود} وعيسى عليهما السلام عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه أي عيسى ممتحناً وكريماً وأساساً مطروحاً في صهيون"3، ولم يقل عنه مثلما قيل من داود وعيسى عن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، بأنه "الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأساً للزاوية". فإذاً قد وضح أن سيدينا عيسى ومحمداً عليهما السلام هما رأسان للزاوية متميزان.
1 إشعيا 16:28.
2 أي إشعيا.
3 إشعيا 16:28.
فعيسى عليه السلام قد تميز من إشعيا إذ وصفه بأنه أساسٌ للزاوية، بمعنى أنه متقدم في الزمان كالبناء، لأن الأساس يتقدم الرأس.
ومحمد رسولنا صلى الله عليه وسلم قد تميز، إذ إنه وصف من داود وعيسى عليهما السلام بأنه رأس للزاوية، بمعنى أنه متأخر في الزمان كالخاتمة.
وذاك في صهيون وكريم وممتحن. وهذا مرذول عند البنّائين، وعجيب في أعيننا.
وقول عيسى ههنا عن الحجر (الممثل به عن) 1 المصطفىصلى الله عليه وسلم، "وأنه عجيب" يطابق قول إشعيا عنه صلى الله عليه وسلم أن اسمه عجيب، وسوف ترى شرح ذلك في الشهادة التي تتلو هذه.
وفي هذه الشهادة نكمل الشرح ونقول: إن عيسى عليه السلام قال: "إن من قبل الرب كانت هذه وهو عجيب في أعيننا".
فهاهنا أوضح سيدنا عيسى أن نبينا المختارصلى الله عليه وسلم هو رسول الله، ووارد من قبله تعالى حقاً وصدقاً لقوله:"هذا كان من قبل الرب". وبين أيضاً أنه عجيب في أعيننا، فلو كان هذا الكلام (الذي تنبأ به) داود (وكرره) عيسى عليهما السلام مقصوداً به عيسى عليه السلام، كما (ظنّه) النصارى (المتأخرون)، لكان واجب [على سيدنا عيسى عندما كرر تلاوته] أن يقول: إنه عجيب في أعينكم، لا أن يقول: إنه عجيب في
1 في النسختين "المشبه بالمصطفى" وفصاحتها ما أثبت.
أعيننا، لأن قوله: عجيب في أعيننا، قد أوضح أنه يقول عن سيد الأنام إنه عجيب في عينيّ أنا عيسى أيضاً، كما هو عجيب في أعينكم.
وخاتمة الشهادة هي قوله: "من سقط على هذا الحجر يترضض ومن يسقط عليه يطحنه"، وهذا هو الدليل الأخير*. (الظاهرة عبارته جداً، أعني نبينا صلى الله عليه وسلم هو المشبه بالحجر الذي رض وطحن المخالفين لدينه السامي دون غيره) .
(*) حاشية: (اعلم أنّ لفظة هذا [هو الدليل الأخير المقيد] باسم الإشارة في قوله: "وهذا الحجر"، وأنه يطحن ويرضض، يستفاد منه أنه مقول عن شخص آخر غير شخص عيسى (القائل الكلام) ،لأن عيسى عليه السلام لا طحن ولا رض، ولا يجوز عند علماء [القراماتيك باليوناني أي علماء النحو والصرف] أن يعود اسم الإشارة عليه، لكونه هو المتكلم به، [أي أن عيسى هو المتكلم به فلا يجوز أن يعود عليه الضمير] ، {بل إنه ينطبق على شخص غير عيسى، لأن عيسى هو المتكلم به، والمشار إليه هو سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم} ) .
الشهادة السابعة
إن النبي زكريا1 يقول في الإصحاح الثامن عبارة (دالة دلالة واضحة) 2 على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى صحابته العشرة الكرام رضي الله عنهم:
كرآمار ياهواه صيباوت
((هكذا يقول الله رب الجنود))
فيايله هاهيما اشير عسوة اناسيم
((في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال))
ماكول لوشونوت هكوييم
((من كل ألسنة الشعوب))
واها حازيقي بختان ايش يااودي
1 في النسختين النبي زكريا، والمقصود به زكريا بن برخيا بن عدو، ويعده اليهود والنصارى من الأنبياء وينسبون إليه أحد الأسفار الموجودة في العهد القديم. انظر معجم الحضارات ص442، وليس هو النبي زكريا والد يحي عليهما السلام، المذكور في سورة آل عمران ومريم، لأن الأول كان في حدود 520ق. م، أما الأخير فهو في الزمن قبيل المسيح عليه السلام، لأنه كان قد كفل مريم أم المسيح عليه السلام، والأول لم يثبت عندنا نبوته، فالأولى التوقف في ذلك.
2 في النسختين كلية الوضوح وفصاحتها ما أثبت.
((ويتمسكون بذيل رجل حميد 1)) 2.
ليامور تيلا خا عماخيم
((ويقولون لنذهب معك))
كه شامسنو ألوهيم عماخيم
((لأننا سمعنا أن الله معك)) 3*.
أقول: إن هذه الشهادة التي رقمناها العبراني (بالحبر الأحمر والعربي بالحبر الأسود) حذراً من التزوير، تبين لنا بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الموضوع الوحيد، (والمؤكد إطلاق) هذه الشهادة عليه من كل جهاته،
1 في ن. ع في تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم، يتمسكون بذيل رجل يهودي، قائلين: نذهب معكم، لأننا سمعنا أن الله معكم. زكريا 23:8.
2 في ت. زيادة يعني أبو حميد ولا معنى لها.
3 اختلف نص هذه النبوءة العبرية في نسخة. د عنه في نسخة. ت بتقديم وتأخير واختلاف في بعض العبارات.
* حاشية: اعلم أنّ لفظة عماخيم ولفظة ألوهيم في العبراني: هما مقولتان بصيغة الجمع وأيضاً للتفخيم حينما تطلق على المفرد، ومن القرائن يعلم ذلك، فأما لفظة عماخيم المقولة في هذه الشهادة فمن قرينتها التي هي قوله: تبعوا رجلاً، يستدل على أنها مقولة للفرد على وجه التفخيم، كما في العربي أيضاً يجوز ذلك، وأما لفظة ألوهيم لايوجد لها مثال في العربي على الاطلاق، بل هو اصطلاح اللغة العبرانية فقط [وهي معلوم عند اليهود] .
لأنه أي زكريا قد أفصح بكلامه في هذه النبوءة عن الصحابة الكرام وأن عددهم عشرة، وأنهم من ألسنة ووجوه الشعوب أصحاب القول1، وليسوا من سفاسفها، وأنهم شعوبيون من الأمم، وليسو من اليهود، وعن اسم النبي الكريم ذاته، إذ قال:((هكذا يقول الله رب الأجناد في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال من كل ألسنة الشعوب)) .
أقول: يا ترى من هم هؤلاء العشرة رجال، الذين وجدوا في العالم، وتبعوا رجلاً، وكانوا هم وهو مشهورين سوى هؤلاء العشرة الصحابة الكرام الأقمار العظام2، الذين كان نورهم مستفاداً من نور
1 يقصد ذوي مكانة عند أهلهم وعشيرتهم.
2 الصحابة: جمع صحابيّ، والصحابي هو: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، سواء طالت صحبته أو قصرت. روى الخطيب في الكفاية ص99 بسنده عن الإمام أحمد أنه قال بعد أن ذكر أهل بدر: ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذين بعث فيهم، كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ماصحبه. كما روي عن البخاري أنه قال: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه فهو من أصحابه. والذين يعدون من الصحابة عدد كبير لا يعلم إحصاءهم إلا الله تعالى، وقد سئل أبو زرعة الرازي عن عدد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً أو رؤية؟ فقال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة، كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية.
وقد ترجم ابن عبد البر رحمه الله في كتابه الاستيعاب لـ3625 إنساناً منهم، مابين رجل وامرأة، وقد زاد عليه ابن حجر رحمه الله في كتابه الإصابة في أسماء الصحابة، حيث ترجم لـ 10735 رجلاً منهم و1545امرأة، وكان رحمه الله قد قال في أول كتابه 1/4 فجمعت كتاباً كبيراً في ذلك ميزت فيه الصحابة من غيرهم، ومع ذلك فلم يحصل لنا يقصد هو ومن سبقه من العلماء من ذلك جميعاً الوقوف على العشر من أسامي الصحابة.
ولعل مراد المصنف رحمه الله بـ العشرة الصحابة الكرام العشرة المبشرون بالجنة، وهم كما روي عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". السنة لابن أبي عاصم 2/605. فهؤلاء العشرة هم أفضل الصحابة كما قال شارح الطحاوية رحمه الله ص 488 بعد أن ذكر فضائل هؤلاء العشرة. وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم، لما اشتهر من فضائلهم ومناقبهم. فلعل مراد المصنف بقوله السابق هؤلاء العشرة من الصحابة، والله أعلم.
شمس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا به وذهبوا معه ونادوه بلسان حالهم؛ فلنذهب معك يارسول الله، لأننا علمنا أن الله معك1.
فهذا المعنى مكشوف وظاهر من عين ذاته ومطابق للنبوءة جداً، من كون أن زكريا تنبأ عن ظهور عشرة رجال يتمسكون بذيل رجل، والصحابة كانوا عشرة في العدد، وتبعوا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ، واعترفوا بأن الله [تعالى] معه، وهؤلاء ما وجد غيرهم من عهد آدم إلى الآن، ولا سُمع
1 في. د حاشية هنا ليست في. ت وهي قوله: اعلم أن هذه الشهادة كلما قرئت من النصارى مع ضعف ترجمتها كنت أرى أكثرهم منقسمين الأفكار فيها، ويخط في ذهن أذكيائهم عنها بأنها مشيرة على المصطفى المختار، لكون صحابته مشهورين عندهم، وأن عددهم عشرة.
بأن عشرة رجال تمسكوا في ذيل رجل وتبعوه سوى أولئك العشرة من الصحابةرضي الله عنهم. وبلا شك أن هذه الشهادة هي منطبقة عليهم على كل حال.
وأما قوله عن العشرة رجال: إنهم يتجمعون من كل ألسنة الشعوب:
أقول: إن الشعوب هم القبائل الخارجون عن بني إسرائيل، لأنه إلى هذا الزمان يسمون عند اليهود ((هكوييم)) (أي الشعوبيين الأممين) ، وأما ألسنة الشعوب، فهم المتكلمون في الشعوب، أصحاب القول وذوي الرأي السديد، كما جاء معنى ((لوشونوت)) في القاموس العبراني الذي يسمى ((شوراشيم)) .
وأما قوله عن العشرة رجال يتمسكون بذيل رجل [اسمه] 1 حَمِيد: فلفظة حميد هي: اسم نبينا محمد، وهي في العبراني على وزن فَعِيل، وهذا الفعل بهذا الوزن يقصد فيه (معنيين: اسم فاعل، واسم مفعول) 2، أي أنه يشتق من اسم حميد اسمان: اسم حامد واسم محمود. وهذه المشتقات هي من أسمائه الشريفة، لأنه أي المصطفى كان يسمى
1 وردت بعد هذه اللفظة في نسخة. د حاشية، هي الحاشية الواردة بعد قليل، مع تقديم وتأخير في الكلمات.
2 ما بين القوسين في النسختين هكذا محل نائبين نائب فاعل ونائب مفعول وصوابها ما أثبت.
في زمان (صباه) 1: حميداً2، وذلك للتنويع، كما تنبأ عنه زكريا مع تسميته ((أحمد محمداً)) ، وذلك بوجه التفضيل والمبالغة، كقولك عن الكبير أكبر، وعن الحميد أحمد، وبالحق إنه حميد، لأن الله تعالى قد سبق وهيأ له هذا الاسم الكريم، الذي هو من جملة أسمائه تعالى السنية *.
وحيث إن هذا الاسم الشريف هو مكتوب من زكريا باللغة العبرانية، ومضمونه عن النبي الهادي، [فكان] علماء اليهود يترجمونه بلفظه العبراني، ويقرأونه عبراني في اللغة العربية معرباً [كلفظة إبراهيم وإسحاق وباقي الأسماء الغريبة، ويسمى علم أعجمي] ، ويشرحون معناه على ما هو عليه في الاصطلاح النسبي، لا على ما هو عليه من أصول اللغة العبرانية إذا ترجمت إلى أصول اللغة العربية، بل كانوا يبقونه بلفظه العبراني، وكذا قد ترجمت هذه اللفظة إلى اليوناني واللاّتيني وغيرهما من اللغات بلفظها العبراني كما إلى العربي.
فالنصارى الذين ترجمت إلى لغاتهم هذه الكلمة بلفظها العبراني، كانوا يفهمونها عن اليهود مثل اليهود، على ما هي عليه بالاصطلاح
1 في النسختين صبوته ولامعنى لها وصوابها ما أثبت.
2 لم أقف على من ذكر هذا، وإذا كان النص كما ذكر المصنف يتمسكون بذيل رجل حميد، فيكون اسم حميد وصفاً لرجل، وذلك سواء كان معناه رجل حامد أو رجل محمود، فكل ذلك ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمد ومحمد.
* حاشية: اعلم أنّ لفظة اسم حميد هو من جملة أسماء الله، وفي هذه الجملة على موجب اللغة العبرانية لها محذوف مقدر أي اسمه أحمد
النسبي، لا على ما هي عليه من أصول اللغة العبرانية كما قررنا، ولا أدركوا من أين اشتقت هذه الكلمة، وأنها اسم لنبينا الأعظم، حتى أني أنا الفقير أيضاً كنت قرأتها جملة سنين وأتسلمها وأفهمها، كما يفهمها اليهود والنصارى لحد الآن على موجب الاصطلاح النسبي، لا على أصول اللغة العبرانية المنزلة فيها، بحيث إنها لا تقبل الوجهين إلا بمفردها لا بقرائنها1.
ولما حصلت2 على كتب قواعد اللغة العبرانية التي كانت معدومة عند النصارى المتقدمين عنا في الزمان، ووجودها نادر أيضاً عند اليهود، بسبب أن المطابع لم تكن وجدت بعد، وقفت على هذه الأصول السنية عن جملة علماء من علماء الكتابين، وفهمت معنى هذه اللفظة، وأنها تقبل الوجهين إذا كانت بمفردها*. (عدا أن في جميع النسخ السريانية قد وجد عوض هذا، أي عوض لفظة ((يااودي)) لفظة ((يهوذا)) ، وهذه أعني:
1 في. د لايقرائتها.
2 في. ت ولاحصلت.
* حاشية: اعلم أنّ معنى كلام المؤلف أنه وجدت هذه اللفظة أي يااودي في هذه الجملة، فلا عادت تقبل إلا الوجه الواحد وهو حميد، وذلك استناداً على القرائن المطابقة عليها. وقد اختلف نص الحاشية في. د كما يلي اعلم أن قوله أنها تقبل الوجهين إذا كانت بمفردها، أي إنها تقبل أن تترجم ياأودي كمثل باقي الأسماء المفردة تعريب، كما مر من كلام المؤلف كإبراهيم وإسحاق، وتقبل أيضاً أن تترجم حميد، ولكن في هذه الجملة المقولة من زكريا من حيث وجود القرائن المتعلقة فيها فما عادت تقبل إلا الوجه الواحد هو حميد.
لفظة يهوذا، إذا ترجمت إلى اللغة العربية حرفاً بحرف هي أحمد1، وهو اسم نبينا الشهير والعلم، وقد نقل بالتأكيد أن زكريا كتب نبوءته التي فيها هذه الشهادة بالسرياني لما كان مسبياً في بابل2. وبهذا الوجه لا حاجة إلى شهود) .
(وهذه الشهادة إذا فهمها أحدهم مصادفة) كنت (أراه) يفكر في أيما نبي من الأنبياء (قصد) بها، مع أنها اسم لنبينا المصطفى، وذلك لأنه لا يعرف إلا اسم نبينا الذي هو أحمد أو محمد فقط على ظاهر الأمر، ولم يدرك أن أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم محمد أو أحمد هما مشتقان من اسم حميد، وأن اسم حميد هو نفس اسم أحمد. و (بسبب) هذه الوجوه المشروحة، مع خبث بعض حاخاميم اليهود قد بقي اسم نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم مخبأً تحت هذه الستور، والذي يريد أن يحقق ذلك فليراجع هذه اللفظة في القاموس العبراني المسمى ((شوراش)) ، وفي كتاب الصرف والنحو المسمى عندهم ((دودوق)) في تصاريف اسم يهوذا واشتقاقاته، وليزيل عنه ظلمة
1 هكذا قال في القاموس: يهوذا اسم عبري معناه حمد. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 1085.
2 قال في القاموس: وقد تنبأ زكريا في الشهر الثامن من السنة الثانية لداريوس الملك الفارسي، وذلك في غضون المدة التي أذن فيها لرجال يهوذا أن يرجعوا من سبي بابل. قاموس الكتاب المقدس ص 428.
الغشاوة*، وليعلم أن هذه النبوءة هي منطبقة على النبي المختار صلى الله عليه وسلم (من أربعة أوجه) :ـ
أولاً: من عدد صحابته العشرة الكرام [رضي الله تعالى عنهم] .
ثانياً: أنهم كانوا من الأمم ((هكوييم)) ، وليس هم من بني إسرائيل.
ثالثاً: (أنهم) كانوا من ألسنة ووجوه الشعوب، وليس هم صيادي سمك.
رابعاً: إن الذي تبعوه كان اسمه حميداً أحمد، وهو النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فعيسى عليه السلام ماكان اسمه حميداً أحمد، والذين تبعوه كانوا صيادي سمك فقراء، [وليسو من ألسنة الناس، ووجوه الشعوب، وكانوا يهودا] ، وليسو هم من الأمم شعوبيين، وكان عددهم اثني عشر نفراً، وليسو عشرة، كما تنبأ عنهم زكريا، وبهذا كفاية، لأن التعويل على شهادة
* حاشية: في. د وليست في. ت وهي اعلم أيها المطالع لهذه الشهادة الجوهرية الفريدة، أنه وجد في التوراة بخط اليد قديمة التاريخ باللغة السريانية، وبالأصح هي التي كتب النبي زكريا بنبواته فيها لما كان في بابل بالسبي، مكتوباً بصراحة عوضاً عن لفظة يا أودي الموجودة في اللغة العبرانية، التي استخدمها المؤلف رحمه الله ومبدلة بلفظة يهوذا، ولفظة يهوذا هي بالعربي أحمد، وهو اسم نبينا العلم الظاهر، ولايلزم شرح لذلك، لأن القرآن الشريف في سورة الصف يقول:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . فلا حاجة بنا لشهود من بعد هذه الشهادة.
الحال، أي الشئ المنظور الواقع هو (المساعد الأكبر على تحقيق) شهادة المقال، وهذه الشهادة هي المطابقة لقوله تعالى في سورة الأعراف:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيل} 1 وقوله تعالى أيضاً عن أن عيسى عليه السلام قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 2.
ثم مرادي الآن أن أسمي هذه الشهادة (التوأم) 3، بإضافتي لها شهادة أخرى تجانسها من إشعيا النبي.
أقول: إن إشعيا قد قال في الإصحاح التاسع في العدد السادس:
كه يلد بلاد لانوبين نتان.
((إن ولداً انولد لنا، ابناً انعطى لنا)) .
ويتهى هم اسراه على شيخيمو رنيتاراسيموبيله.
((وتكون سيادته على كتفه*، ويدعى اسمه عجيباً)) .
يوعموايل فبورا باعاد سار شلوم.
((طايقاً جباراً، أبا الأخير سيد سلام)) .
1 الأعراف آية 37.
2 الصف آية 6.
3 في النسختين قال: التومية، فلعله يقصد التوأم كما أثبت. والله أعلم.
* حاشية: إن في العبراني هذه الجملة لها محذوف مقدر، وهو لفظة علامة، أي وتكون علامة سيادته على كتفه. وهذه الحاشية ليست في. د.
ليماريه هم سراه ولشلوم ابن قيس.
((ليكثر سلطانه ولسلام ليس قياس)) .
علكسه دافيد وعلى مملكته ليهاحيم.
((على كرسي داود وعلى مملكته يجلس)) .
اوتاه ولساعداه به شناط وبمصداقاه.
((يرتبها وليساعدها بالعدل وبالصدقة التي هي الفضل))
والحقيقة أن هذه الشهادة يرى العقل السليم أن فيها مطابقة كلية على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، إذ إن إشعيا يقول فيها:
أولاً: إنه قد انولد لنا ولد، وأن سيادته على كتفه، فنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الذي كانت سيادته على كتفه، متعلقة في ذراعه وسيفه، ولم يأخذها بالميراث، وذراعه وسيفه هما متعلقان في كتفه وفي فروسيته2، كما أخبر عنه إشعيا. [هذا على وجه المجاز، وأما على وجه الحقيقة، فنبينا
1 في ن. ع ورد النص هكذا لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً إلها قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود، وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد.
2 سبق حديث ابن عمر رضي الله عنه وفيه وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري. انظر الشهادة الرابعة.
صلى الله عليه وسلم كان على كتفه علامة، وهي شامة كبيرة شهيرة1 و (مكشوفة)2.
ولا يلزم لها برهان، لكونها شائعة وصلت إلينا بالتواتر وسطرت في أخباره الشريفة، واسمها ختم النبوة، أي علامة]
وثانياً: يقول إشعيا إنه ((يدعى اسمه عجيباً)) ، [ولفظة العجيب هي من جملة أسمائه الشريفة] ، (لأنه مامن أحد من الأنبياء سلفاً، ولا من جميع بني إسرائيل تسمى باسمه الشريف، أي أنه تسمى أحمد، محمداً، حميداً، محموداً، والعجب الأخير أيضاً من كونه من سلالة إسماعيل العربي، الذي ماقام منهم سواه واحداً وحيداً) .
وعدا ذلك أن لفظة ((عجيباً)) قد وجدت في التوراة اليونانية ((رسولاً)) 3، ولفظة ((رسول)) يستحقها أيضاً، لأنها هي الاسم (الغالب)
1 روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "رأيت خاتماً في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام"، وعن السائب بن يزيد قال:"ذهبت بي خالتي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: يارسول الله: إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة". صحيح مسلم، الفضائل 4/1823. وزر الحجلة: هو بيت كالقبة لها إزرار كبار عري، وقيل: الحجلة الطائر، وزر الحجلة يعني بيضه. انظر هامش صحيح مسلم 4/1823.
2 وردت في النص مكتوبة وصوابها ما أثبت.
3 في نسخة الملك جيمس الطبعة الإنجليزية: and his name shall be called wonderful وترجمتها وسوف يدعى اسمه عجيباً، وفي New American Bible مثله، حيث قال They name him wonder، وتعني يسمونه عجيب.
عليه، والشهير به، والمختص به دون غيره من الأنبياء، ومكرراً عليه كرات عديدة كلفظ نبي1، ثم أيضاً سماه إشعيا ((مشاوراً)) ، وذلك مطابق لما سماه الله تعالى في القرآن الشريف بقوله له:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر} 2 فهو مشاور، ثم دعاه إشعيا أيضاً ((جباراً طايقاً)) ، وهذه الأسماء مع ما تقدمها هي من أسمائه الشريفة، وقد تجدها حرفياً في كتاب ((دلائل الخيرات)) 3 مجمعة من الكتاب والسنة.
1 وصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بـ الرسول، ورسول ورد في القرآن الكريم خمساً وسبعين مرة، أما وصفه بالنبي فقد وردت خمساً وثلاثين مرة.
2 آل عمران آية 159.
3 يقصد الأسماء أحمد ومحمد وحميد، التي تعني حامد ومحمود ورسول، فكلها موجودة في كتاب دلائل الخيرات. انظر من ص 37-49. وكذلك اسم جبار، إلا أن اسم جبار لا أعرف له مستنداً شرعياً ينص عليه، بل قد نفاه الله تعالى عن نبيه، كما قال تعالى {وما أنت عليهم بجبار} ق 45. قال القرطبي: أي بمسلط تجبرهم على الإسلام. إلا إن قصد في معناها شدته على أهل الكفر والضلالة، وهذا يفهم من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} التوبة9، وكذلك قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الفتح 29، أو قصد بها شجاعته عليه الصلاة والسلام، فقد كان كما قال ابن عمر رضي الله عنهما ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه الدارمي في سننه،1/33. وقد ذكر هذا الاسم للنبي صلى الله عليه وسلم القاضي عياض في الشفا،1/327، واستند في ذلك على ما ورد في كتاب داود، ويقصد به المزامير، وأنه ورد فيه تقلد أيها الجبار سيفك. وقال: معناه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، إما لإصلاحه الأمة بالهداية والتعليم، أو لقهره أعدائه، أو لعلو منزلته على البشر، وعظيم خطره. أما قوله طايق فإن قصد بها القوة، فإن صاحب دلائل الخيرات قد ذكرها ص45، وقد كان عليه الصلاة والسلام موصوفاً بالقوة الجسمانية، فقد ذكر ابن هشام،2/28:"أن ركانة بن عبد يزيد كان من رجالات قريش، خلا بالنبي صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: إني لو أعلم الذي تقول حقاً لاتبعتك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حقاً؟ قال: نعم، فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، حتى لا يملك من أمره شيئاً".
وثالثاً: أن إشعيا قد قال عنه بأنه ((أب الأخير)) وفي الحقيقة أنه صار أباً، واستولى على الدهر الأخير، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، لأنه لم يقم بعده صلى الله عليه وسلم نبي1.
ورابعاً: قد قال عنه إشعيا أنه ((سيد السلام)) ، أعني أنه رئيس الإسلام والمسلمين، الذين هم الأمة المخلصة الدين، والحب لله تعالى، وأهل الوداد والعهود، أعني السلام والتسليم، وأشار إشعيا بلفظة ((سلام))
1 في. ن. ع. قال: أباً أبدياً ويؤيد قول المصنف رحمه الله حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه فيمدهما". أخرجه البخاري في كتاب الرقاق. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري 11/347، ومعنى ذلك شدة التقارب بينهما كما بين السبابة والوسطى، وأنه رسول الساعة عليه الصلاة والسلام، فليس بعده نبي. انظر الفتح الموضع السابق. ووصف الأبوة للزمان الأخير تنطبق على النبي صلى الله عليه وسلم لما في الأبوة من معاني الرحمة والتعليم والهداية والحرص على إيصال الخير للأبناء ودعوتهم إليه. وهذه الصفات موجودة في في النبي صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه. والله أعلم.
من كون لفظة ((سلام)) هي كقطب دائرة، تجمع إليها من خطوطها سائر تصاريف السلام مع اشتقاقاته، من كونها مصدراً لتفريع معانيه، ونبينا المختار دعي رئيساً لهذا القطب، أي أنه رئيس ليس لدين الإسلام والمسلمين فقط، بل هو رئيس لجميع فروع السلام، كما نعت بها في القرآن الشريف مراراً 1، مثلما قال عنه إشعيا.
1 من ذلك قوله عز وجل {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} آل عمران آية 20، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} الأنعام آية 162، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} البقرة آية208.والآيات غيرها كثيرة جدا.
وخامساً: قد قال عنه إشعيا ((ليكثر سلطانه)) 1، وهذا القول قد ورد في سفر التكوين إلى سيدنا إبراهيم وللسيدة هاجر عن رئاسة نسل سيدنا إسماعيل، الذي منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 2*.
وسادساً: قد أفادنا إشعيا عن دوام دين الإسلام بقوله: ((ولسلام ليس له حد وقياس)) . وهذه نبوءة صريحة بأن دين الإسلام [يبقى] إلى انتهاء (العالم) .
وسابعاً: قد قال إشعيا بأن نبينا يجلس على كرسي داود، وعلى مملكته، ليرتبها ويساعدها بالعدل والاحسان، الذي هو الحنو، وحيث إن كرسي داود وسلالة ملكه قد فنوا قبل مجئ عيسى بزمان طويل3 *، واستولى عليها
1 في. ن. ع. قال: لنمو رياسته وللسلام.
2 وذلك فيما ذكروا في التكوين 20:1 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه هاأنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً اثنى عشر رئيساً يلد وأجعله أمة كبيرة.
* حاشية: إن سلطنة النصرانية ما كانت دليلاً على دين عيسى، لأنها قامت بعد تاريخ عيسى بأكثر من ثلاثمائة سنة، وأما سلطنة نبينا فقد صارت دليلاً كافياً فقد انتشرت بنورها حالاً في شخصه السامي فعلياً، كما قال عنها إشعيا النبي (في هذه الشهادة، وثانياً من عدم مطابقتها على عيسى، من حيث إن إشعيا يذكر عن المنبأ عنه بأن له ملك دنيوي وأنه يجلس ويقوم بالعدل والإفضال. فعيسى ما كان له ملك دنيوي، لأنه قال: إن مملكتي ليست من هذا العالم، ولا كان له شريعة عدلية وفضلية معا كما قالت النبوءة، بل محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت له هذه الشريعة مع السلطة السامية) .
3 وذلك فيما قبل سنة 586ق. م حين هجم بختنصر الملك الكلداني على دولة يهوذا، وأسر آخر ملوكها وهو صدقيا، وأخذ مقيداً بالسلاسل بعد أن قتلوا أبناءه أمام عينيه، ثم قلعوا عينيه وقتلوه وقتلوا أناساً كثيرين، ودمروا أورشليم وهدموا أسوارها وهيكلها وسبوا اليهود إلى بابل، وبهذا انتهت تلك الدولة، وانتهى ملك آل داود. الملوك الثاني25، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص209.
* حاشية: اعلم أنّ انقضاء مملكة سلالة داود كانت قبل مولد عيسى بنحو خمسمائة وثمان وثمانون سنة، واستولت عليها البابليون ثم الرومانيون [وعيسى ما جلس عليها ولاملك]
الرومانيون قبل زمان عيسى، وفي زمانه، وبعد زمانه، فلزم أن يكون هذا الجلوس على وجه الاستعارة، أي أنه يقصد منه الجلوس والترتيب والمساعدة من رجل صالح مؤمن بالله، وصاحب شريعة يجري في شريعته العدل والفضل، وليس معناه أن يكون كطيباريوس الروماني1، أو كأوغسطس قيصر الوثني2، الذَيْن كانا متملكين على كرسي داود فعلياً، في زمان عيسى، وكانا بعيدين من شريعة عيسى وموسى، لأن كلام إشعيا إنما هو عن مجئ رجل يجمع الشريعتين، أعني: شريعة موسى العدلية، وشريعة عيسى الفضلية، ويجعل لكل منهما مركزاً، بحيث أن كل واحدة منهما مفتقرة إلى الأخرى.
1 طيباريوس قيصر: الإمبراطور الروماني الثاني الوثني، وكانت فلسطين تحت حكمه، وفي زمانه بعث المسيح عليه السلام، ومات سنة 37م. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص584.
2 أوغسطس قيصر:، وهو أول إمبراطور روماني، وكان وثنياً، وكانت فلسطين تحت حكمه، وفي زمانه ولد المسيح عليه السلام، ومات سنة 14م. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص137.
ونرى ذلك الترتيب عياناً في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المرتبة من العدل والفضل، كما جاء في قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} 1.
فهنا في قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قد استعمل الشريعة العدلية، وأمافي قوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فقد أفادنا عن الشريعة الفضلية المفوضة إلى إرادة الإنسان، ومن قوله تعالى {الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ 2 وَالسِّنَّ بِالسِّن} ، وباقي غلاقة القول العدلي قد أضاف إليه القول التصدقي أي الفضلي بقوله تعالى غِبْ ذلك3 {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 4.
وهذا القول الشريف المركب من العدل والاحسان، أي التصدق الجامع بين الشريعتين السابقتين (الذي كان في أصل شريعة موسى
1 الشورى آية 40.
2 في النسختين العين بالعين والسن بالسن.
3 أي بعد ذلك. انظر المعجم الوسيط 2/641.
4 المائدة آية 45.
وانمحى) 1 ينطبق على نبوءة إشعيا هذه، القائلة عن المتنبأ عنه: إن إتيانه يكون بالعدل وبالصدقة*.
وهذه المعاني هكذا كان يفهمها النصارى واليهود القدماء، وكانوا يسلمونها اسلاماً خالصاً2. وأما النصارى المتأخرون (فيصرفونها إلى) 3 عيسى عليه السلام، والحال أنها لا تنطبق عليه.
أولاً: لأنه ماكان لعيسى رئاسة مرتبطة في قوة كتفه المتعلق فيه ذراعه وسيفه، بل إنه كان خالياً من الرئاسة مطلقاً [ولا كان له في كتفه
1 يؤيد قوله هنا أن أول الآية السابقة قوله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، ويقصد كتبنا على بني إسرائيل في التوراة.
* حاشية: اعلم أنّ علماء اليهود يترجمون هذه الجملة خلاف أصلها العبراني الذي شرحه المؤلف [عن قاموس اللغة العبرانية وقواعدها] ، لأنهم يترجمونها [أي أحبار اليهود إلى الآن] بالعدل وبالإنصاف كونها من جنس واحد، وإذا سأل أحد ما السبب الذي أحوجكم لدفع لفظة التصدق وبدلتموها بالانصاف، فيجيبون أن العدل لايواسيه التصدق، أي أن العدل والفضل لايجتمعان، ولم يدركوا هذا السر الإلهي الذي الله سبحانه وتعالى قد أوحى به إلى إشعيا، إذ كان مزمعاً أن يضعه في شريعته المحمدية الجامعة للوجهين، أعني الفارضة العدل، والمفوضة التصدق [كما قال المؤلف رحمه الله] .
2 في. د هكذا الذين كانوا يسلمون إسلاماً خالصاً. ومراده: أنهم يسلمون معناها السابق الذكر.
3 في النسختين فقد يفسرونها عن، وصوابها ما أثبت.
علامة شامة كبيرة (مكشوفة) كالمصطفى صلى الله عليه وسلم] 1، وكان دائماً يتخوف ويتهرب، كما يخبر عنه إنجيلهم2، ومحكوماً عليه.
ثانياً: أن سيدنا عيسى المسمى عندهم ((يسوع)) لم يكن اسمه ((عجيباً)) ، لأنه قد سبقه من كان باسمه (من الأنبياء) ، وهو يشوع بن نون*، وخلافه كثيرون3، ومع ذلك فنرى أن لفظة ((اسمه عجيباً)) قد انطبقت على نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم من كل جهاتها، لأنه من عهد آدم إلى الآن ما خرج نبي من الأنبياء اسمه أحمد، محمد، وأعجب من ذلك خروج هذا النبي الكريم من بني إسماعيل، في قبيلة معدومة الأنبياء4، عدا أن هذا الاسم الذي هو ((عجيباً)) هو من جملة أسمائه، وتراه مندرجاً في ((دلائل
1 في. ت مكان مابين القوسين أعاد فيه الجملة وهي قوله وكان خالياً من رئاسة.
2 انظر يوحنا 15:6.
* حاشية: اعلم أنّ لفظة يشوع هي عبرانية، ولما ترجموها من العبراني إلى اليوناني كتبوها ايسوس، ولما ترجموها من اليوناني إلى العربي عربوها يسوع، وأما حقيقة [ترجمتها في العربي هي مخلص] ، وكثيرون هم الذين يتسمون بها إلى الآن عند اليهود في اللغة العبرية..
3 أي غير يشوع بن نون كثيرون تسموا بهذا الاسم، وقد ذكر صاحب قاموس الكتاب المقدس ص1071 اثنى عشر رجلاً قبل المسيح تسموا بهذا الاسم.
4 في. د من قبيلة معدومة كثرة الأنبياء، أعني: أنها ليست مثل بني إسرائيل الكثيري الأنبياء.
الخيرات)) 1، ولهذا قد دعى إشعيا اسمه ((عجيباً)) ، وقد صادق على ذلك، أي على قوله:((عجيباً)) عيسى بقوله: ((وهو عجيب في أعيننا)) 2، وما كان عيسى جباراً مثل المصطفى، بل إنه كان يتظاهر دائماً بأنه كان ضعيفاً فقيراً.
وإن قيل عنه من النصارى إنه كان جباراً بلاهوته وليس بناسوته: فأقول: إننا نقضنا هذا الوجه نقضاً كافياً فيما سلف، وأنه ليس فيه لاهوت3، والآن نقول أيضاً: إن كان سيدنا عيسى جباراً بحسب لاهوته المتحد فيه ناسوته، فلماذا عندما تضيق وتحزن وبضجيج توسل وبخوار صوت وأظهر ضعف الإنسانية انحدر ملاك من السماء مقوياً له4؟ كما أخبر إنجيلهم، وأين كان جبروت لاهوته، ولماذا ماصبّر لاهوته ناسوته على التضييق وقواه؟ بل إنه افتقر إلى ملاك ليقويه، مع أن هذا الافتقار والمساعدة
1 لم أقف عليه في الطبعة الموجودة بين يدي من دلائل الخيرات.
2 انظر الشهادة السادسة.
3 انظر البيان رقم 6 من الباب الأول.
4 يشير إلى ماذكره لوقا عن آخر ليلة للمسيح عليه السلام فيما قالوا: إن المسيح عليه السلام انفصل عن تلاميذه نحو رمية بحجر، وجثا على ركبتيه وصلى قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك، وظهر له ملاك من السماء يقويه، وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض لوقا 22: 41 -44.
خلاف افتقاراته الطبيعية ومساعداتها. وأيضاً مادعي عيسى ((مشاوراً)) ولا تسمى بهذا الاسم على الإطلاق.
ثالثاً: أن عيسى ما كان أبا الأخير1، بل كان متوسطاً فيما بين موسى ونبينا عليهما السلام وعليه البركات.
رابعاً: أن عيسى ما كان رئيس سلام كما قال إشعيا، بل كان رئيس الأمة المسيحية2، وأما رئيس سلام أي رئيس الإسلام فقد كان محمداً المصطفى صلى الله عليه وسلم.
خامساً: أن عيسى لم يكثر سلطانه كما تنبأ عنه إشعيا، بل إنه ما كان له ملك أبداً، لأن اليهود لما أرادوا أن يخطفوه ويصيروه ملكاً هرب3 *.
1 يقصد أن المسيح عليه السلام ليس هو من ختمت به النبوة واستمرت إمامته على الدنيا إلى آخر الزمان، وإنما كان هذا للنبي عليه الصلاة والسلام.
2 إطلاق اسم السيحية على أتباع المسيح غير صحيح، لأنهم في حقيقة الأمر أتباع لبولس وليسوا أتباعاً للمسيح عليه السلام، فقد حرفوا رسالة المسيح عليه السلام وغيروها، وليس المسيح عليه السلام رئيساً عليهم، فهو بريئ منهم، وإنما هو من المسلمين، كما قال الله تعالى عن الحواريين:{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران 52.
3 انظر يوحنا 15:6.
* حاشية: اعلم أنّ الإنجيلي لم يشرح لنا كيف أرادوا أن يقيموه ملكاً، وكم واحداً من اليهود الذين كانوا يحبون عيسى وأرادوا أن يصيروه ملكاً، مع أن كل كبراء اليهود وعظمائهم الذين بيدهم الأمور كانوا يبغضونه، وأما المحبون له فكانوا من العوام، والعجب فيهم أنهم كيف تجرؤا على الحاكم الروماني، ولم يخشوا كبراءهم ورؤساء ديانتهم. وهذه الحاشية ليست في. د، وقد كتب في. د حاشية أيضاً ليست في. ت وهي اعلم أن من قول المؤلف الذي شرحه يتحقق أن السلطان الذي ذكره إشعيا هنا إنما تحقق في شخص محمد عليه الصلاة والسلام، وإن اعترض النصارى بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ما جلس على كرسي داود وعلى مملكته، كما قيل في غلاقة هذه الشهادة، فنجيبهم أنتم تسحبون هذه الشهادة إلى عيسى، وعيسى لم يجلس على كرسي داود، لأنه في زمن عيسى كان هيرودوس جالساً عن طيباروس قيصر، وحيث إنها لا تنطبق العبارة على الاثنين حقيقة، فيلزم أن تطلق مجازاً على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه هو الذي قوم مملكة داود، إذ إنه الذي جاء بشريعة العدل والتصدق، وتشهد عل صحة إطلاقها عليه القرائن التي تقدم شرحها من المؤلف رحمه الله تعالى في بيان معانيها بالتفصيل.
سادساً: أن سيدنا عيسى ما كانت شريعته عدلية وفضلية، كما تنبأ إشعيا في هذه النبوءة، بل كانت شريعته فضلية فقط، وأما الذي انطبقت عليه هذه النبوءة وجاء بالشريعة المرتبة بالعدل والإحسان هو أبو القاسم محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان إشعيا تنبأ عن رجل يكون إتيانه بهذه الصفات المشروحة، أي إنه يكون صاحب شريعة ممتزجة من العدل والفضل، وصاحب حكم وتملك1 [والأب] الأخير الذي لم يعقبه نبي آخر غيره، ورئيس سلام، أعني: رئيس الإسلام والمسلمين، ومشاوراً، وجباراً، [وطائقاً] وعجيباً اسمه، [وصاحب علامة على كتفه المتعلقة برئاسته الدالة عليه دون غيره، الذي إما على وجه المجاز
1 في. د صاحب سلطان ورئاسة.
-على مذهب أصحاب علم المعاني والبيان هي رئاسته بسيفه، الذي كان يعلقه على كتفه، كعادة العرب إلى الآن*،- وإما على وجه الحقيقة تكون الشامة الكبيرة المكتوبة هي العلامة التي كانت على كتفه، التي لا تقبل أدنى شبهة] 1.
وهذه الصفات قد وجدت فيه حقيقية ظاهرة، أي في النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليست مجازية، (وإذا وجدت) الحقيقة فلامحل للمجاز، فكيف يسلّم العقل قبولها على سيدنا عيسى عليه السلام، الذي لم تنطبق عليه، مع أنه ليس مفتقراً إلى سرقة الشهادات التي قيلت عن المختار صلى الله عليه وسلم، إذ أنه قيل عنه من إشعيا ومن الأنبياء شهادات أخر كثيرات، التي لم تنطبق على غيره، حتى ولا على نبينا المصطفى صلى الله عليهما وسلم أفضل الصلاة وأتم السلام.
* حاشية: اعلم أنّ البين الواضح الذي قد يحمل عليه هذا المعنى حرفياً، الذي هو إشعيا بأن رئاسته على كتفه، وهو أن هذه الرئاسة هي الدلالة التي كانت في منكبه الشريف، التي كانت تشير على رئاسته، وتسمى خاتم النبوة، وهي شامة كبيرة في لحم كتفه مكتوبة وشهيرة، وكما قررنا في حاشية سابقة أن هذه الجملة في العبراني أيضاً لها محذوف مقدر وهو لفظة علامة، أعني أن علامة رئاسته تكون على كتفه، وهذه العلامة كانت بالواقع على كتف رسول الله، وقد وصل إلينا خبرها بالتسلسل خلفاً عن سلف، بأنه صلى الله عليه وسلم كانت له علامة على كتفه كشامة كبيرة مكشوفة واشتداد ذراعه.
ملاحظه: استخدم في الحاشية هنا بدلاً من الصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام كلمة صلعم وهي الكلمة الوحيدة في هذه المخطوطة ولعلها من الناسخ، وهي اختصار قبيح لا يجوز استعماله.
1 نص العبارة في. ت الذي رئاسته متعلقة على كتفه، أعني أن رئاسته بسيفه الذي كان يعلقه على كتفه كعادة العرب إلى الآن والمثبت من. د.
الشهادة الثامنة
إن النبي إشعيا قد أورد في الإصحاح الحادي والعشرين كله ألغازاً أخر (تنبيء) عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال من العدد الأول مبتكراً فيه وقائلاً:((ثقل البحر البري)) 1.
إن إشعيا النبي القائل: ((ثقل البحر البري)) ، قد أشار به عن نبينا، وأخذ فيه وجه الاستعارة التشبيهية بأنه بحر بري، أعني أن خروجه ومشيه وفعله في البر مميزاً إياه من البحر المائي، وإضافته إلى قوله:((ثقل البحر)) ، أعني أمواجه صلى الله عليه وسلم البليغة التي كانت تهيج فيه، وتكسر سنن2 الكفر مع أصنامها، وأردف إذ قال عن [وجوه] وروده:((إنه مثلما تأتي الزوابع من الجنوب يأتي إلينا من البر من بلد مخيف)) ؛ يعني أن هذا البحر مع ثقله وأمواجه، يأتي إلينا من البر، من بلد مخيف كالزوابع، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان مجيئه كالزوابع الجنوبية، وكالأمواج الثقيلة، وكان يلاطم ويهدم البروج الكفرية، التي كانت يومئذ مشيدة عند الأعم من البشر، وأضاف إلى قوله:((إنني أخبرت ببيان صعب العاصي يعصي والناهب ينهب)) .
ففي هذا النبي إشعيا قد أظهر ثقل فعل البحر البري، [وكيف نهب العصاة لله كموسى، وهذا النهب هو من خصال العرب، وقد تعجب منه
1 في. ن. ع. وحي من جهة برية البحر.
2 في. د سفن.
إشعيا إذ قال: إني أخبرت ببيان صعب الناهب ينهب، وأما على وجه المجاز فنقول بأنهصلى الله عليه وسلم نهب العصاة] 1.
وأكد2 المعنى إذ أشار عن نفسه بلسان الحال: ((امتلأ حقوي وجعاً، ومغصاً في قلبي، وارتعاشاً، والظلمة أزعجتني)) ؛ يعني أن ظلمة الكفر التي كانت معششة في البشر* كانت مورثة على رسوله الانزعاج والمغص، ثم قال:((ابسط المائدة اطلع من المطلع إلى الآكلين والشاربين قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة)) 3. كأنه يتكلم بلسان حال نبينا صلى الله عليه وسلم الناظر إلى الآكلين والشاربين، والمنادي إلى صحابته الكرام، ((قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة)) ، لأنه هكذا قال لي الرب: ((اذهب وأقِمْ الديدبان4 ليخبر مايرى، فرأى فارسين5 أحدهما راكب حمار، والآخر
1 في. ت اخنصر العبارة على النحو الآتي وكيف أنه ينهب العصاة إلى عبادة الله تعالى.
2 في النسختين وأطبق وصوابها ما أثبت.
* حاشية: اعلم أنّ هذه الظلمة المذكورة في هذه الجملة هي التي ذكرها إشعيا في آخر الشهادة الخامسة أي قوله: وإذا هي مظلمة ضيقة، وهي في هذا المعنى ذاته.
3 في. ن. ع. هكذا يرتبون المائدة يحرسون الحراسة يأكلون يشربون قوموا أيها الرؤساء امسحوا المحبة.
4 الديدبان: هو الحارس والرقيب، وهو فارسي معرب. انظر المعجم الوسيط ص276، وفي. ن. ع. ورد الحارس.
5 هكذا في النسختين، وصوابها أن يقول راكبين، وفي. ن. ع. هكذا فرأى ركاباً أزواج فرسان ركاب حمير ركاب جمال. وسيذكر المصنف ذلك.
راكب جمل)) . فالراكب على الحمار هو سيدنا عيسى بدخوله عليه1 القدس الشريف، وأما الراكب على الجمل فهو دليل كاف على نبيناصلى الله عليه وسلم.
فهذه العبارة هي على موجب التوراة العربية المترجمة عن اللاتينية، وأما على موجب التوراة العبرانية فالمعنى فيها أجلى من هذا لأنها تقول:(قاري ريخيب صيميد فاراشيم ريخيب حاسود ريخيب كامال) وترجمتها إلى العربي: ((فرأى ركب رديف خيل ركب حمار ركب جمل)) ، وهذه كانت جيوش نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، خلاف عساكر الملوك المقاتلين، لأن الملوك لا تركب جيوشها مراديف، ولا يركبون حميراً ولا جمالاً، وهذه عادة العرب فقط على وجه التغلب، وأن إشعيا على هذا المنوال أبصر في رؤياه جيوش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ركب رديف2 خيل ركب حمار ركب جمل*.
1 في النسختين على وصوابها ما أثبت، وقد ذكر صاحب إنجيل مرقس دخول المسيح القدس على حمار فقال في 7:11 فأتيا بالجحش إلى يسوع وألقيا عليه ثيابهما فجلس عليه
…
فدخل يسوع أورشليم والهيكل.
2 الرديف: من أردف، وتعني راكب خلفه على الدابة، وأتبع الشيء وتوالى وتتابع. انظر المعجم الوسيط ص339.
* حاشية: اعلم أنّ اسم حمار وجمل هما أسماء جنس معناهم حمير وجمال.
((فصرخ الأسد)) ، أي نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من الالتفات، ((على مطلع1 الرب أنا واقف بالليل وبالنهار)) .
وبالحق إنه كالأسد، وأنه على أوامر الرب كان واقفاً، وبها عارفاً2.
يقول إشعيا: ((وإذا برجل راكب أزواجاً من الفرسان)) ، وقال:((سقطت بابل3 مع أصنامها)) ، وهذا التفات ثان.
أقول: فكأن الله سبحانه قد كشف لإشعيا أعمال4 رسوله محمدصلى الله عليه وسلم مكرراً عليه المعاني لأجل التأكيد، مخبراً له عن رديف الفرسان أزواجاً أزواجاً ومعهم رجل. وبلا شك أنه هو صلى الله عليه وسلم الذي كانت جيوشه
1 يقصد هنا أن الأسد صرخ على مطلع، أي من مكان يطلع منه على غيره، وقد عبر عن ذلك بالمرصد في. ن. ع، حيث قال: ثم صرخ كأسد أيها السيد النائم أنا قائم على المرصد دائما. وترجمتها أن يقول المؤلف: فصرخ الأسد أنا واقف أيها الرب على المطلع بالليل وبالنهار.
2 في. ت وإذا برجل قد، وليست في. د، ولامعنى لها.
3 بابل: هي عاصمة الكلدانيين، وتقع بين دجلة والفرات جنوب بغداد في وسط العراق، وهي التي سبي إليها بنوإسرائيل زمن ملك الكلدانيين بختنصر. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص152.
4 في النسختين مفاعيل وصوابها ما أثبت.
مراديف1 أزواجاً، (وأبان) عن السقوط الكائن من فتح بابل2 وإسقاط أصنامها3.
وختم4 إشعيا كلامه: ((إن هذا من عند رب الأجناد)) .
ثم أفصح بنبوءته عن الأمكنة والأشخاص، أما عن الأمكنة فقال:((دومة5 تصرخ إليّ من ساعير6 ياحارس فقال الحارس: ارجعوا وأقبلوا)) *.
1 أي يردف بعضها بعضا.
2 في. ت بغداد وما أثبت من. د، وهو الصواب. وكان فتح العراق ومن ضمنه بابل من قبل خالد بن الوليد، ثم من بعده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، في زمن الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قبل سنة 20هـ.
3 هنا حاشية في. د، وليست في. ت، وهي قوله اعلم أن هاهنا سمى إشعيا مكة باسم مجازي وهو بابل، لأن هناك أيضاً تبلبلت الآراء والعقول في أمر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وانقسمت عندما تساقطت أصنامها، كما خبر ذلك هو مشاع في القصة الحلبية وغيرها.
4 في النسختين وغلق وأفصح منها ما أثبت.
5 دومة: هي دومة الجندل، وهي شمال الجزيرة العربية في منطقة الجوف، ولا تزال تعرف بهذا الاسم. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص381.
6 ساعير: هي منطقة جبلية تقع مابين البحر الميت وخليج العقبة، وكانت تسمى أدوم، ويقع جزؤها الشرقي الآن ضمن المملكة الأردنية الهاشمية. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص39،467.
* حاشية: اعلم أنّ دوما هو الولد السادس من الاثنى عشر، أولاد سيدنا إسماعيل، وهذا الولد هو الذي عمر هذه البلدة، وقبيلته كانت ساكنة فيها، وهي التي استغاثت وصرخت للنبي: يا حارس، كما أخبر هنا إشعيا. وقوله السابق إن هذا من عند رب الأجناد قد وافقه سيدنا عيسى وأكده بقوله: بأن هذا كان من قبل الرب وهو عجيب في أعيننا.
أقول: إن ((ساعير)) اسم إيالة1، و ((دوما)) اسم بلد في ساعير2 قد كانت مثقلة بالضلال، وأهلها بلسان الحال قد استغاثوا بالحارس، أي بالنبي اليقظان فجاوبهم:((إلى الله ارجعوا واقبلوا)) 3.
وأما عن الأشخاص فقال: ((ثقل على العرب حسبتم تبيتون في الغاب)) 4.
والمعنى الذي أورده في أول الإصحاح، أي ثقل البحر البري قد أورد توجيهه هنا: بأنه يكون على العرب، لقوله:((ثقل على العرب)) ، أعني: أن أول توجيهه وإنذاره كان إلى العرب ثم إنه جمع بقوله: ((تلاقون العطشان بالماء ياسكان التيمن5 واخرجوا بالخبز للقاء المنهزم)) .
إن هذه النبوءة من إشعيا قد انطبقت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من دون شك ولا مراجعة، إذ إن إشعيا المشار إليه ماترك مقطعاً من هذا الإصحاح
1 هكذا في النسختين، ولعلها أيله، وهي أيلات على خليج العقبة، وهي مدينة في منطقة الأدوميين، الذين كانوا يسكنون سعير. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص143.
2 هذا من ضمن ماقيل في المراد بدومة. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص381.
3 في. د حاشية وليست في. ت وهي اعلم أن هذا القول: أي ارجعوا إلى الله وأقبلوا كان لهج وإنذار النبي الكريم، لأن كذا كانت ألفاظه الشريفة ومضامينه.
4 هكذا أمكن قراءتها من. د، أما. ت فهي هكذا ثقل على العرب إذا آية تتوا في الغاب، أما في. ن. ع. فهكذا وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين ياقوافل الردانيين.
5 في. ن. ع. ياسكان أرض تيماء.
خالياً من إشارة، ورمز على نبينا صلى الله عليه وسلم، فكأنه في هذا العدد الذي هو الخامس عشر يقول: ياسكان التيمن –أي القبلة1- اخرجوا بالخبز والماء للقاء المنهزم، فبقوله: المنهزم كأنه يتعمد شخصه السامي الشريف، لأنه في أول نبوته حينما انهزم2 وهاجر من وطنه، أي من مكة المشرفة وجاء إلى المدينة المنورة، فعلى الطريق قدم له الخبز والماء من سكان التيمن3*.
1 التيمن أو تيماء. قال في القاموس: اسم عبري معناه اليميني أو الجنوبي. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص228.
2 قوله: انهزم تعبير لا أراه مناسباً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مهاجراً لما منع من الدعوة إلى الله وأراد الكفار قتله لذلك. وقد سمى الله عز وجل خروجه من مكة نصراً في قوله:{إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} التوبة 40 فقد نصره الله على الكفار في ذلك ولم يحقق لهم ما أرادوا، بل كان في تلك الهجرة النصر المؤزر على الكفر وأهله إلى يوم القيامة.
3 لعله يشير إلى قصة أم معبد التي ذكرها أهل السير، ومختصرها أن النبي عليه الصلاة والسلام لما خرج مهاجراً مر بخيمة أم معبد الخزاعية، وخزاعة من اليمن، فأرادوا القرى فلم يكن عندها شيء، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ليس فيها شيء من الحليب، فمسح ضرعها ثم حلبها فدرت فشربت المرأة وشرب الرسولصلى الله عليه وسلم وأصحابه منها. ومما يصدق على كلامه ملاقاة أهل قباء من ضواحي المدينة له صلى الله عليه وسلم، حين خرج مهاجراً ونزوله عليهم وإكرامهم له، ثم ماكان من الأنصار وهم من أهل اليمن في الأصل من القيام معه ونصره صلى الله عليه وسلم. انظر دلائل النبوة للبيهقي 2/222-227، سيرة ابن هشام 2/95-99.
* حاشية: اعلم أنّ لفظة التيمن هي لفظة عبرانية ومعناها في العربي القبلة، التي قد ظهر منها نبينا الأعظم.
ولفظة التيمن مع لفظة العرب السابقة عليها هما من أكبر الأدلة على ظهوره من تلك المحلات لا من سواها، وفي المقطع الذي يتلوه قد عطف إشعيا بضمير الجمع إذ قال:((لأنهم منهزمون من قبل السيوف، من وجه السيف الحاضر، من وجه القوس الموترة، ومن وجه الحرب الشديدة)) ؛ يعني أن خصومه ينهزمون في عودته ورجوعه عليهم من قبل السيوف من وجه السيف، كما جاء الأمر عليه بقوله تعالى له {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 1، وكذلك جرى ذلك الانهزام على أعدائه، أعني: من جراء سيفه وقوسه الموترة والحرب الشديدة، وكلام إشعيا ((بأنهم منهزمون)) متوجه علىالعرب وعائد ضميره إليهم، (والدليل) على ذلك هو قوله:((ثقل على العرب)) .
وترى هذه المعاني موضحة2 في محلاتها، إذ أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي كان وروده كثقل البحر، وكان هو بحراً برياً وليس مائياً، وهو الذي أتى لنا من البر من بلد مخيف، مثلما تأتي الزوابع من الجنوب، ونهب العصاة*.
1 التوبة آية 36.
2 في النسختين مفصحة، وفصاحتها ما أثبت.
* حاشية: اعلم أنّ قوله: من بلد مخيف أي من مكة المشرفة التي كانت مخيفة لقلة تمدن سكانها يومئذ، [وقد وجد في التوراة العبرانية عوضاً عن قوله من بلد مخيف مكتوب من المدينة المنورة] قلت –المحقق-: وهذا القول بعيد، لأن المدينة لم تسم إلا بعد مجيء النبي عليه السلام، إلا إذا كان يقصد به صفتها. والله أعلم، وقوله: نهب العصاة يجوز إن ذلك القول كان حرفياً أيضاً بالفعل وكان لمحاربيه، كما أمر الله قبله يشوع ابن نون وموسى بمثل ذلك بنهب العصاة.
وهو الذي قد نادى صحابته: قوموا ياأيها القواد ودربوا (بالأتراس) 1، وكان صلى الله عليه وسلم فارساً، وجيوشه المراديف الراكبين الِجمال والخيل، والحمير*. وهو الأسد الذي صرخ ((على مطلع الرب: أنا واقف)) ، أي على مناظر الرب وأوامره، أنا واقف نهاراً وليلاً، وهو الرجل الراكب أزواجاً من الفرسان، العارف سقوط بابل (قبل كونه) 2 مع أصنامها، الصائر3 فيما بعد من أمته وخلفه، وهو الذي نادته دوما من ساعير: يا حارس، وأجا بها:((إن طلبتم فاطلبوا ارجعوا إلى الله واقبلوا)) *.
وهو الثقل الذي كان4 على العرب العصاة الذين انهزم منهم وهاجر، وقد لاقوه سكان التيمن أي القبلة بالخبز والماء، وفيما بعد عند
1 في النسختين بالأترسة وصوابها ما أثبت، والأتراس جمع ترس، وهو ماكان يتوقى به في الحرب ضربات السيوف. انظر: المعجم الوسيط ص84.
* حاشية: اعلم أن هذه الأشكال من المراكيب والمراديف هي وحدها كافية أن تثبت هذه الشهادة على المختار، [لكون تلك المذكورات هي من خصال العرب] ..
2 قبل كونه، أي قبل وقوعه.
3 هكذا في النسختين، أي الذي وقع من أمته فيما بعد.
* حاشية: اعلم أنّ لفظة ياحارس هي اسم من جملة أسمائه الشريفة وهي مشهورة وموجودة في كتب كثيرة منها دلائل الخيرات [وقد تراها مكتوبة في العبراني الحريص أو الحافظ] .
4 في النسختين وهو الذي كان الثقل وفصاحتها ما أثبت.
رجوعه غدت أعداؤه (منهزمين) من وجهه ومن سيفه وقوسه من وجه حربه الشديد.
وبالاختصار أقول: إن إشعيا قد ختم كلامه بهذه الجملة الحاملة تلك الإشارة الوافية المعنى بقوله: ((بأن هكذا قال لي الرب في انقضاء سنة كسنة الأجير يفني كرامة قيدار وبقية عدد أصحاب القسي الجبابرة من بني قيدار يتقللون فإن الرب إله إسرائيل تكلم)) .
أقول: إن معنى قوله في انقضاء سنة كسنة الأجير؛ أراد به حولاً طويلاً وثقيلاً، إذ إن الأجير المستأجر قد يحسب سنة استئجاره أنها طويلة ثقيلة. ونبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشبه بالبحر البري من بعد انتهاء هذه السنة الطويلة التي جاهد فيها، التي شبهها إشعيا كسنة الأجير قد أفنى فيها جميع كرامة قيدار، لأن ((قيدار)) قبيلة وهي (سلالة) 1 من ثاني ولد من أولاد سيدنا إسماعيل، التي كانت تحارب رسول الله محمداًصلى الله عليه وسلم لما عصت دينه الشريف2، وأنشأت عليه الحروب الردية، فسحق قِسِي جبابرتهم وتقللوا
1 في النسختين سلسلة منسحبة من ثاني وفصاحتها ما أثبت.
2 واضح أن مراد المصنف رحمه الله أن سلالة قيدار ثاني أولاد إسماعيلعليه السلام قد حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يتبين لي مراده أي قبيلة من القبائل هي، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وقد حاربته قريش إلى أن دخلوا جميعا في الإسلام، بعد أن قتل من قتل منهم في السنة الثامنة للهجرة، ثم ابتدأت قبائل العرب في الدخول في الإسلام بعد كفرها، كما أن نسب النبي صلى الله عليه وسلم الثابت منه إلى عدنان وبعد عدنان لايتضح نسبه إلى إسماعيل عليه السلام، ولكن بعض النسابة جعلوا عدنان من ولد قيدار بن إسماعيل، وبعضهم جعلوه من ولد نابت بن إسماعيل عليه السلام، ولكن كل ذلك لايثبت بخبر صحيح. انظر في ذلك تاريخ الطبري 1/516.
كما تنبأ عليهم إشعيا بقوله: ((يفني جميع كرامة قيدار وبقية أصحاب القسي الجبابرة، من بني قيدار يتقللون، فإن الرب إله إسرائيل تكلم)) . وهذه [النبوءة مربوطة بجملة علامات] ومنطبقة على نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم (دون) سواه.
الشهادة التاسعة
إنه في الإصحاح الثالث والثلاثين من تثنية الاشتراع قد أفادنا سيدنا موسى نبوءة، وإشارة عن الأرض، التي منها خرجت شريعة وأنوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جبل فاران، الذي في أرضه موجود مكة المشرفة بقوله:((جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبل فاران)) 1.
أقول: أما قول سيدنا موسى بأنه ((جاء الرب من سيناء)) ، أي أنه تعالى أورد شريعته بكتاب التوراة في سيناء، وأما قوله:((وأشرق لنا من ساعير)) ، فهي نبوءة عن شريعة عيسى، لأن ((ساعير)) كما كتب عنها في سفر التكوين، وفي كتب الجغرافيا هي معلومة، بأن فيها أشرقت البشارة والإنذار في الديانة النصرانية، لأنها كانت من حظ سبط يهوذا، وعيسى كان من سلالة سبط يهوذا2.
1 تثنية 1:33.
2 هذا على أساس ماذكره النصارى في كتابهم من ذكر نسب المسيح عليه السلام، وأنه يعود إلى داودعليه السلام، وداود من سبط يهوذا بن يعقوب عليه السلام. والصحيح أن المسيح عليه السلام ليس من سبط يهوذا، ولا من نسل داود. ويكفي في الدلالة على كذب النصارى في ذلك، أن صاحب إنجيل متى جعل المسيح ابن يوسف خطيب مريم المزعوم، ثم في النهاية جعله من نسل سليمان بن داود عليه السلام، أما صاحب إنجيل لوقا فجعله ابن يوسف، ثم في النهاية جعله من سلالة ناثان بن داود، في سلسلة نسب لا تلتقي مع الأولى إلا في الاسم الأول والأخير، فهذا دليل واضح على كذب النصارى المتعمد، أو غير المتعمد
.....................................................................................................
فيما ذكروا وقد أنكر المسيح على اليهود هذه الدعوى كما ذكر متى في 43:22، وفيه وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود، قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه.
والصحيح أن المسيح من سلالة هارون عليه السلام الذي يعود إلى لاوي بن يعقوب عليه السلام وذلك لعدة أدلة:
أولاً -أن مريم أم المسيح عليه السلام كانت منذورة للعبادة، وهذا الأمر وهو النذر وخدمة معبد اليهود خاص ببني لاوي، كما هو في تشريعاتهم.
ثانياً -أن أليصابات زوجة زكريا حسب ما ذكر النصارى نسيبة مريم وقريبتها، وهي من بنات لاوي، فتكون مريم كذلك، لأن كل رجل من بني إسرائيل يأخذ من سبطه وليس من سبط آخر.
ثالثاً -أن زكريا عليه السلام يدعي النصارى فيه أنه كان كاهن الهيكل في زمانه، والكهانة كانت في بني لاوي كما هي شرعة اليهود.
رابعاً -أن الله عز وجل ذكر قول اليهود لمريم ونسبتهم لها إلى هارون، حيث قال تعالى:{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} مريم آية 28.
فقولهم يا أخت هارون من جنس قول يا أخا تميم، يا أخا العرب، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره، 3/112 عن السدي. وكان النصارى قد طعنوا في القرآن الكريم بناءً على هذه النسبة بين مريم وهارون، ظناً منهم أن هارون المذكور في الآية هنا هو هارون أخو موسى عليهما السلام، فقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى نجران، فقالوا له: أرأيت ما تقرءون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال: فرجعت فذكرت ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم. أخرجه. م.3/685. فالنبي صلى الله عليه وسلم بين هنا بطلان هذا الطعن، وأن هارون المذكور في الآية ليس أخاً لمريم، كما ظنوا. ولا شك أن ذلك لا ينفي أن تكون مريم من سلالة هارون عليه السلام، بل إن القرطبي نقل عن مقاتل أنه قال في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} آل عمران 33. قال: هو عمران أبو موسى وهارون. فعليه تكون مريم من نسله، لأن قصتها ذكرت بعده مباشرة. انظر: تفسير القرطبي 4/ 63.
أما ساعير التي وردت في البشارة هنا فلا يبعد أن يكون المقصود بها جبلاً في منطقة يهوذا مجاور لقرية يعاريم على مسافة تسعة أميال غربي القدس. انظر قاموس الكتاب المقدس ص467،729 وفي تلك المناطق بعث المسيح عليه السلام.
وأما قوله: ((واستعلن من جبل فاران)) ، فمعناه أنه من هناك ظهرت شريعة الله تعالى وناموسه العظيم، الذي هو القرآن الشريف الذي أنزل على المصطفى الكريم، لأن جبل فاران وأرضه هو ظرف لمكة المشرفة، حيث كان يتردد صلى الله عليه وسلم، وولادته كانت هناك، وله فيها أحاديث كثيرة وعجيبة.
ولفظة فاران لها معان كثيرة في ((شوراش)) العبراني، أي القاموس، منها الجبل الظليل، ومنها الجبل الذي فيه مغر مجوف من داخله، كما ترجمت هذه اللفظة من اللغة اليونانية.
وجبل مكة الذي شرحنا عنه، الذي موقعه بقربها مسافة ثلاثة أميال، واسمه الآن ((غار حراء)) 1، بمعنى المغور، الذي كان صلى الله عليه وسلم يختلي فيه في مغارة ثمان سنوات2، معتزلاً لفراغ القلب بالذكر، وفيه أوحى الله تعالى3 إليه بواسطة جبرائيل عليه السلام4، والذي يؤكد ذلك ظهور أنوار سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم منه وشريعته الغرّاء وليس سواها، كما قد يثبت هذا
1 غار حراء: هو المكان الذي كان يتعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه الوحي فيه. وهو يقع في شرق مكة، وهو الآن داخل مدينة مكة. انظر بعض هذا في: معجم البلدان،2/223.
2 لم أقف على من ذكر أن مدة اختلاء النبي صلى الله عليه وسلم بغار حراء ثماني سنوات، وإنما روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت:"أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه –وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء". قال ابن حجر: "أصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان". انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/23.
3 في النسختين يوحي، والصواب ما أثبت، لأن الله تعالى أوحى إليه فيه أول مرة، كما هو ثابت في الحديث المذكور في الحاشية قبله، ولم يستمر الوحي إليه فيه، ولا يعرف أنه عليه الصلاة والسلام رجع إليه، واستمر يوحى إليه فيه. والله أعلم.
4 في. ت هو بهذه الصورة بحوز ممغور، وليس لها معنى، وليست في. د.
الباب حبقوق النبي1 في الشهادة التي تتلو هذه، إذ إنه مع ذكره اسم فاران، يعين أيضاً جهتها، التي هي القبلة لئلاّ تجهل وتلتبس*.
وأيضاً أقول: إن لفظة فاران مشتقة من فاران في اللغة العبرانية، وتعريبها المتجِّمل المتزين، وكأن حبقوق مع موسى عليهما السلام يقولان عن نبينا: إنه يأتي من الجبل المتزيِّن. وجبل مكة يصدق عليه هذا الاسم
1 في النسختين قال حبقوق النبي، ولم يثبت عندنا نبوته بنص صحيح.
* حاشية: اعلم أنّ بعضاً من النصارى يتوهمون أن فاران هي بقرب جبل سيناء، والحال لو أنها كانت هذه فاران المشار إليها من موسى، لكان يلزم أن يذكرها في هذه الشهادة قبل ساعير، وقد تراه أنه ذكرها بعد ساعير خلاف واقعهما، وأيضاً إن فاران التي وجودها بقرب سيناء هي برية كما أفاده عنها التوراة، وههنا موسى عليه السلام يذكر جبلاً بقوله: من جبل فاران، والقاعدة في ذلك أن تلك البرية دعيت فاران لسبب أنها ظليلة في الأشجار الهيشية، والجبل الذي هو بمكة سماه موسى ههنا فاران لكونه مجوفاً مغورا، ولفظة فاران هي عبرانية تقبل الوجهين عدا غيرهما، أي انها تترجم مجوف مغور، وتترجم أيضاً ظليل، فإذا كانت قرائنها في كتاب التوراة مذكورة برية يلزم أن تفهم أنها ظليلة، وإن كان لفظة فاران قرائنها جبلاً فينبغي لنا أن نفهم بأنها جبل مجوف مغور، فههنا في قول موسى: إنه يستعلن من جبل فاران، فعلم أن هذا هو جبل فاران، الذي فيه المغارة، الذي هو بقرب مكة المشرفة، وفيها كان صلى الله عليه وسلم يختلي. وهذا الجبل هوفي القبلة أيضاً، كما شرح عنه المؤلف عن موسى وحبقوق، وبالاختصار إن لفظة جبل فاران هي بالعربي جبل غار، وهو اسم شهير ومعلوم لجبل مكة المشرفة، وإن قلت: إنه مشتق من فاران وهو بالعربي أيضاً المتزين منطبق عليه هذا الاسم أيضاً من كونه متزيناً في وجود بيت الله، الذي يشرحه المؤلف بعد ذلك.
أيضاً، بحيث هو المتجمل بوجود بيت الله، الحرم الأعظم المبني فيه من دهور عديدة، قبل ظهور النبي الكريم من سيدنا إبراهيم، المتردد على تلك الأمكنة، كما هو محرر في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر1. وقيل من قبله وعاد فتجدد، ومن هذا الجبل ظهر نبينا محمد الأعظم، وكانت صحابته عشرة، كما تنبأ عنهم زكريا في الشهادة السابقة وشهادة الحال، أعني ظهوره صلى الله عليه وسلم من ذلك الجبل المتزين، الذي هو بالعبراني فاران، هو الإثبات الجاذب لشهادة المقال.
وإن قيل: إن سيدنا موسى تكلم بهذه الاشارة بصيغة الماضي، لأنه قال:((استعلن)) ، ولم يقل يستعلن بصيغة المضارع.
فأجيب: أنه من عادة الكتب أن تستعمل صيغة الماضي بمعنى المستقبل في بعض محلات، ومن واقع الحال قد يعلم ذلك، كما أنه قد قيل من سيدنا داود عن عيسى:((بأن إلهاً قام في مجمع الآلهة)) 2، على صيغة الماضي، وهو وقتئذ لم يكن قام، وقوله: ((والرؤساء اجتمعوا
1 لعله يقصد ما ورد في التكوين 8:12 واجتاز ابرام إبراهيم في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للرب الذي ظهر له، ثم نقل من هناك إلى الجبل الشرقي بيت إيل ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق فبنى هناك مذبحاً للرب، ودعا باسم الرب، ثم ارتحل إبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب.
2 انظر المزامير 1:82، وفيه الله قائم في مجمع الله في وسط الآلهة يقضي.
جميعا)) 1، ولم يكن بعد اجتمعوا، وأمثاله فهي في الماضي، والنصارى تفسرها بالمستقبل.
1 المزامير 2:2 وفيه وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما.
الشهادة العاشرة
إن حبقوق يقول في الإصحاح الثالث: ((ايلواه من التيمن يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس، غطّى السماء ببهجته، ومن شكرانه امتلأت الأرض، بهاؤه يكون كالنور، قرون من يده، هناك مختفية قوته، قدامه يمشي الوبا، ويخرج الشرار لعند قدميه وقف ومسح الأرض، نظر وحل الأمم وتبدد1 جبال العالم وانحنت آكام الدنيا2، العالم هو له)) 3.
أقول: إن هذه الشهادة قد حلت وكشفت أولاً نبوة سيدنا موسى عليه السلام، التي سبقت في الشهادة التاسعة، وهي قوله:((استعلن من جبل فاران)) .
فههنا قد كشفت، وعيّن حبقوق أن جبل فاران هو الذي موقعه في التيمن، التي هي القبلة4، وليس هو البرية التي هي مجاورة سيناء5 بقوله:((ايلواه من القبلة يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس)) 6،وسماه حبقوق ايلواه أي إله.
1 في النسختين تبددوا وصوابها ماأثبت، وفي. ن. ع. ودكت الجبال.
2 في النسختين وانحوا آكام الدنيا وصوابها ما أثبت، وفي ن. ع. وخسفت آكام القدم.
3 سفر حبقوق 3: 3-7.
4 انظر ما سبق في الشهادة الثامنة.
5 هذا ما ذكروه في قاموس الكتاب المقدس ص667.
6 هكذا في النسختين، وفي ن. ع. هكذا الله جاء من التيمن والقدوس من جبل فاران سلاه. وقال في القاموس عن قوله سلاه تعبيرموسيقي، والبعض يقول: إن معناها وقفة موسيقية، وآخرون يقولون: إن معناها يشبه آمين، فكأنها تعني أعط البركة، ثم قال: ولكن المعنى الأساسي المقصود من هذه الكلمة غير معروف. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 479.
وكما قررنا عن لفظة إله أنها بالعبراني مشتقة من ((إيل)) ، التي ترجمتها إلى اللغة العربية طايق1 (مكين) 2، فكأن حبقوق قد عيّن مكان خروج نبينا صلى الله عليه وسلم ونعته بقوله ((الطايق3 من القبلة يأتي ومن جبل فاران يدعس)) . أي جبل فاران، الذي هو في لصيق الأرض التي فيها مكة المشرفة، وهو في القبلة أيضاً، وليس في حدود سيناء، لأن التي في حدود سيناء هي برية كما قلنا، وههنا حبقوق يذكر جبلاً مثلما يذكره موسى، مع أن برية فاران أيضاً مسكناً لإسماعيل وخلفه، وهناك تزوج (بالمرأة) المصرية. راجع سفر التكوين في الإصحاح الحادي والعشرين4.
1 مراده بها، قدير أو قادر، وقال في القاموس: إيل: اسم من اسماء الله في العبرية، وإيل تستخدم بمفردها للدلالة على الإله الواحد الحقيقي، وكثيراً مايستعمل إيل مع لقب من القاب الله، مثل: إيل عليون، الله العلي، إيل شداي، الله القدير. انظر: الكتاب المقدس ص142.
2 في. د الطايق مكين.
3 في. د المكين بدل الطايق.
4 التكوين 21:21، وذكر في نسخة. ت الخامس والعشرين، وصوابها ما أثبت من. د. وهنا حاشية في. د، وليس في. ت، وهو قوله اعلم أن معنى كلام المؤلف رحمه الله تعالى أعني إن كانت برية حدود سيناء المسماة فاران، وإن كان جبل فاران، أي جبل مكة المحفور المتزين الظليل فعلى كلا الوجهين هما متعلقان بنبينا.
فهذا النبي الكريم الذي سماه حبقوق ايلواه، وأنه يأتي من القبلة من جبل فاران، قد أشار عنه بأوصاف أخر وهي قوله:((غطّى السماء ببهجته، ومن مدحه امتلأت الأرض، وبهاؤه يكون كالنور)) .
فكل هذه الأوصاف تراها منطبقة على سيد المرسلين، بحيث لم يشترك معه غيره فيها، لأنه [ماوجد في الكون نبيٌّ أبهج منه وأبهى] ، ولا وجد سواه من يمدح في المنائروالمنابر في المساجد والأزقة، من العلماء والفقهاء من الأغنياء والفقراء، وقد ترى جميع ألسنتهم غير هادئة من مدحه وشكرانه وأداء الصلاة والسلام عليه وأنواع البركات، التي لم يكن لغيره صائر مثلها مثل موسى وعيسى عليهما السلام، وذلك تطبيق لنبوءة حبقوق القائلة:((ومن مدحه1 امتلأت الأرض)) .
وأثبت ((حبقوق)) نبوءته عليه صلى الله عليه وسلم بإشارته إلى القرون التي كانت من يده، وهم الصحابة الكرام، التي كانت قوته مختفية فيهم، [لأن حبقوق على بسيط القول تنبأ على أن قروناً في يده، هناك مختفية قوته] ، أي في القرون. أعني القوة التي ظهرت بالفتوحات، (وانتشار الدين) 2 من صحابته النجباء رضي الله عنهم، الذين قد سماهم ههنا حبقوق ((بالقرون)) ، وأضاف
1 في. ت ومن شكرانه، وما أثبت من. د وهي أوضح.
2 في النسختين والإنتشارات الديني وفصاحتها ما أثبت.
إلى ذلك بأن ((قدامه يمشي الوبا)) ، وهذا هو وجه الاستعارة التشبيهية، أي أنه شبه موت السيف العجول1 (الذي عمله) بالوبا، [وأما على وجه الحقيقة، فنرى هنا ((حبقوق)) كأنه كان ينظر بعينيه ماقد حدث من أمر الوباء، وكيف أنه أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم لما حضر لديه الوباء مع جبريل عليه السلام فأرسله إلى بلدة سكانها يهود، واسمها الجحفة 2، التي منها الآن تبتديء أعمال الحج المصري في القعدة، لأن يهودها في تلك الأيام كانوا كامنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضر، وهذا الوباء هو الذي أرسله ومشى
1 هكذا في النسختين، مراده أنه شبه سرعة الموت بالسيف في الحروب بالوباء.
2 الجحفة: قرية بين المدينة ومكة، وهي ميقات أهل الشام ومصر، وهي قريبة من مدينة رابغ في الوقت الحالي، وقال ياقوت: قال الكلبي إن العماليق أخرجوا بني عقيل وهم إخوة عاد ابن رب فنزلوا الجحفة، وكان اسمها مهيعة، فجاءهم سيل واجتحفهم، فسميت الجحفة. معجم البلدان 2/111.
ولم أجد من ذكر أن سكانها كانوا يهوداً، وهي الرواية التي ذكرها المصنف. أما إتيان جبريل للرسول عليه الصلاة والسلام بالوباء، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتاني جبريل عليه السلام بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجس على الكافرين". حم 5/81. أما إرسال الوباء إلى الجحفة، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة"، وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلاً تعني ماء آجناً. صحيح البخاري مع الفتح 4/99.
قدامه، وهو مطابق لنبوءة حبقوق هذه حرفياً، كما جاء هذا الخبر في أحاديثه الشريفة في سيرة حياته المنقولة في كتاب مؤلف من الشيخ علي برهان الدين الحلبي، ويسمى القصة الحلبية1. وقد نقل عنه في حديث آخر "بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل قدامه الوباء إلى الشام، وهي بلد من بلد حوران" 2] .
((ويخرج الشرار لعند قدميه)) 3، إن الشرار الذي أفادنا عنه حبقوق هو الذي قال عنه إشعيا في الشهادة الخامسة:((بأن حوافرخيله مثل الصوان الذي منه ينبعث الشرار)) 4، ويخرج لعند قدميه حينما كان يمشي قدامه الوبا ويحارب ويميت أعداء دينه السامي، الموردين الضر عليه، بعد نصحه لهم صلى الله عليه وسلم كإيليا الذي قتل كهنة باعال5 بالسيف، وبدد جبال
1 علي بن برهان الدين الحلبي المتوفى سنة 1044هـ، وكتابه المسمى السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون إنسان العيون. طبع في ثلاثة مجلدات، طبعته دار المعرفة ببيروت.
2 لم أجد من ذكر أن الشام بلد من بلدان حوران، وإنما الشام كما ذكرها ياقوت هي المنطقة التي تقع شمال الجزيرة العربية، وحدها من الفرات إلى عريش مصر، ومن جبل طي جنوباً إلى البحر الأبيض.3/312.
3 انظره في الشهادة الخامسة ص 164.
4 في. ن. ع. وعند رجليه خرجت الحمى.
5 هكذا في النسختين، وفي. ن. ع. البعل. انظر الملوك الأول 18: 19-40. وملخص ما ذكروه أن إيليا تحدى سدنة صنم من أصنام اليهود، التي كانوا يعبدونها في ذلك الزمان يسمى بعل، بأن يحضروا ثورين فيختار سدنة الصنم أحدهما ويذبحونه ويقطعونه ويضعونه على الحطب، وهو يفعل مثلهم، ثم هم ينادون معبودهم بعل، فإن أرسل ناراً أحرقت ذلك اللحم فهم على حق وهو على باطل، ثم هو ينادي إلهه وهو الله تعالى، فإن أرسل ناراً فإلهه حق وآلهتهم باطلة. فكان من أمرهم أن السدنة لم يستجب لهم، واستجيب لإيلياء فنزلت نار من السماء، وأكلت كل شيء وضع على المذبح، فعندها قبض على أولئك السدنة، وكانوا 450 كاهناً فذبحهم.
العالم، أعني: أنه قد شتت ذوي الاقتدار، وانحنت1 آكام الدنيا له (أعني الممالك، لأن العالم هو له) ، بحيث إنه هو سيد الأولين والآخرين.
وبالاختصار: أن سيدنا عيسى ماجاء من التيمن، أي من القبلة كما قال حبقوق، ولا من جبل فاران دعس، وكل هذه الأوصاف المشروحة لم تنطبق عليه* [كانطباقها على المصطفى صلى الله عليه وسلم] **.
1 في النسختين وانحنوا وصوابها ما أثبت.
* حاشية: اعلم أنّ هذه الشهادة التي هي العاشرة هي مترجمة من اللغة العبرانية خالية من الزغل وعليك بمقابلتها.
** حاشية: اعلم أن في هاتين الشهادتين المارتين أعني التاسعة والعاشرة قد ذكر فيها موسى وحبقوق اسم جبل فاران، والمؤلف رحمه الله ترجم لفظة فاران من القاموس العبراني بثلاثة معان: الظليل والمغور والمتزين، وهذه الثلاثة معاني قد انطبقت على جبل مكة بموجب القرائن. وهذه الحاشية ليست في. ت.
الشهادة الحادية عشر
إن سيدنا عيسى عليه السلام قد أفاد عن ورود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعده، وأنه أعظم من كل الأنبياء بقوله في بشارة لوقا في الإصحاح السابع، وفي بشارة متّى الإصحاح الحادي عشر:((إنه لم يقم في مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان وأما الأصغر الذي هو في ملكوت السماء فأعظم منه)) 1.
أقول: ياترى2 ومن هو هذا النبي الأصغر الذي هو في ملكوت السماء، الذي أفاد وأشار عنه عيسى عليه السلام، وأنه أعظم من يوحنا المعمداني، الذي هو أعظم من كل الأنبياء3، (فلننظر) إلى الوسط من تفاسير علماء النصارى لهذه الآية، ونقول: إن قوماً منهم قالوا: إنها من
1 متى 11:11، لوقا 28:7.
2 في. د ليت شعري.
3 يوحنا المعمدان هو عند النصارى يحي بن زكريا عليهما السلام، وليس هو أعظم الأنبياء، بل الذي عليه أهل السنة أن أعظم الأنبياء هم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وهم أولو العزم من الرسل، وهم المجموعون في قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} الأحزاب آية 7، وانظر شرح الطحاوية ص424.
يوحنا الإنجيلي –أحد حواريي سيدنا عيسى–، وقوماً منهم قالوا:[إن هذه الآية مقولة] عن (عيسى نفسه)1.
فأجيب: إن هذين القولين منقوضان، لأن يوحنا الإنجيلي ماتسمى نبياً على الإطلاق، ولا نعت بأنه أعظم من كل الأنبياء، إذ إن بعضاً من النصارى قالوا: إن بطرس الحواري أعظم منه، وقوماً قالوا: إنه مساو لبطرس2، (ومع ذلك فإنه ليس يوحنا الإنجيلي فقط الذي لم يكن نبياً، بل لم يكن بعد عيسى من قومه نبي، فضلاً عن أن يدعى أنه أعظم الأنبياء) 3، وصريح الآية تشهد عن الأصغر بأنه نبي، وأنه أعظم من كل الأنبياء.
وأما الذين فسروا هذه الآية على شخص عيسى فنقول لهم: إن سيدنا عيسى ليس هو من مواليد النساء الطبيعية المعتادة، كمثل المعمداني،
1 هناك قول ثالث يدعيه كثير منهم، وهو زعمهم أن المراد به أقل نصراني أعظم من جميع الأنبياء، لأن النصارى آمنوا بالمسيح المصلوب في زعمهم، فاستحقوا أن يكونوا بذلك أعظم ممن لم يتحقق لهم ذلك. انظر تفسير العهد الجديد، وليم باركلي 1/236، وتفسير العهد الجديد، إصدار دار الثقافة ص29.
2 انظر قاموس الكتاب المقدس ص177،1109.
3 عبارة مابين القوسين في النسختين هكذا ومع ذلك أنه ليس يوحنا الإنجيلي وحده ماتسمى نبيا بعد عيسى ولاخلافه ادعى بعظمة النبوة، وكتبتها حسب ما فهمت من مراد المصنف.
أو كباقي1 الأنبياء، حتى يستدل بأن هذه الآية مشيرة عليه، لأنه عليه السلام مولود من آنسة2بتولٍ3 عذراء، ولم يولد بالأوجاع والزرع النكاحي، والعامل النسائي المألوف، كالمعمداني أو كباقي الأنبياء.
فبإبطال هذين [القولين] 4، وعدم احتمال المعنى (لهما) 5، وإسقاط الدعوى: ما يوجب أن يكون المضمون منصرفاً ومقولاً عن نبي آخر شهير عظيم خلافهما تنطبق عليه الآية: فيكون النبي6 الموعود به من عيسى هو من مواليد النساء الطبيعية المألوفة مثل يوحنا وباقي الأنبياء، ومنعوتاً وشهيراً بالعظمة.
ونرى أنه لم يقم نبي بعد المعمداني بهذه الصفة، (بل لم يوجد من تسمى) 7 أصغراً وعظيماً وموجوداً في عالم الأرواح، تطبيقاً لإشارة سيدنا عيسى، سوى سيد المرسلين الأولين والآخرين، [وهو الذي قيلت
1 في النسختين مواليد الأنبياء وصحتها ما أثبت.
2 أنسة هي الفتاة التي لم تتزوج. انظر المعجم الوسيط ص89.
3 البتول من النساء: العذراء المنقطعة عن الزواج إلى الله. المعجم الوسيط ص38.
4 في. ت الوجهين والمثبت من. د.
5 في النسختين عليهما، وفصاحتها ماأثبت.
6 العبارة في النسختين هكذا أي أن يكون هذا النبي وفصاحتها ما أثبت.
7 في النسختين العبارة لابل وتسمى وصحتها كما أثبت.
عنه هذه النعوت صلى الله عليه وسلم] ، الذي قال عنه موسى الكليم في الشهادة الأولى: ((إن الرب إلهكم سيقيم نبياً من إخوتكم مثلي
…
)) .
وأيضاً نقول: إن لفظة الأصغر المقولة بهذه الآية الإنجيلية هي في اللغة اليونانية ((اوميكرتيروس)) ، وهذه اللفظة عند علماء الغراماتيك1 والنحو يونانياً وعربياً تفيد المبالغة بالصغر، كما أن لفظة ((ميغاليتوروس)) [التي هي أعظم] ، وهذه المبالغة بالصغر تصدق على المختار من كونه هو الأصغر في كل الأنبياء، إذ إنه آخرهم جميعاً وأتباعه، وبأن هذا الأصغر هو الأعظم بالمجد والشرف، وقد علم منه بأنه أي: نبينا هو الأصغر بالتأخير، وهو الأعظم بالمجد والشرف والكبير (في رتبة النبوة، انتهت الشهادات) .
1 لعله يقصد علماء القواعد، لأن قراماتيك يبدو أنها النطق للكلمة Grammatical والتي تعني الأمر الخاص بقواعد النحو والصرف. انظر: المغني الأكبر-عربي- إنجليزي ص527.