المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ١٠

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة النجم

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 62]

- ‌سورة القمر

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 55]

- ‌سورة الرّحمن

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 78]

- ‌سورة الواقعة

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 96]

- ‌سورة الحديد

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة المجادلة

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الحشر

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24]

- ‌سورة الممتحنة

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13]

- ‌سورة الصّفّ

- ‌[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14]

- ‌سورة الجمعة

- ‌[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة المنافقون

- ‌[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التغابن

- ‌[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 18]

- ‌سورة الطّلاق

- ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة التّحريم

- ‌[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة الملك

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة القلم

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة الحاقّة

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة المعارج

- ‌[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 44]

- ‌سورة نوح

- ‌[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة الجن

- ‌[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة المزّمّل

- ‌[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة المدّثر

- ‌[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56]

- ‌سورة القيمة

- ‌[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة الإنسان

- ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31]

- ‌سورة المرسلات

- ‌[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]

- ‌سورة النّبإ

- ‌[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة النّازعات

- ‌[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46]

- ‌سورة عبس

- ‌[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42]

- ‌سورة التّكوير

- ‌[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة الانفطار

- ‌[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة المطفّفين

- ‌[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36]

- ‌سورة الانشقاق

- ‌[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]

- ‌سورة البروج

- ‌[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الطّارق

- ‌[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]

- ‌سورة الأعلى

- ‌[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة الغاشية

- ‌[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]

- ‌سورة الفجر

- ‌[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة البلد

- ‌[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة الشمس

- ‌[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]

- ‌سورة الليل

- ‌[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]

- ‌سورة الضّحى

- ‌[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة الشرح

- ‌[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة التّين

- ‌[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العلق

- ‌[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة القدر

- ‌[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة البيّنة

- ‌[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العاديات

- ‌[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة القارعة

- ‌[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التّكاثر

- ‌[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العصر

- ‌[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الهمزة

- ‌[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]

- ‌سورة الفيل

- ‌[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة قريش

- ‌[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الماعون

- ‌[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة الكوثر

- ‌[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الكافرون

- ‌[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]

- ‌سورة النّصر

- ‌[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة المسد

- ‌[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة الإخلاص

- ‌[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الفلق

- ‌[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة النّاس

- ‌[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]

الفصل: ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]

‌سورة المجادلة

[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَاّ اللَاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)

إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

ص: 118

فَسَّحَ فِي الْمَجْلِسِ: وَسَّعَ لِغَيْرِهِ. قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا قَوْلَهُ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ. وَعَنْ عَطَاءٍ: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْهَا مَدَنِيٌّ وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدْ سَمِعَ بِالْبَيَانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِالْإِدْغَامِ، قَالَ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ:

سَمِعْتُ الْكِسَائِيَّ يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ قَدْ سَمِعَ، فَبَيَّنَ الدَّالَ عِنْدَ السِّينِ، فَلِسَانُهُ أَعْجَمِيٌّ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْبَيَانِ. وَالَّتِي تُجَادِلُ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَيُقَالُ بِالتَّصْغِيرِ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ دَلِيجٍ، أَوْ جَمِيلَةُ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ الصَّامِتِ، أَقْوَالٌ لِلسَّلَفِ. وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو عُبَادَةَ.

وَقِيلَ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ. قَالَتْ زَوْجَتُهُ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلَ أَوْسٌ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَمَاتَ أَهْلِي ظَاهَرَ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا:«مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي وَحِيدَةٌ لَيْسَ لِي أَهْلٌ سِوَاهُ، فَرَاجَعَهَا بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ فَرَاجَعَتْهُ، فَهَذَا هُوَ جِدَالُهَا، وَكَانَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَقُولُ:

ص: 120

اللَّهُمَّ إِنَّ لِي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَارًا، إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا. فَهَذَا هُوَ اشْتِكَاؤُهَا إِلَى اللَّهِ، فَنَزَلَ الْوَحْيُ عِنْدَ جِدَالِهَا.

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا: سُبْحَانَ مَنْ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ. كَانَ بَعْضُ كَلَامِ خَوْلَةَ يَخْفَى عَلَيَّ، وَسَمِعَ اللَّهُ جِدَالَهَا، فَبَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أَوْسٍ وَعَرَضَ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ:«الْعِتْقَ» ، فَقَالَ: مَا أَمْلِكُ، و «الصوم» ، فقال: ما أقدر، و «الإطعام» ، فَقَالَ:

لَا أَجِدُ إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي، فَأَعَانَهُ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَدَعَا لَهُ، فَكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ وَأَمْسَكَ أَهْلَهُ.

وَكَانَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، يُكْرِمُ خَوْلَةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ لَهَا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى قَدْ: التَّوَقُّعُ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُجَادِلَةُ كَانَا مُتَوَقِّعَيْنِ أَنْ يَسْمَعَ اللَّهُ مُجَادَلَتَهَا وَشَكْوَاهَا، وَيُنْزِلَ فِي ذلك ما يفرح عَنْهَا. انْتَهَى.

وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: يَظَّهَّرُونَ بِشَدِّهِمَا وَالْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ: يُظَاهِرُونَ مُضَارِعُ ظَاهَرَ وَأُبَيٌّ: يَتَظَاهَرُونَ، مُضَارِعُ تَظَاهَرَ وَعَنْهُ: يَتَظَهَّرُونَ، مُضَارِعُ تَظَهَّرَ وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّهُ الظِّهَارُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يُرِيدُ فِي التَّحْرِيمِ، كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّكُوبِ، إِذْ عُرْفُهُ فِي ظُهُورِ الْحَيَوَانِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَعْلُوهَا كَمَا لَا يَعْلُو أُمَّهُ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ: نَزَلْتُ عَنِ امْرَأَتِي، أَيْ طَلَّقْتُهَا. وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ، إِشَارَةٌ إِلَى تَوْبِيخِ الْعَرَبِ وَتَهْجِينِ عَادَتِهِمْ فِي الظِّهَارِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَيْمَانِ أَهْلِ جَاهِلِيَّتِهِمْ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُمَّهاتِهِمْ، بِالنَّصْبِ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ:

بِالرَّفْعِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: بِأُمَّهَاتِهِمْ، بِزِيَادَةِ الْبَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي لُغَةِ مَنْ يَنْصِبُ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ لَا تُزَادُ الْبَاءُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ رُدَّ ذَلِكَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ. وَزِيَادَةُ الْبَاءِ فِي مِثْلِ: مَا زَيْدٌ بِقَائِمٍ، كَثِيرٌ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ تَبِعَ فِي ذَلِكَ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ رحمه الله. وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى كَظَهْرِ أُمِّي: كَأُمِّي فِي التَّحْرِيمِ، وَلَا يُرَادُ خُصُوصِيَّةُ الظَّهْرِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْجَسَدِ، جَاءَ النَّفْيُ بِقَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ: أَيْ حَقِيقَةً، إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَأَلْحَقَ بِهِنَّ فِي التَّحْرِيمِ أُمَّهَاتِ الرَّضَاعِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَالزَّوْجَاتُ لَسْنَ بِأُمَّهَاتٍ حَقِيقَةً وَلَا مُلْحَقَاتِ بِهِنَّ. فَقَوْلُ الْمُظَاهِرِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ تُنْكِرُهُ الْحَقِيقَةُ وينكره الشرع، وزور: كَذِبٌ بَاطِلٌ مُنْحَرِفٌ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْمَكْرُوهَاتِ جِدًّا، فَإِذَا وَقَعَ لَزِمَ، وَقَدْ رَجَّى تَعَالَى

ص: 121

بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ مَعَ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لِمَا سَلَفَ منه إذ تَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَعُدْ إليه. انْتَهَى، وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأُمِّ وَحْدَهَا. فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوِ ابْنَتِي، لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَدَاوُدَ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ هُوَ ظِهَارٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَلْزَمُهُ ظِهَارُهُ لِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ ظِهَارُهُ إِذَا نَكَحَهَا، وَيَصِحُّ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ. وَقَالَ: الْمُزَنِيُّ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ الَّتِي يَجُوزُ لَهُ وَطْئُهَا، لَزِمَهُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ: هَلْ تَنْدَرِجُ فِي نِسَائِهِمْ أَمْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ ظِهَارِ العبد لدخوله في يظهرون مِنْكُمْ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ مِنْهُ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ مندرجة في الذين يظهرون، فَلَوْ ظَاهَرَتْ مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: تَكُونُ مُظَاهَرَةً. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَعَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ، فَهِيَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَى أن تكفر كفارة الظاهر، وَلَا يَحُولُ قَوْلُهَا هَذَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا: أَنْ يَعُودُوا لِلَفْظِ الَّذِي سَبَقَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ ثَانِيًا: أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَا تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِالثَّانِي، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ: وَهُوَ قول الفراء. وقال طاووس وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: لِما قالُوا: أَيْ لِلْوَطْءِ، وَالْمَعْنَى: لِمَا قَالُوا أَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، فَإِذَا ظَاهَرَ ثُمَّ وَطِئَ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ طَلَّقَ أَوْ مَاتَتْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَيْضًا وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ، فَمَتَى عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، طَلَّقَ أَوْ مَاتَتْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَوْدُ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ طَلَاقِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ، وَيَمْضِي بَعْدَهُ زَمَانٌ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ فَلَا يُطَلِّقُ. وَقَالَ قوم: المعنى: والذين يظهرون مِنْ نِسَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ كَانَ الظِّهَارُ عَادَتَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ في الإسلام، وقاله القتيبي.

ص: 122

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِمَا قَالُوا، وَهَذَا قَوْلٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ نَظْمَ الْآيَةِ.

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، والظاهر أنه يجزىء مُطْلَقُ رَقَبَةٍ، فَتُجْزِئُ الْكَافِرَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: شَرْطُهَا الْإِسْلَامُ، كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَالظَّاهِرُ إِجْزَاءُ الْمُكَاتِبِ، لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: وَإِنْ عتق نصفي عبدين لا يجزىء. وقال الشافعي: يجزىء. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا: لَا يَجُوزُ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يَطَأَ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ فَعَلَ عَصَى، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْفِيرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. وَقِيلَ: تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَحَدِيثُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ بِالْعِتْقِ أَمِ الصَّوْمِ أَمِ الْإِطْعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتْ بِالْإِطْعَامِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَ ثُمَّ يُطْعِمَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً، إِذْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ:

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ. وَالظَّاهِرُ فِي التَّمَاسِّ الْحَقِيقَةُ، فَلَا يَجُوزُ تَمَاسُّهُمَا قَبْلَهُ أَوْ مُضَاجَعَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْوَطْءُ، فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِغَيْرِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالضَّمِيرُ فِي يَتَمَاسَّا عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنَ الْمُظَاهِرِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا. ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْرِيرِ، أَيْ فِعْلُ عِظَةٍ لَكُمْ لِتَنْتَهُوا عَنِ الظِّهَارِ.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ: أَيِ الرَّقَبَةِ وَلَا ثَمَنَهَا، أَوْ وَجَدَهَا، أَوْ ثَمَنَهَا، وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ. وَالشَّهْرَانِ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا نَاقِصًا، أَوْ بِالْعَدَدِ لَا بِالْأَهِلَّةِ، فَيَصُومُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، ثُمَّ يُتِمُّ الْأَوَّلَ بِالْعَدَدِ. وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ التَّتَابُعِ، فَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ، أَوْ بِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ. فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَبْنِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ، أَنَّهُ يَصُومُ وَيُجْزِئُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ، وَلَوْ وَطِئَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ بَطَلَ التَّتَابُعُ وَيَسْتَأْنِفُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ إِنْ جَامَعَ نَهَارًا لَا لَيْلًا.

فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لِصَوْمٍ لِزَمَانَةٍ بِهِ، أَوْ كَوْنِهِ يَضْعُفُ بِهِ ضَعْفًا شَدِيدًا، كَمَا جَاءَ

فِي

ص: 123

حَدِيثِ أَوْسٍ لَمَّا قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَلَّ بَصَرِي وَخَشِيتُ أَنْ تَعْشُوَ عَيْنِي.

وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ الْإِطْعَامِ، وَتُخَصِّصُهُ مَا كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الْإِطْعَامِ وَقْتَ النُّزُولِ، وَهُوَ مَا يُشْبِعُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدٍّ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مُدٌّ وَثُلُثٌ بِالْمُدِّ النَّبَوِيِّ، وَيَجِبُ اسْتِيعَابُ الْعَدَدِ سِتِّينَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ حَتَّى يُكْمِلَ الْعَدَدَ أَجْزَأَهُ. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى الرَّجْعَةِ وَالتَّسْهِيلِ فِي الْفِعْلِ مِنَ التَّحْرِيرِ إِلَى الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ. ثُمَّ شَدَّدَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ: أَيْ فَالْزَمُوهَا وَقِفُوا عِنْدَهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَ الْكَافِرِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْبَيَانُ وَالتَّعْلِيمُ لِلْأَحْكَامِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، لِتُصَدِّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ الَّتِي شَرَعَهَا فِي الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ، وَرَفْضِ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ جَاهِلِيَّتِكُمْ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَعَدِّيهَا، وَلِلْكافِرِينَ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَهَا وَلَا يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا عَذابٌ أَلِيمٌ. انْتَهَى.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أُخْزُوا يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِالْهَزِيمَةِ، كَمَا أُخْزِيَ مَنْ قَاتَلَ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِهِ، ذَكَرَ الْمُحَادِّينَ الْمُخَالِفِينَ لَهَا، وَالْمُحَادَّةُ: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْحُدُودِ. كُبِتُوا، قَالَ قَتَادَةُ: أُخْزُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لُعِنُوا. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ مَذْحِجٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو رَوْقٍ: رُدُّوا مَخْذُولِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غِيظُوا يَوْمَ الْخَنْدَقِ. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: أَيْ مَنْ قَاتَلَ الْأَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: أُهْلِكُوا. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: التَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ، أَيْ كُبِدُوا: أَصَابَهُمْ دَاءٌ فِي أَكْبَادِهِمْ. قِيلَ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مُنَافِقُو الْأُمَمِ. قِيلَ:

وَكُبِتُوا بِمَعْنَى سَيُكْبَتُونَ، وَهِيَ بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ. وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَادَّةِ كَبَتَ فِي آلِ عِمْرَانَ.

وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ عَلَى صِدْقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ.

وَلِلْكافِرِينَ: أَيِ الَّذِينَ يُحَادُّونَهُ، عَذابٌ مُهِينٌ: أَيْ يُهِينُهُمْ ويذلهم. والناصب ليوم يَبْعَثُهُمُ الْعَامِلُ فِي لِلْكَافِرِينَ أَوْ مُهِينٌ أَوِ اذْكُرْ أَوْ يَكُونُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ مَتَى يَكُونُ عَذَابُ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: أَيْ يَكُونُ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله، انتصب جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ: أَيْ مُجْتَمِعِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَعْنَاهُ كُلَّهُمْ، إِذْ جَمِيعُ يَحْتَمِلُ ذَيْنِكَ الْمَعْنَيَيْنِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، تَخْجِيلًا لَهُمْ وَتَوْبِيخًا. أَحْصاهُ بِجَمِيعِ تَفَاصِيلِهِ وَكَمِّيَّتِهِ

ص: 124

وَكَيْفِيَّتِهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ. وَنَسُوهُ لِاسْتِحْقَارِهِمْ إِيَّاهُ وَاحْتِقَارِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ حِسَابٌ.

شَهِيدٌ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يَكُونُ بِالْيَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَشَيْبَةُ: بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ النَّجْوَى.

قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَأَنْ شُغِلَتْ بِالْجَارِّ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ: مَا جَاءَتْنِي مِنِ امْرَأَةٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ التَّذْكِيرُ عَلَى مَا فِي الْعَامَّةِ، يَعْنِي الْقِرَاءَةَ الْعَامَّةَ، قَالَ: لِأَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى مِنْ نَجْوى وَهُوَ يَقْتَضِي الْجِنْسَ، وَذَلِكَ مُذَكَّرٌ. انْتَهَى. وَلَيْسَ الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ التَّذْكِيرَ، لِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ. فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى مُؤَنَّثٍ، فَالْأَكْثَرُ التَّأْنِيثُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، قَالَ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «1» ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها «2» ، وَيَكُونُ هُنَا تَامَّةً، وَنَجْوَى احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مُضَافًا إِلَى ثَلَاثَةٍ، أَيْ مِنْ تَنَاجِي ثَلَاثَةٍ، أَوْ مَصْدَرًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ ذَوِي نَجْوَى، أَوْ مَصْدَرًا أُطْلِقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُتَنَاجِينَ، فَثَلَاثَةٌ: عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ أَوْ صِفَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ ثَلَاثَةً وَخَمْسَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يَتَنَاجَوْنَ مُضْمَرَةً يَدُلُّ عَلَيْهِ نَجْوَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ نَجْوَى بِمُتَنَاجِينَ وَنَصْبُهَا مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: كُلُّ سِرَارٍ نَجْوَى. وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: السِّرَارُ مَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالنَّجْوَى مَا كَانَ بَيْنَ أَكْثَرَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَاخْتَصَّ الثَّلَاثَةَ وَالْخَمْسَةَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ عَلَى هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ مُغَايَظَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَابِعَهُمْ وَسَادِسَهُمْ وَمَعَهُمْ بِالْعِلْمِ وَإِدْرَاكِ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نزلت في رَبِيعَةَ وَحَبِيبٍ ابْنَيْ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، تَحَدَّثُوا فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتُرَى اللَّهَ يَعْلَمُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: يَعْلَمُ بَعْضًا وَلَا يَعْلَمُ بَعْضًا، فَقَالَ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَعْضًا فَهُوَ يَعْلَمُهُ كُلَّهُ.

وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ وَالْخَمْسَةِ، وَالْأَدْنَى من الثلاثة الاثنين، وَمِنَ الْخَمْسَةِ الْأَرْبَعَةُ وَلَا أَكْثَرَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَلِي السِّتَّةَ فَصَاعِدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا أَكْثَرَ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْمَخْفُوضِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ: بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ نَجْوَى إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُتَنَاجُونَ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مَحْضًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا نَجْوَى أَدْنَى، ثُمَّ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ بِإِعْرَابِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلا أَدْنى مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، فَهُوَ مِنْ عطف

(1) سورة الأنعام: 6/ 4.

(2)

سورة الحجر: 15/ 5.

ص: 125

الْجُمَلِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَالْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَيَعْقُوبُ أَيْضًا: وَلَا أَكْبَرَ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ وَالرَّفْعِ، وَاحْتَمَلَ الْإِعْرَابَيْنِ: الْعَطْفُ عَلَى الْمَوْضِعِ والرفع بالابتداء. وقرىء:

يُنْبِئُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَالْهَمْزِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتَّخْفِيفِ وَتَرْكِ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ وَالْهَمْزِ وَضَمِّ الْهَاءِ.

قَوْلُهُ عز وجل أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

نَزَلَتْ أَلَمْ تَرَ فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ. كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَيَتَغَامَزُونَ بِأَعْيُنِهِمْ عَلَيْهِمْ، مُوهِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ شَرٌّ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَقْدَمَ أَقْرِبَاؤُهُمْ.

فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، شَكَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَنَزَلَتْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ:

نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَتَناجَوْنَ وَحَمْزَةُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَرُوَيْسٌ: وَيَنْتَجُونَ مُضَارِعُ انْتَجَى. بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ: كَانُوا يَقُولُونَ: السَّامُّ عَلَيْكَ، وَهُوَ الْمَوْتُ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ: وَعَلَيْكُمْ. وَتَحِيَّةُ اللَّهِ لِأَنْبِيَائِهِ:

وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «1» . لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ: أَيْ إِنْ كَانَ نَبِيًّا، فَمَا لَهُ لَا يَدْعُو عَلَيْنَا حَتَّى نُعَذَّبَ بِمَا نَقُولُ؟ فَقَالَ تَعَالَى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ.

ثُمَّ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ تَنَاجِيهِمْ مِثْلَ تَنَاجِي الْكُفَّارِ، وَبَدَأَ بِالْإِثْمِ لِعُمُومِهِ، ثُمَّ بِالْعُدْوَانِ لِعَظَمَتِهِ فِي النُّفُوسِ، إِذْ هِيَ ظُلَامَاتُ الْعِبَادِ. ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ، وَهُوَ مَعْصِيَةُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، وَفِي هَذَا طَعْنٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، إِذْ كَانَ تَنَاجِيهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا تَتَناجَوْا، وَأَدْغَمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ التَّاءَ فِي التاء. وقرأ الكوفيون

(1) سورة النمل: 27/ 59. [.....]

ص: 126

وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَرُوَيْسٌ: فَلَا تَنْتَجُوا مُضَارِعُ انْتَجَى وَالْجُمْهُورُ: بِضَمِّ عَيْنِ الْعُدْوَانِ وَأَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِهَا حَيْثُ وَقَعَ وَالضَّحَّاكُ: وَمَعْصِيَاتِ الرَّسُولِ عَلَى الْجَمْعِ. وَالْجُمْهُورُ:

عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِذَا انْتَجَيْتُمْ فَلَا تَنْتَجُوا. وَأَلْ فِي إِنَّمَا النَّجْوى لِلْعَهْدِ فِي نَجْوَى الْكُفَّارِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَكَوْنُهَا مِنَ الشَّيْطانِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُهَا لَهُمْ، فَكَأَنَّهَا مِنْهُ.

لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا: كَانُوا يُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ غُزَاتَهُمْ غُلِبُوا وَأَنَّ أَقَارِبَهُمْ قُتِلُوا.

وَلَيْسَ: أَيِ التَّنَاجِي أَوِ الشَّيْطَانُ أَوِ الْحُزْنُ، بِضارِّهِمْ: أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِمَشِيئَتِهِ، فَيَقْضِي بِالْقَتْلِ أَوِ الْغَلَبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ نَجْوَى قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ مُنَاجَاةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ وَلَا ضَرُورَةٌ. يُرِيدُونَ التَّبَجُّحَ بِذَلِكَ، فَيَظُنُّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ بَعْدَ وَقَاصِدًا نَحْوَهُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَاجَاةِ الَّتِي يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ فِي النَّوْمِ تَسُوءُهُ، فَكَأَنَّهُ نَجْوَى يُنَاجَى بِهَا. انْتَهَى. وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْقَوْلُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَلَا مَا بَعْدَهَا، وَتَقَدَّمَتِ الْقِرَاءَتَانِ في نحو: لِيَحْزُنَ. وقرىء: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالزَّايِ، فَيَكُونُ الَّذِينَ فَاعِلًا، وَفِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَفْعُولًا.

وَلَمَّا نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلتَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُرِ، أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِلتَّوَادِّ وَالتَّقَارُبِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ.

قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَأُمِرُوا أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

الْمُرَادُ مَجَالِسُ الْقِتَالِ إِذَا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَشَاحُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَلَا يُوَسِّعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ رَغْبَةً فِي الشَّهَادَةِ، فَنَزَلَتْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفَسَّحُوا وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى: تَفَاسَحُوا. وَالْجُمْهُورُ: فِي الْمَجْلِسِ وَعَاصِمٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى: فِي الْمَجالِسِ. وقرىء: فِي الْمَجْلَسِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ الْجُلُوسُ، أَيْ تَوَسَّعُوا فِي جُلُوسِكُمْ وَلَا تَتَضَايَقُوا فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ مُطَّرِدٌ فِي الْمَجَالِسِ الَّتِي لِلطَّاعَاتِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَجْلِسَ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَجْلِسِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، وَكَذَا مَجَالِسُ الْعِلْمِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ فِي الْمَجالِسِ، وَيَتَأَوَّلُ الْجَمْعُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَجْلِسًا فِي بَيْتِ الرسول صلى الله عليه وسلم. وَانْجَزَمَ يَفْسَحِ اللَّهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ فِي رَحْمَتِهِ، أَوْ فِي مَنَازِلِكُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ فِي قُبُورِكُمْ، أَوْ فِي قُلُوبِكُمْ، أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَقْوَالٌ.

وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا: أَيِ انْهَضُوا فِي الْمَجْلِسِ لِلتَّفَسُّحِ، لِأَنَّ مُرِيدَ التَّوْسِعَةِ عَلَى

ص: 127

الْوَارِدِ يَرْتَفِعُ إِلَى فَوْقٍ فَيَتَّسِعُ الْمَوْضِعُ. أُمِرُوا أَوَّلًا بِالتَّفَسُّحِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهِ إِذَا ائْتَمَرُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ: إِذَا دُعُوا إِلَى قِتَالٍ وَصَلَاةٍ أَوْ طَاعَةٍ نَهَضُوا.

وَقِيلَ: إِذَا دُعُوا إِلَى الْقِيَامِ عَنْ مَجْلِسِ الرسول صلى الله عليه وسلم نَهَضُوا، إِذْ كَانَ عليه الصلاة والسلام أَحْيَانًا يُؤْثِرُ الِانْفِرَادَ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ: بِضَمِّ السِّينِ فِي اللَّفْظَيْنِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِهَا.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْعَطْفُ مُشْعِرٌ بِالتَّغَايُرِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَالْمَعْنَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْعُلَمَاءَ دَرَجَاتٍ، فَالْوَصْفَانِ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْكُمْ، وَانْتَصَبَ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَيَخُصَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، فَلِلْمُؤْمِنِينَ رفع، وللعلماء درجات.

وَقَرَأَ عَيَّاشُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتَ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ.

قَوْلُهُ عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ: اسْتِعَارَةٌ، وَالْمَعْنَى: قَبْلَ نَجْوَاكُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَغْفَالِهِمْ كَثُرَتْ مُنَاجَاتُهُمْ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام فِي غَيْرِ جاحة إِلَّا

ص: 128

لِتَظْهَرَ مَنْزِلَتُهُمْ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم سَمْحًا لَا يَرُدُّ أَحَدًا، فَنَزَلَتْ مُشَدِّدَةً عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْمُنَاجَاةِ. وَهَذَا الْحُكْمُ قِيلَ: نُسِخَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُمِلَ بِهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ.

وَقَالَ عَلِيٌّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَا عَمِلَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي، أَرَدْتُ الْمُنَاجَاةَ وَلِي دِينَارٌ، فَصَرَفْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَنَاجَيْتُ عَشْرَ مِرَارٍ، أَتَصَدَّقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مَشَقَّةُ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فِي ترك الصدقة.

وقرىء: صَدَقَاتٍ بِالْجَمْعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَقِيلَ: بِآيَةِ الزَّكَاةِ. أَأَشْفَقْتُمْ: أَخِفْتُمْ مِنْ ذَهَابِ الْمَالِ فِي الصَّدَقَةِ، أَوْ مِنَ الْعَجْزِ عَنْ وُجُودِهَا تَتَصَدَّقُونَ بِهِ؟ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا: مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: عَذَرَكُمْ وَرَخَّصَ لَكَمْ فِي أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وأفعال الطاعات.

الَّذِينَ تَوَلَّوْا: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ: هُمُ الْيَهُودُ،

عَنِ السُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ:«يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبَّارٍ وَيَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ» ، فَدَخَلَ عبد الله بن أبي بْنِ سَلُولٍ، وَكَانَ أَزْرَقَ أَسْمَرَ قَصِيرًا، خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ» ؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَهُ:«فَعَلْتَ» ، فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا سَبُّوهُ، فَنَزَلَتْ.

وَالضَّمِيرُ فِي مَا هُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ: أَيْ لَيْسُوا مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَلا مِنْهُمْ:

أَيْ لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَمَا هُمْ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِأَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، كَمَا

قَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ لِأَنَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ وَمَعَ الْكُفَّارِ بِقَلْبِهِ» .

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ تَأْوِيلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَا هُمْ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ، وَقَوْلُهُ: وَلا مِنْهُمْ يُرِيدُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ، فَيَجِيءُ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَحْسَنَ، لِأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ، لَيْسُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَيَلْزَمُهُمْ ذِمَامُهُمْ، وَلَا مِنَ الْقَوْمِ الْمُحِقِّينَ فَتَكُونُ الْمُوَالَاةُ صَوَابًا. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي وَيَحْلِفُونَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، فَتَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ لَهُمْ وَلَا تَخْتَلِفُ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ مَا هُمْ اسْتِئْنَافًا، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ ضَمِيرِ تَوَلَّوْا. وَعَلَى احْتِمَالِ ابْنِ عَطِيَّةَ، يَكُونُ مَا هُمْ صِفَةً لِقَوْمٍ.

وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ، إِمَّا أَنَّهُمْ مَا سَبُّوا، كَمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ. وَالْكَذِبُ هُوَ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ يُقَبِّحُ عَلَيْهِمْ، إِذْ حَلَفُوا عَلَى خِلَافِ مَا أَبْطَنُوا، فَالْمَعْنَى: وَهُمْ عَالِمُونَ مُتَعَمِّدُونَ لَهُ. وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ:

ص: 129

الْمُعَدِّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَيْمانَهُمْ جَمْعُ يَمِينٍ وَالْحَسَنُ: إِيمَانَهُمْ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ: أَيْ مَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِيمَانِ، جُنَّةً: أَيْ مَا يَتَسَتَّرُونَ بِهِ وَيَتَّقُونَ الْمَحْدُودَ، وَهُوَ التُّرْسُ، فَصَدُّوا: أَيْ أَعْرَضُوا، أَوْ صَدُّوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، إِذْ كَانُوا يُثَبِّطُونَ مَنْ لَقُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَيُضَعِّفُونَ أَمْرَ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، أَوْ صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، وَقَتْلُهُمْ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ فِيهِمْ، لَكِنْ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِسْلَامِ صَدُّوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ.

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ آلِ عِمْرَانَ. فَيَحْلِفُونَ لَهُ: أَيْ لِلَّهِ تَعَالَى. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» ؟ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ، كَيْفَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُفْرَهُمْ يَخْفَى عَلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَيُجْرُونَهُ مُجْرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي عَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ؟ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الْكَذِبِ، قَدْ تَعَوَّدُوهُ حَتَّى كَانَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ: أَيْ شَيْءٍ نَافِعٍ لَهُمْ.

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ: أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَغَلَبَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ «2» فِي النِّسَاءِ، وَأَنَّهَا مِنْ حَاذَ الْحِمَارُ الْعَانَةَ إِذَا سَاقَهَا، وَجَمْعُهَا غَالِبًا لَهَا، وَمِنْهُ كَانَ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ.

وَقَرَأَ عُمَرُ: اسْتَحَاذَ، أَخْرَجَهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْقِيَاسُ، وَاسْتَحْوَذَ شَاذٌّ فِي الْقِيَاسِ فَصِيحٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ: فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهُ، لَا بِقُلُوبِهِمْ وَلَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وحِزْبُ الشَّيْطانِ: جُنْدُهُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ: هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، أَيْ فِي جُمْلَةِ مَنْ هُوَ أَذَلُّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا تَرَى أَحَدًا أَذَلَّ مِنْهُمْ.

وَعَنْ مُقَاتِلٍ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالطَّائِفَ وَخَيْبَرَ وَمَا حَوْلَهُمْ، قَالُوا: نَرْجُو أَنْ يُظْهِرَنَا اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَتَظُنُّونَ الرُّومَ وَفَارِسَ كَبَعْضِ الْقُرَى الَّتِي غُلِبْتُمْ عَلَيْهَا؟ وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَأَكْثَرُ عَدَدًا وَأَشَدُّ بَطْشًا مِنْ أَنْ تَظُنُّوا فِيهِمْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ:

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي: كَتَبَ: أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ قَضَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَعْنَى قَالَ، وَرُسُلِي: أَيْ مَنْ بَعَثْتُ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ وَمَنْ بَعَثْتُ مِنْهُمْ بِالْحُجَّةِ.

إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ: يَنْصُرُ حِزْبَهُ، عَزِيزٌ: يَمْنَعُهُ مِنْ أن يذل.

(1) سورة الأنعام: 6/ 23.

(2)

سورة النساء: 4/ 141.

ص: 130

لَا تَجِدُ قَوْماً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ: خَيَّلَ أَنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعِ الْمُحَالِ أَنْ تَجِدَ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ يُوَادُّونَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، وَحَقُّهُ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَلَا يُوجَدَ بِحَالٍ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ وَالزَّجْرِ عَنْ مُلَابَسَتِهِ وَالتَّصَلُّبِ فِي مُجَانَبَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. وَزَادَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ. انْتَهَى. وَبَدَأَ بِالْآبَاءِ لِأَنَّهُمُ الْوَاجِبُ عَلَى الْأَوْلَادِ طَاعَتُهُمْ، فَنَهَاهُمْ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «1» ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُمْ أَعْلَقُ بِالْقُلُوبِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْإِخْوَانِ لِأَنَّهُمْ بِهِمُ التَّعَاضُدُ، كَمَا قِيلَ:

أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ

كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ

ثُمَّ رَابِعًا بِالْعَشِيرَةِ، لِأَنَّ بِهَا التَّنَاصُرَ، وَبِهِمُ الْمُقَاتَلَةَ وَالتَّغَلُّبَ وَالتَّسَرُّعَ إِلَى مَا دُعُوا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ:

لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ

فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَتَبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ نَصْبًا، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ.

وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: كُتِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْإِيمَانُ رُفِعَ. وَالْجُمْهُورُ: أَوْ عَشِيرَتَهُمْ عَلَى الْإِفْرَادِ وَأَبُو رَجَاءٍ: عَلَى الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: أَثْبَتَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْهُدَى وَالنُّورُ وَاللُّطْفُ. وَقِيلَ: الرُّوحُ: الْقُرْآنُ. وَقِيلَ:

جِبْرِيلُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ رُوحٌ يَحْيَا بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ كَتَبَ إِلَى الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قِيلَ: وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أبي حَاطِبِ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْآيِ الَّتِي فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُوَالِينَ لِلْيَهُودِ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي وَأَبِي بكر الصديق، رضي الله تَعَالَى عَنْهُ، كَانَ مِنْهُ سَبٌّ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَصَكَّهُ أَبُو بَكْرٍ صَكَّةً سَقَطَ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام:

«أو فعلته» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«لَا تَعُدْ» ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ السَّيْفُ قَرِيبًا مِنِّي لَقَتَلْتُهُ.

وَقِيلَ:

فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِي أَبِي بَكْرٍ دَعَا ابْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى الْبِرَازِ، وَفِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قتل أخاه بن عُمَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ.

وَقَالَ ابن شوذب: يوم

(1) سورة لقمان: 31/ 15.

ص: 131

بَدْرٍ، وَفِي عُمَرَ قَتَلَ خَالَهُ الْعَاصِي بْنَ هِشَامٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَتَلُوا عُتْبَةَ وَشَيْبَةُ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنَ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي قِصَّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ، قَالَ: كَذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ الشَّامِ، وَقَدْ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ أَبُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. انْتَهَى، يَعْنُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رَتَّبَ الْمُفَسِّرُونَ. وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ عَلَى قِصَّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي بَكْرٍ وَمُصْعَبٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدٍ مَعَ أَقْرِبَائِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 132