المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ١٠

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة النجم

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 62]

- ‌سورة القمر

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 55]

- ‌سورة الرّحمن

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 78]

- ‌سورة الواقعة

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 96]

- ‌سورة الحديد

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة المجادلة

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الحشر

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24]

- ‌سورة الممتحنة

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13]

- ‌سورة الصّفّ

- ‌[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14]

- ‌سورة الجمعة

- ‌[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة المنافقون

- ‌[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التغابن

- ‌[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 18]

- ‌سورة الطّلاق

- ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة التّحريم

- ‌[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة الملك

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة القلم

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة الحاقّة

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة المعارج

- ‌[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 44]

- ‌سورة نوح

- ‌[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة الجن

- ‌[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة المزّمّل

- ‌[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة المدّثر

- ‌[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56]

- ‌سورة القيمة

- ‌[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة الإنسان

- ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31]

- ‌سورة المرسلات

- ‌[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]

- ‌سورة النّبإ

- ‌[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة النّازعات

- ‌[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46]

- ‌سورة عبس

- ‌[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42]

- ‌سورة التّكوير

- ‌[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة الانفطار

- ‌[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة المطفّفين

- ‌[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36]

- ‌سورة الانشقاق

- ‌[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]

- ‌سورة البروج

- ‌[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الطّارق

- ‌[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]

- ‌سورة الأعلى

- ‌[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة الغاشية

- ‌[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]

- ‌سورة الفجر

- ‌[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة البلد

- ‌[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة الشمس

- ‌[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]

- ‌سورة الليل

- ‌[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]

- ‌سورة الضّحى

- ‌[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة الشرح

- ‌[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة التّين

- ‌[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العلق

- ‌[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة القدر

- ‌[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة البيّنة

- ‌[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العاديات

- ‌[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة القارعة

- ‌[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التّكاثر

- ‌[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العصر

- ‌[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الهمزة

- ‌[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]

- ‌سورة الفيل

- ‌[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة قريش

- ‌[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الماعون

- ‌[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة الكوثر

- ‌[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الكافرون

- ‌[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]

- ‌سورة النّصر

- ‌[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة المسد

- ‌[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة الإخلاص

- ‌[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الفلق

- ‌[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة النّاس

- ‌[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]

الفصل: ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52]

‌سورة الحاقّة

[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52]

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)

فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19)

إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَاّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَاّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لَا تُبْصِرُونَ (39)

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)

لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)

وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

ص: 251

الْحُسُومُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ حَسَمَ الدَّاءَ، أَيْ تَابَعَ بِالْمِكْوَاةِ عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَفَرَّقَ بَيْنَ جَمْعِهِمْ زَمَانٌ

تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامٌ حُسُومُ

وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: حَسَمْتُ الشَّيْءَ: فَصَلْتُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْحُسَامُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَأَرْسَلَتْ ريحا بورا عَقِيمًا

فَدَارَتْ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حُسُومًا

وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحُسُومُ: الشُّؤْمُ، يُقَالُ: هَذِهِ لَيَالِي الْحُسُومِ: أَيْ تَحْسِمُ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهَا، وَقَالَهُ فِي الصِّحَاحِ. صَرْعَى: هَلْكَى، الْوَاحِدُ صَرِيعٌ، وَهِيَ الشَّيْءُ ضَعُفَ وَتَدَاعَى لِلسُّقُوطِ. قَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: مِنْ قَوْلِهِمْ وَهِيَ السقاء إذا انخرق، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

خَلِّ سَبِيلَ مَنْ وَهِيَ سِقَاؤُهُ

وَمَنْ هُرِيقَ بِالْفَلَاةِ مَاؤُهُ

الْأَرْجَاءُ: الْجَوَانِبُ، وَاحِدُهَا رَجًا، أَيْ جَانِبٌ مِنْ حَائِطٍ أَوْ بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَلِذَلِكَ بَرَزَتْ فِي التَّثْنِيَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأَنْ لَمْ تَرَا قَبْلِي أَسِيرًا مُقَيَّدًا

وَلَا رَجُلًا يَرْمِي بِهِ الرَّجَوَانِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

فَلَا يَرْمِي بِهِ الرَّجَوَانِ إِنِّي

أقل اليوم من يعني مَكَانِي

هَاءَ بِمَعْنَى خُذْ، فِيهَا لُغَاتٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ السِّكِّيتِ: الْعَرَبُ تَقُولُ: هَاءَ يَا رَجُلُ، وَلِلِاثْنَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ: هَاؤُمَا، وللرجل هاؤم،

ص: 252

وللمرأء هَاءِ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ، وَلِلنِّسَاءِ هَاؤُنَّ. قِيلَ: وَمَعْنَى هَاؤُمُ: خُذُوا، وَمِنْهُ الْخَبَرُ فِي الرِّبَا إِلَّا هَاءً وَهَاءً: أَيْ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ خُذْ. وَقِيلَ: تَعَالَوْا، وَزَعَمَ الْقُتَبِيُّ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ إِلَّا إِنْ كَانَ عَنَى أَنَّهَا تَحُلُّ مَحَلَّهَا فِي لُغَةِ مَنْ قَالَ:

هَاكَ وَهَاكَ وَهَاكُمَا وَهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ بَدَلٌ صِنَاعِيٌّ، لِأَنَّ الْكَافَ لَا تُبْدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ وَلَا الْهَمْزَةُ مِنْهَا. وَقِيلَ: هَاؤُمُ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِإِجَابَةِ الدَّاعِي عِنْدَ الْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ.

وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ عَالٍ، فَجَاوَبَهُ عليه الصلاة والسلام:«هَاؤُمُ» ، بِصَوْلَةِ صَوْتِهِ.

وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ هَاءَ أَمُّوا، ثُمَّ نَقَلَهُ التَّخْفِيفُ وَالِاسْتِعْمَالُ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذِهِ الْمِيمَ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ. الْقُطُوفُ جُمِعَ قِطْفٍ: وَهُوَ مَا يُجْتَنَى مِنَ الثَّمَرِ وَيُقْطَفُ. السِّلْسِلَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ حِلَقٌ يَدْخُلُ فِي حِلَقٍ عَلَى سَبِيلِ الطُّولِ. الذِّرَاعُ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَرْمِي عَلَيْهَا وَهِيَ فَرْعٌ أَجْمَعُ

وَهِيَ ثَلَاثُ أَذْرُعٍ وَأُصْبُعُ

حَضَّ عَلَى الشَّيْءِ: حَمَلَ عَلَى فِعْلِهِ بِتَوْكِيدٍ. الْغِسْلِينُ، قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: مَا يَجْرِي مِنَ الْجِرَاحِ إِذَا غُسِلَتْ. الْوَتِينُ: عِرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ، إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:

عِرْقٌ بَيْنَ الْعِلْبَاءِ وَالْحُلْقُومِ، وَالْعِلْبَاءُ: عَصَبُ الْعُنُقِ، وَهُمَا عِلْبَاوَانِ بَيْنَهُمَا الْعِرْقُ. وَقِيلَ:

عِرْقٌ غَلِيظٌ تُصَادِفُهُ شَفْرَةُ النَّاحِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ:

إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي

عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الْوَتِينِ

الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ، وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً، إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ، فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ، وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ

ص: 253

والأشقياء، وقال: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ»

، ذَكَرَ حَدِيثَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَدْرَجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، كعاد وثمود وفرعون، لِيَزْدَجِرَ بِذِكْرِهِمْ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ عَاصَرُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَالِمَةً بِهَلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وفرعون، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ.

الْحَاقَّةُ: الْمُرَادُ بِهَا الْقِيَامَةُ وَالْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهَا حَقَّتْ لِكُلِّ عَامِلٍ عَمَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّهَا تُبْدِي حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَحِقُّ فِيهَا، فَهِيَ مِنْ بَابِ لَيْلٍ نَائِمٍ. وَالْحَاقَّةُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَلَمْ يُشَكَّ فِي صِحَّتِهِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ أَحُقُّهُ: أَيْ غَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ. فَالْقِيَامَةُ حَاقَّةٌ لِأَنَّهَا تُحَقِّقُ كُلَّ مُحَاقٍّ فِي دِينِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ، أَيْ كُلَّ مُخَاصِمٍ فَتَغْلِبُهُ. وَقِيلَ: الْحَاقَّةُ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْحَاقَّةُ مُبْتَدَأٌ، وَمَا مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَالْحَاقَّةُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ الْحَاقَّةِ، وَالرَّابِطُ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ نَحْوَ: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ، وَمَا اسْتِفْهَامٌ لَا يُرَادُ حَقِيقَتُهُ بَلِ التَّعْظِيمُ، وَأَكْثَرُ مَا يَرْبُطُ بِتَكْرَارِ الْمُبْتَدَأِ إِذَا أُرِيدَ، يَعْنِي التَّعْظِيمَ وَالتَّهْوِيلَ. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيهَا مَا لَمْ يُدْرَ وَلَمْ يُحِطْ بِهِ وَصْفٌ مِنْ أُمُورِهَا الشَّاقَّةِ وَتَفْصِيلِ أَوْصَافِهَا. وَمَا اسْتِفْهَامٌ أَيْضًا مُبْتَدَأٌ، وأَدْراكَ الْخَبَرُ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي أَدْراكَ، وَمَا مُبْتَدَأٌ، وَالْحَاقَّةُ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَدْرَاكَ، وأدراك مُعَلَّقَةٌ.

وَأَصْلُ دَرَى أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ، وَقَدْ تُحْذَفُ عَلَى قِلَّةٍ، فَإِذَا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَقَوْلُهُ: مَا الْحَاقَّةُ بَعْدَ أَدْرَاكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ.

والقارعة مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِصَدْمَتِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْرَعُ النَّاسَ بِالْأَقْرَاعِ وَالْأَهْوَالِ، وَالسَّمَاءَ بِالِانْشِقَاقِ وَالِانْفِطَارِ، وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ بِالدَّكِّ وَالنَّسْفِ، وَالنُّجُومَ بِالطَّمْسِ وَالِانْكِدَارِ فَوَضَعَ الضَّمِيرَ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْقَرْعِ فِي الْحَاقَّةِ زِيَادَةً فِي وَصْفِ شِدَّتِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَهَا وَفَخَّمَهَا، أَتْبَعَ ذَلِكَ ذِكْرَ مَنْ كَذَّبَ بِهَا وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ، تَذْكِيرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَتَخْوِيفًا لَهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِهِمْ. انْتَهَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأُهْلِكُوا: رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وزيد بْنُ عَلِيٍّ: فَهَلَكُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ قَتَادَةُ: بِالطَّاغِيَةِ: بِالصَّيْحَةِ الَّتِي خَرَجَتْ عَنْ حَدِّ كُلِّ صَيْحَةٍ. وَقَالَ مجاهد وابن

(1) سورة القلم: 68/ 44.

ص: 254

زَيْدٍ: بِسَبَبِ الْفِعْلَةِ الطَّاغِيَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَا مَعْنَاهُ: الطَّاغِيَةُ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِطُغْيَانِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها «1» . وَقِيلَ: الطَّاغِيَةُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَرَجُلٍ رَاوِيَةٍ، وَأُهْلِكُوا كُلُّهُمْ لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِهِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ الْفِئَةِ الطَّاغِيَةِ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الطَّاغِيَةَ هِيَ الصَّيْحَةُ، وَتَرْجِيحُ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ سَبَبِ الْهَلَاكِ فِي ثَمُودَ بِسَبَبِ الْهَلَاكِ فِي عَادٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

بِرِيحٍ صَرْصَرٍ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي صَرْصَرٍ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، عاتِيَةٍ: عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ مِقْدَارٍ، أَوْ عَلَى عَادٍ فَمَا قَدَرُوا عَلَى أَنْ يَتَسَتَّرُوا مِنْهَا، أَوْ وُصِفَتْ بِذَلِكَ اسْتِعَارَةً لِشِدَّةِ عَصْفِهَا، وَالتَّسْخِيرُ هُوَ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ بِاقْتِدَارٍ عَلَيْهِ. فَمَعْنَى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ: أَيْ أَقَامَهَا وَأَدَامَهَا، سَبْعَ لَيالٍ: بَدَتْ عَلَيْهِمْ صُبْحَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى آخِرِ الْأَرْبِعَاءِ تَمَامَ الشَّهْرِ، حُسُوماً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: تِبَاعًا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا انْقِطَاعٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: شُؤْمًا وَنَحْسًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:

حُسُوماً جَمْعُ حَاسِمٍ، أَيْ تِلْكَ الْأَيَّامُ قَطَّعَتْهُمْ بِالْإِهْلَاكِ، وَمِنْهُ حَسْمُ الْعِلَلِ وَالْحُسَامُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ تَحْسِمُ حُسُومًا بِمَعْنَى تَسْتَأْصِلُ اسْتِئْصَالًا، أَوْ تَكُونُ صِفَةً، كَقَوْلِكَ: ذَاتُ حُسُومٍ، أن تَكُونُ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِئْصَالِ. وَقَرَأَ السُّدِّيُّ: حُسُومًا بِالْفَتْحِ: حَالًا مِنَ الرِّيحِ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ مُسْتَأْصِلَةً. وَقِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْعَجْزِ، وَهِيَ آخِرُ الشتاء. وأسماؤها: الصين وَالصِّنَّبْرُ وَالْوَبْرُ وَالْآمِرُ وَالْمُؤْتَمِرُ والمعلل ومصفى الْجَمْرِ. وَقِيلَ: مُكَفِّي الطَّعْنِ.

فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها: أَيْ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، أَوْ فِي دِيَارِهِمْ، أَوْ فِي مَهَابِّ الرِّيحِ احْتِمَالَاتٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَمُصَرَّحٌ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو نَهيِكٍ: أعجز، على وزن أفعل، كَضَبْعٍ وَأَضْبُعٍ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ أنه قرىء: نَخِيلٍ خَاوِيَةٍ خَلَتْ أَعْجَازُهَا بِلًى وَفَسَادًا. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: كَانَتْ تَدْخُلُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَتُخْرِجُ مَا فِي أَجْوَافِهِمْ مِنَ الْحَسْوِ مِنْ أَدْبَارِهِمْ، فَصَارُوا كَالنَّخْلِ الْخَاوِيَةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: خَلَتْ أَبْدَانُهُمْ مِنْ أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانُوا فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي عَذَابٍ، ثُمَّ فِي الثَّامِنِ مَاتُوا وَأَلْقَتْهُمُ الرِّيحُ فِي الْبَحْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ باقِيَةٍ: أَيْ مِنْ بَاقٍ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ فِئَةٍ بَاقِيَةٍ. وَقِيلَ: مِنْ باقِيَةٍ: مِنْ بَقَاءٍ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَاعِلَةٍ كَالْعَاقِبَةِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَطَلْحَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وعاصم في رواية أبان،

(1) سورة الشمس: 91/ 11.

ص: 255

وَالنَّحْوِيَّانِ: وَمَنْ قِبَلَهُ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ: أَيْ أَجْنَادُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ قِبَلَكَ: أَيْ فِيمَا يَلِيكَ مِنَ الْمَكَانِ. وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ قِبَلَكَ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ عِنْدَكَ وَفِي جِهَتِكَ وَمَا يَلِيكَ بِأَيِّ وَجْهٍ وَلِيَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالسُّلَمِيُّ: وَمَنْ قَبْلَهُ، ظَرْفُ زَمَانٍ: أَيِ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، كَقَوْمِ نُوحٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ بَعْدَ هَذَا. وَالْمُؤْتَفِكاتُ: قُرَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ هُنَا: وَالْمُؤْتَفِكَةُ عَلَى الْإِفْرَادِ، بِالْخاطِئَةِ: أَيْ بِالْفِعْلَةِ أَوِ الْفِعْلَاتِ الْخَاطِئَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ بِالْخَطَأِ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا جَاءَ عَلَى فَاعِلَةٍ كَالْعَاقِبَةِ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ.

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ: رَسُولَ جِنْسٌ، وَهُوَ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، كموسى ولوط عليهما السلام. وَقِيلَ: لُوطٌ عليه السلام، أَعَادَهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ رَسُولِ الْمُؤْتَفِكَاتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُوسَى عليه السلام، أَعَادَهُ عَلَى الْأَسْبَقِ وَهُوَ رَسُولُ فِرْعَوْنَ.

وَقِيلَ: رَسُولٌ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، رابِيَةً: أَيْ نَامِيَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدَةً، يُرِيدُ أَنَّهَا زَادَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَخْذَاتِ، وَهِيَ الْغَرَقُ وَقَلْبُ الْمَدَائِنِ. إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ: أَيْ زَادَ وَعَلَا عَلَى أَعْلَى جَبَلٍ فِي الدُّنْيَا خَمْسَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: طَغَى عَلَى الْخُزَّانِ، كَمَا طَغَتِ الرِّيحُ عَلَى خُزَّانِهَا، حَمَلْناكُمْ: أَيْ فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ، فِي الْجارِيَةِ: هِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ عليه السلام، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْجَارِيَةِ فِي السَّفِينَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

تِسْعُونَ جَارِيَةً فِي بَطْنِ جَارِيَةٍ وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الْمَعْنَى فِي السُّفُنِ الْجَارِيَةِ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَالْمَحْمُولُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ. لِنَجْعَلَها

: أَيْ سَفِينَةُ نُوحٍ عليه السلام، لَكُمْ تَذْكِرَةً

بِمَا جَرَى لِقَوْمِهِ الْهَالِكِينَ وَقَوْمِهِ النَّاجِينَ فِيهَا وَعِظَةً. قَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ أَلْوَاحُهَا عَلَى الْجُودِيِّ. وَقِيلَ: لِنَجْعَلَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عليه السلام لَكُمْ مَوْعِظَةً تَذْكُرُونَ بِهَا نَجَاةَ آبَائِكُمْ وَإِغْرَاقَ مُكَذِّبِي نُوحٍ عليه السلام، وَتَعِيَها

: أَيْ تَحْفَظُ قِصَّتَهَا، أُذُنٌ

مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَعِيَ الْمَوَاعِظَ، يُقَالُ: وَعَيْتُ لِمَا حُفِظَ فِي النَّفْسِ، وَأَوْعَيْتُ لِمَا حُفِظَ فِي غَيْرِ النَّفْسِ مِنَ الْأَوْعِيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَاعِيَةُ هِيَ الَّتِي عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ وَانْتَفَعَتْ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ

وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي: «إني

(1) سورة الشورى: 42/ 32.

ص: 256

دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ يَا عَلِيُّ» . قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَمَا سَمِعْتُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَنَسِيتُهُ، وَقَرَأَهَا: وَتَعِيَهَا، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْعَامَّةِ

وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ وَخَارِجَةَ عَنْهُ وقنبل بخلاف عنه: بإسكانها وحمزة: بِإِخْفَاءِ الْحَرَكَةِ، وَوَجْهُ الْإِسْكَانِ التَّشْبِيهُ فِي الْفِعْلِ بِمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِلَ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ. نَحْوُ:

كِبْدٌ وَعِلْمٌ. وَتَعِي لَيْسَ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ، بَلْ هُوَ مُضَارِعُ وَعِيَ، فَصَارَ إِلَى فِعْلٍ وَأَصْلُهُ حُذِفَتْ وَاوُهُ. وَرَوَى عَنْ عَاصِمٍ عِصْمَةُ وَحَمْزَةُ الْأَزْرَقُ: وَتَعِيَّهَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، قِيلَ: وَهُوَ خَطَأٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ شِدَّةَ بَيَانِ الْيَاءِ احْتِرَازًا مِمَّنْ سَكَّنَهَا، لَا إِدْغَامَ حَرْفٍ فِي حَرْفٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّضْعِيفِ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ أُجْرِيَ الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَعَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْسِيِّ: وَتَعِيهَا بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، فَاحْتَمَلَ الِاسْتِئْنَافُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِرَاءَةِ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ أُذُنٌ واعِيَةٌ

عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْكِيرِ؟ قُلْتُ: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْوُعَاةَ فِيهِمْ قِلَّةٌ، وَلِتَوْبِيخِ النَّاسِ بِقِلَّةِ مَنْ يَعِي مِنْهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وَعَتْ وَعَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا سِوَاهَا لَا يُبَالِي بِآلَةٍ وَإِنْ مَلَأُوا مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ. انْتَهَى، وَفِيهِ تَكْثِيرٌ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فَعَلَ بِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، ذَكَرَ أَمْرَ الْآخِرَةِ وَمَا يَعْرِضُ فِيهَا لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَبَدَأَ بِإِعْلَامِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَهَذِهِ النَّفْخَةُ نَفْخَةُ الْفَزَعِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى الَّتِي يَحْصُلُ عَنْهَا خَرَابُ الْعَالَمِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الدَّكُّ بَعْدَ النَّفْخِ، وَالْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَتْ مَرَّةً أُكِّدَتْ بِقَوْلِهِ: واحِدَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، بِرَفْعِهِمَا، وَلَمْ تَلْحَقِ التَّاءُ نَفَخَ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ النَّفْخَةِ مَجَازِيٌّ وَوَقَعَ الْفَصْلُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا نُعِتَ صَحَّ رَفْعُهُ. انْتَهَى. وَلَوْ لَمْ يُنْعَتْ لَصَحَّ، لِأَنَّ نَفْخَةَ مَصْدَرٌ مَحْدُودٌ وَنَعْتُهُ لَيْسَ بِنَعْتِ تَخْصِيصٍ، إِنَّمَا هُوَ نَعْتُ تَوْكِيدٍ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ:

بِنَصْبِهِمَا، أَقَامَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحُمِلَتِ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ يَحْيَى: بِتَشْدِيدِهَا، فَالتَّخْفِيفُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ حَمَلَتْهَا الرِّيحُ الْعَاصِفُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الْقُدْرَةُ مِنْ غَيْرِ

ص: 257

وَاسِطَةِ مَخْلُوقٍ. وَيَبْعُدُ قَوْلُهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا الزَّلْزَلَةُ، لِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ لَيْسَ فِيهَا حَمْلٌ، إِنَّمَا هِيَ اضْطِرَابٌ. وَالتَّشْدِيدُ عَلَى أَنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ، أَوْ يَكُونَ التَّضْعِيفُ لِلنَّقْلِ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ رِيحًا تُفَتِّتُهَا أَوْ مَلَائِكَةً أَوْ قُدْرَةً. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُقَدَّرَةِ. وَثُنِّيَ الضَّمِيرُ فِي فَدُكَّتا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَجُمْلَةُ الْجِبَالِ، أَيْ ضَرَبَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تَفَتَّتَتْ، وَتَرْجِعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَثِيباً مَهِيلًا «1» . وَالدَّكُّ فِيهِ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ لِقَوْلِهِ: هَباءً «2» ، وَالدَّقُّ فِيهِ اخْتِلَافُ الْأَجْزَاءِ. وَقِيلَ: تُبْسَطُ فَتَصِيرُ أَرْضًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَعِيرٌ أَدَكُّ وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا ضَعُفَا، فَلَمْ يَرْتَفِعْ سَنَامُهُمَا وَاسْتَوَتْ عَرَاجِينُهُمَا مَعَ ظَهْرَيْهِمَا. فَيَوْمَئِذٍ مَعْطُوفٌ عَلَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، وهو منصوب بوقعت، كَمَا أَنَّ إِذَا مَنْصُوبٌ بنفخ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ وَقَرَّرْنَاهُ وَاسْتَدْلَلْنَا لَهُ فِي أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذَا هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهِمَا لَا الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَالتَّنْوِينُ فِي إِذٍ لِلْعِوَضِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَهِيَ فِي التَّقْدِيرِ: فَيَوْمَ إِذْ نُفِخَ فِي الصُّورِ وَجَرَى كَيْتَ وَكَيْتَ، والواقعة هِيَ الْقِيَامَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «3» أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: هِيَ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَانْشَقَّتِ السَّماءُ: أَيِ انْفَطَرَتْ وَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَهِيَ يَوْمَئِذٍ انْشَقَّتْ، واهِيَةٌ: ضَعِيفَةٌ لِتَشَقُّقِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَدِيدَةً، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «4» ، أَوْ مُنْخَرِقَةً، كَمَا يُقَالُ: وَهِيَ السِّقَاءُ انْخَرَقَ. وَقِيلَ انْشِقَاقُهَا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ تَعَالَى:

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «5» . وَقِيلَ: انْشِقَاقُهَا لِهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى حَافَّاتِهَا حِينَ تَنْشَقُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَافَّاتِهَا عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: عَلَى حَافَّاتِ الْأَرْضِ، يَنْزِلُونَ إِلَيْهَا يَحْفَظُونَ أَطْرَافَهَا، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ قَرِيبٌ. كَمَا

رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقِفُونَ صَفًّا عَلَى حَافَّاتِ الْأَرْضِ، ثُمَّ مَلَائِكَةَ الثَّانِيَةِ فَيَصُفُّونَ حَوْلَهُمْ، ثُمَّ مَلَائِكَةَ كُلِّ سَمَاءٍ، فَكُلَّمَا نَدَّ أَحَدٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَدَ الْأَرْضَ أُحِيطَ بِهَا.

وَالْمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: وَالْمَلَكُ، وبين أن

(1) سورة المزمل: 73/ 14.

(2)

سورة الواقعة: 56/ 6.

(3)

سورة الواقعة: 56/ 1. [.....]

(4)

سورة النازعات: 79/ 27.

(5)

سورة الفرقان: 25/ 25.

ص: 258

يُقَالَ: وَالْمَلَائِكَةُ؟ قُلْتُ: الْمَلَكُ أَعَمُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: مَا مِنْ مَلَكٍ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، أَعَمُّ مِنْ قَوْلِكَ: مَا مِنْ مَلَائِكَةٍ؟ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَلَكَ أَعَمُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ قُصَارَاهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِهِمَا، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، فَقُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ كَالْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِهِمَا. وَأَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى إِلَخْ، فَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى دَعْوَاهُ، لِأَنَّ مِنْ مَلَكٍ نَكِرَةٌ مُفْرَدَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا مِنْ الْمُخْلَصَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَشَمَلَتْ كُلَّ مَلَكٍ فَانْدَرَجَ تَحْتَهَا الْجَمْعُ لِوُجُودِ الْفَرْدِ فِيهِ فَانْتَفَى كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ، بِخِلَافِ مِنْ مَلَائِكَةٍ، فَإِنَّ مِنْ دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ مُنَكَّرٍ، فَعَمَّ كُلَّ جَمْعٍ جُمِعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. لَوْ قُلْتَ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ رِجَالٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا وَاحِدٌ، لِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا انْسَحَبَ عَلَى جَمْعٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الْجَمْعِ أَنْ يَنْتَفِيَ الْمُفْرَدُ.

وَالْمَلَكُ فِي الْآيَةِ لَيْسَ فِي سِيَاقِ نَفْيٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَيَكُونُ أَعَمَّ مِنْ جَمْعٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُفْرَدًا لِأَنَّهُ أَخَفُّ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلى أَرْجائِها يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ بِمَا هُوَ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَرْجَائِهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ فِي أَوْقَاتٍ.

وَالْمُرَادُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أَرْجَائِهَا، لَا أَنَّهُ مَلَكٌ وَاحِدٌ يَنْتَقِلُ عَلَى أَرْجَائِهَا فِي أَوْقَاتٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّهَا تَنْشَقُّ، وَهِيَ مَسْكَنُ الْمَلَائِكَةِ، فَيَنْضَوُونَ إِلَى أَطْرَافِهَا وَمَا حَوْلَهَا مِنْ حَافَّاتِهَا. انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي فَوْقِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكِ ضَمِيرُ جمع على المعنى، لأنه يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْحَامِلِينَ، أَيْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّمْيِيزَ الْمَحْذُوفَ فِي قَوْلِهِ: ثَمانِيَةٌ أَمْلَاكٌ، أَيْ ثَمَانِيَةُ أَشْخَاصٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ وَعَنِ الْحَسَنِ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ هُمْ، أَثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ أَمْ ثَمَانِيَةُ أَشْخَاصٍ؟ وَذَكَرُوا فِي صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ أَشْكَالًا مُتَكَاذِبَةً ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا.

يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ إِذْ كَانَ مَا ذُكِرَ، تُعْرَضُونَ: أي للحساب، وتعرضون هُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ. فَإِنْ كَانَتِ النَّفْخَةُ هِيَ الْأُولَى، فَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اتَّسَعَ فِي الْيَوْمِ فَجُعِلَ ظَرْفًا لِلنَّفْخِ وَوُقُوعُ الْوَاقِعَةِ وَجَمِيعُ الْكَائِنَاتِ بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَتِ النَّفْخَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اتِّسَاعٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَوْمَئِذٍ معطوف على فَإِذا، ويَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ بدل من ف يَوْمَئِذٍ، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الظُّرُوفِ وَاقِعٌ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْخِطَابُ فِي تُعْرَضُونَ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ الْمُحَاسَبِينَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: رَأَى مُوسَى فِي الْقِيَامَةِ عَرْضَتَانِ فِيهِمَا مَعَاذِيرُ وَتَوْقِيفٌ

ص: 259

وَخُصُومَاتٌ، وَثَالِثَةٌ تَتَطَايَرُ فِيهَا الصُّحُفُ لِلْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَخْفى بِتَاءِ التأنيث وعلي وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ سَعْدَانَ: بِالْيَاءِ، خافِيَةٌ: سَرِيرَةٌ وَحَالٌ كَانَتْ تَخْفَى فِي الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، قُطُوفُها دانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ، يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ، مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ، وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ.

أَمَّا: حَرْفُ تَفْصِيلٍ فَصَّلَ بِهَا مَا وَقَعَ فِي يَوْمِ الْعَرْضِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ دُخُولُ النَّارِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْعَرْضِ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مَعَ النَّاجِينَ مِنَ النَّارِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ يَأْنَسُ بِهِ مُدَّةَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: لَا يَأْخُذُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ، وَإِيمَانُهُ أَنِيسُهُ مُدَّةَ الْعَذَابِ.

قِيلَ: وَهَذَا يَظْهَرُ لِأَنَّ مَنْ يُسَارُ بِهِ إِلَى النَّارِ كيف يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا اسْتِبْشَارٌ وَسُرُورٌ؟ فَلَا يُنَاسِبُ دُخُولَ النَّارِ. وَهَاؤُمُ إِنْ كَانَ مَدْلُولَهَا خُذْ، فَهِيَ مُتَسَلِّطَةٌ عَلَى كِتَابِيَهْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهَا تَعَالَوْا، فَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَيْهِ بواسطة إلى، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا. فالبصريون يعلمون اقرأوا، وَالْكُوفِيُّونَ يُعْمِلُونَ هَاؤُمُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّنَازُعِ بَيْنَ اسْمِ الْفِعْلِ وَالْقَسَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِتابِيَهْ، وحِسابِيَهْ في موضعيهما ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ، وفي القارعة: ما هِيَهْ «1» بِإِثْبَاتِ هَاءِ السَّكْتِ وَقْفًا وَوَصْلًا لِمُرَاعَاةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَذَلِكَ كِتَابِي وَحِسَابِي وَمَالِي وَسُلْطَانِي، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي ما هِيَهْ فِي الْقَارِعَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ: بِطَرْحِ الْهَاءِ فِيهِمَا فِي الْوَصْلِ لَا في الوقف، وطرحها حَمْزَةُ فِي مَالِي وَسُلْطَانِي وَمَا هِيَ فِي الْوَصْلِ لَا فِي الْوَقْفِ، وَفَتَحَ الْيَاءَ فِيهِنَّ. وَمَا قَالَهُ الزَّهْرَاوِيُّ مِنْ أَنَّ إِثْبَاتَ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ ذَلِكَ مَنْقُولٌ نَقْلَ التواتر فوجب قبوله.

(1) سورة القارعة: 101/ 10.

ص: 260

إِنِّي ظَنَنْتُ: أَيْ أَيْقَنْتُ، وَلَوْ كَانَ ظَنًّا فِيهِ تَجْوِيزٌ لَكَانَ كُفْرًا. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ: ذَاتِ رِضًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: رَاضِيَةٍ مَرْضِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ دافِقٍ «1» ، أَيْ مَدْفُوقٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ: أَيْ مَكَانًا وَقَدْرًا. قُطُوفُها: أَيْ مَا يَجْنِي مِنْهَا، دانِيَةٌ: أَيْ قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ يُدْرِكُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ بِفِيهِ مِنْ شَجَرَتِهَا. كُلُوا وَاشْرَبُوا: أي يقال، وهَنِيئاً، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

هَنِيئًا أَكْلًا وَشُرْبًا هَنَيِئًا، أَوْ هَنِيتُمُ هَنِيئًا عَلَى الْمَصْدَرِ. انْتَهَى فَقَوْلُهُ: أَكْلًا وَشُرْبًا هَنِيئًا يَظْهَرُ مِنْهُ جَعْلُ هَنِيئًا صِفَةً لِمَصْدَرَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِضْمَارِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ، أَيْ أَكْلًا هَنِيئًا وَشُرْبًا هَنِيئًا. بِما أَسْلَفْتُمْ: أَيْ قَدَّمْتُمْ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ: يَعْنِي أَيَّامَ الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَوَكِيعٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رَفِيعٍ: أَيَّامُ الصَّوْمِ، أَيْ بَدَلُ مَا أَمْسَكْتُمْ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ:

بِما أَسْلَفْتُمْ: أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ: لَمَّا رَأَى فِيهِ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَمَا يَصِيرُ أَمْرُهُ إِلَيْهِ، تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُعْطَهُ، وَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَدْرِ حِسَابَهُ، فَإِنَّهُ انْجَلَى عَنْهُ حِسَابُهُ عَنْ مَا يَسُوءُهُ فِيهِ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ لَا لَهُ. يَا لَيْتَها: أَيِ الْمَوْتَةُ الَّتِي مِتُّهَا فِي الدُّنْيَا، كانَتِ الْقاضِيَةَ: أَيِ الْقَاطِعَةَ لِأَمْرِي، فَلَمْ أُبْعَثْ وَلَمْ أُعَذَّبْ أَوْ يَا لَيْتَ الْحَالَةَ الَّتِي انْتَهَيْتُ إِلَيْهَا الْآنَ كَانَتِ الْمَوْتَةَ الَّتِي مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، حَيْثُ رَأَى أَنَّ حَالَتَهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَمَرُّ مِمَّا ذَاقَهُ مِنَ الْمَوْتَةِ، وَكَيْفَ لَا وَأَمْرُهُ آلَ إِلَى عَذَابٍ لَا يَنْقَطِعُ؟ مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مَحْضًا، أَخْبَرَ بِذَلِكَ مِتَأَسِّفًا عَلَى مَالِهِ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا وَبَّخَ بِهِ نَفْسَهُ وَقَرَّرَهَا عَلَيْهِ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ: أَيْ حُجَّتِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَقُولُ ذَلِكَ مُلُوكُ الدُّنْيَا. وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ نويه لَمَّا تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ غَلَّابِ الْقَدَرِ لَمْ يُفْلِحْ وَجُنَّ، فَكَانَ لَا يَنْطَلِقُ لِسَانُهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ: هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ.

خُذُوهُ: أَيْ يُقَالُ لِلزَّبَانِيَةِ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ: أَيِ اجْعَلُوا فِي عُنُقِهِ غُلًّا، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ لَا تُصَلُّوهُ إِلَّا الْجَحِيمَ، وَهِيَ النَّارُ الْعُظْمَى، لِأَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا يَتَعَظَّمُ عَلَى النَّاسِ. يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ وَصَلَّاهُ النَّارَ. انْتَهَى، وَإِنَّمَا قَدَرُهُ لَا تُصَلُّوهُ إِلَّا الْجَحِيمَ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «2» ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مذهبا لسيبويه وَلَا لِحُذَّاقِ النُّحَاةِ. وَأَمَّا

(1) سورة الطارق: 86/ 6.

(2)

سورة الفاتحة: 1/ 5.

ص: 261

قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا يَتَعَظَّمُ عَلَى النَّاسِ، فَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَالرَّاجِحُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ: أَنَّ السُّلْطَانَ هُنَا هُوَ الْحُجَّةُ الَّتِي كَانَ يَحْتَجُّ بِهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بشماله لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْمُلُوكِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ.

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها: أَيْ قِيَاسُهَا وَمِقْدَارُ طُولِهَا، سَبْعُونَ ذِراعاً: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَاهِرُهُ مِنَ الْعَدَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي طُولِهَا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْعَدَدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: بِذِرَاعِ الْمَلَكِ. وَقَالَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ وَغَيْرُهُ: الذِّرَاعُ سَبْعُونَ بَاعًا، فِي كُلِّ بَاعٍ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ هِيَ. وَقِيلَ: بِالذِّرَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَنَا تَعَالَى بِمَا نَعْرِفُهُ وَنُحَصِّلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وُضِعَ مِنْهَا حَلْقَةٌ عَلَى جَبَلٍ لَذَابَ كَالرَّصَاصِ. فَاسْلُكُوهُ:

أَيْ أَدْخِلُوهُ، كَقَوْلِهِ: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ «1» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُدْخِلُهُ فِي السِّلْسِلَةِ، وَلِطُولِهَا تَلْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ فَيَبْقَى دَاخِلًا فِيهَا مَضْغُوطًا حَتَّى تَعُمَّهُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ، وَالسِّلْسِلَةُ تَدْخُلُ فِي فَمِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي تُسْلَكُ فِيهِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى إِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، إِلَّا إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي تَقْدِيمِ السِّلْسِلَةِ عَلَى السَّلْكِ مِثْلُهُ فِي تَقْدِيمِ الْجَحِيمِ عَلَى التَّصْلِيَةِ، أَيْ لَا تَسْلُكُوهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ، كَأَنَّهَا أَفْظَعُ مِنْ سَائِرِ مَوَاضِعِ الْإِرْهَاقِ فِي الْجَحِيمِ. وَمَعْنَى ثُمَّ: الدَّلَالَةُ عَلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْغُلِّ وَالتَّصْلِيَةِ بِالْجَحِيمِ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّلْكِ فِي السِّلْسِلَةِ، لَا عَلَى تَرَاخِي الْمُدَّةِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الْحَصْرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ، وَأَمَّا ثُمَّ فَيُمْكِنُ بَقَاؤُهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ أَوَّلًا يُؤْخَذُ فَيُغَلُّ. وَلَمَّا لَمْ يُعَذَّبْ بِالْعَجَلَةِ، صَارَتْ لَهُ اسْتِرَاحَةً، ثُمَّ جَاءَ تَصْلِيَةَ الْجَحِيمِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي عَذَابِهِ، إِذْ جَاءَهُ ذَلِكَ وَقَدْ سَكَنَتْ نَفْسُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ جَاءَ سَلْكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِهِ مَغْلُولًا مُعَذَّبًا فِي النَّارِ، لَكِنَّهُ كَانَ لَهُ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَيَجِدُ بِذَلِكَ بَعْضَ تَنَفُّسٍ.

فَلَمَّا سُلِكَ فِي السِّلْسِلَةِ كَانَ ذَلِكَ أَشُدَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ، حَيْثُ صَارَ لَا حِرَاكَ لَهُ وَلَا انْتِقَالَ، وَأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَيْهِ غَايَةً، فَهَذَا يَصِحُّ فِيهِ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ عَلَى مَوْضُوعِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ الزَّمَانِيَّةِ.

إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ: بَدَأَ بِأَقْوَى أَسْبَابِ تَعْذِيبِهِ وَهُوَ كفره بالله، وإنه تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنِفٌ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ يُعَذَّبُ هَذَا الْعَذَابَ الْبَلِيغَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ، وَعَطْفُ وَلا يَحُضُ

(1) سورة الزمر: 39/ 21.

ص: 262

عَلَى لَا يُؤْمِنُ دَاخِلٌ فِي الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ مَنْ لَا يَحُضُّ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، إِذْ جُعِلَ قَرِينَ الْكُفْرِ، وَهَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْحَضِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ الْإِطْعَامِ؟ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى إِطْعَامِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَأَضَافَ الطَّعَامَ إِلَى الْمِسْكِينِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ، إِذْ يَسْتَحِقُّ الْمِسْكِينُ حَقًّا فِي مَالِ الْغَنِيِّ الْمُوسِرِ وَلَوْ بِأَدْنَى يَسَارٍ وَلِلْعَرَبِ فِي مَكَارِمِهِمْ وَإِيثَارِهِمْ آثَارٌ عَجِيبَةٌ غَرِيبَةٌ بِحَيْثُ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِيهِمْ:

عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ

وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ

وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَحُضُّ امْرَأَتَهُ عَلَى تَكْثِيرِ الرِّزْقِ لِأَجْلِ الْمَسَاكِينِ وَيَقُولُ: خَلَعْنَا نِصْفَ السِّلْسِلَةِ بِالْإِيمَانِ، أَفَلَا نَخْلَعُ نِصْفَهَا الْآخَرَ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَنْعُ الْكُفَّارِ. وَقَوْلُهُمْ:

أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «1» ، يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا نُفِيَ الْحَضُّ انْتَفَى الْإِطْعَامُ بِجِهَةِ الْأَوْلَى، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ «2» . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ: أَيْ صَدِيقٌ مُلَاطِفٌ وَادٌّ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «3» .

وَقِيلَ: قَرِيبٌ يَدْفَعُ عَنْهُ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ وَالزَّقُّومُ أَخْبَثُ شَيْءٍ وَأَبْشَعَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ يَجْرِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي الْغَاشِيَةِ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ «4» ، فَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ. قِيلَ:

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ، وَأَخْبَرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ طَائِفَةٍ غَيْرِ الطَّائِفَةِ التي الآخر طعامها، وله خَبَرُ لَيْسَ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا، وَلَمْ يُبَيِّنُ مَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ.

وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ لَيْسَ هَاهُنَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ ثَمَّ طَعَامًا غَيْرَهُ، وهاهنا مُتَعَلِّقٌ بِمَا فِي لَهُ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ مِنَ الطَّعَامِ، وَكَانَ الْأَكْلُ غَيْرَ أَكْلٍ آخَرَ، صَحَّ الْحَصْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْأَكْلَيْنِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الضَّرِيعُ هُوَ الْغِسْلِينُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، فَلَا تَنَاقُضَ، إذا الْمَحْصُورُ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَعَلْنَا الْخَبَرَ هَاهُنَا، كَانَ لَهُ وَالْيَوْمَ مُتَعَلِّقَيْنِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي هَاهُنَا، وَهُوَ عَامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ لَفْظِيًّا جَازَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «5» ، فَلَهُ متعلق بكفوا وهو خبر ليكن.

(1) سورة يس: 36/ 47.

(2)

سورة المدثر: 74/ 44.

(3)

سورة الزخرف: 43/ 67.

(4)

سورة الغاشية: 88/ 6.

(5)

سورة الإخلاص: 112/ 4.

ص: 263

وقرأ الجمهور: الْخاطِؤُنَ بِالْهَمْزِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خطىء، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ضِدَّ الصَّوَابِ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ، وَالْمُخْطِئُ الَّذِي يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْعَتَكِيُّ وَطَلْحَةُ فِي نَقْلٍ: بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ وَنَافِعٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِضَمِّ الطَّاءِ دُونَ هَمْزٍ، فَالظَّاهِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خطىء كَقِرَاءَةِ مَنْ هَمَزَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: الَّذِينَ يَتَخَطَّوْنَ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ.

انْتَهَى. فَيَكُونُ اسْمَ فَاعِلٍ مَنْ خَطَا يَخْطُو، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ «1» ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ «2» خَطَا إِلَى الْمَعَاصِي.

قَوْلُهُ عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ، وَما لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.

تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا قَبْلَ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «3» ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ: لَأُقْسِمُ بِجَعْلِهَا لَا مَا دَخَلَتْ عَلَى أَقُسِمَ. وَقِيلَ: لَا هُنَا نَفْيٌ لِلْقَسَمِ، أَيْ لَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى قَسَمٍ لِوُضُوحِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَجَوَابُهُ جَوَابُ الْقَسَمِ. قَالَ مُقَاتِلٌ:

سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا سَاحِرٌ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: شَاعِرٌ، وَقَالَ: كَاهِنٌ. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا تُبْصِرُونَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ مِنْ أَسْرَارِ الْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: وَما لَا تُبْصِرُونَ: الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: الْأَجْسَادُ وَالْأَرْوَاحُ. إِنَّهُ: أَيْ إِنَّ الْقُرْآنَ، لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ: هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وَمَا بَعْدَهُ، وَنَسَبَ الْقَوْلَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ مُبَلِّغُهُ وَالْعَامِلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام، إِذْ هُوَ الرَّسُولُ عَنِ اللَّهِ.

وَنَفَى تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ لِمُبَايَنَتِهِ لِضُرُوبِ الشِّعْرِ وَلَا قَوْلَ كَاهِنٍ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِسَبَبِ الشَّيَاطِينِ. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَوْ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ

(1) سورة البقرة: 2/ 208، وسورة الأنعام: 6/ 142.

(2)

سورة النور: 24/ 21.

(3)

سورة الواقعة: 56/ 75. [.....]

ص: 264

تُؤْمِنُونَ إِيمَانًا قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا. وَكَذَا التَّقْدِيرُ فِي: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، وَالْقِلَّةُ هُوَ إِقْرَارُهُمْ إِذَا سُئِلُوا مَنْ خَلَقَهُمْ قَالُوا اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنُصِبَ قَلِيلًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ، وَمَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً فَيَنْتَفِي إِيمَانُهُمُ الْبَتَّةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مصدرية، وَالْمُتَّصِفُ بِالْقِلَّةِ هُوَ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَدَّقُوا بِأَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، إِذْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالصِّلَةَ وَالْعَفَافَ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ حَقٌّ صَوَابٌ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنُصِبَ قَلِيلًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الدَّالَّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً أَوْ مَصْدَرِيَّةً، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً، فَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ الْمَنْفِيُّ بِمَا يَكُونُ مَنْفِيًّا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا تُؤْمِنُونَ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَالْفِعْلُ الْمَنْفِيُّ بِمَا لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ وَلَا حَذْفَ مَا لَا يَجُوزُ زَيْدًا مَا أَضْرَبَهُ، عَلَى تَقْدِيرِ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا مَا أَضْرَبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً كَانَتْ مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الفاعلية بقليلا، أَيْ قَلِيلًا إِيمَانُكُمْ، وَيَبْقَى قَلِيلًا لَا يَتَقَدَّمُهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَ وَلَا نَاصِبَ لَهُ وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً لَا خَبَرَ لَهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ لَا مَرْفُوعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْقِلَّةُ فِي مَعْنَى الْعَدَمِ، أَيْ لَا تُؤْمِنُونَ وَلَا تَذَكَّرُونَ الْبَتَّةَ، وَالْمَعْنَى: مَا أَكْفَرَكُمْ وَمَا أَغْفَلَكُمْ. انْتَهَى. وَلَا يُرَادُ بقليلا هُنَا النَّفْيُ الْمَحْضُ، كَمَا زَعَمَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَقَلَّ نَحْوُ: أَقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زِيدٌ، وَفِي قَلَّ نَحْوُ: قَلَّ رجل يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي قَلِيلٍ وَقَلِيلَةٍ إِذَا كَانَا مَرْفُوعَيْنِ، نَحْوُ مَا جَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ:

قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بغاتها أَمَّا إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا نَحْوُ: قَلِيلًا ضَرَبْتُ، أَوْ قَلِيلًا مَا ضَرَبْتُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فإن ذلك لا يجوز، لِأَنَّهُ فِي: قَلِيلًا ضَرَبْتُ منصوب بضربت، وَلَمْ تَسْتَعْمِلِ الْعَرَبُ قَلِيلًا إِذَا انْتَصَبَ بِالْفِعْلِ نَفْيًا، بَلْ مُقَابِلًا لِكَثِيرٍ. وَأَمَّا فِي قَلِيلًا مَا ضَرَبْتُ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَتَحْتَاجُ إِلَى رَفْعِ قَلِيلٍ، لِأَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُمَا والجحدري وَالْحَسَنُ: يُؤْمِنُونَ، يَذَّكَّرُونَ: بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وأبيّ: بِيَاءَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

تَنْزِيلٌ بِالرَّفْعِ وَأَبُو السَّمَّالِ: تَنْزِيلًا بِالنَّصْبِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ، وَالتَّقَوُّلُ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ عَنْ آخَرَ إِنَّهُ قال شيئا لو يَقُلْهُ. وَقَرَأَ ذَكْوَانُ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ مُضَارِعُ قَالَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُعْتَرَضَةٌ بِمَا صَرَّحَتْ بِهِ

ص: 265

قراءة الجمهور. وقرىء: وَلَوْ تُقُوِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ وَقَامَ الْمَفْعُولُ مَقَامَهُ، وَهُوَ بَعْضَ، إِنْ كان قرىء مرفوعا وإن كان قرىء مَنْصُوبًا بِعَلَيْنَا قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا مُتَقَوِّلٌ. وَلَا يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي تَقُولُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ فِي حَقِّهِ عليه الصلاة والسلام. وَالْأَقَاوِيلُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَهُوَ أَقْوَالٌ كبيت وأبيات وأبابيت. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَسَمَّى الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ أَقَاوِيلَ تَصْغِيرًا لَهَا وَتَحْقِيرًا، كَقَوْلِكَ: الْأَعَاجِيبُ وَالْأَضَاحِيكُ، كَأَنَّهَا جَمْعُ أُفْعُولَةٍ مِنَ الْقَوْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْيَمِينِ الْمُرَادُ بِهِ الْجَارِحَةُ. فَقَالَ الْحَسَنُ:

الْمَعْنَى قَطَعْنَاهُ عِبْرَةً وَنَكَالًا، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: الْأَخْذُ عَلَى ظَاهِرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَيْنَا شَيْئًا لَمْ نَقُلْهُ لَقَتَلْنَاهُ صَبْرًا، كَمَا تَفْعَلُ الْمُلُوكُ بِمَنْ يَتَكَذَّبُ عَلَيْهِمْ مُعَاجَلَةً بِالسَّخَطِ وَالِانْتِقَامِ، فَصَوَّرَ قَتْلَ الصَّبْرِ بِصُورَتِهِ لِيَكُونَ أَهْوَلَ، وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ بِيَدِهِ وَتُضْرَبَ رَقَبَتُهُ، وَخُصَّ الْيَمِينُ عَلَى الْيَسَارِ لِأَنَّ الْقَتَّالَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَ الضَّرْبَ فِي قَفَاهُ أَخَذَ بِيُسَارُهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَهُ فِي جِيدِهِ وَأَنْ يُلْحِفَهُ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى الْمَصْبُورِ لِنَظَرِهِ إِلَى السَّيْفِ، أُخِذَ بِيَمِينِهِ.

وَمَعْنَى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ: لَأَخَذْنَا بِيَمِينِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ: لَقَطَعْنَا وَتِينَهُ. انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ حَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِتَكْثِيرِ أَلْفَاظِهِ وَمَصَاغِهَا قَالُوا: الْمَعْنَى لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ الَّتِي هِيَ الْيَمِينُ عَلَى جِهَةِ الْإِذْلَالِ وَالصَّغَارِ، كَمَا يَقُولُ السُّلْطَانُ إِذَا أَرَادَ عُقُوبَةَ رَجُلٍ: يَا غُلَامُ خُذْ بِيَدِهِ وَافْعَلْ كَذَا، قَالَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ الطَّبَرِيُّ.

وَقِيلَ: الْيَمِينُ هُنَا مَجَازٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْيَمِينِ: بِالْقُوَّةِ، مَعْنَاهُ لَنِلْنَا مِنْهُ عِقَابَهُ بِقُوَّةٍ مِنَّا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْقُدْرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَاقَبْنَاهُ بِالْحَقِّ وَمَنْ عَلَى هَذَا صِلَةٌ. وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ:

لَقَبَضْنَا بِيَمِينِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَقِيلَ: لَنَزَعْنَا مِنْهُ قُوَّتَهُ. وَقِيلَ: لَأَذْلَلْنَاهُ وَأَعْجَزْنَاهُ.

ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَبْلُ الْقَلْبِ الَّذِي فِي الظَّهْرِ وَهُوَ النُّخَاعُ. وَالْمَوْتُونُ الَّذِي قُطِعَ وَتِينُهُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا لَأَذْهَبْنَا حَيَاتَهُ مُعَجَّلًا، وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِي تَقَوَّلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَتْلِ، أَيْ لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَحْجِزَهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَدْفَعَهُ عَنْهُ، وَالْخِطَابُ فِي مِنْكُمْ لِلنَّاسِ، وَالظَّاهِرُ فِي حاجِزِينَ أَنْ يَكُونَ خبرا لما عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، لِأَنَّ حَاجِزِينَ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ، وَيَكُونُ مِنْكُمْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً لِأَحَدٍ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا، وَفِي جَوَازِ هَذَا نَظَرٌ. أَوْ يَكُونُ لِلْبَيَانِ، أَوْ تَتَعَلَّقُ بِحَاجِزِينَ، كَمَا تَقُولُ: مَا فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبًا، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا

ص: 266

الْفَصْلُ مِنَ انْتِصَابِ خَبَرِ مَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: حَاجِزِينَ نَعْتٌ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَجُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ يَقَعُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعَ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمِنْهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» ، وَقَوْلُهُ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ «2» ، مَثَّلَ بِهِمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَيْنِكَ فِي مَوْضِعَيْهِمَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ سُودِ الرُّؤُوسِ قَبْلَكُمْ» .

وَإِذَا كَانَ حَاجِزِينَ نعتا فمن أَحَدٍ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مِنْكُمْ، وَيَضْعُفُ هَذَا الْقَوْلُ، لِأَنَّ النَّفْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ كَيْنُونَتُهُ مِنْكُمْ، فَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْحَجْزِ. وَإِذَا كَانَ حَاجِزِينَ خَبَرًا. تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَيْهِ وَصَارَ الْمَعْنَى: مَا أَحَدٌ مِنْكُمْ يَحْجِزُهُ عَنْ مَا يُرِيدُ بِهِ مِنَ ذَلِكَ.

وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ: أَيْ وَإِنَّ الْقُرْآنَ أَوِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ:

وَعِيدٌ، أَيْ مُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ: أَيِ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ كَفَرُوا بِهِ، وَيَرَوْنَ مَنْ آمَنَ بِهِ يُنَعَّمُ وَهُمْ مُعَذَّبُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ لَحَسْرَةٌ عَلَيْهِمْ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: مُكَذِّبِينَ، كَقَوْلِهِ:

إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ أَيْ لِلسَّفَهِ. وَإِنَّهُ: أَيْ وَإِنَّ الْقُرْآنَ، لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ:

وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى إِضَافَةِ حَقٍّ إِلَى الْيَقِينِ فِي آخر الواقعة.

(1) سورة البقرة: 2/ 285.

(2)

سورة الأحزاب: 33/ 32.

ص: 267