المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ١٠

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة النجم

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 62]

- ‌سورة القمر

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 55]

- ‌سورة الرّحمن

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 78]

- ‌سورة الواقعة

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 96]

- ‌سورة الحديد

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة المجادلة

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الحشر

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24]

- ‌سورة الممتحنة

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13]

- ‌سورة الصّفّ

- ‌[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14]

- ‌سورة الجمعة

- ‌[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة المنافقون

- ‌[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التغابن

- ‌[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 18]

- ‌سورة الطّلاق

- ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة التّحريم

- ‌[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة الملك

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة القلم

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة الحاقّة

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة المعارج

- ‌[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 44]

- ‌سورة نوح

- ‌[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة الجن

- ‌[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة المزّمّل

- ‌[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة المدّثر

- ‌[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56]

- ‌سورة القيمة

- ‌[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة الإنسان

- ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31]

- ‌سورة المرسلات

- ‌[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]

- ‌سورة النّبإ

- ‌[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة النّازعات

- ‌[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46]

- ‌سورة عبس

- ‌[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42]

- ‌سورة التّكوير

- ‌[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة الانفطار

- ‌[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة المطفّفين

- ‌[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36]

- ‌سورة الانشقاق

- ‌[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]

- ‌سورة البروج

- ‌[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الطّارق

- ‌[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]

- ‌سورة الأعلى

- ‌[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة الغاشية

- ‌[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]

- ‌سورة الفجر

- ‌[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة البلد

- ‌[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة الشمس

- ‌[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]

- ‌سورة الليل

- ‌[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]

- ‌سورة الضّحى

- ‌[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة الشرح

- ‌[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة التّين

- ‌[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العلق

- ‌[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة القدر

- ‌[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة البيّنة

- ‌[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العاديات

- ‌[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة القارعة

- ‌[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التّكاثر

- ‌[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العصر

- ‌[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الهمزة

- ‌[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]

- ‌سورة الفيل

- ‌[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة قريش

- ‌[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الماعون

- ‌[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة الكوثر

- ‌[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الكافرون

- ‌[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]

- ‌سورة النّصر

- ‌[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة المسد

- ‌[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة الإخلاص

- ‌[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الفلق

- ‌[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة النّاس

- ‌[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]

الفصل: ‌[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]

‌سورة النّبإ

[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]

بسم الله الرحمن الرحيم

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ (4)

ثُمَّ كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14)

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)

وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)

إِلَاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)

فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)

لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)

إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

ص: 381

السُّبَاتُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: السُّبَاتُ أَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْمَدُّ، فَالنَّوْمُ قَطْعُ الْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ، وَمِنَ الْمَدِّ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَإِنْ سَبَّتَتْهُ مَالَ حَبْلًا كَأَنَّهُ

سَدَى وَامِلَاتٍ مِنْ نَوَاسِجِ خَثْعَمَا

أَيْ: إِنْ مَدَّتْ شَعْرَهَا مَالَ وَالْتَفَّ كَالْتِفَافِ السَّدَى بِأَيْدِي نِسَاءٍ نَاسِجَاتٍ. الْوَهَّاجُ: الْمُتَوَقِّدُ الْمُتَلَأْلِئُ. الْمُعْصِرُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: السَّحَابُ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَطَرَ، وَلَمَّا يَجْتَمِعْ مِثْلَ الْجَارِيَةِ الْمُعْصِرِ، قَدْ كَادَتْ تَحِيضُ وَلَمَّا تَحِضْ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ الْعِجْلِيُّ:

تَمْشِي الْهُوَيْنَا مَائِلًا خِمَارُهَا

قَدْ أَعْصَرَتْ أَوْ قَدْ دَنَا إِعْصَارُهَا

الثَّجُّ، قَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُهُ شِدَّةُ الِانْصِبَابِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَطَرٌ ثَجَّاجٌ: شَدِيدُ الِانْصِبَابِ، ثَجَّ الْمَاءَ وَثَجَجْتُهُ ثَجًّا وَثُجُوجًا: يَكُونُ لَازِمًا بِمَعْنَى الِانْصِبَابِ وَوَاقِعًا بِمَعْنَى الصَّبِّ. قَالَ الشَّاعِرُ فِي وَصْفِ الْغَيْثِ:

إِذَا رَمَقَتْ فِيهَا رَحًى مرجحنه

تنعج ثجاجا عزير الْحَوَافِلِ

أَلْفَافًا جَمْعُ لَفٍّ، ثُمَّ جُمِعَ لَفٌّ عَلَى أَلْفَافٍ. الْكَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ: وَهِيَ الَّتِي بَرَزَ نَهْدُهَا، وَمِنْهُ كَعْبُ الرَّجُلِ لِبُرُوزِهِ، وَمِنْهُ الْكَعْبَةُ. قَالَ عَاصِمُ بْنُ قَيْسٍ الْمِنْقَرِيُّ:

وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ

وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا الْبُؤْسُ مُعْصِرِ

الدِّهَاقُ: الْمَلْأَى، مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّهْقِ، وَهُوَ ضَغْطُ الشَّيْءِ وَشَدُّهُ بِالْيَدِ كَأَنَّهُ لِامْتِلَائِهِ انْضَغَطَ.

وَقِيلَ: الدِّهَاقُ: الْمُتَتَابِعَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا

فَأَتْرَعْنَا لَهُ كَأْسًا دِهَاقَا

وَقَالَ آخَرُ:

لَأَنْتَ إِلَى الْفُؤَادِ أَحَبُّ قُرْبًا

مِنَ الصَّادِي إِلَى كَأْسٍ دِهَاقِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً، وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً.

ص: 382

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بُعِثَ، جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ: مَا الَّذِي أَتَى بِهِ؟ وَيَتَجَادَلُونَ فِيمَا بُعِثَ بِهِ، فَنَزَلَتْ.

وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ. لَمَّا ذَكَرَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «1» ، أَيْ بَعْدَ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ فِيهِ وَيُسَائِلُونَ عَنْهُ، قَالَ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَّ وعبد الله وأبيّ وَعِكْرِمَةُ وَعِيسَى: عَمَّا بِالْأَلِفِ، وَهُوَ أَصْلُ عَمَّ، وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ الْأَلِفِ مِنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ وَأُضِيفَ إِلَيْهَا. وَمِنْ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ قَوْلِهِ:

عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ

كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ

وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: عَمَّهْ بِهَاءِ السَّكْتِ، أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ هُوَ بِإِلْحَاقِ هَاءِ السكت، إلا إذا أضيفت إِلَيْهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ، نَحْوَ: بِحَيِّ مَهْ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ هَذَا فِيهِ تَفْخِيمٌ وَتَهْوِيلٌ وَتَقْرِيرٌ وَتَعْجِيبٌ، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ زَيْدٌ؟ وَزَيْدٌ مَا زَيْدٌ، كَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَدِيمَ النَّظِيرِ أَوْ قَلِيلَهُ خَفِيَ عَلَيْكَ جِنْسُهُ فَأَخَذْتَ تَسْتَفْهِمُ عَنْهُ. ثُمَّ جَرَّدَ الْعِبَارَةَ عَنْ تَفْخِيمِ الشَّيْءِ، فَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَتَساءَلُونَ لِأَهْلِ مَكَّةَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ، فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ تَصْدِيقَ الْمُؤْمِنِ وَتَكْذِيبَ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: الْمُتَسَاءَلُ فِيهِ الْبَعْثُ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَمَّ مُتَعَلِّقٌ بيتساءلون. وَمَنْ قَرَأَ عَمَّهْ بِالْهَاءِ فِي الْوَصْلِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَكُونُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَعَنِ النَّبَأِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَقَفَ عَلَى عمه، ثم ابتدأ بيتسألون عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنْ يُضْمِرَ لِعَمَّهْ يَتَسَاءَلُونَ، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ، كَشَيْءٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ يُفَسَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ قَوْلُهُ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ مُتَعَلِّقٌ بيتساءلون، الظَّاهِرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ يتساءلون عن النبإ العظيم؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَلَامَ تَامٌّ فِي قَوْلِهِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ، ثُمَّ كَانَ مُقْتَضَى الْقَوْلِ أَنْ يُجِيبَ مُجِيبٌ فَيَقُولُ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ، فَاقْتَضَى إِيجَازُ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتُهُ أَنْ يُبَادِرَ الْمُحْتَجُّ بِالْجَوَابِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَالْمُجَاوَرَةُ اقْتِضَاءً بِالْحُجَّةِ وَإِسْرَاعًا إِلَى مَوْضِعِ قَطْعِهِمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جبير: يسألون بِغَيْرِ تَاءٍ وَشَدِّ السِّينَ، وَأَصْلُهُ يَتَسَاءَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَأَدْغَمَ التَّاءَ الثَّانِيَةَ فِي السِّينِ. كَلَّا: رَدْعٌ لِلْمُتَسَائِلِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهِمَا. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْأَوَّلُ

(1) سورة المرسلات: 77/ 50. [.....]

ص: 383

بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالثَّانِي بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَهَذَا التَّكْرَارُ تَوْكِيدٌ فِي الْوَعِيدِ وَحَذْفُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْوِيلِ، أَيْ سَيَعْلَمُونَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ.

ثُمَّ قَرَّرَهُمْ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ وَغَرَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ، وَأَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، فَبَدَأَ بِمَا هُمْ دَائِمًا يُبَاشِرُونَهُ، وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ الْمُوَطَّأُ. وَقَرَأَ الجمهور: مِهاداً ومجاهد وَعِيسَى وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: مَهْدًا، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَلَمْ يَنْسُبِ ابْنُ عَطِيَّةَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: مَهْدًا على التوحيد، مجاهدا وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ وَهُوَ الْحَوْفِيُّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ كِنَايَةً عَنْ عِيسَى الْهَمْدَانِيِّ. وَإِذَا أَطْلَقُوا عِيسَى، أَوْ قَالُوا عِيسَى الْبَصْرَةِ، فَهُوَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمِهَادِ فِي الْبَقَرَةِ فِي أَوَّلِ حِزْبِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ «1» . وَالْجِبالَ أَوْتاداً: أَيْ ثَبَّتْنَا الْأَرْضَ بِالْجِبَالِ، كَمَا ثُبِّتُ الْبَيْتَ بِالْأَوْتَادِ. قَالَ الْأَفْوَهُ:

وَالْبَيْتُ لَا يَنْبَنِي إِلَّا لَهُ عُمُدٍ

وَلَا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ

أَزْواجاً: أَيْ أَنْوَاعًا مِنَ اللَّوْنِ وَالصُّورَةِ وَاللِّسَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: مُزْدَوِجِينَ، ذَكَرًا وَأُنْثَى. سُباتاً: سُكُونًا وَرَاحَةً. سَبَتَ الرَّجُلُ: اسْتَرَاحَ وَتَرَكَ الشُّغْلَ، وَالسُّبَاتُ عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ يُفْرَطُ عَلَى الْإِنْسَانِ السُّكُوتُ حَتَّى يَصِيرَ قَاتِلًا، وَالنَّوْمُ شَبِيهٌ بِهِ إِلَّا فِي الضَّرَرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّائِمُ مَسْبُوتٌ لَا يَعْقِلُ، كَأَنَّهُ مَيِّتٌ. لِباساً: أَيْ يَسْتَتِرُونَ بِهِ عَنِ الْعُيُونِ فِيمَا لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ. وَجَعَلْنَا النَّهارَ: قَابَلَ النَّوْمَ بِالنَّهَارِ، إِذْ فِيهِ الْيَقَظَةُ. مَعاشاً:

وَقْتَ عَيْشٍ، وَهُوَ الْحَيَاةُ تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ فِي حوائجكم. سَبْعاً: أي سموات، شِداداً:

مُحْكَمَةَ الْخَلْقِ قَوِيَّةً لَا تَتَأَثَّرُ بِمُرُورِ الْإِعْصَارِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَمَّا جِئْتُهُ أَعْلَى مَحَلِّي

وَأَجْلَسَنِي عَلَى السَّبْعِ الشِّدَادِ

سِراجاً: هُوَ الشَّمْسُ، وَهَّاجاً: حَارًّا مُضْطَرِمَ الِاتِّقَادِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو. الشمس فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، إِلَيْنَا ظَهْرُهَا، وَلَهِيبُهَا يَضْطَرِمُ عُلُوًّا. مِنَ الْمُعْصِراتِ، قَالَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أسلم وقتادة ومقاتل: هي السموات.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ: السَّحَابُ الْقَاطِرَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَصْرِ، لأن

(1) سورة البقرة: 2/ 203.

ص: 384

السَّحَابَ يَنْعَصِرُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ. وَقِيلَ: السَّحَابُ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ وَلَمْ تُمْطِرْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ تُغِيثُ، فَهِيَ مِنَ الْعَصْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «1» . وَالْعَاصِرُ: الْمُغِيثُ، فَهُوَ ثُلَاثِيٌّ وَجَاءَ هُنَا مِنْ أَعْصَرَ: أَيْ دَخَلَتْ فِي حِينِ الْعَصْرِ، فَحَانَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ، وَأَفْعَلُ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا ومجاهد وقتادة: الرِّيَاحُ لِأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ، جَعَلَ الْإِنْزَالَ مِنْهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَخُوهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وعكرمة وقتادة: بِالْمُعْصِرَاتِ، بِالْبَاءِ بَدَلَ مِنْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ أَرَادَ الرِّيَاحَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يُرَادَ بِالرِّيَاحِ الَّتِي حَانَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ السَّحَابَ، وَأَنْ يُرَادَ السَّحَابُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِنْزَالُ مِنْهَا فَهُوَ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَعْطَى مِنْ يَدِهِ دِرْهَمًا، وَأَعْطَى بِيَدِهِ دِرْهَمًا. ثَجَّاجاً: مُنْصَبًّا بِكَثْرَةٍ، وَمِنْهُ أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ: أَيْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَصَبُّ دِمَاءِ الْهَدْيِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ:

ثَجَّاحًا بِالْحَاءِ: آخِرًا، وَمَسَاجِحُ الْمَاءِ: مَصَابُّهُ، وَالْمَاءُ يَنْثَجِحُ فِي الْوَادِي. حَبًّا وَنَباتاً:

بَدَأَ بِالْحَبِّ لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَقَوَّتُ بِهِ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَثَنَّى بِالنَّبَاتِ فَشَمِلَ كُلَّ مَا يَنْبُتُ مِنْ شَجَرٍ وَحَشِيشٍ وَدَخَلَ فِيهِ الْحَبُّ. أَلْفافاً: مُلْتَفَّةً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا وَاحِدَ لَهُ، كَالْأَوْزَاعِ وَالْأَخْيَافِ. وَقِيلَ: الْوَاحِدُ لف: قال صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ: أَنْشَدَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ:

جَنَّةٌ لَفٌّ وَعَيْشٌ مُغْدِقُ

وَنَدَامَى كُلُّهُمْ بِيضٌ زُهْرُ

وَلَوْ قِيلَ: هُوَ جَمْعُ مُلْتَفَّةٍ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّوَائِدِ لَكَانَ قَوْلًا وَجِيهًا. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا إِلَى وَجَاهَتِهِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ مُفْرَدَهُ لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كانَ مِيقاتاً: أَيْ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ تُؤَقَّتُ بِهِ الدُّنْيَا وَتَنْتَهِي عِنْدَهُ أَوْ حَدًّا لِلْخَلَائِقِ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ.

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الصُّورِ. وَقَرَأَ أَبُو عِيَاضٍ: فِي الصُّورِ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ يَرُدُّ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ إِلَى الْأَبْدَانِ وَالْجُمْهُورُ: بِسُكُونِ الْوَاوِ. وفَتَأْتُونَ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ أُمَمًا، كُلُّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهَا. وَقِيلَ: جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةً. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَدِيثًا فِي كَيْفِيَّاتٍ قَبِيحَةٍ لِعَشَرَةِ أَصْنَافٍ يُخْلَقُونَ عَلَيْهَا، وَسَبَبُ خَلْقِهِ مَنْ خَلَقَ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ:

وَفُتِحَتِ: خُفَّ وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ، فَكانَتْ أَبْواباً تَنْشَقُّ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا فُتُوحٌ

(1) سورة يوسف: 12/ 49.

ص: 385

كالأبواب في الجدران. وَقِيلَ: يَنْقَطِعُ قِطَعًا صِغَارًا حَتَّى تَكُونَ كَالْأَلْوَاحِ، الْأَبْوَابُ الْمَعْهُودَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً: أَيْ كَثُرَتْ أَبْوَابُهَا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَبْوَابًا مُفَتَّحَةً، كَقَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1» ، كَأَنَّ كُلَّهَا عُيُونٌ تَنْفَجِرُ.

وَقِيلَ: الْأَبْوَابُ: الطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ، أَيْ تُكْشَطُ فَيَنْفَتِحُ مَكَانُهَا وَتَصِيرُ طُرُقًا لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ.

فَكانَتْ سَراباً: أَيْ تَصِيرُ شَيْئًا كَلَا شَيْءٍ لتفرق أجزائها وانبثات جَوَاهِرِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عِبَارَةٌ عَنْ تَلَاشِيهَا وَفَنَائِهَا بَعْدَ كَوْنِهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ الْجِبَالَ تُشْبِهُ الْمَاءَ عَلَى بُعْدٍ مِنَ النَّاظِرِ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتُ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ عز وجل: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً، لِلطَّاغِينَ مَآباً، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً، لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً، إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً، إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، حَدائِقَ وَأَعْناباً، وَكَواعِبَ أَتْراباً، وَكَأْساً دِهاقاً، لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً، جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً، ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً، إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.

مِرْصاداً: مِفْعَالٌ مِنَ الرَّصْدِ، تَرْصُدُ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:

مَجْلِسًا لِلْأَعْدَاءِ وَمَمَرًّا لِلْأَوْلِيَاءِ، وَمِفْعَالٌ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِغَيْرِ تَاءٍ وَفِيهِ مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ رَصَدٍ، وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ فِيهِ التَّكْثِيرُ وَاللُّزُومُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمِرْصَادُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ الْعَدُوُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا أَنَّ عَلَى النَّارِ الْمِرْصَادَ. فَمَنْ جَاءَ بِجَوَازٍ جَازَ، وَمَنْ لم يجىء بِجَوَازٍ احْتُبِسَ. وَقَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَالْمِنْقَرِيُّ وَابْنُ يَعْمَرَ: أن جهنم، يفتح الْهَمْزَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا مَآباً: مَرْجِعًا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَقُتَيْبَةُ وَسَوْرَةُ وَرَوْحٌ: لَبِثِينَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ وَالْجُمْهُورُ: بِأَلِفٍ بَعْدَهَا، وَفَاعِلٌ يَدُلُّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ، وَفَعِلٌ عَلَى مَنْ شَأْنُهُ ذَلِكَ، كَحَاذِرٍ وَحَذِرٍ. أَحْقاباً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكَهْفِ عِنْدَ: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً «2» ، وَالْمَعْنَى هُنَا: حُقُبًا بَعْدَ حُقُبٍ، كُلَّمَا

(1) سورة القمر: 54/ 12.

(2)

سورة الكهف: 18/ 60.

ص: 386

مَضَى تَبِعَهُ آخَرُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْحُقُبُ إِلَّا حَيْثُ يُرَادُ تَتَابُعُ الْأَزْمِنَةِ، كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:

لَقَدْ أَخَذَتْ مِنْ دَارِ مَاوِيَّةَ الْحُقُبُ

أنحل المغاني لليلى أَمْ هِيَ نَهْبُ

وَيَجُوزُ أن يتعلق للطاغين بمرصادا، ويجوز أن يتعلق بمآبا. ولبثين حال من الطاغين، وأحقابا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَقِبَ عَامُنَا إِذَا قَلَّ مَطَرُهُ وَخَيْرُهُ، وَحَقِبَ إِذَا أَخْطَأَ الرِّزْقَ فَهُوَ حَقِبٌ، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ، فَيَنْتَصِبُ حَالًا عنهم، يعني لبثين فِيهَا حَقِبِينَ جَحِدِينَ. وَقَوْلُهُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً تَفْسِيرٌ لَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، يَعْنِي: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَرَوْحًا يُنَفِّسُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ، ولا شراب يُسَكِّنُ مِنْ عَطَشِهِمْ، وَلَكِنْ يَذُوقُونَ فِيهَا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ هَذَا الْوَجْهِ مَا نَصُّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا غَيْرَ ذَائِقِينَ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، ثُمَّ يُبَدَّلُونَ بَعْدَ الْأَحْقَابِ غَيْرَ الْحَمِيمِ، وَالْغَسَّاقِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا الْمَعْنَى لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا غَيْرَ ذَائِقِينَ بَرْدًا ولا شرابا، فهذه الْحَالِ يَلْبَثُونَ أَحْقَابًا، ثُمَّ يَبْقَى الْعَذَابُ سَرْمَدًا وَهُمْ يَشْرَبُونَ أَشْرِبَةَ جَهَنَّمَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَذُوقُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَلَيْسَ في موضع الحال، وإِلَّا حَمِيماً اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا شَراباً، وَأَنَّ أَحْقاباً مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، لَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْهُورَةً. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِاللَّبْثِ أَحْقَابًا هُمْ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَاخِرُ الْآيِ يَدْفَعُهُ وَقَوْلُ مُقَاتِلٍ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً، فَاسِدٌ. وَالظَّاهِرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَنَّ الْبَرْدَ هُوَ مَسُّ الْهَوَاءِ الْقُرِّ، أَيْ لَا يَمَسُّهُمْ مِنْهُ مَا يُسْتَلَذُّ وَيَكْسِرُ شِدَّةَ الْحَرِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ وَمُعَاذٌ النَّحْوِيُّ: الْبَرْدُ هُنَا النَّوْمُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبَرِّدُ سَوْرَةَ الْعَطَشِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَنَعَ الْبَرْدُ الْبَرْدَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَوْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ

وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا

النُّقَاخُ: الْمَاءُ، وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ. وَفِي كِتَابِ اللُّغَاتِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْبَرْدَ هُوَ النَّوْمُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَالذَّوْقُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَجَازٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَرْدُ: الشَّرَابُ الْبَارِدُ الْمُسْتَلَذُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:

ص: 387

يسقون من ورد البريض عَلَيْهِمُ

بَرْدًا يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ

وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

أَمَانِيُّ مِنْ سُعْدَى حِسَانٌ كَأَنَّمَا

سَقَتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلَى ظَمَأٍ بَرْدَا

وَالذَّوْقُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَالنَّحْوِيُّونَ يُنْشِدُونَ عَلَى هَذَا بَيْتَ حَسَّانَ. بَرَدَى، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالدَّالِ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ: وَهُوَ نَهْرٌ فِي دِمَشْقَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ، وَخُلْفُ الْقُرَّاءِ فِي شِدَّةِ الشِّينِ وَخِفَّتِهَا. وِفاقاً: أَيْ لِأَعْمَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وُصِفَ الْجَزَاءُ بِالْمَصْدَرِ لِوَافَقَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا وِفَاقٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ وِفْقٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِخَفِّ الْفَاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّهَا مِنْ وَفَّقَهُ كَذَا.

لَا يَرْجُونَ: لَا يَخَافُونَ أَوْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَالرَّجَاءُ وَالْأَمَلُ مُفْتَرِقَانِ، وَالْمَعْنَى هُنَا:

لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحِسَابِ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَخَافُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً بِشَدِّ الذَّالِ مَصْدَرُ كَذَّبَ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يَمَانِيَّةٌ. يَقُولُونَ فِي مَصْدَرِ فَعَلَ فِعَالًا، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُ مَصْدَرَهُ عَلَى تَفْعِيلٍ، نَحْوَ تَكْذِيبٍ. وَمِنْ تِلْكَ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِي

وَعَنْ حَاجَةٍ قَضَاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا

وَمِنْ كَلَامِ أَحَدِهِمْ وَهُوَ يَسْتَفْتِي: الْحَلْقُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْقِصَارُ، يُرِيدُ التَّقْصِيرَ، يَعْنِي فِي الْحَجِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِعَالٌ فِي بَابِ فَعَلَ كُلِّهِ فَاشٍ فِي كَلَامِ فُصَحَاءَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَقُولُونَ غَيْرَهُ، وَسَمِعَنِي بَعْضُهُمْ أُفَسِّرُ آيَةً فَقَالَ: لَقَدْ فَسَّرْتَهَا فِسَارًا مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ.

وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى بِخِلَافٍ عَنْهُ بِخَفِّ الذَّالِ.

قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى، وَعِيسَى الْبَصْرَةِ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: كِذَابًا، كِلَاهُمَا بِالتَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ لُغَةُ الْيَمَنِ بِأَنْ يَجْعَلُوا مَصْدَرَ كَذِبَ مُخَفَّفًا، كِذَابًا بِالتَّخْفِيفِ مِثْلَ كَتَبَ كِتَابًا، فَصَارَ الْمَصْدَرُ هُنَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ دُونَ لَفْظِهِ، مِثْلَ أُعْطَيْتُهُ عَطَاءً. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَعْشَى:

فَصَدَقْتُهَا وَكَذَبْتُهَا

وَالْمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهُ

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» يَعْنِي: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَكَذَبُوا كِذَابًا، أَوْ تَنْصِبُهُ بِكَذَبُوا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى كَذَّبُوا، لِأَنَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ بِالْحَقِّ كَاذِبٌ وَإِنْ جَعَلْتَهُ بِمَعْنَى الْمُكَاذَبَةِ فَمَعْنَاهُ: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَكَاذَبُوا مُكَاذَبَةً، أَوْ كَذَّبُوا بِهَا مُكَاذِبِينَ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَاذِبِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ كَاذِبِينَ فَبَيْنَهُمْ مكاذبة، أو لأنهم

(1) سورة نوح: 71/ 17.

ص: 388

يَتَكَلَّمُونَ بِمَا هُوَ إِفْرَاطٌ فِي الْكَذِبِ، فِعْلَ مَنْ يُغَالِبُ فِي أَمْرٍ فَيَبْلُغُ فِيهِ أَقْصَى جُهْدِهِ. انْتَهَى.

وَالْأَظْهَرُ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ وَمَا سِوَاهُ تَكَلُّفٌ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَكِتَابِ اللَّوَامِحِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر بن عبد العزيز: وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ عمر بن عبد العزيز وَالْمَاجِشُونُ، ثُمَّ اتَّفَقُوا كُذَّابًا بِضَمِّ الْكَافِ وَشَدِّ الذَّالِ، فَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَاذِبٍ وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ تَكْذِيبًا كُذَّابًا مُفْرِطًا فِي التَّكْذِيبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلَّ شَيْءٍ بِالنَّصْبِ: وَأَبُو السَّمَّالِ: بِالرَّفْعِ، وَانْتَصَبَ كِتاباً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى أَحْصَيْناهُ أَيْ إِحْصَاءً، أَوْ يَكُونُ أَحْصَيْناهُ فِي مَعْنَى كَتَبْنَاهُ. وَالتَّجَوُّزُ إِمَّا فِي الْمَصْدَرِ وَإِمَّا فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ لِالْتِقَائِهِمَا فِي مَعْنَى الضَّبْطِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ وَفِي مُصْحَفِ الْحَفَظَةِ. وَكُلَّ شَيْءٍ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَهِيَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ مُعْتَرِضَةٌ، وَفَذُوقُوا مُسَبَّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِالْحِسَابِ، فَتَكْذِيبِهُمْ بِالْآيَاتِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو بُرْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَلَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، ذَكَرَ مَا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً:

أَيْ مَوْضِعَ فَوْزٍ وَظَفَرٍ، حَيْثُ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلُوا الجنة. وحَدائِقَ بَدَلٌ مِنْ مَفازاً وَفَوْزًا، فَيَكُونُ أَبْدَلَ الْجِرْمُ مِنَ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفٍ، أَيْ فَوْزَ حَدَائِقَ، أَيْ بِهَا.

دِهاقاً، قَالَ الْجُمْهُورُ: مُتْرَعَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: مُتَتَابِعَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا كِذَّاباً بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، كَاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً، مَصْدَرُ كَذَّبَ وَمَصْدَرُ كَاذَبَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

جَزاءً: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، كَأَنَّهُ قَالَ: جَازَى الْمُتَّقِينَ بِمَفَازٍ وَعَطَاءٍ نُصِبَ بِجَزَاءٍ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ جَزَاءَهُمْ عَطَاءً. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ لَا يَعْمَلُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حِساباً، وَهُوَ صِفَةٌ لِعَطَاءٍ، أَيْ كَافِيًا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ: أَيْ كَفَانِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى حِسَابًا هُنَا بِتَقْسِيطٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَوْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَالدَّرَجَاتُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ، فَالْحِسَابُ هُنَا بِمُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ قُطَيْبٍ: حَسَّابًا، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ السِّينِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: بَنَى فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ، كَدَرَّاكِ مِنْ أَدْرَكَ. انْتَهَى، فَمَعْنَاهُ مَحْسِبًا، أَيْ كَافِيًا. وَقَرَأَ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْصِيُّ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ:

ص: 389

بِكَسْرِ الْحَاءِ وَشَدِّ السِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ كِذَّابٍ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ، أَيْ إِعْطَاءً مُحَسَّبًا، أَيْ كَافِيًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَرَاحٌ: حَسَنًا بِالنُّونِ مِنَ الْحُسْنِ، وَحَكَى عَنْهُ الَمَهْدَوِيُّ حَسْبًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ وَالْبَاءِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: حَسْبُكَ كَذَا، أَيْ كَافِيكَ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ: رَبِّ وَالرَّحْمَنِ بِالْجَرِّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَرَمِيَّانِ بِرَفْعِهِمَا وَالْأَخَوَانِ: رَبِّ بالجر، والرحمن بِالرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا فِي الْجَرَّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ ربك، والرحمن صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ رَبِّ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهَلْ يَكُونُ بَدَلًا مِنْ رَبِّكَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ فَيَكُونُ كَالصِّفَاتِ، وَالرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ رَبُّ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ لَا يَمْلِكُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ لَا يُخَاطِبُ الْمُشْرِكُونَ اللَّهَ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ وَيَقْبَلُ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يُخَاطِبُوهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ عَدْلٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى أهل السموات وَالْأَرْضِ.

وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُخَاطِبُوهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّوَابِ. وَالْعِقَابِ خِطَابَ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، فَيَزِيدُونَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصُونَ مِنْهُ. وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ إِمَّا لَا يَمْلِكُونَ. وَإِمَّا لَا يَتَكَلَّمُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الرُّوحُ، أَهُوَ جِبْرِيلُ أَمْ مَلَكٌ أَكْبَرُ الْمَلَائِكَةِ خِلْقَةً؟ أَوْ خَلْقٌ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ، أَوْ خَلْقٌ حُفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، أَوِ الْقُرْآنُ وَقِيَامُهُ، مَجَازٌ يَعْنِي بِهِ ظُهُورَ آثَارِهِ الْكَائِنَةِ عَنْ تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى. وَنَطَقَ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّوَابُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ قَالَهَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

هُمَا شَرِيطَتَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ مَأْذُونًا لهم فِي الْكَلَامِ، وَأَنْ يَتَكَلَّمَ بِالصَّوَابِ فَلَا يَشْفَعُ لِغَيْرِ مُرْتَضًى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1» . انْتَهَى.

ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ: أَيْ كِيَانُهُ وَوُجُودُهُ، فَمَنْ شاءَ: وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَالْخِطَابُ في نْذَرْناكُمْ

لِمَنْ حَضَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَانْدَرَجَ فِيهِ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، ذاباً

: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ

: عَامٌّ فِي المؤمن والكافر.

قَدَّمَتْ يَداهُ

مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقاله قبله عطاء:

(1) سورة الأنبياء: 21/ 28.

ص: 390

الْمَرْءُ هُوَ الْكَافِرُ لِقَوْلِهِ: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً

، وَالْكَافِرُ ظَاهِرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لزيادة الذم. ومعنى اقَدَّمَتْ يَداهُ

مِنَ الشَّرِّ لِقَوْلِهِ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَرْءُ هُنَا الْمُؤْمِنُ، كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى مُقَابِلِهِ فِي قوله: يَقُولُ الْكافِرُ

. وقرأ الجمهور: ْمَرْءُ

بِفَتْحِ الْمِيمِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِضَمِّهَا وَضَعَّفَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُضَعَّفَ لِأَنَّهَا لُغَةٌ يُتْبِعُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ فَيَقُولُونَ: مُرْؤٌ وَمَرْأً وَمِرْءٍ عَلَى حَسَبِ الْإِعْرَابِ، وَمَا منصوب بينظر وَمَعْنَاهُ:

يَنْتَظِرُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَمَا مَوْصُولَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَنْظُرُ مِنَ النَّظَرِ، وَعُلِّقَ عَنِ الْجُمْلَةِ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ تَقَدَّمَتْ، وَتَمَنِّيهِ ذَلِكَ، أَيْ تُرَابًا فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُخْلَقْ أَوْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْضِرُ الْبَهَائِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقْتَصُّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقُولُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: كُونِي تُرَابًا، فَتَعُودُ جَمِيعُهَا تُرَابًا، فَإِذَا رَأَى الْكَافِرُ ذَلِكَ تَمَنَّى مِثْلَهُ. وَقِيلَ: الْكَافِرُ هَنَا إِبْلِيسُ، إِذَا رَأَى مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثواب قال: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً

كَآدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَاحْتَقَرَهُ هو أوّلا. وقيل: راباً

: أَيْ مُتَوَاضِعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا جَبَّارًا وَلَا متكبرا.

(1) سورة الأنفال: 8/ 50- 51.

ص: 391