المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ١٠

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة النجم

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 62]

- ‌سورة القمر

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 55]

- ‌سورة الرّحمن

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 78]

- ‌سورة الواقعة

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 96]

- ‌سورة الحديد

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة المجادلة

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الحشر

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24]

- ‌سورة الممتحنة

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13]

- ‌سورة الصّفّ

- ‌[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14]

- ‌سورة الجمعة

- ‌[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة المنافقون

- ‌[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التغابن

- ‌[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 18]

- ‌سورة الطّلاق

- ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة التّحريم

- ‌[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 12]

- ‌سورة الملك

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة القلم

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة الحاقّة

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52]

- ‌سورة المعارج

- ‌[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 44]

- ‌سورة نوح

- ‌[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة الجن

- ‌[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28]

- ‌سورة المزّمّل

- ‌[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة المدّثر

- ‌[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56]

- ‌سورة القيمة

- ‌[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة الإنسان

- ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31]

- ‌سورة المرسلات

- ‌[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]

- ‌سورة النّبإ

- ‌[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]

- ‌سورة النّازعات

- ‌[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46]

- ‌سورة عبس

- ‌[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42]

- ‌سورة التّكوير

- ‌[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة الانفطار

- ‌[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة المطفّفين

- ‌[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36]

- ‌سورة الانشقاق

- ‌[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]

- ‌سورة البروج

- ‌[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]

- ‌سورة الطّارق

- ‌[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]

- ‌سورة الأعلى

- ‌[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة الغاشية

- ‌[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]

- ‌سورة الفجر

- ‌[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة البلد

- ‌[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]

- ‌سورة الشمس

- ‌[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]

- ‌سورة الليل

- ‌[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]

- ‌سورة الضّحى

- ‌[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة الشرح

- ‌[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة التّين

- ‌[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العلق

- ‌[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]

- ‌سورة القدر

- ‌[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة البيّنة

- ‌[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العاديات

- ‌[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة القارعة

- ‌[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]

- ‌سورة التّكاثر

- ‌[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]

- ‌سورة العصر

- ‌[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الهمزة

- ‌[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]

- ‌سورة الفيل

- ‌[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة قريش

- ‌[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الماعون

- ‌[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة الكوثر

- ‌[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة الكافرون

- ‌[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]

- ‌سورة النّصر

- ‌[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]

- ‌سورة المسد

- ‌[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة الإخلاص

- ‌[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]

- ‌سورة الفلق

- ‌[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]

- ‌سورة النّاس

- ‌[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]

الفصل: ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31]

‌سورة الإنسان

[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31]

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)

وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)

وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)

وَما تَشاؤُنَ إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

ص: 355

الْأَمْشَاجُ: الْأَخْلَاطُ، وَاحِدُهَا مَشَجٌ بِفَتْحَتَيْنِ، أَوْ مَشْجٌ كَعَدْلٍ، أَوْ مَشِيجٌ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ رُؤْبَةُ:

يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعَجَّلٍ بساج

لَمْ يُكْسَ جِلْدًا مِنْ دَمٍ أَمْشَاجِ

وَقَالَ الْهُذَلِيُّ:

كَأَنَّ النَّصْلَ وَالْفَوْقَيْنِ مِنْهَا

خِلَافَ الرِّيشِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ

وَقَالَ الشَّمَّاخُ:

طَوَتْ أَحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ

عَلَى مَشَجٍ سُلَالَتُهُ مَهِينُ

وَيُقَالُ: مَشَجَ يَمْشُجُ مَشَجًا إِذَا خلط، ومشيج: كخليط، وممثنوج: كمخلوط. مَزَجَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطَهُ، وقال الشاعر:

كأن سييئة مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ

يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءُ

اسْتَطَارَ الشَّيْءُ: انْتَشَرَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الْقَارُورَةِ وَشِبْهِهَا وَاسْتَطَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر:

فبانت وقد أسأت فِي الْفُؤَا

دِ صَدْعًا عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُسْتَطِيرٌ: مُسْتَطِيلٌ. وَيُقَالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَقُمَاطِرٌ وَاقْمَطَرَّ، فَهُوَ مُقَمْطِرٌّ إِذَا كَانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ الرَّاجِزُ:

قَدْ جَعَلَتْ شَبْوَةُ تَزْبَئِرُّ

تَكْسُو اسْتَهَا لَحْمًا وَتَقْمَطِرُّ

ص: 356

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَفَرُّوا إِذَا مَا الْحَرْبُ ثَارَ غُبَارُهَا

وبج بِهَا الْيَوْمُ الشَّدِيدُ الْقُمَاطِرُ

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَمْطَرِيرُ: الَّذِي يَعِيشُ حَتَّى يَجْتَمِعَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَيُقَالُ: اقْمَطَرَّتِ النَّاقَةُ إِذَا رَفَعَتْ ذَنَبَهَا وَجَمَعَتْ قُطْرَيْهَا وَرَمَتْ بِأَنْفِهَا، فَاشْتَقَّهُ مِنَ الْقَطْرِ وَجَعَلَ الْمِيمَ زَائِدَةً، وَقَالَ أَسَدُ بْنُ نَاعِصَةَ:

وَاصْطَلَيْتُ الْحُرُوبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ

بِأُسْدِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّبَاحِ

وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْوَزْنِ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ لَا يُثْبِتُ افْمَعَلَّ فِي أَوْزَانِ الْأَفْعَالِ. الزَّمْهَرِيرُ:

أَشَدُّ الْبَرْدِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ الْقَمَرُ بِلُغَةِ طَيٍّ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:

وَلَيْلَةٍ ظَلَامُهَا قَدِ اعْتَكَرْ

قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ

الْقَارُورَةُ: إِنَاءٌ رَقِيقٌ صَافٍ تُوضَعُ فِيهِ الْأَشْرِبَةُ، قِيلَ: وَيَكُونُ مِنَ الزُّجَاجِ. الزَّنْجَبِيلُ، قَالَ الدِّينَوَرِيُّ: نَبْتٌ فِي أَرْضِ عُمَانَ عُرُوقٌ تَسْرِي وَلَيْسَ بِشَجَرٍ، يُؤْكَلُ رَطْبًا، وَأَجْوَدُهُ مَا يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ الصِّينِ، كَانَتِ الْعَرَبُ تُحِبُّهُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ لَذْعًا فِي اللِّسَانِ إِذَا مُزِجَ بِالشَّرَابِ فَيَتَلَذَّذُونَ بِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأَنَّ جَنْبًا مِنَ الزَّنْجَبِيلِ بَاتَ

بِفِيهَا وَارِيًا مَسْتُورًا

وَقَالَ الْمُسَيِّبُ بْنُ عَلَسٍ:

وكأن طعم الزنجبيل بِهِ إِذَا ذُقْتَهُ وَسُلَافَةَ الْخَمْرِ السَّلْسَبِيلُ وَالسَّلْسَلُ وَالسَّلْسَالُ: مَا كَانَ مِنَ الشَّرَابِ غَايَةً فِي السَّلَاسَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ أَسْمَعِ السَّلْسَبِيلَ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ. ثَمَّ ظَرْفٌ مَكَانٍ لِلْبُعْدِ.

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً، إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً، وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً، إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً، وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا.

ص: 357

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهِيَ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَقِيلَ:

مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَخْ، فَإِنَّهُ مَكِّيٌّ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ جِدًّا لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ.

هَلْ حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ بِقَدْ، لِأَنَّ قَدْ مِنْ خَوَاصِّ الْفِعْلِ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ فَالْأَكْثَرُ أَنْ تَأْتِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ هُنَا بِمَعْنَى قَدْ. قِيلَ: لِأَنَّ الْأَصْلَ أَهَلْ، فَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ حُذِفَتْ وَاجْتُزِئَ بِهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:

سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِحِلَّتِهَا

أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي النتّ ذِي الْأَكَمِ

فَالْمَعْنَى: أَقَدْ أَتَى عَلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّقْرِيبِ جَمِيعًا، أَيْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ قَبْلَ زَمَانٍ قَرِيبٍ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ كَذَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْجَوَابُ: أَتَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ بِالْحَالِ الْمَذْكُورِ. وَمَا تُلِيَتْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَقِيلَ: عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: لَيْتَهَا تَمَّتْ، أَيْ لَيْتَ تِلْكَ الْحَالَةَ تَمَّتْ، وَهِيَ كَوْنُهُ شَيْئًا غَيْرَ مَذْكُورٍ وَلَمْ يُخْلَقْ وَلَمْ يُكَلَّفْ. وَالْإِنْسَانُ هُنَا جِنْسُ بَنِي آدَمَ، وَالْحِينُ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ، إِمَّا حِينُ عَدَمِهِ، وَإِمَّا حِينُ كَوْنِهِ نُطْفَةً. وَانْتِقَالُهُ مِنْ رُتْبَةٍ إِلَى رُتْبَةٍ حَتَّى حِينِ إِمْكَانِ خِطَابِهِ، فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا ذِكْرَ لَهُ، وَسُمِّيَ إِنْسَانًا بِاعْتِبَارِ مَا صَارَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: آدَمُ عليه الصلاة والسلام، وَالْحِينُ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي بَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَقِيَ طِينًا أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ صَلْصَالًا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا أَرْبَعِينَ، فَتَمَّ خَلْقُهُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَسُمِّيَ إِنْسَانًا بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ.

وَالْجُمْلَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لحين، فَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُوفِ مَحْذُوفًا، أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ.

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ: هُوَ جِنْسُ بَنِي آدَمَ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ:

أَخْلَاطٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلنُّطْفَةِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: هِيَ الْعُرُوقُ الَّتِي فِي النُّطْفَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ اخْتَلَطَا فِي الرَّحِمِ فَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اخْتِلَاطُ النُّطْفَةِ بِدَمِ الْحَيْضِ، فَإِذَا حَبِلَتِ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وعكرمة وَقَتَادَةُ: أَمْشَاجٌ مُنْتَقِلَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى عَلَقَةٍ إِلَى مُضْغَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى إِنْشَائِهِ إِنْسَانًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ أَلْوَانُ النُّطْفَةِ. وَقِيلَ:

ص: 358

أَخْلَاطُ الدَّمِ وَالْبَلْغَمِ وَالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ، وَالنُّطْفَةُ أُرِيدَ بِهَا الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ «1» ، أَوْ لِتَنْزِيلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ النُّطْفَةِ نُطْفَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، كَبُرْمَةٍ أَعْسَارٍ، وَبُرْدٍ أَكْيَاسٍ، وَهِيَ أَلْفَاظُ مُفْرَدٍ غَيْرُ جُمُوعٍ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ صِفَاتٍ لِلْأَفْرَادِ. وَيُقَالُ أَيْضًا: نُطْفَةُ مَشَجٍ، وَلَا يَصِحُّ أَمْشَاجٌ أَنْ تَكُونَ تَكْسِيرًا لَهُ، بَلْ هُمَا مِثْلَانِ فِي الْإِفْرَادِ لِوَصْفِ الْمُفْرِدِ بِهِمَا. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَا يَكُونُ مُفْرَدًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَفْعَالٌ إِلَّا أَنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ وَصْفِ الْمُفْرَدِ بِأَفْعَالٍ تَأَوَّلُوهُ. نَبْتَلِيهِ: نَخْتَبِرُهُ بِالتَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نُصَرِّفُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، فَعَلَى هَذَا هِيَ حَالٌ مُصَاحِبَةٌ، وَعَلَى أَنَّ الْمَعْنَى نَخْتَبِرُهُ بِالتَّكْلِيفِ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حِينَ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُبْتَلِيًا لَهُ بِالتَّكْلِيفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَاقِلِينَ لَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ:

نبتليه بالإيجاد وَالْكَوْنِ فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ الْأَصْلُ. فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً نَبْتَلِيهِ، أَيْ جَعْلُهُ سَمِيعًا بَصِيرًا هُوَ الِابْتِلَاءُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمَعْنَى يَصِحُّ بِخِلَافِهِ، وَامْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِجَعْلِهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّمْيِيزِ وَالْفَهْمِ، إِذْ آلَتُهُمَا سَبَبٌ لِذَلِكَ، وَهُمَا أَشْرَفُ الْحَوَاسِّ، تُدْرَكُ بِهِمَا أَعْظَمُ الْمُدْرِكَاتِ.

وَلَمَّا جَعَلَهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هَدَاهُ إِلَى السَّبِيلِ، أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَعَرَّفْنَا مَآلَ طَرِيقِ النَّجَاةِ وَمَآلَ طَرِيقِ الْهَلَاكِ، إِذْ أَرْشَدْنَاهُ طَرِيقَ الْهُدَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِيلُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: سَبِيلُ الْخُرُوجِ مِنَ الرَّحِمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَكَّنَاهُ وَأَقْدَرْنَاهُ فِي حَالَتَيْهِ جَمِيعًا، وَإِذْ دَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ أَوْ يَكْفُرُ لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِزَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِمَّا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا وَأَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو الْعَاجِ، وَهُوَ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ شَامِيٌّ وَلِيَ الْبَصْرَةَ لِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: بِفَتْحِهَا فِيهِمَا، وَهِيَ لُغَةٌ حَكَاهَا أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ، وَهِيَ الَّتِي عَدَّهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي حُرُوفِ الْعَطْفِ وَأَنْشَدُوا:

يَلْحَقُهَا إِمَّا شَمَالٌ عَرِيَّةٌ

وَإِمَّا صَبَا جنح العشي هبوب

(1) سورة الرحمن: 55/ 76.

ص: 359

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، وَالْمَعْنَى: إِمَّا شَاكِرًا بِتَوْفِيقِنَا، وَإِمَّا كَفُورًا فَبِسُوءِ اخْتِيَارِهِ. انْتَهَى. فَجَعَلَهَا إِمَّا التَّفْصِيلِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ تَلَقَّاهَا بِفَاءِ الْجَوَابِ، فَصَارَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: إِمَّا صَدِيقًا فَصَدِيقٌ وَانْتَصَبَ شَاكِرًا وَكَفُورًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي هَدَيْناهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مِنَ السَّبِيلِ، أَيْ عَرَّفْنَاهُ السَّبِيلَ، إِمَّا سَبِيلًا شَاكِرًا وَإِمَّا سَبِيلًا كَفُورًا، كَقَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» ، فَوَصَفَ السَّبِيلَ بِالشُّكْرِ وَالْكُفْرِ مَجَازًا. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ قَلَّ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ قَالَ شَاكِرًا: وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ كَثُرَ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ وَيَكْثُرُ وُقُوعُهُ مِنَ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ الشُّكْرِ جَاءَ كَفُورًا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَتْبَعَهُمَا الْوَعِيدَ وَالْوَعْدَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ: سَلَاسِلَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ وَقْفًا وَوَصْلًا. وَقِيلَ عَنْ حَمْزَةَ وَأَبِي عُمَرَ: الْوَقْفُ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِمَنْعِ الصَّرْفِ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُمْ فِي الْوَقْفِ، وَكَذَا عَنِ الْبَزِّيِّ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّنْوِينِ وَصْلًا وَبِالْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنْهُ وَقْفًا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، قِيلَ: وَهَذَا عَلَى مَا حَكَاهُ الْأَخْفَشُ مِنْ لُغَةِ مَنْ يَصْرِفُ كُلَّ مَا لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا أَفْعَلَ مِنْ وَهِيَ لُغَةُ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى جَرَى فِي كَلَامِهِمْ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَمَّا كَانَ يُجْمَعُ فَقَالُوا: صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ وَنَوَاكِسِي الْأَبْصَارِ، أَشْبَهَ الْمُفْرَدَ فَجَرَى فِيهِ الصَّرْفُ، وَقَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ:

وَالصَّرْفُ فِي الْجَمْعِ أَتَى كَثِيرًا

حَتَّى ادَّعَى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيرَا

وَالصَّرْفُ ثَابِتٌ في مصاحف المدينة ومكة وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَكَذَا قَوَارِيرَ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: سَلَاسِلَ فِي الْوَصْلِ، وَسَلَاسِلَا بِأَلِفٍ دُونَ تَنْوِينٍ فِي الْوَقْفِ. وَرُوِيَ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: رَأَيْتُ عَمْرَا بِالْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ.

مِنْ كَأْسٍ: مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، كانَ مِزاجُها كافُوراً، قَالَ قَتَادَةُ: يُمْزَجُ لَهُمْ بِالْكَافُورِ، وَيُخْتَمُ لَهُمْ بِالْمِسْكِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ طِيبُ رَائِحَةٍ وَبَرْدٍ كَالْكَافُورِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَافُورًا اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَصُرِفَتْ لِتُوَافِقَ الْآيَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قَافُورًا بِالْقَافِ بَدَلَ الْكَافِ، وَهُمَا كَثِيرًا مَا يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلِمَةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَرَبِيٌّ قح وكح، وعَيْناً بَدَلٌ مِنْ كافُوراً وَمَفْعُولًا بيشربون، أَيْ مَاءَ عَيْنٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ مِنْ كَأْسٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ يَشْرَبُونَ خَمْرًا خَمْرَ عَيْنٍ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْكَأْسُ مبدأ شربهم أتى بمن وَفِي يَشْرَبُ بِها: أَيْ يُمْزَجُ شَرَابُهُمْ بِهَا أَتَى بالباء الدالة على

(1) سورة البلد: 90/ 10. [.....]

ص: 360

الْإِلْصَاقِ، وَالْمَعْنَى: يَشْرَبُ عِبَادُ اللَّهِ بِهَا الْخَمْرَ، كَمَا تَقُولُ: شَرِبْتُ الْمَاءَ بِالْعَسَلِ، أو ضمن يشرب معنى يَرْوَى فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى يَشْرَبُ بِهَا، وَقَالَ الْهُذَلِيُّ:

شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ

مَتَّى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ

قِيلَ: أَيْ شَرِبْنَ مَاءَ الْبَحْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بشربها وعباد اللَّهِ هُنَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، يُفَجِّرُونَها: يَثْقُبُونَهَا بِعُودِ قَصَبٍ وَنَحْوِهِ حَيْثُ شَاءُوا، فَهِيَ تَجْرِي عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، هَكَذَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ.

وَقِيلَ: هِيَ عَيْنٌ فِي دَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنْفَجِرُ إِلَى دُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ.

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانُوا يَخَافُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُوفُونَ جَوَابُ مَنْ عَسَى يَقُولُ مَا لَهُمْ يُرْزَقُونَ ذَلِكَ. انْتَهَى. فَاسْتَعْمَلَ عَسَى صِلَةً لِمَنْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَأَتَى بَعْدَ عَسَى بِالْمُضَارِعِ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِأَنْ، وَهُوَ قَلِيلٌ أَوْ فِي شِعْرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّذْرِ مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ نَذْرٌ. قَالَ الْأَصَمُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالتَّوَفُّرِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ مَنْ وَفَّى بِمَا أَوْجَبَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَوْفَى. وَقِيلَ: النَّذْرُ هُنَا عَامٌّ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ فَيَدْخُلُ فيه الإيمان وجمع الطَّاعَاتِ. عَلى حُبِّهِ: أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ، إِذْ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَوْ عَلَى حُبِّ اللَّهِ: أَيْ لِوَجْهِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، قَالَهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَمْدَحُ، لِأَنَّ فِيهِ الْإِيثَارَ عَلَى النَّفْسِ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ يَفْعَلُهُ الْأَغْنِيَاءُ أَكْثَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ، أَيْ مُحِبِّينَ فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا تَكَلُّفَ. مِسْكِيناً: وَهُوَ الطَّوَّافُ الْمُنْكَسِرُ فِي السُّؤَالِ، وَيَتِيماً: هُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ، وَأَسِيراً: وَالْأَسِيرُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ تُرِكُوا فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ رَهَائِنَ وَخَرَجُوا لِطَلَبِ الْفِدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقِيلَ: وَأَسِيراً اسْتِعَارَةٌ وَتَشْبِيهٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ الْمَسْجُونُ. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْيَمَانِيُّ: هِيَ الزَّوْجَةُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: هُوَ الْمَمْلُوكُ وَالْمَسْجُونُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «غَرِيمُكَ أَسِيرُكَ فَأَحْسِنْ إِلَى أَسِيرِكَ» .

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِهِ خِطَابًا لِلْمَذْكُورِينَ، مَنْعًا مِنْهُمْ وَعَنِ الْمُجَازَاةِ بِمِثْلِهِ أَوِ الشُّكْرِ، لِأَنَّ إِحْسَانَهُمْ مَفْعُولٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا مَعْنَى لِمُكَافَأَةِ الْخَلْقِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَا أَنَّهُمْ مَا تَكَلَّمُوا

ص: 361

بِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَهُ مِنْهُمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ. لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً: أَيْ بِالْأَفْعَالِ، وَلا شُكُوراً: أَيْ ثَنَاءً بِالْأَقْوَالِ

وَهَذِهِ الْآيَةَ قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ

، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ فِي ذَلِكَ حِكَايَةً طَوِيلَةً جِدًّا ظَاهِرَةَ الِاخْتِلَافِ، وَفِيهَا إِشْعَارٌ لِلْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ وَالْأَسِيرِ، يُخَاطَبُونَ بِهَا بيت النُّبُوَّةِ، وَإِشْعَارٌ لِفَاطِمَةَ رضي الله عنها تُخَاطِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافُ لِسَفْسَافِ أَلْفَاظِهَا وَكَسْرِ أَبْيَاتِهَا وَسَفَاطَةِ مَعَانِيهَا. يَوْماً عَبُوساً:

نِسْبَةُ الْعَبُوسِ إِلَى الْيَوْمِ مَجَازٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْبِسُ الْكَافِرُ يَوْمئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ كَالْقَطْرَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَوَقاهُمُ بِخِفَّةِ الْقَافِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّهَا وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً: بَدَلَ عَبُوسِ الْكَافِرِ، وَسُرُوراً: فَرَحًا بَدَلَ حُزْنِهِ، لَا تَكَادُ تَكُونُ النَّظْرَةُ إِلَّا مَعَ فَرَحِ النَّفْسِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ. وقرأ الجمهور: وَجَزاهُمْ

وعليّ: وَجَازَاهُمْ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ،

جَنَّةً وَحَرِيراً: بُسْتَانًا فِيهِ كُلُّ مَأْكَلٍ هَنِيءٍ، وَحَرِيراً فِيهِ مَلْبَسٌ بَهِيٌّ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْحَرِيرِ مَعَ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ أُوثِرُوا عَلَى الْجُوعِ وَالْغِذَاءِ. لَا يَرَوْنَ فِيها: أَيْ فِي الْجَنَّةِ، شَمْساً: أَيْ حَرَّ شَمْسٍ وَلَا شِدَّةَ بَرْدٍ، أَيْ لَا شَمْسَ فِيهَا فَتُرَى فَيُؤْذِي حَرُّهَا، وَلَا زَمْهَرِيرَ يُرَى فَيُؤْذِي بِشِدَّتِهِ، أَيْ هِيَ مُعْتَدِلَةُ الْهَوَاءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «هَوَاءُ الْجَنَّةِ سَجْسَجٌ لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ» .

وَقِيلَ: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَالزَّمْهَرِيرُ فِي لغة طيء الْقَمَرُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَدانِيَةً، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ حَالٌ عَطْفًا عَلَى مُتَّكِئِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْجَنَّةِ، فَالْمَعْنَى: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً دَانِيَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

مَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ وَهِيَ لَا يَرَوْنَ، أَيْ غَيْرَ رَائِينَ، وَدَخَلَتِ الْوَاوُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُجْتَمِعَانِ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً جَامِعِينَ فِيهَا بَيْنَ الْبُعْدِ عَنِ الْحَرِّ وَالْقُرِّ وَدُنُوِّ الظِّلَالِ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَدَانِيَةٌ بِالرَّفْعِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَخْفَشُ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَمِدَ، نَحْوُ قَوْلِكَ: قَائِمٌ الزَّيْدُونَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ ظِلالُها مُبْتَدَأً وَدانِيَةً خَبَرٌ لَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَدَانِيًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:

خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ «1» . وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَدَانٍ مَرْفُوعٌ، فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ الْأَخْفَشُ.

وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ قَائِمًا، تَنَاوَلَ الثَّمَرَ دُونَ كُلْفَةٍ وإن قاعدا أو مضطعجا فَكَذَلِكَ، فَهَذَا تَذْلِيلُهَا، لَا يَرُدُّ الْيَدَ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَدانِيَةً بِالنَّصْبِ، كَانَ وَذُلِّلَتْ مَعْطُوفًا عَلَى دَانِيَةٌ لِأَنَّهَا فِي تَقْدِيرِ

(1) سورة القلم: 68/ 43، وسورة المعارج: 70/ 44.

ص: 362

الْمُفْرَدِ، أَيْ وَمُذَلَّلَةً، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ كَانَ مِنْ عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَقَدْ ذُلِّلَتْ رُفِعَتْ دَانِيَةً أَوْ نُصِبَتْ.

قَوْلُهُ عز وجل: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً، وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا، عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً، وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً، عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً، إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا، إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا، نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً، يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. لَمَّا وَصَفَ تَعَالَى طَعَامَهُمْ وَسُكْنَاهُمْ وَهَيْئَةَ جُلُوسِهِمْ، ذَكَرَ شَرَابَهُمْ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْآنِيَةِ الَّتِي يُسْقَوْنَ مِنْهَا، وَالْآنِيَةُ جَمْعُ إِنَاءٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَكْوَابِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا بِتَنْوِينِهِمَا وَصْلًا وَإِبْدَالِهِ أَلِفًا وَقْفًا وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ: بِمَنْعِ صَرْفِهِمَا وَابْنُ كَثِيرٍ: بِصَرْفِ الْأَوَّلِ وَمَنْعِ الصَّرْفِ فِي الثَّانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا التَّنْوِينُ بَدَلٌ مِنْ أَلِفِ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّهُ فَاصِلَةٌ، وَفِي الثَّانِي لِاتِّبَاعِهِ الْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ سَلَاسَلًا بِالتَّنْوِينِ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ حَرْفِ الْإِطْلَاقِ، أَجْرَى الْفَوَاصِلَ مَجْرَى أَبْيَاتِ الشِّعْرِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ التَّنْوِينُ فِي الْقَوَافِي الْمُطْلَقَةِ إِشْعَارًا بِتَرْكِ التَّرَنُّمِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:

يَا صَاحِ مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ فَهَذِهِ النُّونُ بَدَلٌ مِنَ الْأَلِفِ، إِذْ لَوْ تَرَنَّمَ لَوَقَفَ بِأَلِفِ الْإِطْلَاقِ. مِنْ فِضَّةٍ: أَيْ مَخْلُوقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَمَعْنَى كانَتْ: أَنَّهُ أَوْجَدَهَا تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ «1» تَفْخِيمًا لِتِلْكَ الْخِلْقَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَنُصُوعِهَا وَشَفِيفِ الْقَوَارِيرِ وَصَفَائِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: كانَ مِزاجُها كافُوراً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: قَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ بالرفع، أي هو قرارير. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدَّرُوها مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ، أَوْ للطواف عليهم،

(1) سورة البقرة: 2/ 117، وسورة آل عمران: 3/ 47.

ص: 363

أَوِ الْمُنَعَّمِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى قَدْرِ الْأَكُفِّ، قَالَهُ الرَّبِيعُ أَوْ عَلَى قَدْرِ الرِّيِّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّرُوها صفة لقرارير مِنْ فِضَّةٍ، وَمَعْنَى تَقْدِيرِهِمْ لَهَا أَنَّهُمْ قَدَّرُوهَا فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى مَقَادِيرَ وَأَشْكَالٍ عَلَى حَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ، فَجَاءَتْ كَمَا قَدَّرُوهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلطَّائِفِينَ بِهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدَّرُوا شَرَابَهَا عَلَى قَدْرِ الرِّيِّ، وَهُوَ أَلَذُّ الشَّرَابِ لِكَوْنِهِ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ، لَا يَفْضُلُ عَنْهَا وَلَا يَعْجِزُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ:

لَا يَفِيضُ وَلَا يَغِيضُ. انْتَهَى.

وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبْزَى وَقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والجحدري وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وعباس عن أبان، وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ عَنْ يَعْقُوبَ: قَدَّرُوهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَأَنَّ اللَّفْظَ قَدَرُوا عَلَيْهَا، وَفِي الْمَعْنَى قَلْبٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ، فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ «1» ، وَمِثْلُ قَوْلُ الْعَرَبِ:

إِذَا طَلَعَتِ الْجَوْزَاءُ أَلْقَى الْعَوْدُ عَلَى الْحِرْبَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَدَرَ مَنْقُولًا مِنْ قُدِّرَ، تَقُولُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَّرَنِيهِ فُلَانٌ إِذَا جَعَلَكَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: جُعِلُوا قَادِرِينَ لَهَا كَمَا شَاءُوا، وَأَطْلَقَ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّرُوا عَلَى حَسَبِ مَا اشْتَهَوْا. انْتَهَى.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قُدِّرَتِ الْأَوَانِي عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ، فَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ أَبِي حَاتِمٍ هَذَا، قَالَ: فِيهِ حَذْفٌ عَلَى حَذْفٍ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قُدِّرَ عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ حُذِفَ عَلَى فَصَارَ قَدْرُ رِيِّهِمْ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، ثُمَّ حُذِفَ قُدِّرَ فَصَارَ رِيُّهُمْ قَائِمًا مَقَامَهُ، ثُمَّ حُذِفَ الرِّيُّ فَصَارَتِ الْوَاوُ مَكَانَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ لَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ مِمَّا قَبْلَهَا، وَصَارَتِ الْوَاوُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَاتَّصَلَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي تَقَدُّرِ النَّصْبِ بِالْفِعْلِ بَعْدَ الْوَاوِ الَّتِي تَحَوَّلَتْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ حَتَّى أُقِيمَتْ مَقَامَ الْفَاعِلِ. انْتَهَى. وَالْأَقْرَبُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قُدِّرَ رِيُّهُمْ مِنْهَا تَقْدِيرًا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ الَّذِي، وَأُقِيمَ الضَّمِيرُ مَقَامَهُ فَصَارَ التَّقْدِيرُ: قُدِّرُوا مِنْهَا ثُمَّ اتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ فَحُذِفَتْ مِنْ وَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ بِنَفْسِهِ فَصَارَ قُدِّرُوهَا، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا حَذْفُ مُضَافٍ وَاتِّسَاعٌ فِي الْمَجْرُورِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَأْسَ تُمْزَجُ بِالزَّنْجَبِيلِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَلِذُّهُ وَتَذْكُرُهُ فِي وَصْفِ رُضَابِ أَفْوَاهِ النِّسَاءِ، كَمَا أَنْشَدْنَا لَهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُسَمَّى الْعَيْنُ زَنْجَبِيلًا لِطَعْمِ الزَّنْجَبِيلِ فِيهَا. انْتَهَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّنْجَبِيلُ اسْمٌ لِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ، يَشْرَبُ مِنْهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُسْقَى بجامين، الأول مزاجه

(1) سورة القصص: 28/ 76.

ص: 364

الْكَافُورُ، وَالثَّانِي مِزَاجُهُ الزَّنْجَبِيلُ. وعينا بدل مِنْ كَأْسٍ عَلَى حَذْفِ، أَيْ كَأْسُ عَيْنٍ، أَوْ مِنْ زَنْجَبِيلٍ عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا بِمَعْنَى تُوصَفُ بِأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ فِي الِاتِّسَاعِ سَهْلَةٌ فِي الْمَذَاقِ، وَلَا يُحْمَلُ سَلْسَبِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَرَأَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، جَعَلَهُ عَلَمًا لَهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَمًا فَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّنْوِينِ الْمُنَاسَبَةُ لِلْفَوَاصِلِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي سلاسلا وقواريرا وَيُحَسِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، أَعْنِي صَرْفَ مَا لَا يَصْرِفُهُ أَكْثَرُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ زِيدَتِ الْبَاءُ فِي التَّرْكِيبِ حَتَّى صَارَتِ الْكَلِمَةُ خُمَاسِيَّةً. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ فَقَالَ: شَرَابٌ سَلْسَلٌ وَسَلْسَالٌ وَسَلْسِيلٌ، فَإِنْ كَانَ عَنَى أَنَّهُ زِيدَ حَقِيقَةً فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَإِنْ عَنَى أَنَّهَا حَرْفٌ جَاءَ فِي سَنْحِ الْكَلِمَةِ وَلَيْسَ فِي سَلْسِيلٍ وَلَا فِي سِلْسَالٍ، فَيَصِحُّ وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ مَعْنَاهُ وَكَانَ مُخْتَلِفًا فِي الْمَادَّةِ.

وَقَالَ بَعْضُ المعربين: سلسيلا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأُمَّتِهِ بِسُؤَالِ السَّبِيلِ إِلَيْهَا، وَقَدْ نَسَبُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ

، وَيَجِبُ طَرْحُهُ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَوْجِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُ وَاشْتِغَالُهُ بِحِكَايَتِهِ، وَيَذْكُرُ نِسْبَتَهُ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ عَيْنٌ تَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ إِلَى الْجِنَانِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَيْنٌ سَلِسٌ مَاؤُهَا. وَقَالَ مجاهد: عين جديرة الْجَرْيَةِ سَلْسِلَةٌ سَهْلَةُ الْمَسَاغِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَيْنٌ يَتَسَلْسَلُ عَلَيْهِمْ مَاؤُهَا فِي مَجَالِسِهِمْ كَيْفَ شَاءُوا وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مُخَلَّدُونَ وَتَشْبِيهُ الْوِلْدَانِ بِاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ فِي بَيَاضِهِمْ وَصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ فِي الْمَسَاكِنِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَجِيئُونَ وَيَذْهَبُونَ. وَقِيلَ: شُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ إِذَا أُنْثِرَ مِنْ صَدَفِهِ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ فِي الْعَيْنِ وَأَبْهَجُ لِلنَّفْسِ. وَجَوَابُ إِذا رَأَيْتَ: نَعِيماً، وَمَفْعُولُ فِعْلِ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، حُذِفَ اقْتِصَارًا، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا رميت ببصرك هناك، وثم ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ رَأَيْتَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ:

وَإِذَا رَأَيْتَ مَا ثَمَّ، فَحَذَفَ مَا كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» ، أَيْ مَا بَيْنَكُمْ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ مَا ثَمَّ فَقَدَ أَخْطَأَ، لِأَنَّ ثَمَّ صِلَةٌ لِمَا، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْمَوْصُولِ وَتَرْكُ الصِّلَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِخَطَأٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَثَمَّ شَوَاهِدُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ:

(1) سورة الأنعام: 6/ 94.

ص: 365

فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ

وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ

أَيْ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، فَحَذَفَ الْمَوْصُولَ وَأَبْقَى صِلَتَهُ. وَقَالَ ابن عطية: وثم ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ رَأَيْتَ أَوْ مَعْنَاهُ، التَّقْدِيرُ: رَأَيْتَ مَا ثَمَّ حُذِفَتْ مَا. انْتَهَى. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَعْلُهُ مَعْمُولًا لرأيت لَا يَكُونُ صِلَةً لِمَا، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ إِذْ ذَاكَ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا اسْتَقَرَّ ثَمَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَحُمَيْدٌ الأعرج: ثم بضم التاء حَرْفَ عَطْفٍ، وَجَوَابُ إِذَا عَلَى هَذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ وَإِذَا رَمَيْتَ بِبَصَرِكَ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَالْمُلْكُ الْكَبِيرُ قِيلَ: النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْتِئْذَانُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُلْكُ الْكَبِيرُ:

اتِّسَاعُ مَوَاضِعِهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَبِيرًا عَرِيضًا يُبْصِرُ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَقَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: مَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ غُلَامٍ، كُلُّهُمْ مُخْتَلِفٌ شُغْلُهُ مِنْ شُغْلِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَظُنُّهُ التِّرْمِذِيَّ الْحَكِيمَ لَا أَبَا عِيسَى الْحَافِظَ صَاحِبَ الْجَامِعِ: هُوَ مُلْكُ التَّكْوِينِ وَالْمَشِيئَةِ، إِذَا أراد شيئا كان قوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها «1» ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.

وَقَرَأَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَجُمْهُورُ السَّبْعَةِ:

عالِيَهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَابْنُ عباس: بخلاف عنه وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ: بِسُكُونِهَا، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبَانٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً وَعَنِ الْأَعْمَشِ وَأَبَانٍ أَيْضًا عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ:

عَلَيْهِمْ حَرْفَ جَرٍّ، ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَأَبَانٌ أَيْضًا وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: عَلَتْهُمْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِعْلًا مَاضِيًا، فَثِيَابُ فَاعِلٌ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً فَمُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ثِيَابٌ وَمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِمْ حَرْفَ جَرٍّ فَثِيَابُ مُبْتَدَأٌ وَمَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الْيَاءِ وَبِالتَّاءِ سَاكِنَةً فَعَلَى الْحَالِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ، فذوا لحال الطَّوْفُ عَلَيْهِمْ وَالْعَامِلُ يَطُوفُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَالِيَهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَطُوفُ عَلَيْهِمْ، أَوْ فِي حَسِبْتَهُمْ، أَيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ عَالِيًا لِلْمَطُوفِ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ، أَوْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا عَالِيًا لَهُمْ ثِيَابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: رَأَيْتَ أَهْلَ نَعِيمٍ وَمُلْكٍ عَالِيَهُمْ ثِيَابٌ. انْتَهَى. إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي حَسِبْتَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُعْنِي إِلَّا ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا عَائِدٌ عَلَى وِلْدانٌ، وَلِذَلِكَ قُدِّرَ عَالِيَهُمْ بِقَوْلِهِ: عَالِيًا لَهُمْ، أَيْ لِلْوِلْدَانِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ الْآتِيَةَ بَعْدَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا للمطوف عليهم من

(1) سورة ق: 50/ 35.

ص: 366

قَوْلِهِ: وَحُلُّوا، وسَقاهُمْ، وَإِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً، وَفَكُّ الضَّمَائِرِ يَجْعَلُ هَذَا كَذَا وَذَاكَ كَذَا مَعَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ إِلَى ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا جَعْلُهُ حَالًا مِنْ مَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ أَهْلُ نَعِيمٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْحَذْفِ مَعَ صِحَّةِ الْكَلَامِ وَبَرَاعَتِهِ دُونَ تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وثياب مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ فِي النَّصْبِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى فَوْقَهُمْ. انْتَهَى. وَعَالٍ وَعَالِيَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ، فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِمَا ظَرْفَيْنِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مُنْقُولًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَالِيَكَ أَوْ عَالِيَتُكَ ثَوْبٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثِيَابُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ إِلَى سندس.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ: عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ سُنْدُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ، بِرَفْعِ سُنْدُسٍ بِالصِّفَةِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ، كَمَا تَقُولُ: ثَوْبٌ حَرِيرٌ، تُرِيدُ مِنْ حَرِيرٍ وَبِرَفْعِ خُضْرٌ بِالصِّفَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْخُضْرَةَ لَوْنُهَا وَرُفِعَ إِسْتَبْرَقٍ بِالْعَطْفِ عَلَيْهَا، وَهُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ تَقْدِيرُهُ: وَثِيَابٌ إِسْتَبْرَقٌ، أَيْ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ: خُضْرٌ بِرَفْعِهِمَا. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ ونافع فِي رِوَايَةٍ: خُضْرٌ بِالرَّفْعِ صفة لثياب، وإستبرق جُرَّ عَطْفًا عَلَى سُنْدُسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: بِجَرِّ خُضْرٍ صِفَةً لِسُنْدُسٍ، وَرَفْعِ إِسْتَبْرَقٍ عَطْفًا عَلَى ثِيَابٍ.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وحمزة وَالْكِسَائِيُّ: وَوَصْفُ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَالْجَمْعُ جَائِزٌ فَصِيحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ «1» ، وَقَالَ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ»

، فَجَعَلَ الْحَالَ جَمْعًا، وَإِذَا كَانُوا قَدْ جَمَعُوا صِفَةَ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ الْمَحْكِيِّ بِأَلْ بِالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، حَيْثُ جَمْعُ وَصْفِهِمَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ أَوْرَدَهُ النُّحَاةُ مَوْرِدَ الْجَوَازِ بِلَا قُبْحٍ.

وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَإِسْتَبْرَقٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكَهْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هنا وقرىء وإستبرق نَصْبًا فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ يَدْخُلُهُ حَرْفُ التَّعْرِيفِ، تَقُولُ: الْإِسْتَبْرَقُ إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ أَنَّهُ قَدْ يُجْعَلُ عَلَمًا لِهَذَا الضرب من الثياب. وقرىء: وَاسْتَبْرَقَ، بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْتَفْعَلَ مِنَ الْبَرِيقِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ مَشْهُورٌ تَعْرِيبُهُ، وَأَنَّ أَصْلَهُ إِسْتَبْرَهْ. انْتَهَى. وَدَلَّ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وقوله: بعد وقرىء وإستبرق بوصل

(1) سورة الرعد: 13/ 12.

(2)

سورة ق: 50/ 10.

ص: 367

الْأَلِفِ وَالْفَتْحِ، أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ هِيَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْقَافِ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهُ قَرَأَ بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْقَافِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ضَمِيرًا، وَيُؤَيِّدَ ذَلِكَ دُخُولُ لَامِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ قَطْعُ الْأَلِفِ وَإِجْرَاؤُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ. انْتَهَى. وَنَقُولُ: إِنَّ ابْنَ مُحَيْصِنٍ قَارِئٌ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ بِمَعْرِفَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، وَيُتَطَلَّبُ لِقِرَاءَتِهِ وَجْهٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجْعَلُ اسْتَفْعَلَ من البريق. وتقول: بَرِقَ وَاسَتَبْرَقَ، كَعَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ.

وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: خُضْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْخُضْرَةِ، وَهِيَ لَوْنُ ذَلِكَ السُّنْدُسِ، وَكَانَتِ الْخُضْرَةُ مِمَّا يَكُونُ لِشِدَّتِهَا دُهْمَةٌ وَغَبَشٌ، أَخْبَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ بَرِيقًا وَحُسْنًا يُزِيلُ غَبَشَتَهُ.

فَاسْتَبْرَقَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى السُّنْدُسِ أَوْ عَلَى الِاخْضِرَارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

خُضْرٌ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحِينِ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَتَوْهِيمِ ضَابِطٍ ثِقَةٍ أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ ذَهَبٍ «1» ، أَيْ يُحَلَّوْنَ مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ أَوْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، كَمَا يَقَعُ لِلنِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَا أَحْسَنَ بِالْمِعْصَمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُوَارَانِ، سُوارٌ مِنْ ذَهَبٍ وَسُوارٌ مِنْ فِضَّةٍ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ بِالْمِعْصَمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَحْسَنَ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَحْسَنَ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ زِيَادَةُ الْبَاءِ فِي مَفْعُولِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ، لَا تَقُولُ: مَا أَحْسَنَ بِزَيْدٍ، تُرِيدُ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَفِي مِثْلِ هَذَا الْفَصْلِ خِلَافٌ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْمُوَلَّدُ مِنَّا إِذَا تَكَلَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ فِي كَلَامِهِ عَمَّا فِيهِ الْخِلَافُ.

وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً، طَهُورٌ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الطَّهَارَةِ، وَهِيَ مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ وَطَهَارَتُهَا بِكَوْنِهَا لَمْ يُؤْمَرْ بِاجْتِنَابِهَا، وَلَيْسَتْ كَخَمْرِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ فِي الشَّرْعِ رِجْسٌ أَوْ لِكَوْنِهَا لَمْ تُدَسْ بِرِجْلٍ دَنِسَةٍ، وَلَمْ تُمَسَّ بِيَدٍ وَضِرَةٍ، وَلَمْ تُوضَعْ فِي إِنَاءٍ لَمْ يُعْنَ بِتَنْظِيفِهِ.

ذَكَرَهُ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ ثُمَّ قَالَ: أو لأنه لا يؤول إِلَى النَّجَاسَةِ، لِأَنَّهُ يُرْشَحُ عَرَقًا مِنْ أَبْدَانِهِمْ لَهُ رِيحٌ كَرِيحِ الْمِسْكِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْآخَرُ قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ وَالنَّخَعِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، قَالُوا: لَا تَنْقَلِبُ إِلَى الْبَوْلِ، بَلْ تَكُونُ رَشْحًا مِنَ الْأَبْدَانِ أَطْيَبَ مِنِ الْمِسْكِ. إِنَّ هَذَا: أَيِ النَّعِيمَ السَّرْمَدِيَّ، كانَ لَكُمْ جَزاءً: أَيْ لِأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ،

(1) سورة الكهف: 18/ 31.

ص: 368

وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً: أَيْ مَقْبُولًا مُثَابًا. قَالَ قَتَادَةُ: لَقَدْ شَكَرَ اللَّهُ سَعْيًا قَلِيلًا، وَهَذَا عَلَى إِضْمَارِ يُقَالُ لَهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْنِئَةِ وَالسُّرُورِ لَهُمْ بِضِدِّ مَا يُقَالُ لِلْمُعَاقَبِ: إِنَّ هَذَا بِعَمَلِكَ الرَّدِيءِ، فَيَزْدَادُ غَمًّا وَحُزْنًا.

وَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا حَالَ الْإِنْسَانِ وَقَسَّمَهُ إِلَى الْعَاصِي وَالطَّائِعِ، ذَكَرَ مَا شَرَّفَ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ بِحُكْمِهِ، وَجَاءَ التَّوْكِيدُ بِإِنَّ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَمَدْلُولِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَأُكِّدَ الْفِعْلُ بِالْمَصْدَرِ. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً،

قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، قَالَ: إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ الْآيَةَ.

وَالنَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِمَا، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ فِي طَاعَتِهِمَا طَاعَةَ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ قَالَ:

لَا تَضْرِبْ زَيْدًا وَعَمْرًا، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ ضَرْبِهِمَا جَمِيعًا، لَا عَنْ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْكَفُورُ، وَإِنْ كَانَ إِثْمًا، فَإِنَّ فِيهِ مُبَالَغَةً فِي الْكُفْرِ. وَلَمَّا كَانَ وَصْفُ الْكَفُورِ مُبَايِنًا لِلْمَوْصُوفِ لِمُجَرَّدِ الْإِثْمِ، صَلَحَ التَّغَايُرُ فَحَسُنَ الْعَطْفُ. وَقِيلَ:

الْآثِمُ عُتْبَةُ، وَالْكَفُورُ الْوَلِيدُ، لِأَنَّ عُتْبَةَ كَانَ رَكَّابًا لِلْمَآثِمِ مُتَعَاطِيًا لِأَنْوَاعِ الفسوق وكان الوليد غالبا فِي الْكُفْرِ، شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ فِي الْعُتُوِّ.

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً: يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَأَصِيلًا: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ.

وَمِنَ اللَّيْلِ: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا وَنُسِخَ، فَلَا فَرْضَ إِلَّا الْخَمْسُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُحْكَمٌ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ. إِنَّ هؤُلاءِ: إِشَارَةٌ إِلَى الْكَفَرَةِ.

يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ: يُؤْثِرُونَهَا عَلَى الدُّنْيَا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ: أَيْ أَمَامَهُمْ، وَهُوَ مَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الزَّمَانِ. يَوْماً ثَقِيلًا: اسْتُعِيرَ الثِّقَلُ لِلْيَوْمِ لِشِدَّتِهِ، وهو له مِنْ ثِقَلِ الْجُرْمِ الَّذِي يُتْعِبُ حَامِلَهُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَسْرِ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَإِذا شِئْنا: أَيْ تَبْدِيلَ أَمْثَالِهِمْ بِإِهْلَاكِهِمْ، بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ مِمَّنْ يُطِيعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقُّهُ أَنْ يَجِيءَ بِإِنْ لَا بِإِذَا، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «1» ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ «2» . انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ إِذَا لِلْمُحَقَّقِ وَإِنْ لِلْمُمْكِنِ، وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ، لَكِنَّهُ قَدْ تُوضَعُ إِذَا مَوْضِعَ إِنْ، وَإِنْ مَوْضِعَ إِذَا، كَقَوْلِهِ: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «3» .

(1) سورة محمد: 47/ 38.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 133، وسورة إبراهيم: 14/ 119، وسورة فاطر: 35/ 16.

(3)

سورة الأنبياء: 21/ 34.

ص: 369

إِنَّ هذِهِ: أي السُّورَةِ، أَوْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَوْ جُمْلَةَ الشَّرِيعَةِ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنَ اتِّخَاذِ غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِمَنْ شَاءَ مِمَّنِ اخْتَارَ الْخَيْرَ لِنَفْسِهِ وَالْعَاقِبَةَ، وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ والتوسل بالطاعة.

وَما تَشاؤُنَ: الطَّاعَةَ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَقْسِرُهُمْ عَلَيْهَا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ، حَكِيماً حَيْثُ خَلَقَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَمَا يَشَاءُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ نَفْيٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَإِيجَادِ الْمَعَانِي فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَرُدُّ هَذَا وُجُودُ مَا لَهُمْ مِنَ الِاكْتِسَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَحَلُّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؟

قُلْتُ: النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَأَصْلُهُ: إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا مَا يَشَاءُ اللَّهُ، لِأَنَّ مَا مَعَ الْفِعْلِ كَانَ مَعَهُ. انْتَهَى. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الظَّرْفِ إِلَّا الْمَصْدَرُ الْمُصَرَّحُ بِهِ، كَقَوْلِكَ: أَجِيئُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ، وَلَا يُجِيزُونَ: أَجِيئُكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، وَلَا مَا يَصِيحُ الدِّيكُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالظَّالِمِينَ نَصْبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: أَعَدَّ لَهُمْ، وَتَقْدِيرُهُ: وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، جُمْلَةُ عَطْفٍ فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَالظَّالِمُونَ، عَطْفَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:

وَلِلظَّالِمِينَ بِلَامِ الْجَرِّ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَعَدَّ لَهُمْ تَوْكِيدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَيُقَدَّرُ فِعْلٌ يُفَسِّرُهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأَعَدَّ لِلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، فَتَقُولُ: بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَالْمَحْفُوظُ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْعَرَبِ نَصْبُ الِاسْمِ وَتَفْسِيرُ مَرَرْتُ الْمُتَأَخِّرِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِعْلًا مَاضِيًا.

ص: 370