المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٢

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 157]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 167]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 176]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 177 الى 182]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 188]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 189 الى 196]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 202]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 203 الى 212]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 213 الى 218]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 229]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 230]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 233]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 239]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 257]

- ‌[سُورَةُ البقرة (2) : الآيات 258 الى 260]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 266]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 274]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247]

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

الْأَلْفُ: عَدَدٌ مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ آلَافٌ وَفِي الْكَثْرَةِ أُلُوفٌ، وَيُقَالُ: آلَفْتُ الدَّرَاهِمَ وَآلَفَتْ هِيَ، وَقِيلَ: أُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ.

الْقَرْضُ: الْقَطْعُ بِالسِّنِّ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِقْرَاضُ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ، وَيُقَالُ: انْقَرَضَ الْقَوْمُ أَيْ مَاتُوا، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُمْ، وَمِنْهُ: أَقْرَضْتُ فُلَانًا أَيْ قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَكَ عِنْدِي قَرْضُ صِدْقٍ وَقَرْضُ سُوءٍ، لِأَمْرٍ: تَأْتِي مَسَرَّتُهُ وَمَسَاءَتُهُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَرْضُ: الْبَلَاءُ الْحَسَنُ والبلاء السيء وَقَالَ اللَّيْثُ: الْقَرْضُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْتَمَسُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، يُقَالُ: أَقْرَضَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَعْطَاهُ مَا يَتَجَازَاهُ مِنْهُ. وَالِاسْمُ مِنْهُ:

الْقَرْضُ، وهو ما أعطيته لتكافىء عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْقَرْضُ: أَنْ تُعْطِيَ شَيْئًا لِيَرْجِعَ إِلَيْكَ مِثْلُهُ، وَيُقَالَ: تَقَارَضَا الثَّنَاءَ أَثْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُقَالُ قَارَضَهُ الْوُدَّ وَالثَّنَاءَ وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: الْقِرْضُ بِالْكَسْرِ، والأشهر بفتح الْقَافِ.

ص: 558

الضِّعْفُ: مِثْلُ قَدْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَيُقَالُ مِثْلُ الشَّيْءِ فِي الْمِقْدَارِ، وَضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا قِيلَ ضِعْفَانِ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ الْمِثْلَيْنِ فِي الْقَدْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُضَعِّفُ الْآخَرَ، كَمَا يُقَالُ: الزَّوْجَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجًا لِلْآخَرِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ: يُضَاعِفُ وَيُضَعِّفُ، فَقَالَ: التَّضْعِيفُ: لِمَا جُعِلَ مِثْلَيْنِ، وَالْمُضَاعَفَةُ لِمَا زِيدَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

الْقَبْضُ: ضَمُّ الشَّيْءِ وَالْجَمْعُ عَلَيْهِ وَالْبَسْطُ ضِدُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ:

تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ

دَعَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهُ

الْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْلَاءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَقَالَ لَهَا الْأَمْلَاءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ

وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا

وَسُمُّوا بِذَلِكَ لأنهم يملأون الْعُيُونَ هَيْبَةً، أَوِ الْمَكَانَ إِذَا حَضَرُوهُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مَلِيئُونَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَلَأُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَكَذَلِكَ: الْقَوْمُ، وَالنَّفَرُ، وَالرَّهْطُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَلَأُ: هُمُ الْوُجُوهُ وَذَوُو الرَّأْيِ.

طَالُوتُ: اسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: سَايِلُ، وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ: سَاوُلُ بْنُ قَيْسٍ، مِنْ أَوْلَادِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَسُمِّيَ طَالُوتَ. قَالُوا: لِطُولِهِ، وَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِرَأْسِهِ وَمَنْكِبَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَزْنُهُ: فَعَلُوتًا، كَرَحَمُوتٍ وَمَلَكُوتٍ، فَتَكُونُ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ، إِلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ مَنْعُهُ الصَّرْفَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مَفْقُودٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا فِي اللسان العجمي. وقد التقت اللُّغَتَانِ فِي مَادَّةِ الْكَلِمَةِ، كَمَا زَعَمُوا فِي: يَعْقُوبَ، أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ، لَكِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ بِهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ.

الْجِسْمُ: مَعْرُوفٌ، وَجُمِعَ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى: جُسُومٍ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الْجِسْمِ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقَصَصِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ لِلسَّامِعِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَتَرْكِ الْعِنَادِ، وَكَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَوْتَى وَمَنْ خَلَفُوا، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ، وَكَيْفَ أَمَاتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَكَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْيَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمُتَوَفَّيْنَ فِي الْآخِرَةِ، فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا عَمِلَ. فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَنْبِيهٌ

ص: 559

عَلَى الْمَعَادِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَيَلِيقُ بِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْمَلَ لِمَعَادِهِ: بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى عِبَادَةِ ربه، وأن يوفي حُقُوقِ عِبَادِهِ.

وَقِيلَ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ النِّكَاحِ، بَيَّنَ حُكْمَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ تَحْصِينٌ لِلدِّينِ، وَالْقِتَالَ تَحْصِينٌ لِلدِّينِ وَالْمَالِ وَالرُّوحِ، وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ:

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «1» ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَنَّهَا مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ، وَبَدَائِعِ قُدْرَتِهِ.

وَهَذِهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْكَلَامُ تَقْرِيرًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ عَلِمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْرِفْهَا إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ وَالتَّعَجُّبُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَضُمِّنَتْ مَعْنَى مَا يتعدّى بإلى، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى كَذَا.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: رَأَيْتُ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ دُونَ الْجَارِّ، لَكِنْ لَمَّا اسْتُعِيرَ قَوْلُهُمْ: أَلَمْ تر المعنى: أَلَمْ تَنْظُرْ، عُدِّيَ تَعْدِيَتَهُ، وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ التَّقْرِيرِ، مَا يُقَالُ: رَأَيْتُ إِلَى كَذَا. انْتَهَى.

وَ: أَلَمْ تَرَ، جَرَى مَجْرَى التَّعَجُّبِ فِي لِسَانِهِمْ، كَمَا جَاءَ

فِي الْحَدِيثِ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى مُجَزِّزٍ!» وَذَلِكَ فِي رُؤْيَتِهِ أَرْجُلَ زَيْدٍ وَابْنِهِ أُسَامَةَ، وَكَانَ أَسْوَدَ، فَقَالَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ:«أَلَمْ تَرَ إِلَى مُجَزِّزٍ!»

الْحَدِيثَ.

وَقَدْ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا «2» أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «3» أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «4» وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا

وَجَدَتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبِ

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ سَامِعٍ.

وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَرْ، بِسُكُونِ الرَّاءِ، قَالُوا: عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّ الرَّاءَ آخِرُ الْكَلِمَةِ، قال الراجز:

(1) سورة البقرة: 2/ 242.

(2)

سورة الحشر: 59/ 11.

(3)

سورة المجادلة: 58/ 14.

(4)

سورة الفرقان: 25/ 45.

ص: 560

قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا

وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِمًا لَبِيقَا

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: كَإِثْبَاتِ أَلِفِ:

الظُّنُونَا والسَّبِيلَا والرَّسُولَا فِي الْوَصْلِ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ، فَخَافُوا الْقَتْلَ، فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَوْتِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ.

وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ فَخَرَجُوا فِرَارًا منه، فأماتهم الله فينى عَلَيْهِمْ سَائِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَائِطًا حَتَّى إِذَا بَلِيَتْ عِظَامُهُمْ بَعَثَ اللَّهُ حِزْقِيلَ فَدَعَا اللَّهَ فَأَحْيَاهُمْ لَهُ. حَكَى هَذَا قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أُمَّةٌ كَانَتْ قِبَلَ وَاسِطٍ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبُوا مِنْهُ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنْ لَا مَفَرَّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَرَّ عَلَيْهِمْ حِزْقِيلُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ وَقَدْ عَرِيَتْ عِظَامُهُمْ، وَتَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَلَوَى شِدْقَهُ وَأَصَابِعَهُ تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَى. فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: نَادِ فِيهِمْ أَنْ قُومُوا بِإِذْنِ اللَّهِ. فَنَادَى، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ قِيَامًا يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ لَا أَنْتَ. وَمِمَّنْ قَالَ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ:

الْحَسَنُ، وَعَمَّارُ بْنُ دِينَارٍ.

وَقِيلَ: فَرُّوا مِنَ الْحُمَّى، حَكَاهُ النَّقَّاشُ.

وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَالزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ، إِلَّا إِنْ عُيِّنَ أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقِصَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ إِنْ ذُكِرَتْ كُلُّ قِصَّةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفِرَّ نَاسٌ مِنَ الْجِهَادِ، وَنَاسٌ مِنَ الطَّاعُونِ، وَنَاسٌ مِنَ الْحُمَّى، فَيُمِيتُهُمْ ثُمَّ يُحْيِيهِمْ لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ، وَيَعْتَبِرَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَلِيَعْلَمُوا جَمِيعًا أَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ بِيَدِ اللَّهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَافَ مِنْ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، وَلَا يَغْتَرَّ فَطِنٌ بِحِيلَةٍ أَنَّهَا تُنْجِيهِ مِمَّا شَاءَ اللَّهُ.

وَهُمْ أُلُوفٌ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ وَالتَّعَاضُدَ، وَإِنْ كَانَا نَافِعَيْنِ فِي دَفْعِ الْأَذِيَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَيْسَا بِمُغْنِيَيْنِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَأُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، فَقِيلَ: سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ:

ص: 561

تِسْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا سَبْعُونَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْبَعُونَ. وَقَالَ أَيْضًا:

بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: ثَلَاثُونَ، يَعْنُونَ أَلْفًا.

وَقَدْ فُسِّرَ بِمَا هُوَ لِأَدْنَى الْعَدَدِ اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ لِلْجَمْعِ الْقَلِيلِ، فَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: عَشَرَةُ آلَافٍ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: ثَمَانِيَةٌ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: سَبْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَرْبَعَةٌ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، لِأَنَّ أُلُوفًا جَمْعُ الْكَثِيرِ، وَلَا يُقَالُ لِمَا دُونَ الْعَشْرَةِ الْآلَافِ أُلُوفٌ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، فَقَدْ يُسْتَعَارُ أَحَدُ الْجَمْعَيْنِ لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ اسْتِعْمَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضُوعِهِ.

وَهَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ كُلُّهَا لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ: وَهُمْ أُلُوفٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُرَادَ ظَاهِرُ جَمْعِ أَلْفٍ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ عَالَمٌ كَثِيرُونَ، لَا يَكَادُونَ يُحْصِيهِمْ عَادٌّ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَهُمْ أُلُوفٌ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُكَ أَلْفَ مَرَّةٍ، لَا تُرِيدُ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ إِنَّمَا تُرِيدُ جِئْتُكَ مِرَارًا كَثِيرَةً لَا تَكَادُ تُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهَا وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

هُوَ الْمُنْزِلُ الْآلَافَ مِنْ جَوِّ نَاعِطٍ

بَنِي أَسَدٍ حُزْنًا مِنَ الْأَرْضِ أَوْعَرَا

وَلَعَلَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ أُلُوفًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا آلَافًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّكْثِيرَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُكَثِّرُ بِآلَافِ وَتَجْمَعُهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ أُلُوفٌ، جَمْعُ أَلْفٍ الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ مِائَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ. كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ.

أَيْ: خَرَجُوا وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ لَمْ يُخْرِجْهُمْ فُرْقَةُ قَوْمِهِمْ وَلَا فِتْنَةٌ بَيْنَهُمْ، بَلِ ائْتَلَفُوا، فَخَالَفَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ، فَخَرَجَتْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ وَابْتِغَاءَ الْحَيَاةِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ فِي مَنْجَاهُمْ بِزَعْمِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

وَقَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهُ جَمْعَ أَلْفٍ مِنَ الْعَدَدِ أَوْلَى، لِأَنَّ وُرُودَ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ تُفِيدُ مَزِيدَ اعْتِبَارٍ، وَأَمَّا وُرُودُهُ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمُ ائْتِلَافٌ فَكَوُرُودِهِ وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ وَجْهَ الِاعْتِبَارِ لَا يَتَغَيَّرُ.

حَذَرَ الْمَوْتِ هَذَا عِلَّةٌ لِخُرُوجِهِمْ، لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْمَوْتُ بِالطَّاعُونِ أَوْ بِالْجِهَادِ، حَمَلَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ لَهُ مَوْجُودَةٌ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا مُتَّحِدَ الْفَاعِلِ وَالزَّمَانِ.

ص: 562

فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ظَاهِرُهُ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا لِلَّهِ، فَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ. وَحُكِيَ: أَنَّ مَلَكَيْنِ صَاحَا بِهِمْ: مُوتُوا، فَمَاتُوا. وَقِيلَ: سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ فَتَوَفَّتْهُمْ، وَقِيلَ: لَا قَوْلَ هُنَاكَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَابِلِيَّتِهِمُ الْمَوْتَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَوْتِهِمْ كَمَوْتَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى:

فَأَمَاتَهُمْ، لَكِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّخْصِ الْمَأْمُورِ بِشَيْءٍ، الْمُسْرِعِ الِامْتِثَالَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَلَا امْتِنَاعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْ فَيَكُونُ «1» .

وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: فَمَاتُوا، وَظَاهِرُ هَذَا الْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ، فَقِيلَ: مَاتُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بَعْدُ، بِدُعَاءِ حِزْقِيلَ وَقِيلَ: سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الْقِصَصِ أَنَّهُ عَرِيَتْ عِظَامُهُمْ وَتَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَهَذَا الْمَوْتُ لَيْسَ بِمَوْتِ الْآجَالِ، بَلْ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ كَمَرَضٍ وَحَادِثٍ مِمَّا يَحْدُثُ عَلَى الْبَشَرِ، كَحَالِ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ «2» الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا.

ثُمَّ أَحْياهُمْ العطف بثم يَدُلُّ عَلَى تَرَاخِي الْإِحْيَاءِ عَنِ الْإِمَاتَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ لِيَسْتَوْفُوا آجَالَهُمْ.

وَظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا قَوْمَ حِزْقِيلَ، فَخَرَجَ فَوَجَدَهُمْ مَوْتَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي جَعَلْتُ حَيَاتَهُمْ إِلَيْكَ، فَقَالَ لَهُمُ: احْيَوْا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبِيُّ شَمْعُونُ، وَرِيحُ الْمَوْتَى تُوجَدُ فِي أَوْلَادِهِمْ. وَقِيلَ: النَّبِيُّ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُ شَمْوِيلُ وَهُوَ ذُو الْكِفْلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا أُحْيُوا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَعْرَقُونَ، لَكِنَّ سَحْنَةَ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَلَا يَلْبَسُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَفَنًا دَسِمًا، حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى إِمَاتَتِهِمْ تَذْلِيلُهُمْ تَذْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى الْمَوْتِ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ وَتَظَاهُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَانَهُمْ وَخَلَّصَهُمْ لِيَعْرِفُوا قُدْرَةَ اللَّهِ فِي أَنَّهُ يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: عَنَى بِالْمَوْتِ: الْجَهْلَ، وَبِالْحَيَاةِ: الْعِلْمَ، كَمَا يَحْيَا الْجَسَدُ بِالرُّوحِ.

وَأَتَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ تَشْجِيعًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وحثا على الجهاد

(1) سورة البقرة: 2/ 117، وآل عمران: 3/ 47 و 59. والأنعام: 6/ 73. والنحل: 16/ 40، ومريم: 19/ 35، ويس: 36/ 83، وغافر: 40/ 68.

(2)

سورة البقرة: 2/ 259.

ص: 563

وَالتَّعْرِيضِ لِلشَّهَادَةِ، وَإِعْلَامًا أَنْ لَا مَفَرَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا «1» وَاحْتِجَاجًا عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِإِنْبَائِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَا يَدْفَعُونَ صِحَّتَهُ، مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَمْ يُدَارِسْ أَحَدًا، وَعَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِذْ مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ يُصَدِّقُهُ فِي إِخْبَارِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ.

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أَكَّدَ هذه الجملة: بإن، وَاللَّامِ، وَأَتَى الْخَبَرُ: لَذُو، الدَّالَّةُ عَلَى الشَّرَفِ، بِخِلَافِ صَاحِبٍ، وَ: النَّاسِ، هُنَا عَامٌّ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لِلَّهِ عَلَيْهِ فَضْلٌ أَيُّ فَضْلٍ، وَخُصُوصًا هُنَا، حَيْثُ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يَسْتَبْصِرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ عَقْلًا، كَائِنَةٌ بِإِخْبَارِهِ تَعَالَى: إِذْ أَعَادَ إِلَى الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْعَيْنِ الْأَرْوَاحَ الْمُفَارِقَةَ، وَأَبْقَاهَا فِيهَا الْأَزْمَانَ الطَّوِيلَةَ إِلَى أَنْ قَبَضَهَا ثَانِيَةً، وَأَيُّ فَضْلٍ أَجَلُّ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ، إِذْ تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُلِّيَّاتِ الْعَقَائِدِ الْمُنْجِيَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: بالناس، هاهنا الْخُصُوصُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ فَفَرُّوا مِنْهُ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، فَأَمَاتَهُمْ، ثُمَّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْيَاءِ وَطَوَّلَ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ لِيَسْتَيْقِنُوا أن لا مفر من الْقَدَرِ، وَيَسْتَدْرِكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ بَلْ نَمْتَثِلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى.

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ تَقَدَّمَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِالْإِيجَادِ وَالرِّزْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى ذلك، وهذا الاستدراك:

بلكن، مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ: فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى فَضْلِهِ، فَاسْتَدْرَكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّاكِرَ قَلِيلٌ، كَقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2» وَيَخُصُّ: النَّاسِ، الثَّانِي بِالْمُكَلَّفِينَ.

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ، كَمَا قُلْنَا، تَنْبِيهًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ لَا تَفِرَّ مِنَ الْمَوْتِ كَفِرَارِ أُولَئِكَ، وَتَشْجِيعًا لَهَا، وَتَثْبِيتًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالْجِهَادِ، أَيْ: وَقَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ. انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ملتحمة بقوله:

(1) سورة التوبة: 9/ 51.

(2)

سورة سبأ: 34/ 13.

ص: 564

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «1» وَبِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً «2» لِأَنَّ فِي هَذَا إِشْعَارًا بِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ مَا جَاءَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ جَاءَ كَالِاعْتِرَاضِ، فَقَوْلُهُ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ «3» تَتْمِيمٌ أَوْ تَوْكِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اعْتِبَارٌ بِمَنْ مَضَى مِمَّنْ فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَمَاتَ، أَنْ لَا نَنْكُصَ وَلَا نُحْجِمَ عَنِ الْقِتَالِ، وَبَيَانُ الْمُقَاتِلِ فِيهِ، وَأَنَّهُ سَبِيلُ اللَّهِ فِيهِ حَثٌّ عَظِيمٌ عَلَى الْقِتَالِ، إِذْ كَانَ الْإِنْسَانُ يُقَاتِلُ لِلْحَمِيَّةِ، وَلِنَيْلِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُوَرِّثٌ لِلْعِزِّ الْأَبَدِيِّ وَالْفَوْزِ السَّرْمَدِيِّ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَالْمُتَبَادِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النِّيَّاتُ، فَيُجَازِي عَلَى ذَلِكَ.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْسِيسِ وَالتَّقْرِيبِ لِلنَّاسِ بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، شَبَّهَ تَعَالَى عَطَاءَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْقَرْضِ، كَمَا شَبَّهَ بذل النفوس والأموال في الْجَنَّةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي إِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، أَثْنَى عَلَى مَنْ بَذَلَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَانَ هَذَا أَقَلَّ حَرَجًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا بَذْلُ الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ، فَأَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الطَّلَبِ.

قَالَ ابْنُ الْمَغْرِبِيِّ: انْقَسَمَ الْخَلْقُ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ إلى فرق ثلاث.

الْأُولَى: الْيَهُودُ، قَالُوا: إِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ يَحْتَاجُ إِلَيْنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ عَظِيمَةٌ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ «4» .

وَالثَّانِيَةُ: آثَرَتِ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ، وَقَدَّمَتِ الرغبة في المال.

الثالثة: بَادَرَتْ إِلَى الِامْتِثَالِ، كَفِعْلِ أَبِي الدَّحْدَاحِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى.

وَ: مَنْ، اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: ذَا، وَ: الَّذِي، نَعْتٌ: لِذَا، أَوْ: بَدَلٌ مِنْهُ، وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ: من، وذا، بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ، كَمَا كانت: ما، مع:

(1) سورة البقرة: 2/ 238.

(2)

سورة البقرة: 2/ 239.

(3)

سورة البقرة: 2/ 241.

(4)

سورة آل عمران: 3/ 181.

ص: 565

ذَا، قَالَ: لِأَنَّ: مَا، أَشَدُّ إِبْهَامًا مِنْ: مَنْ، إِذَا كَانَتْ: مَنْ، لِمَنْ يَعْقِلُ. وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ تَرْكِيبَ: مَنْ، مَعَ: ذَا، فِي الِاسْتِفْهَامِ وَتَصْيِرَهُمَا كَاسْمٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي: مَا، وَ: ذَا، فَيُجِيزُونَ فِي: مَنْ ذَا عِنْدَكَ، أن يكون: من وذا، بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ.

وَانْتَصَبَ لفظ الجلالة: بيقرض، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: عِبَادَ اللَّهِ الْمَحَاوِيجَ، أَسْنَدَ الِاسْتِقْرَاضَ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْحَاجَاتِ، تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَةِ، كَمَا أَضَافَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمَرِيضِ وَالْجَائِعِ وَالْعَطْشَانِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى

فِي قَوْلِهِ، جَلَّ وَعَلَا:«يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي وَاسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي وَاسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي» . الْحَدِيثَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ.

وَانْتَصَبَ: قَرْضًا، عَلَى الْمَصْدَرِ الْجَارِي عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِقْرَاضًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: مَقْرُوضٍ، أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.

وَانْتَصَبَ: حَسَنًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: قَرْضًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ إِذَا أَعْرَبْنَا قَرْضًا مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ: إِقْرَاضًا حَسَنًا، وَوَصْفُهُ بِالْحُسْنِ لِكَوْنِهِ طَيِّبَ النِّيَّةِ خَالِصًا لِلَّهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ. أَوْ، لِكَوْنِهِ يَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَهُ، أَوْ: لِكَوْنِهِ جَيِّدًا كَثِيرًا، أَوْ: لِكَوْنِهِ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، أَوْ: لِكَوْنِهِ لَا يَطْلُبُ بِهِ عِوَضًا، قَالَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ التُّسْتَرِيُّ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَيُضَعِّفُهُ، بِالتَّشْدِيدِ مِنْ ضَعَّفَ، وَالْبَاقُونَ: فَيُضَاعِفُهُ، مِنْ ضَاعَفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، بِنَصْبِ الْفَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى صِلَةِ الَّذِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُقْرِضُ، أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: فَهُوَ يُضَاعِفُهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ، وَإِنْ كَانَ عَنِ الْمُقْرِضِ، فَهُوَ عَنِ الْإِقْرَاضِ فِي الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ فَيُضَاعِفَهُ؟

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الرَّفْعُ أَحْسَنُ، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، لَا عَنِ الْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ، فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَقَدْ جَاءَ

فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»

. وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْمِيَّةِ وَالْحَرْفِيَّةِ.

ص: 566

وَانْتَصَبَ: أَضْعَافًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي: يُضَاعِفُهُ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، تَضَمَّنَ مَعْنَى فَيُضَاعِفُهُ: فَيُصَيِّرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِاعْتِبَارِ أَنْ يُطْلِقَ الضِّعْفَ، وَهُوَ الْمُضَاعِفُ أَوِ الْمُضَعَّفُ، بِمَعْنَى الْمُضَاعَفَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، كَمَا أَطْلَقَ الْعَطَاءَ وَهُوَ اسْمُ الْمُعْطَى بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ جِهَاتِ التَّضْعِيفِ بِاعْتِبَارِ الْإِخْلَاصِ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ لَكِنَّهَا كَثِيرَةٌ.

قَالَ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: لَا يَعْلَمُ كُنْهَ التَّضْعِيفِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَتْ مَقَادِيرُ مِنَ التَّضْعِيفِ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «1» ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «2» .

قِيلَ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ: صَدَقَةٍ، وَجِهَادٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: خَاصَّةٌ بِالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَقِيلَ: بِالصَّدَقَةِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ.

وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أَيْ: يَسْلُبُ قَوْمًا وَيُعْطِي قَوْمًا، أَوْ: يُقَتِّرُ وَيُوَسِّعُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدَقَاتِ وَيَخْلُفُ الْبَذْلَ مَبْسُوطًا، أَوْ: يَقْبِضُ أَيْ: يُمِيتُ لِأَنَّ مَنْ أَمَاتَهُ فَقَدْ قَبَضَهُ، وَيَبْسُطُ أَيْ: يُحْيِيهِ، لِأَنَّ مَنْ مَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ فَقَدْ بَسَطَهُ، أَوْ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْقُلُوبِ فَلَا تَنْبَسِطُ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا فَيُقَدِّمُ خَيْرًا لِنَفْسِهِ، أَوْ: يَقْبِضُ بِتَعْجِيلِ الْأَجَلِ، وَيَبْسُطُ بِطُولِ الْأَمَلِ، أَوْ: يَقْبِضُ بالحظر وَيَبْسُطُ بِالْإِبَاحَةِ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدْرَ وَيُوَسِّعُهُ، أَوْ يَقْبِضُ يَدَ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَيَبْسُطُ يَدَ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنْفَاقِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدَقَةَ وَيَبْسُطُ الثَّوَابَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَلِلْمُتَصَوِّفَةِ فِي: الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، أَقَاوِيلُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِخِلَافٍ عَنْ خَلَّادٍ، وَحَفْصٍ، وَهِشَامٍ، وَقُنْبُلٍ، وَالنَّقَّاشِ، عَنِ الْأَخْفَشِ هُنَا، وَأَبُو قُرَّةَ عَنْ نَافِعٍ: يَبْسُطُ بالسين، وخير الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ قَالُونَ، عَنْ نَافِعٍ، وَالْبَاقُونَ: بِالصَّادِ.

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ أَيْ: فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.

قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ضُرُوبِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَصُنُوفِ الْبَلَاغَةِ:

الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي أُجْرِيَ مَجْرَى التَّعَجُّبِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ وَالْحَذْفَ بَيْنَ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، أَيْ: فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: مَلَكُ اللَّهِ بِإِذْنِهِ،

(1- 2) سورة البقرة: 2/ 261.

ص: 567

وفي: لَا يَشْكُرُونَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: تُرْجَعُونَ، فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا عَمِلَ. وَالطِّبَاقَ فِي قَوْلِهِ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَفِي: يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَالتَّكْرَارَ فِي: عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَالِالْتِفَاتَ فِي: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالتَّشْبِيهَ بِغَيْرِ أَدَاتِهِ فِي: قَرْضًا حَسَنًا، شَبَّهَ قَبُولَهُ تَعَالَى إِنْفَاقَ الْعَبْدِ فِي سَبِيلِهِ وَمُجَازَاتِهِ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ الْحَقِيقِيِّ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْقَرْضِ عَلَيْهِ، وَالِاخْتِصَاصَ بِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: حَسَنًا وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قِصَّةَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ حَذَرَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِالْقِتَالِ أَوْ بِالطَّاعُونِ، عَلَى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ وَالتَّثْبِيتِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ: لَا يُنْجِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَطْلُوبًا مَشْرُوعًا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَلَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي خُصِصْتُمْ بِهَا، لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَانَتِ النَّفْسُ أَمْيَلَ لِقَبُولِهِ مِنَ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَكُونُ يَقَعُ بِهِ الِانْفِرَادُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالْمَلَأُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

جَمِيعُ الْقَوْمِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ وَضْعِ اللَّفْظَةِ. وَتُسَمَّى الْأَشْرَافُ الْمَلَأَ تَشْبِيهًا. انْتَهَى. يَعْنِي: وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَشْبِيهًا بِجَمِيعِ الْقَوْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَلَأِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.

مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ هُوَ صِلَةٌ لِلْمَلَأِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، كَمَا زَعَمُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:

لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيَتُ أَكْرَمُ أَهْلِهِ فَأَكْرَمُ عِنْدَهُمْ صِلَةٌ لِلْبَيْتِ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَذَلِكَ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الْعَامِلُ فِيهِ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ.

مِنْ بَعْدِ مُوسى مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ هُوَ كَائِنِينَ، وَتَعَدَّى إِلَى حَرْفَيْ جَرٍّ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ لاختلاف المعنى فمن، الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ وَ: مِنْ، الثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، إِذِ الْعَامِلُ فِي هَذَا الظَّرْفِ، قَالُوا: تَرَ، وَقَالُوا: هُوَ بَدَلٌ مِنْ: بَعْدِ، لِأَنَّهُمَا زَمَانَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ.

ص: 568

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ أَلَمْ تَرَ تَقْرِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قَدِ انْتَهَى عِلْمُكَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ نَظَرْتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُوا، وَلَيْسَ انْتِهَاءُ عِلْمِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَا نَظَرُهُ إِلَيْهِمْ كَانَ فِي وَقْتِ قَوْلِهِمْ لِنَبِيٍّ لَهُمْ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا لِلِانْتِهَاءِ، وَلَا لِلنَّظَرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْمُولًا لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا؟ هَذَا مَا لَا يَصِحُّ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلًا مِنْ: بَعْدِ، لَكَانَ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَامِلِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ عَلَيْهِ، أَعْنِي: مِنْ، الدَّاخِلَةَ عَلَى: بَعْدِ، لَا تَدْخُلُ عَلَى: إِذْ، لَا تَقُولُ: مِنْ إِذْ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الظُّرُوفُ الَّتِي يَدْخُلُ عَلَيْهَا: مَنْ، كَوَقْتٍ وَحِينٍ، لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى أَيْضًا، لِأَنَّ: مِنْ، بَعْدِ: مُوسَى، حَالٌ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. إِذِ الْعَامِلُ فِيهِ: كَائِنِينَ، وَلَوْ قُلْتَ: كَائِنِينَ مِنْ حِينِ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا، لَمَا صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَيُنْظَرُ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ بِهِ يَصِحُّ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْعَامِلُ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى قِصَّةِ الْمَلَأِ، أَوْ: حَدِيثِ الْمَلَأِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ. لِأَنَّ الذَّوَاتَ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِمَّا جَرَى لَهُمْ، فَصَارَ الْمَعْنَى:

أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا جَرَى لِلْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، إِذْ قَالُوا؟ فَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، هُوَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِهِ، وتعلق قوله: لنبي، بقالوا، وَاللَّامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِلتَّبْلِيغِ، وَاسْمُ هَذَا النَّبِيِّ: شَمْوِيلُ بْنُ بَالِي، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَوْ: شَمْعُونُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ اسْمُهُ عِيسَى، وَضَعَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُوشَعُ بِأَنْ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى عليه السلام، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاوُدَ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ،

وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ وَنَحْنُ نُلَخِّصُهَا فَنَقُولُ: لَمَّا مَاتَ مُوسَى عليه السلام، خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوشَعَ يُقِيمُ فِيهِمُ التَّوْرَاةَ، ثُمَّ قُبِضَ فَخَلَفَ حِزْقِيلُ، ثُمَّ قُبِضَ فَفَشَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، حَتَّى عَبَدُوا الْأَوْثَانَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ الْيَسَعَ، ثُمَّ قُبِضَ، فَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، وَظَهَرَ لَهُمْ عَدُّوهُمُ الْعَمَالِقَةُ قَوْمُ جَالُوتَ، كَانُوا سُكَّانَ سَاحِلِ بَحْرِ الرُّومِ، بَيْنَ مِصْرَ وَفِلَسْطِينَ، وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَغَلَبُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَأَسَرُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِهِمْ كَثِيرًا، وَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ هَلَكُوا إِلَّا امْرَأَةً حُبْلَى دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَرَزَقَهَا شَمْوِيلَ، فَتَعَلَّمَ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَتَبَنَّاهُ فَلَمَّا بَلَغَ النُّبُوَّةَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى جَنْبِ الشَّيْخِ، وَكَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ، فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ: يَا شَمْوِيلُ، فَقَامَ

ص: 569

فَزِعًا، وَقَالَ: يَا أَبَتِ دَعَوْتَنِي، فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَا، فَيَفْزَعَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ نَمْ، فَجَرَى بِذَلِكَ لَهُ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلَا تُجِبْنِي، فَظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَبَلِّغْ قَوْمَكَ رِسَالَةَ رَبِّكَ، قَدْ بَعَثَكَ نَبِيًّا. فَأَتَاهُمْ، فَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: إِنْ كُنَتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سبيل الله آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، وَكَانَ قوام بني إسرائيل بالإجماع عَلَى الْمُلُوكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَسِيرُ بِالْجُمُوعِ، وَالنَّبِيُّ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ وَقَالَ وَهْبٌ: بُعِثَ شَمْوِيلُ نَبِيًّا فَلَبِثُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً بِأَحْسَنِ حَالٍ، وَكَانَ اللَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْجِهَادَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تولوا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ جَالُوتَ وَالْعَمَالِقَةِ مَا كَانَ.

وَمَعْنَى: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا: أَنْهِضْ لَنَا مَنْ نَصْدُرُ عنه في تدبير بالحرب، وَنَنْتَهِي إِلَى أَمْرِهِ، وَانْجَزَمَ: نُقَاتِلْ، عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الصفة للملك وقرىء بِالنُّونِ وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الحال من المجرور، وقرىء بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.

قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا لَمَّا طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُنْهِضَ لَهُمْ مَلِكًا، وَرَتَّبُوا عَلَى بَعْثِهِ أَنْ يُقَاتِلُوا وَكَانُوا قَدْ ذُلُّوا، وَسُبِيَ مُلُوكُهُمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الْأَنَفَةُ، وَرَغِبُوا فِي الجهاد، أراد أن يستتب مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْجِهَادِ، وَأَنْ يَتَعَرَّفَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ، فَاسْتَفْهَمَ عَنْ مُقَارَبَتِهِمْ تَرْكَ الْقِتَالِ إِنْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ دَاعٍ إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، فَقَالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أَيْ هَذِهِ حَالُ مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ طَالِبُ ثَأْرٍ، وَمُتَرَجٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ الظَّفَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ إِنَّمَا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَمَّا أَقْلَعُوا وَتَابُوا، وَرَجَعُوا لِطَوْعِ الْأَنْبِيَاءِ، قَوِيَتْ آمَالُهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، قِيلَ: وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ ظَنَّ مِنْهُمُ الْجُبْنَ وَالْفَشَلَ فِي الْقِتَالِ، فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ، وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا ظَنَّهُ وَتَوَقَّعَهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْهُمْ، وَكَانَ كَمَا تَوَقَّعَ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ: عَسِيتُمْ، بِكَسْرِ السِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْقِتَالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: عَسَى، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْأَكْثَرُ فَتْحُ السِّينِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ: هُوَ عَسٌ بِذَلِكَ، مِثْلُ: حروشج، فَإِنْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى ظَاهِرٍ فَقِيَاسُ عَسِيتُمْ، أَنْ يُقَالَ: عَسِيَ زَيْدٌ، مِثْلُ: رَضِيَ، فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ الْقِيَاسُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَسَائِغٌ أَنْ تَأْخُذَ بِاللُّغَتَيْنِ وَتُسْتَعْمَلُ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْأُخْرَى، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ.

انْتَهَى. وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا تُكْسَرُ السِّينُ إِلَّا مَعَ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَنُونِ

ص: 570

الإناث، نحو: عسيت، وَعَسِينَ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ لَا الْوُجُوبِ، وَيُفْتَحُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَلَا يُسَوَّغُ الْكَسْرُ نَحْوَ: عَسَى زَيْدٌ وَالزَّيْدَانِ عَسَيَا، وَالزَّيْدُونَ عَسَوْا، والهندان عسيا، وعساك، وعساني، وَعَسَاهُ. وَقَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَدْفُوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ يَكْسِرُونَ السِّينَ مِنْ عَسَى مَعَ الْمُضْمَرِ خَاصَّةً، وَإِذَا قِيلَ: عَسَى زَيْدٌ فَلَيْسَ إِلَّا الْفَتْحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الْمُضْمَرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَوْ كَانَ عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السين لقرىء: عَسِيَ رَبُّكُمْ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، وَدُخُولُ: هَلْ، عَلَى: عَسَيْتُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَسَى فِعْلٌ خَبَرِيٌّ لَا إِنْشَائِيٌّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَسَى إِنْشَاءٌ لِأَنَّهُ تَرَجٍّ، فَهِيَ نَظِيرَةُ لَعَلَّ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جَاءَنِي الَّذِي عَسَى أَنْ يُحْسِنَ إِلَيَّ! وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِشَامٌ فَأَجَازَ وَصْلَ الْمَوْصُولِ بِهَا، وَوُقُوعُهَا خَبَرًا لِأَنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِعْلٌ خَبَرِيٌّ، وَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ الرَّاجِزُ:

لَا تَلْحَنِي إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمًا إِلَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ:

إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ

لَا تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا

لِأَنَّ: إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ خَبَرًا لَهَا مِنَ الْجُمَلِ، إِلَّا الْجُمَلَ الْخَبَرِيَّةَ، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، هَذَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ ضَعِيفٌ.

وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، مَحْذُوفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَتَوَسَّطَ الشَّرْطُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى حَذْفِهِ، كَمَا تَوَسَّطَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ «1» وَخَبَرُ عَسَيْتُمْ: أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ: أَنْ، زِيدَتْ فِي الْخَبَرِ، إِذْ: عَسَى لِلتَّرَاخِي، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ: عَسَى، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ، جَعَلَ: أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، هُوَ الْمَفْعُولَ، وَ: أَنْ، مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَاوُ فِي:

وَمَا لَنَا، لِرَبْطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَوْ حُذِفَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي اللَّفْظِ وَإِنْكَارٌ فِي الْمَعْنَى، وَ: أَنْ لَا نُقَاتِلَ، أَيْ: فِي تَرْكِ الْقِتَالِ، حُذِفَ الْجَرُّ الْمُتَعَلِّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: لَنَا، الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذْ هِيَ مُبْتَدَأٌ، وَ: أَنْ لَا نُقَاتِلَ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ: فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ سيبويه والخليل و: ذهب أَبُو الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ: أَنْ، زَائِدَةٌ، وَعَمِلَتِ النَّصْبَ كَمَا عَمِلَ بَاءُ الْجَرِّ الزَّائِدُ الْجَرَّ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أي:

(1) سورة البقرة: 2/ 70. [.....]

ص: 571

وَمَا لَنَا غَيْرُ مُقَاتِلِينَ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ «1» مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «2» وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «3» وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا لَكَ قَائِمًا؟ وَقَالَ تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «4» وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى حَذْفِ الْوَاوِ مِنْ:

أَنْ لَا نُقَاتِلَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا لَنَا وَلِأَنْ لَا نُقَاتِلَ؟ قَالَ: كَمَا تَقُولُ: إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ، بِمَعْنَى إِيَّاكَ وَأَنْ تَتَكَلَّمَ، وَهَذَا وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ لَيْسَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَذْفَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَا نَذْهَبُ إِلَيْهِمَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو هُنَا إِلَى ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى فِي عَدَمِ الزِّيَادَةِ وَالْحَذْفِ، وَأَمَّا: إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ، فَلَيْسَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، بَلْ: إِيَّاكَ، مُضَمَّنٌ مَعْنَى احْذَرْ. فَأَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: احْذَرِ التَّكَلُّمَ، وَقَدْ أُخْرِجْنَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ: أَنْكَرُوا تَرْكَ الْقِتَالِ، وَقَدِ الْتَبَسُوا بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَالْقَائِلُ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ، لَكِنَّهُ أُخْرِجَ مِثْلُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْرَاجًا لَهُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمُ اسْتُولِيَ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَأُسِرَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَارْتَحَلُوا إِلَى غَيْرِ بلادهم التي كان منشأهم بِهَا، كَمَا مَرَّ فِي قِصَّتِهِمْ.

وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَقَدْ أَخْرَجَنَا، أَيِ الْعَدُوُّ، وَالْمَعْنَى. فِي: وَأَبْنَائِنَا، أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَبْنَائِنَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْقَلْبِ أَيْ: وَأُخْرِجَ مِنَّا أَبْنَاؤُنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ: بأخرجنا، عَلَى قِرَاءَةِ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ: وَقَدْ أَخْرَجَنَا اللَّهُ بِعِصْيَانِنَا وَذُنُوبِنَا، فَنَحْنُ نَتُوبُ وَنُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ لِيَرُدَّنَا إِلَى أَوْطَانِنَا، وَيَجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبْنَائِنَا، كَمَا تَقُولُ: مَا لِي لَا أُطِيعُ اللَّهَ وَقَدْ عَاقَبَنِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ أُطِيعَهُ حَتَّى لَا يُعَاقِبَنِي، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:

أَظْهَرُوا التَّجَلُّدَ وَالتَّصَلُّبَ فِي الْقِتَالِ ذَبًّا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ حَيْثُ قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلِذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ قَصْدُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِحَقِّ اللَّهِ عَزْمُهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا لَنَا أَنْ لَا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا، لَعَلَّهُمْ وُفِّقُوا لِإِتْمَامِ مَا قَصَدُوا.

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ هَذَا شَأْنُ الْمُتْرَفِ الْمُنَعَّمِ، مَتَى كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالنِّعْمَةِ قَوِيَ عَزْمُهُ وَأَنِفَ، فَإِذَا ابْتُلِيَ بشيء من الخطوب ركع وَذُلُّ.

التَّوَلِّي: حَقِيقَةً هُوَ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لِلْحَرْبِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا: صَرْفُ عَزَائِمِهِمْ عَنْ ما سألوه

(1) سورة يوسف: 12/ 11.

(2)

سورة نوح: 71/ 13.

(3)

سورة الحديد: 57/ 8.

(4)

سورة المدثر: 74/ 49.

ص: 572

مِنَ الْقِتَالِ، وَانْتَصَبَ: قَلِيلًا، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمَا، لَوْ قُلَتَ: ضَرَبْتُ الْقَوْمَ إِلَّا رِجَالًا، لَمْ يَصِحَّ، وَصَحَّ هَذَا لِاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ، وَلِتَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا عِدَّةَ هَذَا الْقَلِيلِ، وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ،

صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ قَوْمِ طَالُوتَ» ، وَهَؤُلَاءِ الْقَلِيلُ ثَبَتُوا عَلَى نِيَّاتِهِمُ السَّابِقَةِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَزَائِمُهُمْ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِمْ.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تَوَلَّوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ الْكَوْنَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ جُثَثٌ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ، وَزَيْدًا، بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَامَّةً، وَالنَّصْبُ عَلَى أنها ناقصة، واسمها ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌّ فِيهَا يَعُودُ عَلَى الْبَعْضِ الْمَفْهُومِ مِمَّا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ، أَيْ: بَعْضُهُمْ زَيْدًا، وَالْمَعْنَى قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا كَوْنُ زَيْدٍ فِي الْقَائِمِينَ، وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ فِي الْقَائِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ قَائِمًا، فَلَا فَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْنَ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَبَيْنَ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ أَوْ زَيْدًا.

وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ تَقَاعَدَ عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ بِسُؤَالِهِ وَرَغْبَتِهِ، وَأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ظُلْمٌ، إِذِ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ في غير موضعه.

وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً

قَوْلُ النَّبِيِّ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ

، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسُؤَالٍ مِنَ النَّبِيِّ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ سُؤَالِهِ، بَلْ لَمَّا عَلِمَ حَاجَتَهُمْ إِلَيْهِ بَعَثَهُ.

وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا، فَأَتَى بِعَصًا وَقَرْنٍ فِيهِ دُهْنُ الْقُدْسِ وَقِيلَ: الَّذِي يَكُونُ مَلِكًا طُولُهُ طُولُ هَذِهِ الْعَصَا، وَقِيلَ: لِلنَّبِيِّ. انْظُرِ الْقَرْنَ فَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ فَنَشَّ الدُّهْنَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَصَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ: طَالُوتُ سَقَّاءً عَلَى مَاءٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: دَبَّاغًا عَلَى مَا قَالَهُ وَهْبٌ، أَوْ مُكَارِيًا، وَضَاعَ حِمَارٌ لَهُ، أَوْ حُمُرٌ لِأَهْلِهِ، فَاجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ لِيَسْأَلَهُ عَنْ مَا ضَاعَ لَهُ وَيَدْعُو اللَّهَ لَهُ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهُ نَشَّ ذَلِكَ الْقَرْنَ، وَقَاسَهُ النَّبِيُّ بِالْعَصَا، فَكَانَ طُولَهَا، فَقَالَ لَهُ: قَرِّبْ رَأْسَكَ فَقَرَّبَهُ وَدَهَنَهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ، وَقَالَ: أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أُمَلِّكَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ طَالُوتُ: أَنَا؟

ص: 573

قال: نعم. قال: أو ما عَلِمْتَ أَنَّ سِبْطِي أَدْنَى أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَيْتِي أَدْنَى بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَبِآيَةِ أَنَّكَ تَرْجِعُ وَقَدْ وَجَدَ أَبُوكَ حُمُرَهُ. وَكَانَ كَذَلِكَ.

وَانْتَصَبَ: مَلِكًا عَلَى الْحَالِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَلَّكَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ.

قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ هَذَا كَلَامُ مَنْ تَعَنَّتَ وَحَادَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهِيَ عَادَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ إِذْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ عَنِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً أن يسلموا لأمر الله، وَلَا تُنْكِرُهُ قُلُوبُهُمْ، وَلَا يَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَفِي الْمَقَادِيرِ أَسْرَارٌ لَا تُدْرَكُ، فَقَالُوا: كَيْفَ يُمَلَّكُ عَلَيْنَا من هو دوننا.

لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ الَّذِي هُوَ سِبْطُ يَهُوذَا. وَمِنْهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ؟ وَلَيْسَ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ الَّذِي هُوَ سِبْطُ لَاوِي وَمِنْهُ مُوسَى وَهَارُونُ؟ قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: وَكَانَ سِبْطُ طَالُوتَ قَدْ عَمِلُوا ذَنْبًا عَظِيمًا، نَكَحُوا النِّسَاءَ نَهَارًا عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَنَزَعَ النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ سِبْطَ الْإِثْمِ.

وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا إِلَى آخِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ أَنْ لَا يُقَدَّمَ الْمَفْضُولُ عَلَى الْفَاضِلِ، وَاسْتِحْقَارُ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ، فَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَالْمُلْكُ يَحْتَاجُ إِلَى أَصَالَةٍ فِيهِ، إِذْ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ، وَإِلَى غِنًى يَسْتَعْبِدُ بِهِ الرِّجَالَ، وَيُعِينُهُ عَلَى مَقَاصِدِ الْمُلْكِ، لَمْ يَعْتَبِرُوا السَّبَبَ الْأَقْوَى، وَهُوَ: قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ «1» وَاعْتَبَرُوا السَّبَبَ الْأَضْعَفَ، وَهُوَ: النَّسَبُ والغنى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «2»

«لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ «3» قَالَ الشَّاعِرُ:

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ إِلَى عَاقِلٍ

فُتُوٌّ عَنِ الْمَجْدِ مُسْتَأْخِرَهْ

إِذَا سُئِلُوا مَا لَهُمْ مِنْ عُلًا؟

أَشَارُوا إِلَى أَعْظُمٍ ناخره

(1) سورة آل عمران: 3/ 26.

(2)

سورة الحجرات: 49/ 13.

(3)

سورة البقرة: 2/ 221.

ص: 574

وَ: أَنَّى، هُنَا بِمَعْنَى: كَيْفَ؟ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَ: يَكُونُ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ، وَ: لَهُ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي: أَنَّى، وَ: عَلَيْنَا، مُتَعَلِّقٌ:

بالملك، عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ، تَقُولُ: فُلَانٌ مَلِكٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَقِيلَ: عَلَيْنَا، حَالٌ مِنَ:

الْمُلْكُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً وَ: لَهُ، متعلق، بيكون، أَيْ: كَيْفَ يَقَعُ؟ أَوْ: يَحْدُثُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ اسْمِيَّةٌ عُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ فعلية، وهي لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، وُجُودُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَفَقْرُهُ، لَا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ. وَيُعَلَّقُ: بِالْمُلْكِ، وَ: مِنْهُ، بأحق، وتعلق: من المال، بيؤت، وَفُتِحَتْ سِينُ السَّعَةِ لِفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، إِذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُهَا الْكَسْرُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلُهُ، يُوسِعُ، كَوَثِقَ يَثِقُ، وَإِنَّمَا فُتِحَ عَيْنُ الْمُضَارِعِ لِكَوْنِ لَامِهِ حَرْفَ حَلْقٍ، فَهَذِهِ فَتْحَةٌ أَصْلُهَا الْكَسْرُ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ الْوَاوُ، لِوُقُوعِهَا فِي يَسَعُ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، لَكِنْ فُتِحَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا الْفَتْحَ لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْوَاوِ، أَلَا تَرَى ثُبُوتَهَا فِي يَوْجَلُ؟

لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ بَيْنَ كَسْرَةٍ وَيَاءٍ، فَالْمَصْدَرُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَذْفِ مَحْمُولَانِ عَلَى الْمُضَارِعِ، كَمَا حَمَلُوا: عِدَةً وعد عَلَى يَعِدُ.

قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أَيِ: اخْتَارَهُ صَفْوَةً، إِذْ هُوَ أَعْلَمُ تَعَالَى بِالْمَصَالِحِ، فَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَى اللَّهِ.

وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ قِيلَ: فِي الْعِلْمِ بِالْحُرُوبِ، وَالظَّاهِرُ عِلْمُ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَقِيلَ: قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ ونبىء، وَأَمَّا الْبَسْطَةُ فِي الْجِسْمِ فَقِيلَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ مَعَانِي:

الْخَيْرِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَقَهْرِ الْأَعْدَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ: الِامْتِدَادُ، وَالسَّعَةُ فِي الْجِسْمِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ طَالُوتُ يَوْمَئِذٍ أَعْلَمَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي طُولِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ طَالُوتَ لِلْمُلْكِ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «1» وَبِمَا أَعْطَاهُ مِنَ السَّعَةِ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي لَا شَيْءَ أَشْرَفُ مِنْهُ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَمِنْ بَسْطَةِ الْجِسْمِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ عِظَمًا فِي النُّفُوسِ وَهَيْبَةً وَقُوَّةً، وَكَثِيرًا مَا تَمَدَّحَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:

(1) سورة القصص: 28/ 68.

(2)

سورة فاطر: 35/ 28.

ص: 575

فَجَاءَتْ بِهِ سَبْطَ الْعِظَامِ كَأَنَّمَا

عِمَامَتُهُ بَيْنَ الرِّجَالِ لِوَاءُ

وَقَالَ:

بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ

يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ

وَقَالَ:

تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ

وَأَنَّ أَعِزَّاءَ الرِّجَالِ طِيَالُهَا

وَقَالُوا فِي الْمَدْحِ: طَوِيلُ النِّجَادِ رَفِيعُ الْعِمَادِ،

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا مَاشَى الطِّوَالَ طَالَهُمْ.

قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْمُلْكِ، وَقَالَ وَهْبٌ، وَالسُّدِّيُّ، قَبْلَ الْمُلْكِ، فَالْمَعْنَى: وَزَادَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ بَسْطَةً، بِالسِّينِ، أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، و: بالصاد نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، رِوَايَةُ النقاش، وزرعان، والشموني. وَزَادَ: لَئِنْ بَصَطْتَ، وَبِبَاصِطٍ، وَكَبَاصِطٍ، وَمَبْصُوطَتَانِ، وَلَا تَبْصُطْهَا كُلَّ الْبَصْطِ، وَأَوْصَطِ، وَفَمَا اصْطَاعُوا، وَيَصْطُونَ، وَالْقِصْطَاسِ، وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو نَشِيطٍ عَنْ قَالُونَ.

وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ مَعْمُولِ قَوْلِ النَّبِيِّ لَهُمْ، لَمَّا عَلِمَ بُغْيَتَهُمْ فِي مَسَائِلِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ فِي الْحُجَجِ الَّتِي تُبْدِيهَا، أَتَمَّ كَلَامَهُ بِالْأَمْرِ الْقَطْعِيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَلَمَّا قَالُوا: وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ فَكَانَ فِي قَوْلِهِمُ ادِّعَاءُ الْأَحَقِّيَّةِ فِي الْمُلْكِ، حَتَّى كَأَنَّ الْمُلْكَ هُوَ فِي مُلْكِهِمْ، أَضَافَ الْمُلْكَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَلِكًا، فَالْمَلِكُ مُلْكُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا أَرَادَ، فَلَسْتُمْ بِأَحَقَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ مُلْكُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ لَيْسَتَا دَاخِلَتَيْنِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ، بَلْ هِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، جَاءَتْ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ لِمَنْ يُؤْتِيهِ اللَّهُ الْمُلْكَ، أَيْ: فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي مُلْكِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ «1» وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، إِذْ تَقَدَّمَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُمُ الْأَغْنِيَاءُ، وَأَنَّ طَالُوتَ لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ وَاسِعٌ، يُوَسِّعُ فَضْلَهُ عَلَى الْفَقِيرِ، عَلِيمٌ بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، فَيَضَعُهُ فِيهِ وَيَخْتَارُهُ لَهُ.

وَفِي قِصَّةِ طَالُوتَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ وِرَاثَةً، لِإِنْكَارِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا أَنْكَرُوهُ مِنَ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مستحق بالعلم والقوّة

(1) سورة الأنبياء: 21/ 23.

ص: 576

لَا بِالنَّسَبِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّسَبِ مَعَ الْعِلْمِ، وَفَضَائِلِ النَّفْسِ، وَأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ لِاخْتِيَارِ اللَّهِ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ، لِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَشْرَفَ مِنْهُ نَسَبًا.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ الْإِخْبَارَ بِقِصَّةِ الْخَارِجِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِالْقَتْلِ إِذْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَإِمَّا بِالْوَبَاءِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا مَفَرَّ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِئَلَّا نَسْلُكَ مَا سَلَكُوهُ، فَنُحْجِمَ عَنِ الْقِتَالِ، فَأَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُثْبِتَةً لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَذَلِكَ بِإِحْيَائِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤَدِّي شُكْرَ اللَّهِ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِنَا، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِنَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَقْرَضَ اللَّهَ فَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بِيَدِهِ الْقَبْضَ وَالْبَسْطَ، وَأَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِقِصَّةِ الملإ من بني إسرائيل، وذلك لنعتبر بها وتقتدي مِنْهَا بِمَا كَانَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ حَسَنًا، وَنَجْتَنِبَ مَا كَانَ قَبِيحًا. وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ عَلَيْنَا لِنَعْتَبِرَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، فَمَلَكَ بِلَادَهُمْ وَأَسَرَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلِكٌ يَسُوسُهُمْ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ، إِذْ هِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَنْ يُصْدَرُ عَنْ أَمْرِهِ وَيُجْتَمَعُ عَلَيْهِ، فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُنْهِضَ.

لَهُمْ مَلِكًا بِرَسْمِ الجهاد في سبيل الله، فَتَوَقَّعَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ نَكَصُوا عَنْهُ، فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّا قَدْ وُتِرْنَا، وَأُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا، وَأَبْنَائِنَا، وَهَذَا أَصْعَبُ شَيْءٍ عَلَى النُّفُوسِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ مَسْكَنٍ أَلِفَهُ، وَيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبْنَائِهِ، وَلِهَذَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«اللَّهُمَّ حَبِّبْ لَنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَكْثَرَ» . وَكَثِيرًا مَا بَكَى الشُّعَرَاءُ الْمَسَاكِنَ وَالْمَعَاهِدَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بِلَالٍ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَكَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُحَدِّثُ قَدْ رُزِقَ مِنَ النَّصِيبِ فِي الدُّنْيَا وَالْجَلَالَةِ، وَحَمَلَ النَّاسُ الْعِلْمَ عَنْهُ، وَكَانَ بِبَغْدَادَ، فَعَبَرَ مَرَّةً عَلَى مَكَانِ مَوْلِدِهِ وَمَنْشَئِهِ صَغِيرًا بِبَغْلَانَ، قِيلَ: وَهِيَ ضَيْعَةٌ مِنْ أَصْغَرِ الضَّيَاعِ، فَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ مُقِيمًا بِهَا، وَيَتْرُكَ رِئَاسَةَ بَغْدَادَ، دَارِ الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ نُزُوعٌ إِلَى الْوَطَنِ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ: أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنَّهُ أَخَذَ أَمْرَ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، ثُمَّ عَرَّضَ تَعَالَى بِالظَّالِمِينَ، وَهُمُ: الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا أَمْرَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا طَلَبُوهُ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِمْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنِ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ بَعَثَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْفَسِهِمْ وَلَا أَشْرَفِهِمْ مَنْصِبًا، إِذْ لَيْسَ مِنْ

ص: 577