المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٢

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 157]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 167]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 176]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 177 الى 182]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 188]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 189 الى 196]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 202]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 203 الى 212]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 213 الى 218]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 229]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 230]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 233]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 239]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 257]

- ‌[سُورَةُ البقرة (2) : الآيات 258 الى 260]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 266]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 274]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286]

قَالَ الْجُمْهُورُ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ يَوْمُ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَالْمَعْنَى إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَصْلِ قَضَائِهِ.

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أَيْ تُعْطَى وَافِيًا جَزَاءً مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِيهِ نَصٌّ عَلَى تَعَلُّقِ الْجَزَاءِ بِالْكَسْبِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ.

وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ مِمَّا يَكُونُ جَزَاءَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَا يُزَادُونَ عَلَى جَزَاءِ الْعَمَلِ السَّيْءِ مِنَ الْعِقَابِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ أَوَلًا فِي: كَسَبَتْ، عَلَى لَفْظِ: النَّفْسِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، عَلَى الْمَعْنَى لِأَجْلِ فَاصِلَةِ الْآيِ، إِذْ لَوْ أَتَى وَهِيَ لَا تُظْلَمُ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ: يُرْجَعُونَ، بِالْيَاءِ فَتَجِيءُ: وَهُمْ، عَلَيْهِ غَائِبًا مَجْمُوعًا لِغَائِبٍ مجموع.

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَاّ تَرْتابُوا إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَاّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

ص: 720

تَدَايَنَ: تَفَاعَلَ مِنَ الدَّيْنِ، يُقَالُ: دَايَنْتُ الرَّجُلَ عَامَلْتُهُ بِدَيْنٍ مُعْطِيًا أَوْ آخِذًا، كَمَا تَقُولُ: بَايَعْتُهُ إِذَا بِعْتَهُ أَوْ بَاعَكَ. قَالَ رُؤْبَةُ:

دَايَنْتُ أَرَوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى

فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضًا

وَيُقَالُ: دِنْتُ الرَّجُلَ إِذَا بِعْتَهُ بَدَيْنٍ، وَادَّنْتُ أَنَا أَيْ: أَخَذْتُ بِدَيْنٍ.

أَمْلَ وَأَمْلَى لُغَتَانِ: الْأُولَى لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَالثَّانِيَةُ لِتَمِيمٍ، يُقَالُ: أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَيْ: أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِعَادَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ

أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ

وَقِيلَ: الْأَصْلُ أَمْلَلْتُ، أَبْدَلَ مِنَ اللَّامِ يَاءً لِأَنَّهَا أَخَفُّ.

الْبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَخَسَ يَبْخَسُ، وَيُقَالُ بِالصَّادِّ، وَالْبَخْسُ: إِصَابَةُ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ: اسْتُعِيرَ بَخْسُ حَقِّهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَوَّرَ حَقَّهُ، وَتَبَاخَسُوا فِي الْبَيْعِ تَغَابَنُوا، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَبْخَسُ صَاحِبَهُ عَنْ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُ بِاحْتِيَالِهِ.

السَّأَمُ وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ مِنَ الشَّيْءِ وَالضَّجَرُ مِنْهُ، يُقَالُ مِنْهُ: سَئِمَ يَسْأَمُ.

ص: 721

الصَّغِيرُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغُرَ يَصْغُرُ، وَمَعْنَاهُ قِلَّةُ. الْجُرْمِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي أَيْضًا.

الْقِسْطُ: بِكَسْرِ الْقَافِ: الْعَدْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدَلَ، وَبِفَتْحِ الْقَافِ:

الْجَوْرُ، وَيُقَالُ مِنْهُ: قَسَطَ الرَّجُلُ أَيْ جَارَ، وَالْقِسْطُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا: النَّصِيبُ.

الرَّهْنُ: مَا دُفِعَ إِلَى الدَّائِنِ عَلَى اسْتِيثَاقِ دَيْنِهِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ يَرْهَنُ رَهْنًا، ثُمَّ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَرْهُونِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ الشَّيْءَ دَامَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

اللَّحْمُ وَالْخُبْزُ لَهُمْ رَاهِنٌ

وَقَهْوَةٌ رَاوُوقُهَا سَاكِبُ

وَأَرْهَنُ لَهُمُ الشَّرَابَ: دَامَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَرَهَنَهُ، أَيْ: أَدَامَهُ، وَيُقَالُ: أَرْهَنَ فِي السِّلْعَةِ إِذَا غَالَى بِهَا حَتَّى أَخَذَهَا بِكَثِيرِ الثَّمَنِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

يَطْوِي ابْنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بَعْرًا

عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ

الْعِيدُ: بَطْنٌ مِنْ مَهْرٍ، وَإِبِلٌ مَهَرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالنَّجَابَةِ، وَيُقَالُ، مِنَ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ مِنَ التَّوْثِقَةِ:

أَرْهَنَ إِرْهَانًا. قَالَ هَمَّامُ بْنُ مُرَّةَ:

فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ

نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكَا

وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَالزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِي الرَّهْنِ رَهَنْتُ وَأَرْهَنْتُ. وقال الأعشى:

حتى يقيدك مِنْ بَنِيهِ رَهِينَةً

نَعْشٌ وَيَرْهَنُكَ السِّمَاكُ الْفَرْقَدَا

وَتَقُولُ: رَهَنْتُ لِسَانِي بِكَذَا، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: أَرْهَنْتُ، وَلَمَّا أُطْلِقَ الرَّهْنُ عَلَى الْمَرْهُونِ صَارَ اسْمًا، فَكُسِرَ تَكْسِيرَ الْأَسْمَاءِ وَانْتَصَبَ بِفِعْلِهِ نَصْبَ الْمَفَاعِيلِ، فَرَهَنْتُ رَهْنًا كَرَهَنْتُ ثَوْبًا.

الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ، وَالْآصِرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْأَمْرُ الرَّابِطُ مِنْ ذِمَامٍ، أَوْ قَرَابَةٍ، أَوْ عَهْدٍ، وَنَحْوُهُ. وَالْإِصَارُ: الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ أَصْرًا، وَالْإِصْرُ، بِكَسْرٍ الْهَمْزَةِ الِاسْمُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَوِيَ الْأُصْرُ بضمها وقد قرىء بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمْ

وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عَنْهُمْ بعد ما عَرِقُوا

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ خَاصَّةً، يَعْنَى: أَنَّ سَلَمَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ السَّبَبَ، ثُمَّ هِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدُّيُونِ بِالْإِجْمَاعِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِتَرْكِ الرِّبَا، وَكِلَاهُمَا

ص: 722

يَحْصُلُ بِهِ تَنْقِيصُ الْمَالِ، نَبَّهَ عَلَى طَرِيقٍ حَلَالٍ فِي تَنْمِيَةِ الْمَالِ وَزِيَادَتِهِ، وَأَكَّدَ فِي كَيْفِيَّةِ حِفْظِهِ، وَبَسَطَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَرَ فِيهَا بِعِدَّةِ أَوَامِرَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَذَكَرَ قَوْلَهُ: بِدَيْنٍ، لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ:

تَدَايَنْتُمْ، أَوْ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاكِ: تَدَايَنَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ تُدَايِنُوا، أَيْ جَازَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا قَالَ:

بِدَيْنٍ، دَلَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. أَوْ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ دَيْنٍ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ سَلَمٍ أَوْ بَيْعٍ.

إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَيْسَ هَذَا الْوَصْفُ احْتِرَازًا مِنْ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، بَلْ لَا يَقَعُ الدَّيْنُ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَأَمَّا الآجال المجهولة فلا تجوز، وَالْمُرَادُ بِالْمُسَمَّى الْمُوَقَّتُ الْمَعْلُومُ، نحو التوقيت بالنسبة وَالْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَى الْحَصَادِ، أَوْ إِلَى الدِّيَاسِ، أَوْ رُجُوعِ الْحَاجِّ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، و: إلى أَجَلٍ، مُتَعَلِّقٌ: بِتَدَايَنْتُمْ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: بِدَيْنٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.

فَاكْتُبُوهُ أَمَرَ تَعَالَى بِكِتَابَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْثَقُ وَآمَنُ مِنَ النِّسْيَانِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الْجُحُودِ.

وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ، وَأَهَّلُ الظَّاهِرِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ يُحْفَظُ بِهِ الْمَالُ، وَتُزَالُ بِهِ الرِّيبَةَ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ وَحِفْظِهِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ خَلِيفَةُ اللِّسَانِ، وَاللِّسَانَ خَلِيفَةُ الْقَلْبِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وَقَالَ الرَّبِيعُ وَجَبَ بِقَوْلِهِ:

فَاكْتُبُوهُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ.

وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَهَذَا الْأَمْرُ قِيلَ: عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ، قَالَ عَطَاءٌ، وَغَيْرُهُ: يَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، أَيْضًا: إِذَا لَمْ يُوجَدْ كَاتِبٌ سِوَاهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ وَاجِبٌ مَعَ الْفَرَاغِ. وَاخْتَارَ الرَّاغِبُ أَنَّ الصَّحِيحَ كَوْنُ الْكِتَابَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَالَ: الْكِتَابَةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فقد تجب على الكتابة إِذَا أَتَوْهُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ النَّافِلَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى فَاعِلِهَا، فَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ تَبْيِينُهَا إِذَا أَتَاهُ مُسْتَفْتٍ.

وَمَعْنَى: بَيْنَكُمْ، أَيْ: بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْمُسْتَدِينِ، وَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْمُقْرِضِ

ص: 723

وَالْمُسْتَقْرِضِ، وَالتَّثْنِيَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْمُتَعَامِلِينَ لأن يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَتْ وَاقِعَةً بَيْنَهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَّلِعًا عَلَى مَا سَطَرَهُ الْكَاتِبُ.

وَمَعْنَى: بِالْعَدْلِ، أَيْ: بِالْحَقِّ وَالْإِنْصَافِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ مَيْلٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.

وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: بِالْعَدْلِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بالعدل، متعلق بكاتب صِفَةٌ لَهُ، أَيْ: بِكَاتِبٍ مَأْمُونٍ عَلَى مَا يَكْتُبُ، يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ وَالِاحْتِيَاطِ، لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكْتُبَ، وَلَا يَنْقُصُ. وَفِيهِ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِالشُّرُوطِ، حَتَّى يَجِيءَ مَكْتُوبُهُ مُعَدَّلًا بِالشَّرْعِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِتَخَيُّرِ الْكَاتِبِ، وَأَنْ لَا يَسْتَكْتِبُوا إِلَّا فَقِيهًا دَيِّنًا.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِكَاتِبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَثِيقَةً إِلَّا الْعَدْلُ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكْتُبُهَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُتَحَوِّطُ إِذَا أَقَامُوا فِقْهَهَا، أَمَّا أَنَّ الْمُنْتَخَبِينَ لِكَتْبِهَا لَا يَجُوزُ لِلْوُلَاةِ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ إِلَّا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ فَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبُ الْعَدْلِ.

وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي مَعْنَى بِالْعَدْلِ: أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يُرْفَعُ إِلَى قَاضٍ فَيَجِدُ سَبِيلًا إِلَى إِبْطَالِهِ بِأَلْفَاظٍ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا التَّأْوِيلُ، فَيَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى التَّوَقُّفِ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلْيَكْتُبْ، بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَالْكَسْرُ الْأَصْلُ.

وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ نَهَى الْكَاتِبُ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ.

وَ: كَاتِبٌ، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فتعم. وأن يَكْتُبَ مَفْعُولُ: وَلَا يَأْبَ، وَمَعْنَى: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، أَيْ: مِثْلَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ، لَا يُبَدِّلُ وَلَا يُغَيِّرُ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى بَذْلِ جُهْدِهِ فِي مُرَاعَاةِ شُرُوطِهِ مِمَّا قَدْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْتَكْتِبُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمِنَّةِ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيَكُونُ: عَلَّمَ، بِمَعْنَى: أَعْلَمَ، وَقِيلَ:

الْمَعْنَى كَمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ، فَتَكُونُ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَجْلِ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «1» أَيْ: لِأَجْلِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الْكَافِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وتتعلق الكاف بقوله:

(1) سورة القصص: 28/ 77.

ص: 724

فَلْيَكْتُبْ، وَهُوَ قَلَقٌ لِأَجْلِ الْفَاءِ، وَلِأَجْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، لَكَانَ النَّظْمُ:

فَلْيَكْتُبْ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيمِ مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْمَعْنَى.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ: كَمَا، مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ، أَيْ: كَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَأْبَ هُوَ، وَلِيُفَضِلْ كَمَا أُفَضِلَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَتَكُونُ الْكَافُ فِي هَذَا الْقَوْلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ، نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْكِتَابَةِ، لَا يُعْدَلُ عَنْهَا، أَمْرَ تَوْكِيدٍ. وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: وَلَا يَأْبَ، منسوخ بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.

فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَيْ: فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، وَلْيُمْلِلْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمُسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ.

وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فِيمَا يُمْلِيهِ وَيُقَرِّبُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَ اسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ: اللَّهُ، وَبَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ: الرَّبُّ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الذَّاتِ مَنْطُوقًا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ. لِيَذْكُرَهُ تَعَالَى كَوْنَهُ مُرَبِّيًا لَهُ، مُصْلِحًا لِأَمْرِهِ، بَاسِطًا عَلَيْهِ نِعَمَهُ. وَقُدِّمَ لَفْظُ: اللَّهَ، لِأَنَّ مُرَاقَبَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ أَسْبَقُ مِنْ جِهَةِ النِّعَمِ.

وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ: لَا يَنْقُصْ بِالْمُخَادَعَةِ أَوِ الْمُدَافَعَةِ، وَالْمَأْمُورُ بِالْإِمْلَالِ هُوَ الْمَالِكُ لِنَفْسِهِ. وَفَكُّ الْمُضَاعَّفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ، لُغَةُ الْحِجَازِ، وذلك في ماسكن آخِرُهُ بِجَزْمٍ، نَحْوُ هَذَا، أَوْ وَقْفٍ نَحْوُ: أَمْلِلْ، وَلَا يُفَكُّ فِي رَفْعٍ ولا نصب. وقرىء: شيئا بِالتَّشْدِيدِ.

فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْجَاهِلُ بِالْأُمُورِ وَالْإِمْلَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الصَّغِيرُ. وَضُعِّفَ هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ السَّفِيهُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: أَنَّهُ الْمُبَذِّرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:

الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدِ لِدِينِهِ. وَرَوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ: الَّذِي يَجْهَلُ قَدْرَ الْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَبْذِيرِهِ وَلَا يَرْغَبُ فِي تَثْمِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَاهِلُ بِالْإِسْلَامِ.

أَوْ ضَعِيفاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ الْعَاجِزُ، وَالْأَخْرَسُ، وَمَنْ بِهِ حُمْقٌ- وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْأَحْمَقُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ. وَقِيلَ:

ص: 725

الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ، النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ: الْكَبِيرُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْعَاجِزُ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِعَيٍّ أَوْ لِخَرَسٍ.

أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَيٍّ أَوْ خَرَسٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَقِيلَ: بِجُنُونٍ، وَقِيلَ: بِجَهْلٍ بِمَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لِصِغَرٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ تَبَايُنُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ زَعَمَ زِيَادَةَ: أَوْ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ زِيَادَتَهَا فِي هَذَا، وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ، إِذْ: أَوْ، لَا تُزَادُ، وَأَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَالْجَهْلُ بِالتَّصَرُّفِ، وَأَنَّ الضَّعْفَ هُوَ فِي الْبَدَنِ لِصِغَرٍ أَوْ إِفْرَاطِ شَيْخٍ يَنْقُصُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَأَنَّ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ الْإِمْلَاءَ لِعَيٍّ. أَوْ خَرَسٍ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ القدرة على الإملاء. وَهَذَا الشَّرْحُ أَكْثَرُهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ تَقَعُ نَوَازِلُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيَتَرَتَّبُ الْحَقُّ لَهُمْ فِي كُلِّ جِهَاتٍ سِوَى الْمُعَامَلَاتِ: كَالْمَوَارِيثِ إِذَا قُسِّمَتْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالسَّفِيهُ الْمُهَلْهَلِ الرَّأْيِ فِي الْمَالِ الَّذِي لا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَخْلُو مِنْ حَجْرِ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ، وَذَلِكَ وَلَيُّهُ. وَالضَّعِيفُ الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ، وَوَلِيُّهُ وَصِيٌّ أَوْ أَبٌ، وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الْغَائِبَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِشْهَادِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيُّهُ وَكِيلُهُ، وَالْأَخْرَسُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوِ الثَّلَاثَةُ فِي شَخْصٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَهُوَ تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنُ فِي: أَنْ يُمِلَّ، وَفِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّ فِي التَّأْكِيدِ بِهِ رَفْعُ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ.

وقرىء شَاذًّا بِإِسْكَانِ هَاءِ: هُوَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهَا مَا يَنْفَصِلُ، إِجْرَاءً لِلْمُنْفَصِلِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ، نَحْوُ: وَهُوَ، فَهُوَ، لَهُوَ. وَهَذَا أَشَذُّ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:

ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ ثُمَّ شَارَكَتْ فِي كَوْنِهِ لِلْعَطْفِ، وَأَنَّهَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَيَتِمُّ الْمَعْنَى.

فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. الضَّمِيرُ فِي وَلِيُّهُ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنَ عَطِيَّةَ لِلْوَلِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ مِنْ وَصِيٍّ إِنْ كَانَ سَفِيهًا أَوْ صَبِيًّا، أَوْ وَكِيلٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ، أَوْ تُرْجُمَانَ يُمِلُّ عَنْهُ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ.

وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلِيِّهِ يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ.

ص: 726

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ تَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَى شَيْءٍ وَيُدْخِلُ مَالًا فِي ذِمَّةِ السَّفِيهِ، بِإِمْلَاءِ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ، هَذَا شَيْءٌ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ.

قَالَ الرَّاغِبُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْحَقِّ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُؤَثِّرُ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ.

وَ: بِالْعَدْلِ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْحَالِ، وَفِي قَوْلِهِ:

بِالْعَدْلِ، حَثٌّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ السَّفِيهِ، وَعَلَى قِيَامِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفَاتِ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَمْوَالِهِ.

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أَيْ: اطْلُبُوا لِلْإِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ لِلطَّلَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقَةُ أَفْعَلَ أَيْ: وَأَشْهِدُوا، نَحْوُ: اسْتَيْقَنَ مُوَافِقُ أَيْقَنَ، وَاسْتَعْجَلَهُ بِمَعْنَى أَعْجَلَهُ. وَلَفَظُ: شَهِيدٍ، لِلْمُبَالَغَةِ، وَكَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَسْتَشْهِدُوا مَنْ كَثُرَتْ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَوَاقِعِ الشَّهَادَةِ وَمَا يَشْهَدُ فِيهِ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأُمِرُوا بِطَلَبِ الْأَكْمَلِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنَ الشَّخْصِ عِنْدَ الْحُكَّامِ إِلَّا وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَهُمْ.

مِنْ رِجَالِكُمْ، الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُصَدَّرُ بِهِمُ الْآيَةُ، فَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجَالِكُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ الْكَافِرُ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، وَاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الشَّاهِدَيْنِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ: يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ جَارِيَةٌ جَائِزَةٌ

. وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ:

أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ

، وَابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ لَا تُعْتَبَرُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ

ص: 727

وَأَصْحَابُهُ الثَّلَاثَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ

، قَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَحْدَهَا بِشُرُوطٍ ذُكِرَتْ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ اشْتِرَاطُ الرُّجُولِيَّةِ فَقَطْ فِي الشَّاهِدَيْنِ.

فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْمَى، فَفِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ خِلَافٌ. ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ

، وَالْحَسَنِ، وابن جبير، وإياس بن مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا عَلِمَ قَبْلَ الْعَمَى جَازَتْ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا. وَقَالَ زُفَرُ:

لَا يَجُوزُ، إِلَّا فِي النَّسَبِ، يَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ: شَهَادَتُهُ جائزة.

قال مالك، والليث: تجوز، وَإِنْ عَلِمَهُ حَالَ الْعَمَى إِذَا عَرَفَ الصَّوْتَ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ شَهِدَ بِزِنَا أَوْ حَدِّ قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ.

وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَخْرَسَ، فَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِإِشَارَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ طَارِئًا أَمْ أَصْلِيًّا، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ.

وَإِنْ كَانَ أَصَمَّ، فَلَا تُقْبَلُ فِي الْأَقْوَالِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْحَوَاسِّ.

وَلَوْ شَهِدَ بَدَوِيٌّ عَلَى قَرَوِيٍّ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الْجِرَاحِ.

وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ فِي الْحَضَرِ إِلَّا فِي وَصِيَّةِ الْقَرَوِيِّ فِي السَّفَرِ وَفِي الْبَيْعِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّهِيدَيْنِ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ: إِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ، أَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَشْهَدَ رَجُلَيْنِ لِغَرَضٍ لَهُ، وَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ نَاقِصَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِشْهَادُ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الرِّجَالِ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: يَكُونَا، عَائِدٌ عَلَى: شَهِيدَيْنِ، بِوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ، وَتَكُونُ: كَانَ، تَامَّةً، وَيَكُونُ: رَجُلَيْنِ، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدِ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «1» عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ.

فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ارْتِفَاعُ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي: فلشاهد، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدُونَ، أَوْ: فَاعِلٌ، أَيْ فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، أَوْ:

مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ فَلْيُسْتَشْهَدْ، وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ فَلْيَكُنْ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، فَيَكُونُ رَجُلٌ فَاعِلًا، وَأَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَيَكُونُ خَبَرُهَا مَحْذُوفًا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَنَا

(1) سورة النساء: 4/ 176.

ص: 728

لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا. وقرىء شَاذًّا: وَامْرَأَتَانِ، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ سَكَّنَهَا تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَجَاءَ نَظِيرُ تَخْفِيفِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

يَقُولُونَ جَهْلًا لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ

لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأَنَّ رَقُوبُ

يُرِيدُ: وَأَنَا رَقُوبٌ، قِيلَ: خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا ثُمَّ هَمْزَةً بَعْدَ ذلك، قالوا: الخأتم، والعألم.

وظاهر الآية يقتضي جواز شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ، وَهِيَ كُلُّ عَقْدٍ وَقَعَ عَلَى دَيْنٍ سَوَاءٌ كَانَ بَدَلًا أَمْ بُضْعًا، أَمْ مَنَافِعَ أَمْ دَمَ عَمْدٍ، فَمَنِ ادَّعَى خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ الْعُقُودِ مِنَ الظَّاهِرِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا الرَّجُلُ، وَيَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقُ، وَلَا تَجُوزُ فِي النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا قَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي يُقَادُ مِنْهُ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ:

لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْحُدُودَ.

وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَلَا الْقِصَاصِ، وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا النِّكَاحِ، وَلَا الْأَنْسَابِ وَلَا الْوَلَاءِ وَلَا الْإِحْصَانِ، وَتَجُوزُ فِي الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِتْقٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ إِلَّا فِي الدَّيْنِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: تَجُوزُ فِي الْعِتْقِ، وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ.

وَقَالَ عَلِيٌّ: تَجُوزُ فِي الْعَقْدِ

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ مُفْرَدَاتٍ فَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِهَا فِي: الْوِلَادَةِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالِاسْتِهْلَالِ، وَفِي عُيُوبِ النِّسَاءِ الْإِمَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ.

وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شهادة الواحدة العادلة فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِذْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ مُفْرَدَةٌ.

ص: 729

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ قِيلَ: هَذَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: رِجَالِكُمْ، عَلَى تَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْصُوفِ، فَيَكُونُ قَدِ انْتَفَى هَذَا الْوَصْفُ عَنْ شَهِيدَيْنِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ بِالشَّهِيدَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَعَرِيَ عَنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَالَّذِي يَظْهُرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، أَيْ: وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِيَكُونَ قَيْدًا فِي الْجَمِيعِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ ذِكْرِ الْجَمِيعِ، وَالْخِطَابُ فِي تَرْضَوْنَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِي الشُّهُودِ مَنْ لَا يَرْضَى، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ حَيْثُ تَثْبُتُ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بِكِيرٍ وَغَيْرُهُ: الْخِطَابُ لِلْحُكَّامِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَلَبِّسُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا هُمُ الْحُكَّامُ، وَلَكِنْ يَجِيءُ الْخِطَابُ عَامًّا وَيَتَلَبَّسُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْكَفَاءَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مِمَّنْ لَمْ يَطْعَنْ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَفَسَّرَ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفِ امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا، وَلَمْ يَطْعَنْ فِي نَسَبٍ. وَرُوِيَ: مَنْ لَمْ يُطْعَنْ عَلَيْهِ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَمَعْنَاهُ:

لَا يُنْسَبُ إِلَى رِيبَةٍ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ زِنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ خَرِبَةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَنْ لَا رِيبَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: مَنْ غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّآتِهِ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.

وَقِيلَ: الْمَرَضِيُّ مِنَ الشُّهُودِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا، بَالِغًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، عَالِمًا بِمَا يَشْهَدُ بِهِ، لَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَلَا بِتَرْكِ الْمُرُوءَةِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ.

وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ، وَمَا يَجِبُ فِيهَا مِنَ الْعَظَائِمِ، وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَخْلَاقُ الْبِرِّ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَعَاصِي الصِّغَارِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ مَنْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخْلَاقِ الْبِرِّ، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ يُقَامِرُ عَلَيْهَا، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا، وَلَا تَارِكِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ اسْتِخْفَافًا أَوْ مَجَانَةً أَوْ فِسْقًا، لَا أَنْ تَرَكَهَا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَكَانَ عَدْلًا، وَمَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ، وَلَا مُدَاوِمٍ عَلَى تَرْكِ رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِالْكَذِبِ الْفَاحِشِ، وَلَا مُظْهِرِ شَتِيمَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَتَّامِ النَّاسِ وَالْجِيرَانِ، وَلَا مَنِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَلَا مُتَّهَمٍ بِسَبِّ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَقُولُوا: سَمِعْنَاهُ يَشْتُمُ.

ص: 730

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْعُدُولِ، إِلَّا صِنْفًا مِنَ الرَّافِضَةِ وَهُمُ الْخَطَّابِيَّةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَرُورِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا، فَإِذَا خَرَجُوا اسْتَحَلُّوا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ:

لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ. وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَشْرَافِ بِالْعِرَاقِ وَلَا الْبُخَلَاءِ، وَلَا التُّجَّارِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ، وَعَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ، أَنَّهُ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ يَأْكُلُ الطِّينَ وَيَنْتِفُ لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَهَادَةَ مَنْ يَنْتِفُ عُنْفَقَتَهُ وَيُخْفِي لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ شُرَيْحٌ شَهَادَةَ رَجُلٍ اسْمُهُ رَبِيعَةُ وَيُلَقَّبُ بِالْكُوَيْفِرِ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ، فَلَمْ يُجِبْ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ الْكُوَيْفِرُ، فَأَجَابَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: دُعِيتَ بِاسْمِكَ فَلَمْ تُجِبْ، فَلَمَّا دُعِيتَ بِالْكُفْرِ أَجَبْتَ! فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّمَا هُوَ لَقَبٌ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ، وَقَالَ لِصَاحِبِهِ:

هَاتِ غَيْرَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْحُمْرِ، يَعْنِي: النَّخَّاسِينَ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ صَاحِبِ حَمَّامٍ، وَلَا حَمَّالٍ، وَلَا ضَيِّقِ كُمِ الْقَبَاءِ، وَلَا مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عز وجل، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ مَجَانَةٌ، وَلَا شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ، وَلَا لَاعِبٍ بِالْحَمَامِ يُطَيِّرُهُنَّ، وَرَدَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى شَهَادَةَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ: لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْمِلَهُ فَقْرُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السُّؤَالِ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، وَتَجُوزُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ.

وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْمَعْصِيَةَ وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَعَنْهُ: إِذَا كَانَ أَكْثَرُ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى كَبِيرَةٍ، فَهُوَ عَدْلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ الْمُرُوءَةُ بِالتَّصَاوُنِ، وَالسَّمْتِ الْحَسَنِ، وَحِفْظِ الْحُرْمَةِ، وَتَجَنُّبِ السَّخْفِ، وَالْمُجُونِ، لَا تُفَسَّرُ بِنَظَافَةِ الثَّوْبِ، وَفَرَاهَةِ الْمَرْكُوبِ، وَجَوْدَةِ الْآلَةِ، وَالشَّارَةِ الْحَسَنَةِ. لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ، هَلْ يَسْأَلُ عَنْهُ الْحَاكِمُ إِذَا شَهِدَ؟ فَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظِنِّينًا أَوْ قَرَابَةً. وَكَانَ الْحَسَنُ، لَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ، يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ يَجْرَحُ الشَّاهِدَ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: إِنْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِيهِمْ سَأَلْتُ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِمْ في السرّ والعلانية، ويزكيهم في العلانية. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنَّمَا كَانَ الْوَالِيُّ يَقُولُ لِلْخَصْمِ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَنْ يُخْرِجُ

ص: 731

شَهَادَتَهُمْ فَأْتِ بِهِ، وَإِلَّا أَجَزْنَا شَهَادَتَهُمْ عَلَيْكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْأَلُ عَنْهُ فِي السِّرِّ، فَإِذَا عَدَلَ سَأَلَ عَنْ تَعْدِيلِهِ فِي الْعَلَانِيَةِ.

وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ نَفِيِ التُّهْمَةِ عَنِ الشَّاهِدِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، فَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْبَتِّيِّ، قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ، وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ، وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ لِابْنِهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الأجير لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ إِذَا كَانَ لَا يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْفَعَةً.

وَمَنْ ردت شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَهَلْ تُقْبَلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فِيهِ؟

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِفِسْقٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ، وَتُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ صَبِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ إِنْ رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ صَبِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلَ هَذَا.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الشُّهُودَ فِي الدُّيُونِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، فَلَا يُقْضَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَكَمِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَضَى به عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَالَ الْحَكَمُ: أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ مُعَاوِيَةُ.

وَاخْتُلِفَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقِيلَ، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ لَا بُدَّ مِنْ شَهِيدَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَعْرِفُهُ، وَإِنَّهَا الْبِدْعَةُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَاهُ مُعَاوِيَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا وَلِيَ الْقَضَاءَ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ:

يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، وَعَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي الزِّيَادِ، وَرَبِيعَةَ.

أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: إِنْ تَضِلْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، جَعَلَهَا حَرْفَ شَرْطٍ. فَتُذَكِّرُ، بِالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَجَعْلِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ.

ص: 732

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ: أَنْ، وَهِيَ النَّاصِبَةُ، وَفَتْحِ رَاءِ فَتُذَكِّرَ عَطْفًا عَلَى: أَنْ تَضِلَّ وَسَكَّنَ الذَّالَ وَخَفَّفَ الْكَافَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَفَتَحَ الذَّالَ، وَشَدَّدَ الْكَافَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ.

وَقَرَأَ الْجُحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: تُضَلُّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِمَعْنَى: تَنْسَى، كَذَا حَكَى عَنْهُمَا الدَّانِيُّ. وَحَكَى النِّقَاشُ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ: أَنْ تَضِلَّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، بِمَعْنَى أَنْ تَضِلَّ الشَّهَادَةُ، تَقُولُ: أَضْلَلَتِ الْفَرَسُ والبعير إذا اذهبا فَلَمْ تَجِدْهُمَا.

وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٌ: فَتُذَكِّرَ، بِتَخْفِيفِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ، وَرَفَعِ الرَّاءِ، أَيْ فَهِيَ: تُذْكِرُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أسلم: فتذاكر، من المذاكرة.

وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِلْمُذَكِّرِ، وَهُمَا الْمَرْأَتَانِ. انْتَهَى. كَانَ قَدْ قُدِّمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فَصَارَ نَظِيرَ:

جَاءَنِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُقَلَاءَ حُبْلَيَانِ، وَفِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَظَرٌ، بَلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَقْيِسَةُ تَقْدِيَمَ حُبْلَيَانِ عَلَى عُقَلَاءَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَعْرَبَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، بَدَلًا مِنْ:

رِجَالِكُمْ، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: وَامْرَأَتَانِ، لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَأَمَّا: أَنْ تَضِلَّ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ تَضِلَّ عَلَى تَنْزِيلِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ.

مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ، وَهُوَ الْإِذْكَارُ، كَمَا يَنْزِلُ الْمُسَبِّبُ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ لِالْتِبَاسِهِمَا وَاتِّصَالِهِمَا، فَهُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: لِأَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إِنْ ضَلَّتْ، وَنَظِيرُهُ:

أَعْدَدْتُ الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وَأَعْدَدْتُ السِّلَاحَ أَنْ يَطْرُقَ الْعَدُوُّ فَأَدْفَعَهُ، لَيْسَ إِعْدَادُ الْخَشَبَةِ لِأَجْلِ الْمَيْلِ إِنَّمَا إِعْدَادُهَا لِإِدْعَامِ الْحَائِطِ إِذَا مَالَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مُخَالَفَةَ أَنْ تَضِلَّ، لِأَجْلِ عَطْفٍ فَتُذَكِّرَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ النَّحَاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلَّ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا غَلَطٌ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى كَرَاهَةَ أَنْ تُذْكَرَ. وَمَعْنَى الضَّلَالِ هُنَا هُوَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلشَّهَادَةِ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ، وَهُوَ مِنَ الذِّكْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ، فَتُذَكِرُ، مَعْنَاهُ:

ص: 733

تُصَيِّرُهَا ذَكَرًا فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ نِصْفُ شَهَادَةٍ، فَإِذَا شَهِدَتَا صَارَ مَجْمُوعُ شَهَادَتِهِمَا كَشَهَادَةِ ذَكَرٍ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا يُحْسَنُ فِي مُقَابَلَةِ الضَّلَالِ إِلَّا الذِّكْرُ. انْتَهَى.

وَمَا قَالَاهُ صَحِيحٌ، وَيَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى، تَقُولُ: أَذْكَرَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُذَكِّرٌ إِذَا وُلَدَتِ الذُّكُورَ، وَأَمَّا: أَذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ، أَيْ: صَيَّرَتْهَا كَالذَّكَرِ، فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ: أُذَكِّرُ، بِمَعْنَى صَيَّرَهَا ذَكَرًا فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ ذَكَرًا شَامِلٌ لِلْمَرْأَتَيْنِ، إِذْ تَرْكُ شَهَادَتِهِمَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ فَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَذْكَرَتِ الْأُخْرَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إذ لم تصر شَهَادَتُهُمَا وَحْدَهَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ.

وَلَمَّا أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: أَنْ تَضِلَّ، بِقَوْلِهِ: إِحْدَاهُمَا، أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: فَتُذَكِّرَ، بِقَوْلِهِ:

إِحْدَاهُمَا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهَا الضَّلَالُ، وَالْإِذْكَارُ، فَلَمْ يرد: بإحداهما، مُعَيَّنَةً.

وَالْمَعْنَى: إِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، وَإِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، فَدَخَلَ الْكَلَامُ مَعْنَى الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ ضَلَّ مِنْهُمَا أَذَكَرَتْهَا الْأُخْرَى، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ بَعْدَ: فَتُذَكِّرَ، الْفَاعِلَ مُظْهَرًا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَضْمَرَ الْمَفْعُولَ لِيُكُونَ عَائِدًا عَلَى إِحْدَاهُمَا الْفَاعِلِ بتضل، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ: الْأُخْرَى، هُوَ الْفَاعِلُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى. وَأَمَّا عَلَى التَّرْكِيبِ الْقُرْآنِيِّ فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ: إِحْدَاهُمَا، فاعل تذكر، والأخرى هُوَ الْمَفْعُولُ، وَيُرَادُ بِهِ الضَّالَّةُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الِاسْمَيْنِ مَقْصُورٌ، فَالسَّابِقُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: إِحْدَاهُمَا، مَفْعُولًا، وَالْفَاعِلُ هُوَ الْأُخْرَى لِزَوَالِ اللَّبْسِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُذَكِّرَةَ لَيْسَتِ النَّاسِيَةَ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ وَيَتَأَخَّرَ الْفَاعِلُ، فَيَكُونُ نَحْوُ: كَسَرَ الْعَصَا مُوسَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَدْ وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الْمَفْعُولِ، فَيَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ: الْأُخْرَى، وَمَنْ قَرَأَ: أَنْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَ: فَتُذَكِرُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، قِيلَ: وَقَالَ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، الْمَعْنَى: أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ عَلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ صُدُورِ النِّسْيَانِ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، فَأُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ، حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ.

ص: 734

وَ: تُذَكِّرَ، يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَفِي قَوْلِهِ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِ جَوَازِ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ الشَّاهِدِ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى الْخَطِّ، إِذِ الْخَطُّ وَالْكِتَابَةُ مَأْمُورٌ بِهِ لِتَذَكُّرِ الشَّهَادَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «1» وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهَا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا كَتَبَ خَطَّهُ بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَشْهَدُ حَتَّى يَذْكُرَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ، وَلَا يَذْكُرُ عَدَدَ الدَّرَاهِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُ.

وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا قَالَ قَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَطُوفُ فِي الْحِرَاءِ الْعَظِيمِ، فِيهِ الْقَوْمُ، فَلَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا لَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا النَّهْيُ لَيْسَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ. قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ، وَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانُوا قَدْ شَهِدُوا قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرَوَى النِّقَاشُ: هَكَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ صَحَّ هَذَا عَنْهُ، عليه السلام، لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ فَيَكُونُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: هِيَ فِي التَّحَمُّلِ وَالْإِقَامَةِ إِذَا كَانَ فَارِغًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، جَمَعَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَنْدُوبُونَ إِلَى مُعَاوَنَةِ إِخْوَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْفُسْحَةُ فِي كَثْرَةِ الشُّهُودِ، وَالْأَمْنِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحَقِّ، فَالْمَدْعُوُّ مَنْدُوبٌ، وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِأَدْنَى عُذْرٍ وَأَنْ يَتَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَخِيفَ تَعْطِيلُ الْحَقِّ أَدْنَى خَوْفٍ، قَوِيَ النَّدْبُ وَقَرُبَ مِنَ الْوُجُوبِ. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ يَذْهَبُ وَيَتْلَفُ بِتَأَخُّرِ الشَّاهِدِ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُحَصَّلَةً. وَكَانَ الدُّعَاءُ إِلَى أَدَائِهَا، فَإِنَّ هَذَا الطَّرَفَ آكَدُ، لِأَنَّهَا قِلَادَةٌ فِي الْعُنُقِ وَأَمَانَةٌ تَقْتَضِي الأداء. انتهى.

(1) سورة الزخرف: 43/ 86.

ص: 735

وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ لَمَّا نَهَى عَنِ امْتِنَاعِ الشُّهُودِ إِذَا مَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ، نَهَى أَيْضًا عَنِ السَّآمَةِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ ضَبْطٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى أَنْ لَا يَقَعَ النِّزَاعُ، لِأَنَّهُ مَتَى ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ وَهْمٌ فِيهِ أَوْ إِنْكَارٌ، أَوْ مُنَازَعَةٌ فِي مِقْدَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ وَصْفٍ، وَقُدِّمَ الصَّغِيرُ اهْتِمَامًا بِهِ، وَانْتِقَالًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. وَنَصَّ عَلَى الْأَجَلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِهِ، فَكُتِبَ كَمَا يُكْتَبُ أَصْلُ الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَحَلِّ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ وَمِقْدَارِهِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ بَعْضُ أَوْصَافِهِ، وَالْأَجْلُ هُنَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُتَدَايِنَانِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.

وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ السَلَمِ فِي الثِّيَابِ، لِأَنَّ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُوزَنُ لَا يُقَالُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِيِّ وَالذَّرْعِيِّ. انْتَهَى.

وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ: إِذِ الصِّغَرُ، والكبر هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْجُرْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مِقْدَارٍ وَيْبَةٍ، أَوْ فِي مِقْدَارِ عِشْرِينَ أَرَدْبًا، صَدَقَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ حُقٌّ صَغِيرٌ وَدَيْنٌ صَغِيرٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ دَيْنٌ كَبِيرٌ وَحُقٌّ كَبِيرٌ.

قِيلَ: وَمَعْنَى: وَلَا تَسْأَمُوا، أَيْ لَا تَكْسَلُوا، وَعَبَّرَ بِالسَّأَمِ عَنِ الْكَسَلِ، لِأَنَّ الْكَسَلَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَمِنْهُ

الْحَدِيثُ: «لَا يَقُلِ الْمُؤْمِنُ كَسَلْتُ»

، وَكَأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

«1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَضْجَرُوا، وَ: أَنْ تَكْتُبُوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ سَئِمَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ

ثَمَانِينَ عَامًا لَا أبك لَكَ يَسْأَمِ

وَقِيلَ: يَتَعَدَّى سَئِمَ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَيَكُونُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَئِمَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرِّ قَوْلُهُ:

وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا

وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ

وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: تَكْتُبُوهُ، عَائِدٌ عَلَى الدَّيْنِ، لِسَبْقِهِ، أَوْ عَلَى الْحَقِّ لِقُرْبِهِ، وَالدَّيْنُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَانَ مَنْ كَثُرَتْ دُيُونُهُ يَمَلُّ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَنُهُوا عن ذلك.

(1) سورة النساء: 4/ 142.

ص: 736

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكِتَابِ، وَ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، مُخْتَصَرًا أَوْ مُشَبَّعًا، وَلَا يُخَلُّ بِكِتَابَتِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ بُعْدٌ.

وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَسْأَمُوا، بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ: أَنْ يَكْتُبُوهُ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى الشُّهَدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، فَيَعُودُ عَلَى الْمُتَعَامِلِينَ أَوْ عَلَى الْكِتَابِ. وَانْتِصَابُ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي: أَنْ تَكْتُبُوهُ، وَأَجَازَ السَّجَاوَنْدِيُّ نَصْبُ: صَغِيرًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكَانَ مُضْمَرَةً، أَيْ: كَانَ صَغِيرًا، وَلَيْسَ مَوْضِعَ إِضْمَارِ كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ: إِلَى أَجَلِهِ، بِمَحْذُوفٍ لَا تَكْتُبُوهُ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ الْكِتَابَةِ إِلَى أَجَلِ الدَّيْنِ، إِذْ يَنْقَضِي فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ مُسْتَقِرًّا فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلِ حُلُولِهِ.

ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، وَقِيلَ الْكِتَابَةُ وَالِاسْتِشْهَادُ وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ، وَ: أَقْسَطُ، أَعْدَلُ قِيلَ: وَفِيهِ شُذُوذٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الَّذِي عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلَ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدْلَ، وَمِنْهُ وَأَقْسِطُوا، وَقَدْ رَامُوا خُرُوجَهُ عَنِ الشُّذُوذِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، بِأَنْ يَكُونَ: أَقْسَطُ، مِنْ قَاسِطٍ عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ بِمَعْنَى: ذِي قِسْطٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: انْظُرْ هَلْ هُوَ مِنْ قَسُطَ بِضَمِّ السِّينِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرَمُ مِنْ كَرُمَ.

انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنَ الْقِسْطِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لَمْ يَشْتَقْ مِنْهُ فِعْلٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِقْسَاطِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ لَا يُبْنَى مِنَ الْإِفْعَالِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مِمَّ بُنِيَ أَفْعَلَا التَّفْضِيلِ. أَعْنِي: أَقْسَطَ. وَأَقْوَمُ؟

قُلْتُ: يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ مِنْ أَقْسَطَ وَأَقَامَ. انْتَهَى.

لَمْ يَنُصْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أن أفعل التفضيل. بني مَنْ أَفْعَلَ، إِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ نَصَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ يَكُونُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَأَفْعَلَ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْ أَفْعَلَ، وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَمَا انْقَاسَ فِي التَّعَجُّبِ: انْقَاسَ فِي التَّفْضِيلِ، وَمَا شُذَّ فِيهِ شُذَّ فِيهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْجَوَازِ، وَالْمَنْعِ، والتفضيل. بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ، أَوْ لَا تَكُونُ لِلنَّقْلِ،

ص: 737

فَيُبْنَى مِنْهُ. وَزُعِمَ أَنَّ هذا مذهب سيبويه، وتؤول قَوْلُهُ: وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِغَيْرِ النَّقْلِ، وَمَنَ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا ضَبَطَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ. وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَيَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ فِعْلُ التَّعَجُّبِ عَلَى أَفْعَلَ، وَبِنَاؤُهُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَعَلَى أَفْعَلَ وَحُجَجُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.

وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَقْسَطَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا مِنْ قَسَطَ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى عَدَلَ.

قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي (الِاقْتِضَابِ) مَا نصبه: حَكَى ابْنُ السَّكِّيتِ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: قَسَطَ جَارَ، وَقَسَطَ عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِالْأَلِفِ عَدَلَ لَا غَيْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: قَسَطَ قُسُوطًا وَقِسْطًا، جَارَ وَعَدَلَ ضِدَّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ شَاذًّا.

وَمَعْنَى: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. أَعْدَلُ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقَعَ التَّظَالُمُ.

وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ إِنْ كَانَ مَنْ أَقَامَ فَفِيهِ شُذُوذٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَبْنِيًّا مِنْ قَامَ بِمَعْنَى اعْتَدَلَ فَلَا شُذُوذَ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقَامَ، وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ قَوِيِّمٍ. انْتَهَى.

وَعَدَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي التَّعَجُّبِ مَا أَقْوَمَهُ فِي الشُّذُوذِ، وَجَعَلَهُ مَبْنِيًّا مَنِ استقام، ويتعلق: للشهادة، بأقوم، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولٌ كَمَا تَقُولُ: زِيدٌ أَضْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ وَالنَّصْبُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ.

وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا وَقَدْ تُؤَوَّلُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: تَضْرِبُ الْقَوَانِسَ ومعنى: أقوم لِلشَّهَادَةِ، أَثْبَتُ وَأَصَحُّ.

وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أَيْ أَقْرَبُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: أَنْ لَا يَرْتَابُوا بِالْيَاءِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَحَسَّنَ حذفه كونه أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّفْضِيلِ وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَتَقْدِيُرُهُ: الْكَتْبُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ وَأَدْنَى لِكَذَا مِنْ عَدَمِ الْكَتْبِ، وَقُدِّرَ: أَدْنَى، لِأَنْ: لَا تَرْتَابُوا، وَإِلَى أَنْ لَا تَرْتَابُوا، و: من أَنْ لَا تَرْتَابُوا. ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَبَقِيَ مَنْصُوبًا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ.

وَنَسَقُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، إِذْ بدىء أَوَّلًا بِالْأَشْرَفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبِعَ مَا أُمِرَ بِهِ، إِذِ اتِّبَاعُهُ هُوَ مُتَعَلِّقُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ،

ص: 738

وَبُنِيَ لِقَوْلِهِ: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ هُوَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَجَاءَ بِالْيَاءِ. وَأَدْنَى أَلَّا يَرْتَابُوا لِأَنَّ انْتِفَاءَ الرِّيبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، فَعَنْهُمَا تَنْشَأُ أَقْرَبِيَّةُ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ، إِذْ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي أَنْ لَا يَقَعَ رِيبَةٌ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إِلَّا بِالْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ غَالِبًا، فَيُثْلِجُ الصَّدْرَ بِمَا كَتَبَ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.

وَ: تَرْتَابُوا، بُنِيَ افْتَعَلَ مِنَ الرِّيبَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ «1» قِيلَ:

وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقَّ أَنْ يُنْكِرَ، وَقِيلَ: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِالشَّاهِدِ أَنْ يَضِلَّ، وَقِيلَ: فِي الشَّهَادَةِ وَمَبْلَغِ الْحَقِّ وَالْأَجْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَقْرَبُ لِنَفْيِ الشَّكِّ لِلشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُتَعَامِلِينَ، وَمَا ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِيهِ شَكٌّ وَلَا لَبْسٌ وَلَا نِزَاعٌ.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُعَجَّلُ وَلَا يَدْخُلُهُ أَجْلٌ مَنْ بَيْعٍ وَثَمَنٍ وَالثَّانِي: مَا يُجَوِّزُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعُرُوضِ الْمَنْقُولَةِ، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ إِنَّمَا هُوَ فِي قَلِيلٍ: كَالْمَطْعُومِ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ. وَلِهَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ تَأْخُذُهُ وَتُعْطِي.

وَفِي مَعْنَى الْإِدَارَةِ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَنَاوَلُونَهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ. وَالثَّانِي يَتَبَايَعُونَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْإِدَارَةُ تَقْتَضِي التَّقَابُضَ وَالذَّهَابَ بِالْمَقْبُوضِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّبَاعُ وَالْأَرْضُ، وَكَثِيرُ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تُقَوِّي الْبَيْنُونَةَ، وَلَا يُعَابُ عَلَيْهَا حُسْنُ الْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَلَحِقَتْ بِمُبَايَعَةِ الدِّيُونِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْكِتَابَةُ فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَهُمْ شَاقَّةً، رُفِعَ الْجُنَاحُ عَنْهُمْ فِي تَرْكِهَا، وَلِأَنَّ مَا بِيعَ نَقْدًا يَدًا بِيَدٍ لَا يَكَادُ يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابَةٍ، إِذْ مَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ إِنَّمَا هِيَ لِضَبْطِ الدِّيُونِ، إِذْ بِتَأْجِيلِهَا يَقَعُ الْوَهْمُ فِي مِقْدَارِهَا وَصِفَتِهَا وَأَجْلِهَا، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي مُبَايَعَةِ التَّاجِرِ يَدًا بِيَدٍ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ، مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بِيعَ لِغَيْرِ أَجْلِ مُنَاجَزَةٍ لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَرِيبًا. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تِجَارَةً حَاضِرَةً، بِنَصْبِهِمَا عَلَى أَنَّ كَانَ نَاقِصَةً، التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ أَيْ التِّجَارَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ: تَكُونَ، تَامَّةً. وَ: تجارة، فاعل بتكون،

(1) سورة البقرة: 2/ 2. وآل عمران: 3/ 9 و 25 والنساء: 4/ 87 والأنعام: 6/ 12، ويونس: 10/ 37 والإسراء: 17/ 99. والسجدة: 32/ 2. والشورى: 42/ 7. والجاثية: 45/ 26.

.

ص: 739

وأجاز بعضهم أن تكون نَاقِصَةٌ وَخَبُرُهَا الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ هُنَا مَعْنَاهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، إِذِ الْكِتَابَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةٌ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْوُجُوبِ فَمَعْنَى: لَا جُنَاحَ، لَا إِثْمَ.

وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى التَّبَايُعِ مُطْلَقًا، نَاجِزًا أَوْ كَالِئًا، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنِ الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، لَمَّا رُخِّصَ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ أُمِرُوا بِالْإِشْهَادِ.

قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَالْحَكَمِ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخْعِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ.

قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ أَوِ اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، أو ثلاثة دَرَاهِمَ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَحْلُ لِمُسْلِمٍ إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل. وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا عَلَى الْحَتْمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:

وَهَذَا قَوْلُ الْكَافَّةِ.

وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هَذَا نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ فُتِحَتِ الرَّاءُ لِأَنَّهُ مَجْزُومٌ. وَالْمُشَدَّدُ إِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَهَذَا كَانَتْ حَرَكَتُهُ الْفُتْحَةَ لِخِفَّتِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُدْغِمَ لَزِمَ تَحْرِيكُهُ، فَلَوْ فُكَّ ظَهَرَ فِيهِ الْجَزْمُ.

وَاحْتَمَلَ هَذَا الْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فَيَكُونُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ قَدْ نُهِيَا أَنْ يَضَارَّا أَحَدًا بِأَنْ يَزِيدَ الْكَاتِبُ فِي الْكِتَابَةِ، أَوْ يُحَرِّفَ. وَبِأَنْ يَكْتُمَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ، أَوْ يُغَيِّرَهَا أَوْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَائِهَا. قَالَ معناه الحسن، وطاووس، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ: الزَّجَّاجُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ بِمَنْ يُحَرِّفُ الْكِتَابَةَ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ، حَتَّى يُبْطِلَ الْحَقَّ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ أَبْرَمَ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ، فِيمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالْآثِمُ وَالْفَاسِقُ مُتَقَارِبَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعطاء: بِأَنْ يَقُولَا: عَلَيْنَا شُغْلٌ وَلَنَا حَاجَةٌ.

ص: 740

وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَنُهِيَ أَنْ يُضَارَّهُمَا أَحَدٌ بِأَنْ يُعَنَّتَا، وَيَشُقَّ عَلَيْهِمَا فِي تَرْكِ أَشْغَالِهِمَا، وَيُطْلَبُ مِنْهُمَا مَا لَا يَلِيقُ فِي الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَالَ مَعْنَاهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ.

وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ قِرَاءَةُ عُمَرَ: وَلَا يُضَارَرْ، بِالْفَكِّ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى. رَوَاهَا الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ وَالْكَاتِبِ خَطَّابٌ تَقَدَّمَ، إِنَّمَا رَدَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَالنَّهْيُ لَهُمْ أَبْيَنُ أَنْ لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ فَيَشْغَلُونَهُمَا عَنْ شُغْلِهِمَا، وَهُمْ يَجِدُونَ غَيْرَهُمَا. وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ لَقِيلَ:

وَإِنْ تَفْعَلَا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمَا، وَإِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْمُدَايِنِينَ فَالْمَنْهِيُّونَ عَنِ الضِّرَارِ هُمْ، وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ الرَّاءَ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَيْضًا فَتْحَهَا، وَفَكَّ الْفِعْلِ. وَالْفَكُّ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْإِدْغَامُ لُغَةِ تَمِيمٍ.

وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَلَا يُضَارْ، بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثِ سَوَاكِنَ، لَكِنَّ الْأَلِفَ لِمَدِّهَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُتَحَرِّكِ، فَكَأَنَّهُ بَقِيَ سَاكِنَانِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ. ثُمَّ أَجْرَيَا الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ.

وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: وَلَا يُضَارِرْ، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأَوْلَى وَالْفَكِّ، كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا بِالنُّصْبِ أَيْ:

لَا يَبْدَأْهُمَا صَاحِبُ الْحَقِّ بِضَرَرٍ.

وَوُجُوهُ الْمُضَارَّةِ لَا تَنْحَصِرُ، وَرَوَى مُقْسَمٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلَا يُضَارِّ، بِالْإِدْغَامِ وَكَسْرِ الرَّاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.

وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَا يُضَارُّ، بِرَفْعِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْسِينُ مَجِيءُ النَّهْيِ بِصُورَةِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، فَإِذَا بَرَزَ فِي صُورَةِ النَّفْيِ كَانَ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ صَارَ مِمَّا لَا يَقَعُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ.

وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَفْعُولَ: تَفْعَلُوا، الْمَحْذُوفَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُضَارَّ، وَإِنْ تَفْعَلُوا لِمُضَارَّةٍ أَوِ الضِّرَارِ فَإِنَّهُ، أَيْ الضِّرَارِ، فُسُوقٌ بِكُمْ أَيْ: مُلْتَبِسٌ بِكُمْ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، أَيْ: فِيكُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ، إِذْ جُعِلُوا مَحَلًّا لِلْفِسْقِ.

وَالْخِطَابُ فِي: تَفْعَلُوا، عَائِدٌ عَلَى الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يُضَارَّ، قَدْ قُدِّرَ

ص: 741

مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَمَّا إِذَا قُدِّرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَالْخِطَابُ لِلْمَشْهُودِ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، أَوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ: خُرُوجٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ.

وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: فِي تَرْكِ الضِّرَارِ، أَوْ: فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خِطَابًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ، أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْفِسْقِ.

وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ هَذِهِ جُمْلَةُ تَذْكِرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَشْرَفَهَا: التَّعْلِيمُ لِلْعُلُومِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: وَاتَّقُوا، تَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ مَضْمُونًا لَكُمُ التَّعْلِيمُ وَالْهِدَايَةُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي: الْحَالَ، ضَعِيفٌ جَدًّا، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْوَاقِعُ حَالًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ إِلَّا فِيمَا شَذَّ مِنْ نَحْوِ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى الشُّذُوذِ.

وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى إِحَاطَتِهِ تَعَالَى بِالْمَعْلُومَاتِ، فَلَا يَشِذُّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِالْمُجَازَاةِ لِلْفَاسِقِ وَالْمُتَّقِي، وَأُعِيدَ لَفْظُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ عَلَى طَرِيقِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ، جُعِلَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى رَبْطٍ بِالضَّمِيرِ، بَلِ اكْتُفِيَ فِيهَا بِرَبْطِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى وَاحِدٍ، فَالْأُولَى: حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ: تَذَكُّرٌ بِالنِّعَمِ، وَالثَّالِثَةُ: تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ الْوَعْدُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَكَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ بَعْضُ الْمُتَطَوِّعَةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَجَافَوُنَّ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، مِنَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، إِذَا ذُكِرَ لَهُ الْعِلْمُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ، قَالُوا: قَالَ اللَّهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَمِنْ أَيْنَ تُعْرَفُ التَّقْوَى؟ وَهَلْ تُعْرَفُ إِلًّا بِالْعِلْمِ؟.

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. مَفْهُومُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الِاسْتِيثَاقِ بِالرَّهْنِ، وَأَخْذَهُ فِي الْحَضَرِ، وَعِنْدَ وِجْدَانِ الْكَاتِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ السَّفَرِ وَفُقْدَانِ الْكَاتِبِ، وَقَدْ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ وَالِائْتِمَانَ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَنْبَغِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ الِارْتِهَانَ إِلَّا فِي حَالِ السَّفَرِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وَمَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ السَّفَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْإِعْذَارِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ فُقْدَانِ

ص: 742

الْكَاتِبِ، وَإِعْوَازِ الْإِشْهَادِ، فَأَقَامَ التَّوَثُّقَ بِالرَّهْنِ مَقَامَ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَبِّهْ بِالسَّفَرِ عَلَى كُلِّ عُذْرٍ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْكَاتِبُ فِي الْحَضَرِ كَأَوْقَاتِ الِاشْتِغَالِ وَاللَّيْلِ

وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْنَ دِرْعَهُ فِي الْحَضَرِ

، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لَا يُرَادُ مَفْهُومُهُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَاتِبًا، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو العالية: كِتَابًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ جَمْعُ كَاتِبٍ. كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ. وَنَفْيُ الْكَاتِبِ يَقْتَضِي نَفْيُ الْكِتَابَةِ، وَنَفْيُ الْكِتَابَةِ يَقْتَضِي أَيْضًا نُفِيَ الْكُتُبِ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: كُتَّابًا، عَلَى الْجَمْعِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ كُلَّ نَازِلَةٍ لَهَا كَاتِبٌ، وَرَوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: كُتُبًا جَمْعُ كِتَابٍ، وَجُمِعَ اعْتِبَارًا بِالنَّوَازِلِ أَيْضًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرِهَانٌ، جَمْعُ رَهْنٍ نَحْوُ: كَعْبٍ وَكِعَابٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو:

فَرُهُنٌ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ. وَرَوِيَ عَنْهُمَا تَسْكِينُ الْهَاءِ. وَقَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمَا، فَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رِهَانٍ، وَرِهَانٌ جَمْعُ رَهَنٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ. وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَا يَطَّرِدُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رَهْنٍ، كَسَقْفٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْهَاءِ فَهُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ رُهُنٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، نَحْوُ: كُتْبٍ فِي كُتُبٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لَا أَعْرِفُ الرِّهَانَ إِلَّا فِي الْخَيْلِ لَا غَيْرَ، وَقَالَ يُونُسُ: الرُّهْنُ وَالرِّهَانُ عَرَبِيَّانِ، وَالرُّهْنُ فِي الرُّهُنِ أَكْثَرُ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ أَكْثَرُ. انْتَهَى. وَجَمْعُ فُعُلٍ عَلَى فُعْلٍ قَلِيلٌ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ: رُهْنٌ، قَوْلُ الْأَعْشَى:

آلَيْتُ لَا يُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا

رُهْنًا فَيُفْسِدَهُمْ كَرُهْنٍ أَفْسَدَا

وَقَالَ بِكَسْرِ: رِهْنٍ، عَلَى أَقَلَّ الْعَدَدِ لَمْ أَعْلَمْهُ جَاءَ، وَقِيَاسُهُ: أَفْعُلٍ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِالْكَثِيرِ عَنِ الْقَلِيلِ. انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: مَقْبُوضَةٌ، اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ قَبَضِ الْمُرْتَهِنِ، وَقَبَضِ وَكِيلِهِ، وَأَمَّا قَبْضُ عَدْلٍ يُوضَعُ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَيْسَ بِقَبْضٍ، فَإِنْ وَقْعَ الرَّهْنُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِالْعَقْدِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى دَفْعِ الرَّهْنِ لِيَحُوزَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَالْقَبْضُ عِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ فِي كَمَالِ فَائِدَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ.

ص: 743

وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِمْرَارِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَطَلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لَمْ يَبْطُلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ مُطْلَقًا.

وَالظَّاهِرُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ ذَاتًا مُتَقَوِّمَةً يَصِحُّ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، وَيَتَهَيَّأُ فِيهَا الْقَبْضُ أَوِ التَّخْلِيَةُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ:

يَجُوزُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْغَرَرِ، مِثْلُ: الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالْأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي رَهْنِ الْمَشَاعِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا يُقَسَّمُ.

وَمَعْنَى: عَلَى سَفَرٍ، أَيْ: مُسَافِرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ.

وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِدُوا، أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نصب. ويحتمل أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى خَبَرِ كَانَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَارْتِفَاعُ: فَرِهَانٌ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَالْوَثِيقَةُ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ.

فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ: إِنْ وَثِقَ رَبُّ الدَّيْنِ بِأَمَانَةِ الْغَرِيمِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ، فَلْيُؤَدِّ الْغَرِيمُ أَمَانَتَهُ، أَيْ مَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنْ أُومِنَ، رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: آمَنَهُ النَّاسُ، هَكَذَا نَقَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ أَبِيِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنِ ائْتَمَنَ، افْتَعَلَ مِنَ الْأَمْنِ، أَيْ: وَثَقَ بِلَا وَثِيقَةِ صَكٍّ، وَلَا رَهْنٍ.

وَالضَّمِيرُ فِي: أَمَانَتَهُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى رَبِّ الدَّيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِي اؤْتُمِنَ. وَالْأَمَانَةُ: هُوَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَلْيُؤَدِّ دَيْنَ أَمَانَتِهِ. وَاللَّامُ فِي: فَلْيُؤَدِّ، لِلْأَمْرِ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الدُّيُونِ، وَثُبُوتِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ وَجَبْرِهِ الْغُرَمَاءَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ هَمْزَةِ: فَلْيُؤَدِّ، وَاوًا نَحْوُ: يُوَجَلُ وَيُوَخَّرُ وَيُوَاخَذُ، لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا.

وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: الَّذِي اؤْتُمِنَ، بِرَفْعِ الْأَلِفِ، وَيُشِيرُ بِالضَّمَّةِ إِلَى الْهَمْزَةِ.

ص: 744

قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ غَلَطٌ. وَرَوَى سُلَيْمٌ عَنْ حَمْزَةَ إِشْمَامَ الْهَمْزَةِ الضَّمَّ، وَفِي الْإِشَارَةِ وَالْإِشْمَامِ الْمَذْكُورَيْنِ نَظَرٌ.

وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَوَرْشٌ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي بِئْرٍ وَذِئْبٍ، وَأَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ: أُؤْتُمِنَ، بِهَمْزَتَيْنِ: الْأُولَى هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَهِيَ مَضْمُومَةٌ. والثاني: فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَتُبَدَلُ هَذِهِ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، وَلِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الْكَلِمَةُ بِمَا قَبْلَهَا رَجَعَتِ الْوَاوُ إِلَى أَصْلِهَا مِنَ الْهَمْزَةِ، لِزَوَالِ مَا أَوْجَبَ إِبْدَالَهَا. وَهِيَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ جَازَ إِبْدَالُهَا يَاءً لِذَلِكَ.

وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي شَاذِّهِ: الِلَّذِتُّمِنَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْمُبَدَلَةِ مِنَ الْهَمْزَةِ قِيَاسًا عَلَى: اتَّسَرَ، فِي الِافْتِعَالِ مِنَ الْيُسْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لأن التاء منقلبة عَنِ الْهَمْزَةِ فِي حُكْمِ الْهَمْزَةِ، وَاتَّزَرَ عَامِّيٌّ، وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وأن اترز عَامِّيٌّ يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ إِحْدَاثِ الْعَامَّةِ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ، قَدْ ذَكَّرَهُ غَيْرُهُ، أَنَّ بَعْضَهُمْ أَبَدَلَ وَأَدْغَمَ، فَقَالَ: اتَّمَنَ وَاتَّزَرَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا، فَهَذَا التَّشْبِيهُ إِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: واتزر عَامِّيٌّ، فَيَكُونُ إِدْغَامُ رُيَّا عَامِّيًّا. وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، أَيْ:

وَكَذَلِكَ إِدْغَامُ: رُيَّا، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَدْ حَكَى الْإِدْغَامَ فِي رُيَّا الْكِسَائِيُّ.

وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أَيْ عَذَابَ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا ائْتَمَنَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّهُ، تَأْكِيدًا لْأَمْرِ التَّقْوَى فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ كَمَا جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَأَمَرَ بِالتَّقْوَى حِينَ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ، وَحِينَ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ، فَاكْتَنَفَهُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى حِينَ الْأَخْذِ وَحِينَ الْوَفَاءِ.

وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَلَا تَرَى إِلَى الْوَعِيدِ لِمَنْ كَتَمَهَا؟ وَمَوْضِعُ النَّهْيِ حَيْثُ يَخَافُ الشَّاهِدُ ضَيَاعَ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ حَيْثُ مَا اسْتُشْهِدَ، وَيُخْبِرَ حَيْثُ مَا اسْتُخْبِرَ. وَلَا تَقُلْ: أَخْبِرْ بِهَا عَنِ الْأَمِيرِ، بَلْ أَخْبِرْهُ بِهَا لَعَلَّهُ يَرْجِعُ وَيَرْعَوِي.

وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.

وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ كَتْمُ الشَّهَادَةِ هُوَ إِخْفَاؤُهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَائِهَا، وَالْكَتْمُ

ص: 745

مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ قَامَ بِالْقَلْبِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَ الْإِثْمَ بِهِ. وَهُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ:(أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) . وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا أَبْلَغُ وَآكَدُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي؟ وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي؟ وَوَعَاهُ قَلْبِي؟ فَأُسْنِدَ الْإِثْمُ إِلَى الْقَلْبِ إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِثْمِ، وَمَكَانُ اقْتِرَافِهِ، وَعَنْهُ يُتَرْجِمُ اللِّسَانُ. وَلِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْكِتْمَانَ مِنَ الْآثَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَأَفْعَالُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَهِيَ لَهَا كَالْأُصُولِ الَّتِي تَتَشَعَّبُ مِنْهَا، لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: آثِمٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَثِمَ قَلْبُهُ، وَ: قَلْبُهُ، مَرْفُوعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَ: آثِمٌ، خَبَرُ: إِنَّ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ:

آثِمٌ، خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَ: قَلْبُهُ، مُبْتَدَأٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: إِنَّ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي: آثم ابتداء وقلبه فَاعِلٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا أَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ، نَحْوُ: أقائم الزيدان؟ وأ قائم الزَّيْدُونَ؟ وَمَا قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ لَكِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، إِذْ يُجِيزُ: قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ فَيَرْفَعُ الزَّيْدَانِ بَاسِمِ الْفَاعِلِ دُونَ اعْتِمَادٍ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ:

قَلْبُهُ، بَدَلًا عَلَى بَدَلِ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَكِنِ فِي: آثِمٌ، وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ.

وَقَرَأَ قَوْمٌ: قَلْبَهُ، بِالنَّصْبِ، ونسبها ابن عطية إلى ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَقَالَ: قَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ عَلَى التَّفْسِيرِ يَعْنِي التَّمْيِيزَ، ثُمَّ ضُعِّفَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ. وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَقَدْ خَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهِهِ، وَمَثَلِهِ مَا أَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَاتِهَا

مُدَارَةَ الْأَخْفَافِ مُجْمَرَاتِهَا

غلب الدفار وعفريناتها

كَوْمُ الذُّرَى وَادِقَّةُ سِرَاتِهَا

وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ جَائِزٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ مَمْنُوعٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَائِزٌ فِي الشِّعْرِ لَا فِي الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ اسْمِ إِنَّ بدل بعض من كل، وَلَا مُبَالَاةَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَدْ فَصَلُوا

ص: 746

بِالْخَبَرِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، نَحْوُ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ الْعَاقِلُ، نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتَ وَاحِدٌ، فَأَحْرَى فِي الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ غَيْرُ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ.

وَنَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ ابْنَ أَبِي عَبْلَةَ قَرَأَ: أَثَمَ قَلْبَهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَالْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الثَّاءِ، جعله فعلا ماضيا. وقلبه بِفَتْحِ الْبَاءِ نَصْبًا عَلَى المفعول بأثم، أَيْ: جَعَلَهُ آثِمًا.

وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا عَلَى وَجْهِهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ تَوَعُّدٌ شَدِيدٌ لِكَاتِمِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُجَازَاةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعِلْمِ يَعُمُّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ.

وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: بِمَا يَعْمَلُونَ، بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ.

التَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَفِي قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ.

والتجنيس الممائل فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا.

وَالتَّأْكِيدَ في قوله: تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وليكتب بينكم كاتب، إِذْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ:

تَدَايَنْتُمْ، قَوْلُهُ: بِدَيْنٍ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، قَوْلُهُ: كَاتِبٌ.

وَالطِّبَاقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ، لِأَنَّ الضَّلَالَ هُنَا بِمَعْنَى النِّسْيَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا.

وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ.

وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، وَفِي قوله:

أقسط عند الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ.

وَالتَّكْرَارَ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وليكتب، وأن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، فَلْيَكْتُبْ، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وفي قوله: فليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. كَرَّرَ الْحَقَّ لِلدُّعَاءِ

ص: 747

إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَأَتَى بِلَفْظَةِ عَلَى لِلْإِعْلَامِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَاسْتِعْلَاءً، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ.

وَالْحَذْفَ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، حَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: مُسَمًّى، أَيْ بَيْنِكُمْ فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَةَ وَالْخَطَّ، فَلْيَكْتُبْ كِتَابَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَائِهِ سَفِيهًا فِي الرَّأْيِ أَوْ ضَعِيفًا فِي الْبَيِّنَةِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمَلَّ هُوَ لَخَرَسٍ أَوْ بُكْمٍ فَلْيَمْلَلِ الدَّينَ وَلِيُّهُ عَلَى الْكَاتِبِ، وَاسْتَشْهِدُوا إِذَا تَعَامَلْتُمْ مِنْ رِجَالِكُمُ الْمُعَيَّنِينَ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيِّينَ، فَرَجُلٌ مَرْضِيٌّ وَامْرَأَتَانِ مَرْضِيَّتَانِ مِنَ الشُّهَدَاءِ الْمَرْضِيِّينَ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إِذَا مَا دُعُوا أَيْ دُعَائِهِمْ صَاحِبَ الْحَقِّ لِلتَّحَمُّلِ، أَوْ لِلْأَدَاءِ إِلَى أَجَلِهِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَكُمْ، ذَلِكُمُ الْكِتَابُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيَّةِ أَنْ لَا تَرْتَابُوا فِي الشَّهَادَةِ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ، وَلَا تَحْتَاجُونَ إِلَى الْكُتُبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ شَاهِدَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ أَيْ صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ: لَا يُضَارُّ صَاحِبُ الْحَقِّ كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا، ثُمَّ حُذِفَ وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْ تَفْعَلُوا الضَّرَرَ، وَاتَّقَوْا عَذَابَ اللَّهِ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ الصَّوَابَ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَبِيلِ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا يُتَوَثَّقُ بِكِتَابَتِهِ، فَالْوَثِيقَةُ رَهْنٌ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَأَعْطَاهُ مَالًا بِلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ أَمَانَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا مَطَلٍ، وَلْيَتَّقِ عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ عَنْ طَالِبِهَا.

وَتَلْوِينَ الْخِطَابِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ، وَمِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وَأَشْهِدُوا. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ:

وَلَا يُضَارَّ، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بقوله: ولا تكمتوا الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْتُمْهَا، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بِقَوْلِهِ: بِمَا تَعْمَلُونَ.

وَالْعُدُولُ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ، فِي قَوْلِهِ: شَهِيدَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.

وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، وَلْيُمْلِلِ، أَوِ الْإِمْلَالُ، بِتَقْدِيمِ الْكِتَابَةِ قَبْلُ، وَمِنْ ذَلِكَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، التَّقْدِيرُ وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، وَمِنْهُ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.

انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ. وَفِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا لَا يَخْفَى: مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ لِلْمُتَدَايِنِينَ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِلْكَاتِبِ

ص: 748

بِالْكِتَابَةِ بِالْعَدْلِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ أَمْرِهِ ثَانِيًا بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَالِ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ لِوَلِيِّهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِشْهَادِ، وَمِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي مَنْ يَشْهَدُ وَفِي وَصْفِهِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلشُّهُودِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمَلَلِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا، وَمِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الضَّبْطِ بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ التَّبَايُعِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ عَنْ ضِرَارِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَيَكْتُبُ، ومن التنبيه على أن الضِّرَارَ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ فُسُوقٌ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَمِنَ الْإِذْكَارِ بِنِعْمَةِ التَّعَلُّمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنِ الِاسْتِيثَاقِ فِي السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ بِالرَّهْنِ الْمَقْبُوضِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ مَنْ لَمْ يَسْتَوْثِقْ بِكَاتِبٍ وَشَاهِدٍ وَرَهْنٍ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنِ اسْتَوْثَقَ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْأَمَانَةِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ، وَمِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنْ كَاتَمَهَا مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَصِيَانَتِهَا عَنِ الضَّيَاعِ، وَقَدْ قَرَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنُّفُوسِ وَالدِّمَاءِ،

فَقَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .

وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ»

. وَلِصِيَانَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِضَاعَتِهَا، وَمِنَ التَّبْذِيرِ فِيهَا كَانَ حَجْرُ الْإِفْلَاسِ، وَحَجْرُ الْجُنُونِ، وَحَجْرُ الصِّغَرِ، وَحَجْرُ الرِّقِّ، وَحَجْرُ الْمَرَضِ، وَحَجْرُ الِارْتِدَادِ.

لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَتِهَا، وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ وَمُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْوَاقِدِيُّ: نَزَلَتْ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَمُنَاسَبَتُهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ فَإِنَّ قَلْبَهُ آثِمٌ، ذَكَرَ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، فَكَتَمَهُ أَوْ أَبْدَاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ بِهِ، فَفِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ، وَلَمَّا عَلَّقَ الْإِثْمَ بِالْقَلْبِ ذَكَرَ هُنَا الْأَنْفُسَ، فَقَالَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ خَاتِمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّنَهَا أَكْثَرَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ: دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَعَادِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْخُلْعِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالرَّضَاعَةِ، وَالرِّبَا، وَالْبَيْعِ، وَكَيْفِيَّةِ الْمُدَايَنَةِ. فَنَاسَبَ تَكْلِيفُهُ إِيَّانَا بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ أَنْ يَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ يُلْزِمُ مَنْ شَاءَ مِنْ مَمْلُوكَاتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ تَعَبُّدَاتِهِ وَتَكْلِيفَاتِهِ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ مَحَلَّ اعْتِقَادِهَا إِنَّمَا هُوَ الْأَنْفَسُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ

ص: 749

النِّيَّاتِ، وَثَوَابَ مُلْتَزِمِهَا وَعِقَابَ تَارِكِهَا إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، نَبَّهَ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ الَّتِي بِهَا تَقَعُ الْمُحَاسَبَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَصِفَةُ الْمُلْكِ تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَذِكْرُ الْمُحَاسَبَةِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، فَحَصَلَ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ غَايَةُ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِينَ، وَغَايَةُ الْوَعِيدِ لِلْعَاصِينَ.

وَالظَّاهِرُ فِي: اللَّامُ، أَنَّهَا لِلْمُلْكِ، وَكَانَ مَلِكًا لَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْشِئُ لَهُ، الْخَالِقُ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِلَّهِ تَدْبِيرُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَخَصَّ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يُرَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدَّمَ السموات لِعِظَمِهَا، وَجَاءَ بِلَفْظِ: مَا، تَغْلِيبًا لِمَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا حَوَتْهُ إِنَّمَا هُوَ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ، لَا يَعْقِلُ، وَأَجْنَاسُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْعَاقِلُ فَأَجْنَاسُهُ قَلِيلَةٌ إِذْ هِيَ ثَلَاثَةٌ: إِنْسٌ وَجِنٌّ وَمَلَائِكَةٌ.

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ظَاهِرُ: مَا، الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَالَتَيْنِ مِنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ إِبْدَاءً وَإِخْفَاءً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ نَاشِئًا عَنْ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ سَابِقٌ بِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِعْدَامِ. بِخِلَافِ عِلْمِ الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ إِيجَادِهِ، فَعِلْمُهُ مُحَدَّثٌ. وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةٍ، أَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَاتِمَ لَهَا الْمَخْفِي مَا فِي نَفْسِهِ مُحَاسَبٌ، وَقِيلَ: مِنَ الِاحْتِيَالِ لِلرِّبَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُ بِمَا تَجْنِ الْقُلُوبُ، قَوْلُهُ:

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «1» .

وَبَعْدُ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْجَهْلَ أَفْعَالُ الْقَلْبِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: بَيَّنَ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ كَأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فِي أَنَّ الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُهَا، وَيَعْنِي مَا يَلْزَمُ إِظْهَارُهُ إِذَا خَفِيَ، وَمَا يلزم كتماته إِذَا ظَهَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِمَّا قَدْ رَفَعَ فِيهِ الْمَأْثَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِلَى مَا يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ أَشَارَ، وَاللَّهُ أَعْلَمَ، رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوُزَ لِأُمَّتَي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ وَتَكَلُّمْ»

وَقَالَ: «إِنْ تُظْهِرُوا الْعَمَلَ أَوْ تسروه» .

(1) سورة البقرة: 2/ 235. [.....]

ص: 750

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا يُخْفُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَعَلَى مَا يُبْدُونَهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَحِقِّ وَيُعَذِّبُ الْمُسْتَحِقَّ. وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ يُسْتَحَقَّانِ بِالْعَزْمِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ إِذَا كَانَتْ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ السُّوءِ وَهَذَا حَسَنٌ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ذِكْرُ الْغُفْرَانِ وَالتَّعْذِيبِ، لَكِنْ ذَيَّلَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، لِمَنِ اسْتَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا أُظْهِرَ مِنْهُ، أَوْ أُضْمِرَ. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مَنِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ بِالْإِصْرَارِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْغُفْرَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَتُبْ، فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» .

ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ الْوَسْوَاسُ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْخُلُوُّ مِنْهُ، وَلَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ تَلَاهَا فَقَالَ: لَئِنْ أَخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلَكَنَّ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشَجُهُ، فَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدَ، فَنَزَلَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي أَنْفُسِكُمْ، يَقْتَضِي قُوَّةَ اللَّفْظِ أَنَّهُ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ وَاعْتُقِدَ وَاسْتَصْحَبَ الْفِكْرَ فِيهِ، وَأَمَّا الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا فَلَيْسَتْ فِي النَّفْسِ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ.

انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا تَخْصِيصًا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَسْوَسَةَ وَالْهَوَاجِسَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُحَكَمَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا مِمَّا ثَبَتَ فِي نُفُوسِهِمْ وَنَوُوهُ وَأَرَادُوهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَأْخُذُ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَقِيلَ:

الْعَذَابُ الَّذِي يَكُونُ جَزَاءً لِلْخَوَاطِرِ هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَآلَامُهَا وَسَائِرُ مَكَارِهِهَا. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عَائِشَةَ.

وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْخَوَاطِرُ، أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ ما أراد

(1) سورة النساء: 2/ 48 و 116.

ص: 751

بِهَا وَخَصَّصَهَا، وَنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَ دَفْعُهَا فِي الْوُسْعِ، وَكَانَ فِي هَذَا فَرَجُهُمْ وَكَشْفُ كَرْبِهِمْ.

وَالْآيَةُ خَبَرٌ، وَالنَّسْخُ لَا يُدْخَلُ الْأَخْبَارَ، وَانْجَزَمَ: يُحَاسِبُكُمْ، عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْمُحَاسَبَةِ إِذْ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاسِيرِ الْحَسِيبِ: الْعَالِمُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَقِيلَ: الْجَزَاءُ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ بِعَدَمِ الْمُحَاسَبَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يُحَاسِبُكُمْ إِنْ شَاءَ أَوْ يُحَاسِبُكُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَحْ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَزِيدُ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْقَطْعِ، وَيَجُوزُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.

وَالْآخَرُ: أَنْ يُعْطَفَ جُمْلَةٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى الْجَوَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو حَيْوَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى إِضْمَارِ: إِنْ، فَيَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مِنَ الْحِسَابِ، تَقْدِيرُهُ: يَكُنْ مُحَاسَبَةٌ فَمَغْفِرَةٌ وَتَعْذِيبٌ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ قَدْ جَاءَتْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ

رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجب الظهر ليس له سَنَامُ

يُرْوَى بِجَزْمِ: وَنَأْخُذُ، وَرَفْعِهِ وَنَصْبِهِ. وَقَرَأَ الْجَعْفِيُّ، وَخَلَّادٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: يُغْفَرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُرْوَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هِيَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ:

يُحَاسِبُكُمْ، فَهِيَ تَفْسِيرٌ لِلْمُحَاسَبَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، بَلْ هُمَا مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، وَمِثَالُ الْجَزْمِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْجَزَاءِ قَوْلُهُ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» .

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ أَوْضَحُ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، أَوْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأَسَهُ. وَأُحِبُّ زَيْدًا عَقْلَهَ، وَهَذَا الْبَدَلُ وَاقِعٌ فِي الْأَفْعَالِ وُقُوعِهِ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ مناقشة.

أَوَّلًا: فَلِقَوْلِهِ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، وليس الغفران والعذاب

(1) سورة الفرقان: 25/ 68.

ص: 752

تَفْصِيلًا لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا هُوَ تِعْدَادُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَحُصْرِهَا، بِحَيْثُ لَا يَشُذُّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْغُفْرَانُ وَالْعَذَابُ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، فَلَيْسَتِ الْمُحَاسَبَةُ تَفْصِلُ الْغُفْرَانِ وَالْعَذَابِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِقَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَدَلَ الْبَعْضِ وَالْكُلِّ، وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ: هَذَا الْبَدَلُ وُقُوعُهُ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. أَمَّا بَدَلُ الِاشْتِمَالِ فَهُوَ يُمْكِنُ، وَقَدْ جَاءَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَا هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ يَكُونُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّفْيُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَأَمَّا بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَلَا يُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا يَقْبَلُ التَّجَزِي، فَلَا يُقَالُ فِي الْفِعْلِ: لَهُ كُلٌّ وَبَعْضٌ إِلًّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ، فَلَيْسَ كَالِاسْمِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذِ الْبَارِي تَعَالَى وَاحِدٌ فَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ قِرَاءَةَ الْجَزْمِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَقْرَأُ الْجَازِمُ؟.

قُلْتُ: يُظْهَرُ الرَّاءَ وَيُدْغِمُ الْبَاءَ، وَمُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا، وَرَاوِيهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، لِأَنَّهُ يُلْحِنُ وَيَنْسُبُ إِلَى أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا يُؤْذِنُ بِجَهْلٍ عَظِيمٍ، وَالسَّبَبُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قِلَّةُ ضَبْطِ الرُّوَاةِ، وَالسَّبَبُ فِي قِلَّةِ الضَّبْطِ قِلَّةُ الدِّرَايَةِ، وَلَا يَضْبُطُ نَحْوَ هَذَا إِلَّا أَهْلُ النَّحْوِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْقُرَّاءِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَ أَنَّ مُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا إِلَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ، فَذَهَبَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ مِنْ أَجْلِ التَّكْرِيرِ الَّذِي فِيهَا، وَلَا فِي النُّونِ. قَالَ أبو سعيد. ولانعلم أَحَدًا خَالَفَهُ إِلَّا يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيُّ، وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَنَّهُ كَانَ يُدْغِمُ الرَّاءَ فِي اللَّامِ مُتَحَرِّكَةٌ مُتَحَرِّكًا مَا قَبْلَهَا، نَحْوُ: يَغْفِرُ لِمَنْ «1» الْعُمُرِ لِكَيْلا «2» وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «3» فَإِنَّ سَكَنَ مَا قَبْلَ الرَّاءِ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ فِي مَوْضِعِ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، نَحْوُ الْأَنْهارُ لَهُمْ «4» والنَّارُ لِيَجْزِيَ «5» فَإِنِ انْفَتَحَتْ وَكَانَ ما قبلها حرف مدولين أو غيره لم

(1) سورة البقرة: 2/ 284، وآل عمران: 3/ 129 والمائدة: 4/ 18 و 40. والفتح: 48/ 14.

(2)

سورة الحج: 22/ 5.

(3)

سورة النساء: 4/ 64.

(4)

سورة النحل: 16/ 31.

(5)

سورة إبراهيم: 14/ 50 و 51.

ص: 753

يَدْغِمْ نَحْوُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ «1» والْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ «2» ولَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ «3» وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها «4» فَإِنْ سَكَنَتِ الرَّاءُ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ إِلَّا مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ، عَنِ الْيَزِيدِيِّ، عَنْهُ: أَنَّهُ أَظْهَرَهَا، وَذَلِكَ إِذَا قَرَأَ بِإِظْهَارِ الْمِثْلَيْنِ، وَالْمُتَقَارِبَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا غَيْرَ، عَلَى أَنَّ الْمَعْمُولَ فِي مَذْهَبِهِ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْإِدْغَامِ نَحْوُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ انْتَهَى. وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَحَكَيَاهُ سَمَاعًا، وَوَافَقَهُمَا عَلَى سَمَاعِهِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً أَبُو جَعْفَرٍ الرَّوَاسِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْإِدْغَامِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ حَسَّانَ. وَالْإِدْغَامُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْقُرَّاءِ مِنَ الْإِدْغَامِ الَّذِي مَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ يَكُونُ ذَلِكَ إِخْفَاءً لَا إِدْغَامًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْقُرَّاءِ أَنَّهُمْ غَلَطُوا، وَمَا ضَبَطُوا، وَلَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِدْغَامِ، وَعَقْدَ هَذَا الرَّجُلُ بَابًا قَالَ: هَذَا بَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ مَا أَدْغَمَتِ الْقُرَّاءُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَحْصُورًا فِيمَا نَقَلَهُ البصريون فقط، والقراآت لَا تَجِيءُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَنَقَلُوهُ، بَلِ الْقُرَّاءُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَكَادُونَ يَكُونُونَ مِثْلَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِ إدغام الراء في اللام كَبِيرُ الْبَصْرِيِّينَ وَرَأْسُهُمْ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَكُبَرَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ:

الرَّوَّاسِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَجَازُوهُ وَرَوُوهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى عِلْمِهِمْ وَنَقْلِهِمْ، إِذْ مَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ.

وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ رَاوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَالَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الرُّوَاةُ، وَمِنْهُمْ: أَبُو مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيُّ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّحْوِ إِمَامٌ في القراآت إِمَامٌ فِي اللُّغَاتِ.

قَالَ النِّقَاشُ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَنْزَعُ عَنْهُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الْعَظِيمَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الصَّغِيرِ.

وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقَالُوا: كَلَّفُوا أَمْرَ الْخَوَاطِرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يطاق.

(1) سورة يوسف: 12/ 21.

(2)

سورة الإنفطار: 82/ 13، والمطففين: 83/ 22.

(3)

سورة فاطر: 35/ 29 و 30.

(4)

سورة النحل: 16/ 8.

ص: 754

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا غَيْرُ بَيِّنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ تَأْوِيلًا تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُثْبِتْ تَكْلِيفًا.

وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ وَالتَّعْذِيبَ لِمَنْ يَشَاءُ، عَقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ، إِذْ مَا ذُكِرَ جُزْءٌ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ.

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ أَشْفَقُوا مِنْهَا، ثُمَّ تَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا «1» فَرَجَعُوا إِلَى التَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَقَدَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رِفْقِهِ بِهِمْ، وَكَشْفِهِ لِذَلِكَ الْكَرْبِ الَّذِي أَوْجَبَهُ تَأْوِلَهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ تَعَالَى التَّشْرِيفَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَرَفَعِ الْمَشَقَّةَ فِي أَمَرِ الْخَوَاطِرِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ: ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّاتِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْجَلَاءِ، إِذْ قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا «2» وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَنْ نِقَمِهِ. انْتَهَى هَذَا، وَهُوَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ.

وَظَهَرَ بِسَبَبِ النُّزُولِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَلِمَا كَانَ مُفْتَتَحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَأَنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ، كَانَ مُخْتَتَمُهَا أَيْضًا مُوَافِقًا لِمُفْتَتَحِهَا.

وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَوَائِلَ السُّوَرِ الْمُطَوَّلَةِ فَوَجَدْتُهَا يُنَاسِبُهَا أَوَاخِرُهَا، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَنْخَرِمُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ سُورَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْدَعِ الْفَصَاحَةِ، حَيْثُ يَتَلَاقَى آخِرُ الْكَلَامِ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ بِأَوَّلِهِ، وَهِيَ عَادَةٌ لِلْعَرَبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُظُمِهِمْ، يَكُونُ أَحَدُهُمْ آخِذًا فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى آخَرَ، هَكَذَا طَوِيلًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مَا كَانَ آخِذًا فِيهِ أَوَّلًا. وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ سَهَلَ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ مَا يَظْهَرُ ببادئ النظم أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: آمَنَ الرَّسُولُ

قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمَا جِبْرِيلُ، وَسَمِعَهُمَا صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالْبَقَرَةُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا هاتين الآيتين.

(1) سورة البقرة: 2/ 285 والنساء: 4/ 46.

(2)

سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 93.

ص: 755

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِمَا بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي إِيمَانِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالشَّكُّ فِيهِ شَكٌّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الرَّسُولُ، هِيَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ مِنَ اللَّهِ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَمَا أَنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: مِنَ الْعَقَائِدِ، وَأَنْوَاعِ الشَّرَائِعِ، وَأَقْسَامِ الْأَحْكَامِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي غَيْرِهِ. آمَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَقَدَّمَ الرَّسُولَ لِأَنَّ إِيمَانَهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ وَإِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِيمَانِهِ، إِذْ هُوَ الْمَتْبُوعُ وَهُمُ التَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ.

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ، قَالَ:«يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ» .

وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الرَّسُولُ، وَيُؤَيِّدُهُ

قِرَاءَةُ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ: وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ

، فَأَظْهَرَ الْفِعْلُ الَّذِي أَضْمَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ:

كُلٌّ، لِشُمُولِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ، وَيَكُونُ:

الْمُؤْمِنُونَ، مُبْتَدَأً، وَ: كُلٌّ، مُبْتَدَأً ثَانٍ لِشُمُولِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وَ: آمَنَ بِاللَّهِ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: كُلٌّ، وَالْجُمْلَةُ، مِنْ: كُلٌّ وَخَبَرِهِ، فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّابِطُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ تَقْدِيرُهُ: كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ، كَقَوْلِهِمُ:

السَّمْنُ مَنَوَانٌ بِدِرْهَمٍ، يُرِيدُونَ: مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ: التَّصْدِيقُ بِهِ، وَبِصِفَاتِهِ، وَرَفَضُ الْأَصْنَامِ، وَكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ. وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هُوَ اعْتِقَادُ وَجُودِهِمْ، وَأَنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ، وَرَفْضِ مُعْتَقَدَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ، وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَضَمَّنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ لِعِبَادِهِ.

وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بالله هو الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى، وَهِيَ الَّتِي يَسْتَبِدُّ بِهَا الْعَقْلُ إِذْ وجود الصانع يقربه كُلٌّ عَاقِلٍ، وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، لِأَنَّهُمْ كَالْوَسَائِطِ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يَتَلَقَّنُهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ، يُوصِلُهُ إِلَى الْبِشْرِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ أَنْوَارَ الْوَحْيِ فَهُمْ مُتَأَخِّرُونَ فِي الدَّرَجَةِ عَنِ الْكُتُبِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شيء من هَذَا

ص: 756

التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ «1» وَقِيلَ: الْكَلَامُ فِي عِرْفَانِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَعُرْفَانِ الْخَيْرِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَاسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَالْقُوَّةِ العملية يفعل الخيرات، والأولى أشرف، فبدىء بِهَا، وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَقِيلَ: لِلْإِنْسَانِ مَبْدَأٌ وَحَالٌ وَمَعَادٍ، فَالْإِيمَانُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ، وَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالِ، وَ: غُفْرَانَكَ، وَمَا بَعْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَكِتَابِهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: وَكُتُبِهِ، عَلَى الْجَمْعِ.

فَمَنْ وَحَّدَ أَرَادَ كُلَّ مَكْتُوبٍ، سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِمْ: نَسْجُ الْيَمَنِ أَيْ: مَنْسُوجُهُ.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْإِفْرَادَ لَيْسَ كَإِفْرَادِ الْمَصَادِرِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْكَثِيرُ، كَقَوْلِهِ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً «2» وَلَكِنَّهُ، كَمَا تُفْرَدُ الْأَسْمَاءَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ، نَحْوُ: كَثُرَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، وَمَجِيئُهَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهَا مُضَافَةً، وَمِنَ الْإِضَافَةِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «3»

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا»

. يُرَادُ بِهِ: الْكَثِيرُ، كَمَا يُرَادُ بِمَا فِيهِ لَامُ التَّعْرِيفِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَعُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكِتِابِهِ، يُرِيدُ الْقُرْآنَ. أَوِ الْجِنْسَ، وَعَنْهُ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمْعِ؟.

قُلْتُ: لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْوَاحِدِ الْجِنْسُ، وَالْجِنْسِيَّةُ، قَائِمَةٌ فِي وَحَدَانِ الْجِنْسِ كُلِّهَا، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَلَا يُدْخِلُ تَحْتَهُ إِلَّا مَا فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ مِنَ الْجُمُوعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا أُضِيفَ أَوْ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْجِنْسِيَّةُ صَارَ عَامًّا، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي، يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ عَبْدٍ عَبْدٍ، وَدَلَالَةُ الْجَمْعِ أَظْهَرُ فِي الْعُمُومِ مِنَ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَمِ الْإِضَافَةُ، بَلْ لَا يُذْهَبُ إِلَى الْعُمُومِ فِي الْوَاحِدِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ يُوَصَفُ بِالْجَمْعِ، نَحْوُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «4» و: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، أَوْ قَرِينَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ نَحْوُ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَقْصَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْجَمْعِ العام إذا

(1) سورة البقرة: 2/ 285، والنساء: 4/ 46. [.....]

(2)

سورة الفرقان: 25/ 14.

(3)

سورة إبراهيم: 14/ 34.

(4)

سورة العصر: 103/ 2 و 3.

ص: 757

أربد بِهِ الْعُمُومُ، وَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ، فَأُفْرِدَ كَقَوْلِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «1» .

وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: وَكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ التَّاءِ وَالسِّينِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ السِّينِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ.

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ، وَقَدَّرَهُ: يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَقُولُ لَا نُفَرِّقُ، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ: يَقُولُ، على اللفظ، و: يقولون، عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَمَوْضِعُ هَذَا الْمُقَدَّرِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خبر لكل.

وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وَيَعْقُوبُ، ونص رواة أبي عمرو: لا يُفَرِّقُ، بِالْيَاءِ عَلَى لَفْظِ: كُلٌّ.

قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يُفَرِّقُونَ، حُمِلَ عَلَى مَعْنَى:

كُلٌّ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وِفْقِ الدَّعْوَى فَاخْتِصَاصُ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مُتَنَاقِضٌ، لَا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَدَمُ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ، وَ: أَحَدٍ، هُنَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالنَّفْيِ، وَمَا أَشْبَهَهُ؟ فَهِيَ لِلْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ: مِنْ، عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» وَالْمَعْنَى بَيْنَ آحَادِهِمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكًا

لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا رَأَوْكَا

قال بعضهم: وأحد، قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى جَمِيعٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَيَبْعُدُ عِنْدِي هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ الرُّسُلِ. والمقصود بالنفي هو هذا، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كُلِّ الرُّسُلِ، بَلِ الْبَعْضُ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَاطِلٌ، بَلْ مَعْنَى الآية: لا يفرق أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي النُّبُوَّةِ. انْتَهَى. وفيه

(1) سورة الإسراء: 17/ 84.

(2)

سورة الحاقة: 69/ 47.

ص: 758

بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَلَا يَعْنِي مَنْ فَسَّرَهَا: بِجَمِيعِ، أَوْ قَالَ: هِيَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الْعُمُومَ نَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ، أَيْ: مَا قَامَ فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ الرِّجَالِ، مَثَلًا، وَلَا فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ النِّسَاءِ، لَا أَنَّهُ نَفَى الْقِيَامَ عَنِ الْجَمِيعِ، فَيَثْبُتُ لِبَعْضٍ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ، فَيَكُونُ أحد هنا بمعنى واحد، لَا أَنَّهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْعُمُومِ فِي النَّفْيِ. وَمِنْ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ:

سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ وَالْبَرْدَ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا

أبو حجر إلا ليال قَلَائِلُ

أَيْ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي، فَحَذَفَ، وَبَيْنِي، لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ.

وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَأَطَعْنَا أَمْرَكَ، وَلَا يُرَادُ مُجَرَّدُ السَّمَاعِ، بَلِ الْقَبُولُ وَالْإِجَابَةُ. وَقَدَّمَ: سَمِعْنَا، عَلَى: وَأَطَعْنَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا هَذَا دَهْرَهَ.

غُفْرانَكَ رَبَّنا أَيْ: مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّكَ، أَوْ لِأَنَّ عِبَادَتَنَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِكَ تَقْصِيرٌ.

وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إِقْرَارٌ بِالْمَعَادِ. أَيْ: وَإِلَى جَزَائِكَ الْمَرْجِعُ، وَانْتِصَابُ: غُفْرَانَكَ، عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَعْمَلُ فِيهَا الْفِعْلُ مُضْمَرًا، التَّقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: اغْفِرْ لَنَا غُفْرَانَكَ، قَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلزَّجَّاجِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غُفْرَانَكَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ، يُقَالُ: غُفْرَانَكَ لَا كُفْرَانَكَ، أَيْ: نَسْتَغْفِرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ. فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: الْجُمْلَةُ طَلَبِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي: خَبَرِيَّةٌ.

وَاضْطَرَبَ قَوْلُ ابْنِ عُصْفُورٍ فِيهِ، فَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ يُلْتَزَمُ إِضْمَارُهُ. وَعَدَّهُ مَعَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَأَخَوَاتِهَا. وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: نَطْلُبُ، أَوْ: نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، أَيْ: غُفْرَانُكَ بغيتنا.

والمصير: اسْمُ مَصْدَرٍ مَنْ صَارَ يَصِيرُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى: مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ الْمَفْعِلِ مِمَّا عَيْنُهُ يَاءٌ نَحْوُ: يَبِيتُ، وَيَعِيشُ، وَيَحِيضُ، وَيَقِيلُ، وَيَصِيرُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ كَالصَّحِيحِ، نَحْوُ: يَضْرِبُ، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، يَكُونُ

ص: 759

لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، وَلِلْمَكَانِ وَالزَّمَانِ نَحْوُ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً «1» أَيْ: عَيْشًا، فَيَكُونُ:

الْمَحِيضُ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، وَالْمَصِيرُ بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ، عَلَى هَذَا شَاذًّا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي الْمَصْدَرِ بَيْنَ أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى مَفْعِلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَوْ: مَفْعَلٍ بِفَتْحِهَا، وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَبِالْكَسْرِ. ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الزَّجَّاجُ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّمَاعِ، فَحَيْثُ بَنَتِ الْعَرَبُ الْمَصْدَرَ عَلَى مَفْعِلٍ أو مَفْعِلٍ أَوْ مَفْعَلٍ اتَّبَعْنَاهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَحْوَطُ.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ إِلَّا مَا هُوَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ، وَمُقْتَضَى إِدْرَاكِهِ وَبِنِيَّتِهِ، وَانْجَلَى بِهَذَا أَمْرُ الْخَوَاطِرِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الْآيَةَ، وَظَهَرَ تَأْوِيلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» لِأَنَّهُ كَانَ فِي إِمْكَانِ الْإِنْسَانِ وَطَاقَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْسِ، وَيَصُومَ أَكْثَرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَيَحُجَّ أَكْثَرَ مِنْ حِجَّةٍ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَقَالُوا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قَالُوا: كَيْفَ لَا نَسْمَعُ ذَلِكَ، وَلَا نُطِيعُ؟ وَهُوَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُنَا إِلَّا مَا فِي وُسْعِنَا؟ وَالْوُسْعُ دُونَ الْمَجْهُودِ فِي الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مَا يَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ.

وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليكلف. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُكَلِّفُ، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ.

أَحَدُهُمَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عِبَادَةً أَوْ شَيْئًا. انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى أَنَّ أَصْلَهُ كَذَا، فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا وُسْعَهَا، اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ فِي الصِّنَاعَةِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلِ الثَّانِي هُوَ وُسْعَهَا، نَحْوُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا إِلَّا دِرْهَمًا، وَنَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا

(1) سورة النبأ: 78/ 11.

(2)

سورة البقرة: 2/ 185.

ص: 760

زَيْدًا. هَذَا فِي الصِّنَاعَةِ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا شيئا إلّا درهما.

و: ما ضربت أحدا إلا زَيْدًا.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِلَّا وُسْعَها جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَأَوَّلُوهُ عَلَى إِضْمَارِ: مَا، الْمَوْصُولَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْصُولُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لِيُكَلِّفَ، كَمَا أَنَّ وُسْعَهَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ حَيْثُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَوْصُولٌ آخَرُ يُقَابِلُهُ، كَقَوْلِ حَسَّانَ:

فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ

وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ

أَيْ: وَمَنْ يَنْصُرُهُ، فَحَذَفَ: مِنْ، لِدَلَالَةِ: مِنَ، الْمُتَقَدِّمَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ حَذْفُ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّهُ وَصِلَتَهُ كَالْجُزْءِ الْوَاحِدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ: يُكَلِّفُ، الثَّانِي مَحْذُوفًا، لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَيَكُونَ: وُسْعَهَا، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا شَيْئًا إِلَّا وَسْعَهَا، أَيْ: وَقَدْ وَسِعَهَا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُولِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، فِيهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَكَانَ وَجْهُ اللَّفْظِ: إِلَّا وَسِعَتْهُ. كَمَا قَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «1» وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «2» وَلَكِنْ يَجِيءُ هَذَا مِنْ بَابِ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وفي فِي الْحَجَرِ.

انْتَهَى.

وَتَكَلَّمَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا فِي تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.

لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. أَيْ: مَا كَسَبَتْ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَاكْتَسَبَتْ مِنَ السَّيِّئَاتِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ، وَالْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «3» وَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها «4» وَقَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «5» وَقَالَ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا «6» .

(1) سورة البقرة: 2/ 255.

(2)

سورة طه: 20/ 98.

(3)

سورة المدثر: 74/ 38.

(4)

سورة الأنعام: 6/ 164.

(5)

سورة البقرة: 2/ 81.

(6)

سورة الأحزاب: 33/ 58.

ص: 761

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: الِاكْتِسَابُ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْكَسْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى كَسْبٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاكْتِسَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنَفْسِهِ. يُقَالُ: كَاسِبُ أَهْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: مُكْتَسِبُ أَهْلِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي قَعْرٍ مُظْلِمَةٍ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَنْفَعُهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَيَضُرُّهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ، لَا يُؤَاخِذُ غَيْرَهَا بِذَنْبِهَا وَلَا يُثَابُ غَيْرُهَا بِطَاعَتِهَا.

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْخَيْرَ بِالْكَسْبِ وَالشَّرَّ بِالِاكْتِسَابِ؟

قُلْتُ: فِي الاكتساب اعتمال، فاما كَانَ الشَّرُّ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَهِيَ مُنْجَذِبَةٌ إِلَيْهِ، وَأَمَّارَةٌ بِهِ، كَانَتْ فِي تَحْصِيلِهِ أَعْمَلُ وَأَجَدُّ، فَجُعِلَتْ لِذَلِكَ مُكْتَسَبَةً فِيهِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي بَابِ الْخَيْرِ وَصُفِتْ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَرَّرَ فِعْلَ الْكَسْبِ، فَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفِ حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» هَذَا وَجْهٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ مِمَّا تُكْتَسَبُ دُونَ تَكَلُّفٍ، إِذْ كَاسِبُهَا عَلَى جَادَّةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسْمِ شَرْعِهِ، وَالسَّيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ بِبِنَاءِ الْمُبَالِغَةِ إِذْ كَاسِبُهَا يَتَكَلَّفُ فِي أَمْرِهَا خرق حجاب نهي الله تَعَالَى، وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا، فَيَحْسُنُ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ التَّصْرِيفَيْنِ احْتِرَازًا لِهَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَحَصَلَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَابْنِ عَطِيَّةَ: أَنْ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتَ فِيهَا اعْتِمَالٌ، لَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ الِاعْتِمَالِ هُوَ اشْتِهَاءُ النَّفْسِ وَانْجِذَابُهَا إِلَى مَا تُرِيدُهُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ مُتَكَلِّفٌ، خَرَقَ حِجَابَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ لَا يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَنَحَا السَّجَاوَنْدِيُّ قَرِيبًا مِنْ مَنْحَى ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَالَ: الِافْتِعَالُ الِالْتِزَامُ، وَشَرُّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْخَيْرُ يُشْرِكُ فِيهِ غَيْرَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ.

وَالِافْتِعَالُ: الِانْكِمَاشُ، وَالنَّفْسُ تَنْكَمِشُ فِي الشَّرِّ انْتَهَى. وَجَاءَ: فِي الْخَيْرِ، بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُفْرَحُ بِهِ وَيُسَرُّ، فَأُضِيفَ إِلَى مُلْكِهِ. وَجَاءَ: فِي الشَّرِّ، بِعَلَى مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوْزَارُ وَأَثْقَالُ، فَجَعَلَتْ قَدْ عَلَتْهُ وَصَارَ تَحْتَهَا، يَحْمِلُهَا. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: لِي مَالٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ.

رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: قولوا في

(1) سورة الطارق: 86/ 17. [.....]

ص: 762

دُعَائِكُمْ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، إِذِ الدَّاعِي يُشَاهِدُ نَفْسَهُ فِي مَقَامِ الْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَيُشَاهِدُ رَبَّهُ بِعَيْنِ الِاسْتِغْنَاءِ وَالْإِفْضَالِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَافْتُتِحَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِيذَانًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ مُرَبِّيهِمْ، وَمُصْلِحُ أَحْوَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ دَاخِلُونَ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَلَمْ يَأْتِ لَفْظُ: رَبَّنَا، فِي الْجُمَلِ الطَّلَبِيَّةِ أَخِيرًا لِأَنَّهَا نَتَائِجُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي دَعَوْا فِيهَا: بِرَبِّنَا، وَجَاءَتْ مُقَابَلَةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنَ الثلاث السوابق جملة، فقال لَا تُؤاخِذْنا بِقَوْلِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَقَابَلَ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. بِقَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لَنا وَقَابَلَ قَوْلَهَ وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ بِقَوْلِهِ: وَارْحَمْنا لِأَنَّ مِنْ آثَارِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ الْعَفْوَ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ حَمْلِ الْإِصْرِ عَلَيْهِمُ الْمَغْفِرَةُ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الرَّحْمَةُ.

وَمَعْنَى: الْمُؤَاخَذَةُ، الْعَاقِبَةُ. وَفَاعِلُ هُنَا بمعنى الفعل المجرد، نحو: أَخَذَ، لِقَوْلِهِ:

فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «1» وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَاعِلٌ، وَقِيلَ: جَاءَ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَطَرَقَ السَّبِيلَ إِلَيْهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَ مَنْ يُعَاقِبُ بذنبه كَالْمُعِينِ لِنَفْسِهِ فِي إِيذَائِهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ الْمُذْنِبَ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْمُذْنِبَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ رَبَّهُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ، إِذْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ يَتَمَسَّكُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُ بِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالنِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ: عَدَمُ الذِّكْرِ، وَالْخَطَأِ مَوْضُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: نَسِينَا: جهلنا، وأخطأنا: تَعَمَّدْنَا، وَقَالَ قُطْرُبٌ، وَالطَّبَرِيُّ: نسينا: تركنا وأخطأنا.

قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَصَدْنَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَخْطَأْنَا فِي التَّأْوِيلِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ أَخْطَأَ: سها وخطيء تَعَمَّدَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالنَّاسُ يَلْحُونَ الْأَمِيرَ إِذَا هُمْ

خَطَئُوا الصَّوَابَ وَلَا يُلَامُ الْمُرْشِدُ

وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ النِّسْيَانَ هُنَا وَالْأَخْطَاءَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يُؤَاخَذُ الْمُكَلَّفُ بِهِمَا، وَتَجَوَّزَ عَنْهُمَا إِنْ صَدَرَا مِنْهُ، وَإِيَّاهُ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ النيسان وَالْخَطَأَ وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَا هُمَا مَنْسِيَّانِ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِغْفَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ؟ «2» والشيطان

(1) سورة العنكبوت: 29/ 40.

(2)

سورة الكهف: 18/ 63.

ص: 763

لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ النِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا يُوَسْوِسُ، فَتَكُونُ وَسْوَسَتُهُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيطِ الَّذِي مِنْهُ النِّسْيَانُ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ لِلَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَمَا كَانَتْ تَفْرُطُ مِنْهُمْ فَرْطَةٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَكَانَ وَصْفُهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ فَمَا مِنْهُمْ سَبَبُ مُؤَاخَذَةٍ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، لِاسْتِدَامَتِهِ وَالِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ فِيهِ.

انْتَهَى كَلَامُهُ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النِّسْيَانِ الْغَالِبِ وَالْخَطَأِ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا» .

وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَغَالُوا. قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ.

فَظَاهِرُ قَوْلَيْهِمَا، يَعْنِي قَتَادَةَ وَالسُّدِّيَّ مَا صَحَّحَتْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا كُشِفَ عَنْهُمْ مَا خَافُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أُمِرُوا بِالدُّعَاءِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ طَاقَةِ الْإِنْسَانِ دَفْعُهُ، وَذَلِكَ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقِيلَ: النِّسْيَانُ فِيهِ وَمِنْهُ مَا لَا يُعْذَرُ فَالْأَوَّلُ، كَنِسْيَانِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَهُوَ مَا إِذَا تُرِكَ التَّحَفُّظَ وَأُعْرِضَ عَنْ أَسْبَابِ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مِمَّا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فَلَا تُؤَاخَذُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَقْلًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ اسْتَدَامَ التَّذَكُّرَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا اسْتِدَامَةُ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَحَسُنَ الدُّعَاءُ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ.

وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ حَمْلَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ عَلَى مَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قَبِيحٌ طَلَبُهُ وَالدُّعَاءُ بِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ الْعَمْدُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَيَكُونُ النِّسْيَانُ تَرْكَ الْفِعْلِ، وَالْخَطَأُ الْفِعْلَ. وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِمَا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ هَذَا الْمَطْلُوبَ.

رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،

ص: 764

وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْإِصْرُ: الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: الْإِصْرُ: الذَّنْبُ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا تَوْبَةَ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ:

الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِصْرُ: الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقِيلَ: الْإِثْمُ.

حَكَاهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: فَرْضٌ يَصْعُبُ أَدَاؤُهُ، وَقِيلَ: تَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِحْنَةٌ تَفْتِنُنَا كَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجَعْلِ لِمَنْ يَكْفُرُ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعِبْءُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ، أَيْ يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، اسْتُعِيرَ لِلتَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنْ نَحْوِ: قَتْلِ النَّفْسِ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. انْتَهَى.

قَالَ الْقَفَّالُ: مَنْ نَظَرَ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، وَقَفَ عَلَى مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَلِيظِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَرَأَى الْأَعَاجِيبَ الْكَثِيرَةَ.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَلَا تُحَمِّلْ، بِالتَّشْدِيدِ، وَ: آصَارًا، بِالْجَمْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ:

أُصْرًا، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالنَّصَارَى.

رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ قَالَ قَتَادَةُ: لَا تُشَدِّدْ عَلَيْنَا كَمَا شَدَّدَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُحَمِّلْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا نُطِيقُ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَسَلَّامُ بْنُ سَابُورَ: الَّذِي لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ الْغُلْمَةُ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غُلْمَةٍ لَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْحُبُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ: الْعِشْقُ، وَقِيلَ: الْقَطِيعَةُ. وَقِيلَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ.

رَوَى وَهَبٌ أَنَّ أَيُّوبَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ أَشَقُّ عَلَيْكَ فِي بَلَائِكَ: قَالَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ

قَالَ الشَّاعِرُ:

أَشْمَتِّ بِيَ الْأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتِنِي

وَالْمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ

وَقَالَ السُّدِّيُّ: التَّغْلِيظُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: عَذَابُ النَّارِ. وَقِيلَ: وَسَاوِسُ النَّفْسِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، لَا عَلَى سَبِيلِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.

وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ عَامٌّ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فَشَبَّهَ الْإِصْرَ

ص: 765

بِالْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُنَا سَأَلُوا أَنْ لَا يُحَمِّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِصْرِ السَّابِقِ لِتَخْصِيصِهِ بِالتَّشْبِيهِ. وَعُمُومِ هَذَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي: وَلَا تُحَمِّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ.

وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً لِلتَّكْثِيرِ فِي حَمَّلَ: كَجَرَحْتُ زَيْدًا وَجَرَّحْتُهُ، وَقِيلَ: مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ النَّازِلَةِ بِمَنْ قَبْلَنَا، طَلَبُوا أَوَّلًا أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ثُمَّ ثَانِيًا طَلَبُوا أَنْ يُعْفِيَهُمْ عَمَّا نَزَلَ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. انْتَهَى.

وَالطَّاقَةُ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَهِيَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْمَصَادِرِ، وَالْقِيَاسُ طَاقَةٌ، فَهُوَ نَحْوُ: جابة، من أجاب، و: غارة، مِنْ أَغَارَ. فِي أَلْفَاظٍ سُمِعَتْ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا.

فَلَا يُقَالُ: أَطَالَ طَالَةً، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْنِيَ بِمَا لَا طَاقَةَ، مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَعْنِيَ بِالطَّاقَةِ مَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَطَاعًا حَمْلُهَا.

فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إِلَى الْعُقُوبَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى التَّكَالِيفِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا حَمْلًا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ. خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا يُعْقَلُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُطِيقٌ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ لَكِنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «1» .

وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، طَلَبُوا الْعَفْوَ وَهُوَ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ: وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ، ثُمَّ سَتْرُهُ عَلَيْهِمْ صَوْنًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي سَتْرَهُ فَيُقَالُ: عَفَا عَنْهُ إِذَا وَقَّفَهُ عَلَى الذَّنْبِ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ عُقُوبَةَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَسَأَلُوا الْإِسْقَاطَ لِلْعُقُوبَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، إِذْ فِيهِ التَّعْذِيبُ الْجُسْمَانِيُّ وَالنَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِتَجَلِّي الْبَارِئِ تَعَالَى لَهُمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ إِزَالَةُ الذَّنْبِ بِتَرْكِ عُقُوبَتِهِ، وَالْغُفْرَانُ سَتْرُ الذَّنْبِ وَإِظْهَارُ الْإِحْسَانِ بَدَلَهُ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ ذَنْبِهِ، وَكَشْفِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَطَّى بِهِ. وَالرَّحْمَةُ إِفَاضَةُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ أبلغ من

(1) سورة هود: 11/ 20.

ص: 766

الثَّانِي. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا مِنَ الْمَسْخِ، وَاغْفِرْ لَنَا عَنِ الْخَسْفِ مِنَ الْقَذْفِ، وَقِيلَ:

اعْفُ عَنَّا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَارْحَمْنَا بِثِقَلِ الْمِيزَانِ. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَاغْفِرْ لَنَا فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ، وَارْحَمْنَا فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَخْصِيصَاتٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.

أَنْتَ مَوْلانا الْمَوْلَى مَفْعَلٌ مِنْ وَلِيَ يَلِي، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. أَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَالِكُ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ فِي وُجُوهِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوِ السَّيِّدُ، أَوِ النَّاصِرُ، أَوِ ابْنُ الْعَمِّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُحَامِلِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَصْدَرُ، سُمِّيَ بِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْاسْمِيَّةُ، وَوَلِيَتْهُ الْعَوَامِلُ.

فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَدْخَلَ الْفَاءَ إِيذَانًا بِالسَّبَبِيَّةِ. لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْلَاهُمْ، وَمَالِكَ تَدْبِيرِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ، يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ النُّصْرَةُ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ الشُّجَاعُ فَقَاتِلْ، وَأَنْتَ الْكَرِيمُ فَجُدْ عَلَيَّ. أَيْ: أَظْهِرْنَا عَلَيْهِمْ بِمَا تُحْدِثُ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوْرِ وَالْجُبْنِ.

وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا: الطِّبَاقُ فِي وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ لِأَنَّ: لَهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ، وَ: عَلَيْهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرٌ. وَالتَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: وَما فِي الْأَرْضِ كَرَّرَ: مَا، تَنْبِيهًا وَتَوْكِيدًا. وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا كَسَبَتْ وَمَا اكْتَسَبَتْ. إِذَا قُلْنَا أَنِّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذْ كَانَ يَعْنِي: لَهَا مَا كَسَبَتْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: آمَنَ والْمُؤْمِنُونَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. وَاللَّهُ أعلم.

ص: 767