المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٢

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 157]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 167]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 176]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 177 الى 182]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 188]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 189 الى 196]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 202]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 203 الى 212]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 213 الى 218]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 229]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 230]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 233]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 239]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 257]

- ‌[سُورَةُ البقرة (2) : الآيات 258 الى 260]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 266]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 274]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223]

ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ، وَهَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ طَامِعٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَفُورٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِيمَانِ وَلِمَا يَتَخَلَّلُ فِي حَالَةِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ لَهُ، فَهُوَ يُحَقِّقُ لَهُ مَا طَمِعَ فيه من رحمته.

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

الْخَمْرُ: هِيَ الْمُعْتَصَرُ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ، وَتَخَمَّرَتْ وَاخْتَمَرَتْ، وَهِيَ حَسَنَةُ الْخِمْرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا وَارَاكَ مِنَ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ، وَدَخَلَ فِي خِمَارِ النَّاسِ وَغِمَارِهِمْ أَيْ: فِي مَكَانٍ خَافٍ. وَخَمْرُ فُتَاتِكُمْ،

ص: 398

وَخَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ، مِثْلَ الْأَحْمَقِ، وَخَامِرِي حَضَاجِرِ أَتَاكِ مَا تُحَاذِرِ، وَحَضَاجِرُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ السِّبَاعِ، وَمَعْنَاهُ: ادْخُلِي الْخَمْرَ وَاسْتَتِرِي.

فَلَمَّا كَانَتْ تَسْتُرُ الْعَقْلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ: أَيْ تُغَطِّي حَتَّى تُدْرِكَ وَتَشْتَدَّ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ أَيْ: تُخَالِطُهُ، يُقَالُ: خَامَرَ الدَّاءُ خَالَطَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُتْرَكُ حِينَ تُدْرَكُ، يُقَالُ: اخْتَمَرَ الْعَجِينُ بَلَغَ إِدْرَاكُهُ، وَخَمَّرَ الرَّأْيَ تَرَكَهُ حَتَّى يُبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ، فَعَلَى هَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتِ تَكُونُ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ وَأُرِيدَ بِهَا اسْمُ الْفَاعِلِ أَوِ اسْمُ الْمَفْعُولِ.

الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ، وَهُوَ مَفْعِلٌ مِنْ: يَسَرَ، كَالْمَوْعِدِ مِنْ وَعَدَ، يُقَالُ يَسَّرْتُ الْمَيْسِرَ أَيْ قَامَرْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

لَوْ تَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا

وَكُلُّ مَا يَسَرَ الْأَقْوَامُ مَغْرُومُ

وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْيُسْرِ وَهُوَ السُّهُولَةُ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ يَسْلُبُ يَسَارَهُ، أَوْ مِنْ يَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ، أَوْ مِنْ يَسَرَ إِذَا جَزَرَ وَالْيَاسِرُ الْجَازِرُ، وهو الذي يجزىء الْجَزُورَ أَجْزَاءً، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ تَيْسِرُونَنِي

أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ؟

وَسُمِّيَتِ الْجَزُورُ الَّتِي يُسْهَمُ عَلَيْهَا مَيْسِرًا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْيَسَرِ، ثُمَّ قِيلَ لِلسِّهَامِ: مَيْسِرٌ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَالْيَسَرُ، الَّذِي يَدْخُلُ فِي الضَّرْبِ بِالْقِدَاحِ وَجَمْعُهُ، أَيْسَارٌ، وَقِيلَ: يَسَرٌ جَمْعُ يَاسِرٍ كَحَارِسٍ وَحَرَسٌ وَأَحْرَاسٌ.

وَصِفَةُ الْمَيْسِرِ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَقْدَاحٍ، وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ، وَهِيَ: الْأَزْلَامُ، وَالْأَقْلَامُ، وَالسِّهَامُ. لِسَبْعَةٍ مِنْهَا حُظُوظٌ، وَفِيهَا فُرُوضٌ عَلَى عِدَّةِ الْحُظُوظِ: الْقَدُّ، وَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَالتَّوْأَمُ، وَلَهُ سَهْمَانِ، وَالرَّقِيبُ، وله ثلاثة والجلس، وَلَهُ أَرْبَعَةٌ وَالنَّافِسُ، وَلَهُ خَمْسَةٌ وَالْمُسْبِلُ وَلَهُ سِتَّةٌ وَالْمُعَلَّى وَلَهُ سَبْعَةٌ وَثَلَاثَةُ أَغْفَالٍ لَا حُظُوظَ لَهَا، وَهِيَ:

الْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ، وَالْوَغْدُ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْمَصْدَرُ، وَالْمُضْعِفُ، وَالْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ. تُزَادُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَوِ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْخِلَافِ لِتَكْثُرَ السِّهَامُ وَتَخْتَلِطَ عَلَى الْحُرْضَةِ وَهُوَ الضَّارِبُ بِالْقِدَاحِ، فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمَيْلِ مَعَ أَحَدٍ سَبِيلًا، وَيُسَمَّى أَيْضًا: الْمُجِيلُ، وَالْمُغِيضُ، وَالضَّارِبُ، وَالضَّرِيبُ. وَيُجْمَعُ ضُرَبَاءُ، وَهُوَ رَجُلٌ عَدْلٌ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ يُجْعَلُ رَقِيبٌ لِئَلَّا

ص: 399

يُحَابِي أَحَدًا، ثُمَّ يَجْثُو الضَّارِبُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَلْتَحِفُ بِثَوْبٍ، وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ يَجْعَلُ تِلْكَ الْقِدَاحَ فِي الرِّبَابَةِ، وَهِيَ خَرِيطَةٌ يُوضَعُ فِيهَا، ثم يجلجها، وَيُدْخِلُ يَدَهُ وَيُخْرِجُ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ قَدَحًا مِنْهَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْصِبَاءِ أَخَذَ النَّصِيبَ الْمَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدَحُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَغَرِمَ الْجَزُورَ كُلَّهُ.

وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَضْرِبَ بِهَذِهِ الْقِدَاحِ فِي الشَّتْوَةِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَكَلَبِ الْبَرْدِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَشْتَرُونَ الْجَزُورَ وَتَضْمَنُ الْأَيْسَارُ ثَمَنَهَا، ثُمَّ تُنْحَرُ وَيُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ، فِي قَوْلِ أَبِي عَمْرٍو، وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى قَدْرِ حُظُوظِ السِّهَامِ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَخْطَأَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قِسْمَةِ الْجَزُورِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَيُّهُمْ خَرَجَ لَهُ نُصِيبٌ وَاسَى بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، وَيُسَمُّونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ: الْبَرَمَ وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ، وَمِنَ الِافْتِخَارِ بِذَلِكَ قول الأعشى:

المطمعو الضيف إذا ماشتا

وَالْجَاعِلُو الْقُوتَ عَلَى الْيَاسِرِ

وَقَالَ زُهَيْرٌ فِي الْبَرَمِ:

حتى تآوى إلى لا فَاحِشٍ بَرَمٍ

وَلَا شَحِيحٍ إِذَا أَصْحَابُهُ غَنِمُوا

وَرُبَّمَا قَامُوا لِأَنْفُسِهِمْ.

التَّفَكُّرُ: فِي الشَّيْءِ إِجَالَةُ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَرَدُّدُهُ، وَالْفِكْرُ: هُوَ الذِّهْنُ.

الْخَلْطُ: مَزْجُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَخَالَطَ فَاعَلَ مِنْهُ، وَالْخِلْطُ الشَّيْءُ الْمَخْلُوطُ:

كَالرِّغْيِ.

الْإِخْوَانُ: جَمْعُ أَخٍ، وَالْأَخُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَنْ وَلَدَهُ أَبُوكَ وَأُمُّكَ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَجَمْعُ فَعْلٍ عَلَى فِعْلَانٍ لَا يَنْقَاسُ.

الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ عَنَتُ الْغُرْبَةِ، وَعَقَبَةٌ عَنُوتٌ شَاقَّةُ الْمَصْعَدِ، وَعَنَتَ الْبَعِيرُ انْكَسَرَ بَعْدَ جَبْرٍ.

النِّكَاحُ: الْوَطْءُ وَهُوَ الْمُجَامَعَةُ، قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ لُزُومُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ وَإِكْبَابُهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَكَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ. حَكَاهُ ثَعْلَبٌ فِي (الْأَمَالِي) عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: نُكْحُ الْمَرْأَةِ، بِضَمِّ النُّونِ، بِضْعَةٌ هِيَ بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، فَإِذَا قَالُوا نَكَحَهَا، فَمَعْنَاهُ أَصَابَ نُكْحَهَا، أَيْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْهَا، وَقَلَّمَا يُقَالُ

ص: 400

نَاكَحَهَا كَمَا يُقَالُ بَاضَعَهَا، قِيلَ: وَقَدْ جَاءَ النِّكَاحُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ يُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ خَاصَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا

عَلَيْكَ حَرَامٌ، فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا

أَيْ فَاعْقِدْ وَتَزَوَّجْ، وَإِلَّا فَاجْتَنِبِ النِّسَاءَ وَتَوَحَّشْ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْرَبَنْ جَارَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْرُمُ. وَجَاءَ بِمَعْنَى الْمُجَامَعَةِ، كَمَا قَالَ:

الْبَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ

وَالنَّاكِحِينَ بِشَاطِي دِجْلَةَ الْبَقَرَا

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ بِفَرْقٍ لَطِيفٍ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً، أَرَادُوا بِهِ الْعَقْدَ لَا غَيْرَ، وَإِذَا قَالُوا نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَلَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ.

الْأَمَةُ: الْمَمْلُوكَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَهِيَ مَا حُذِفَ لَامُهُ، وَهُوَ وَاوٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظُهُورُهَا فِي الْجَمْعِ قَالَ الْكِلَابِيُّ:

أَمَّا الْإِمَاءُ فَلَا يَدْعُونَنِي وَلَدًا

إِذَا تَدَاعَى بَنُو الْأَمْوَاتِ بِالْعَارِ

وَفِي الْمَصْدَرِ: يُقَالُ أَمَةٌ بَيِّنَةُ الْأُمُوَّةِ، وَأَقَرَّتْ بِالْأُمُوَّةِ، أَيْ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَجُمِعَتْ أَيْضًا عَلَى:

إِمَاءٍ، وَأَآمٍ، نَحْوَ أَكَمَةٍ وَآكَامٍ وَأَكَمٍ، وَأَصْلُهُ أَأْمُو، وَجَرَى فِيهِ مَا يَقْتَضِيهِ التَّصْرِيفُ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» .

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

يَمْشِي بِهَا رَيْدَ النَّعَا

مِ تَمَاشِيَ الْآمِ الدَّوَافِرِ

وَوَزْنُهَا أَمْوَةٌ، فَحُذِفَتْ لَامُهَا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ كَانَ قِيَاسُهَا أَنْ تَنْقَلِبَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا، وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا كَقَنَاةٍ، وَزَعَمَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَنَّ جَمْعَ الْأَمَةِ أَمْوٌ، وَأَنَّ وَزْنَهَا فَعْلَةٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَتَكُونُ مِثْلَ: نَخْلَةٍ وَنَخْلٍ، وَبَقْلَةٍ وَبَقْلٍ، فَأَصْلُهَا: أَمْوَةٌ فَحَذَفُوا لَامَهَا إِذْ كَانَتْ حَرْفَ لِينٍ، فَلَمَّا جَمَعُوهَا عَلَى مِثَالِ نَخْلَةٍ وَنَخْلٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: أَمَةٌ وَأُمٌّ، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْعَلُوهَا حَرْفَيْنِ، وَكَرِهُوا أَنْ يَرُدُّوا الْوَاوَ الْمَحْذُوفَةَ لَمَّا كَانَتْ آخِرَ الِاسْمِ، فَقَدَّمُوا الْوَاوَ، وَجَعَلُوهُ أَلِفًا مَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْمِيمِ، وَمَا زَعَمَهُ أَبُو الْهَيْثَمِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ لَكَانَ الْإِعْرَابُ عَلَى الْمِيمِ كَمَا كَانَ عَلَى لَامِ نَخْلٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الَّتِي هِيَ لَامٌ، إِذْ أَصْلُهُ أَلَامُو، ثُمَّ عُمِلَ فِيهِ مَا عُمِلَ فِي قَوْلِهِمْ: الْأَدْلُوُّ، وَالْأَجْرُوُّ، جَمْعُ: دَلْوٍ، وَجَرْوٍ، وَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ أَلِفًا كَمَا أُبْدِلَتْ فِي: آدَمَ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ: جَاءَتِ الْآمِيُّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ أَبُو الْهَيْثَمِ لَكَانَ: جَاءَتِ الْآمُّ، بِرَفْعِ الْمِيمِ.

ص: 401

الْمَحِيضُ: مَفْعِلٌ مِنَ الْحَيْضِ يَصْلُحُ لِلْمَصْدَرِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، تَقُولُ. حَاضَتِ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا بَنَوْهُ عَلَى: مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا، وَفِيمَا كَانَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يَائِيُّ الْعَيْنِ عَلَى: فَعَلَ يَفْعِلُ، فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ قِيَاسُهُ مَفْعَلٌ. بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَبِكَسْرِهَا فِي الْمُرَادِ بِهِ الْمَكَانُ أَوِ الزَّمَانُ، فَيَصِيرُ: كَالْمَضْرِبِ فِي الْمَصْدَرِ، وَالْمَضْرِبِ بِالْكَسْرِ، أَيْ: بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَحِيضِ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، شَاذًّا، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ كَانَ عَلَى الْقِيَاسِ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَهُ أَوْ تَكْسِرَهُ، كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَحِيضِ وَالْمَحَاضِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كَثُرَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ فَاقْتَاسَا.

الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْقَصْرُ عَلَى السَّمَاعِ، فَمَا قَالَتْ فِيهِ الْعَرَبُ: مَفْعِلٌ، بِالْكَسْرِ أَوْ مَفْعَلٌ بِالْفَتْحِ لَا نَتَعَدَّاهُ، وَهَذَا هُوَ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ.

وَأَصْلُ الْحَيْضِ فِي اللُّغَةِ السَّيَلَانُ، يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:

حَاضَتِ الشَّجَرَةُ إِذَا سَالَ صَمْغُهَا، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْحَوْضِ حَوْضٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحِيضُ إِلَيْهِ أَيْ يَسِيلُ، وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ عَلَى الْيَاءِ، وَالْيَاءَ عَلَى الْوَاوِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْهَوَاءُ.

الِاعْتِزَالُ: ضِدُّ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ التَّيَؤُّسُ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّبَاعُدُ مِنْهُ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْبَدَنِ، وَتَارَةً بِالْقَلْبِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَزْلِ، وَهُوَ تَنْجِيَةُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ.

أَنَّى: اسْمٌ وَيُسْتَعْمَلُ شَرْطًا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَيَأْتِي ظَرْفَ زَمَانٍ بِمَعْنَى: مَتَى وَاسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى: كَيْفَ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى حَرْفِ الشَّرْطِ، وَحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَا يتصرف فيه بغير ذلك البتة.

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ سَبَبُ نُزُولِهَا سُؤَالُ عُمَرَ وَمُعَاذٍ،

قَالَا:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَإِنَّهُ مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ، مَسْلَبَةٌ لِلْمَالِ. فَنَزَلَتْ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ فَبَيَّنَ لَهُمْ مَصْرِفَ ذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فَرْضَ الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نَاسَبَ ذِكْرَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، إِذْ هُمَا أَيْضًا مِنْ مَصَارِفِ الْمَالِ،

ص: 402

وَمَعَ مُدَاوَمَتِهِمَا قَلَّ أَنْ يَبْقَى مَالٌ فَتَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ تُجَاهِدَ بِهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا.

وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ بِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ «1» وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا نَزَلَ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ كَرِهَ الْخَمْرَ قَوْمٌ لِلْإِثْمِ، وشربتها قَوْمٌ لِلْمَنَافِعِ، حَتَّى نَزَلَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «2» فَاجْتَنَبُوهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَ: فَاجْتَنِبُوهُ «3» فَحُرِّمَتْ. قَالَ مَكِّيٌّ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ نُزُولَ الْمَائِدَةِ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَمَّ اللَّهُ الْخَمْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ إِبَاحَتَهَا، ثُمَّ نُسِخَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْ شُرْبِهَا، فَكَانُوا جَارِينَ فِي شُرْبِهَا عَلَى عَادَتِهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ التَّحْرِيمُ. كَمَا سَكَتَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى وَقْتِ التَّحْرِيمِ.

وَجَاءَ: وَيَسْئَلُونَكَ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ مَنْ سَأَلَ اثْنَيْنِ: وَهُمَا عمرو وَمُعَاذٌ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَنْسِبُ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمَاعَةِ فِي كَلَامِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ.

وَالسُّؤَالُ هُنَا لَيْسَ عَنِ الذَّاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حُكْمِ هَذَيْنِ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمَةٍ وَانْتِفَاعٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَوَابُ مُنَاسِبًا لِذَلِكَ، لَا جَوَابًا عَنْ ذَاتٍ.

وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَمْرِ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: كُلُّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَأَفْسَدَهُ مِمَّا يُشْرَبُ يُسَمَّى خَمْرًا، وَقَالَ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْخَمْرُ اسْمُ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، وَنَقَلَ عَنْهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ هُوَ اسْمُ مَا اتُّخِذَ مِنَ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذُّرَةِ وَالْحِنْطَةِ لَيْسَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمُشَوِّشَةِ لِلْعَقْلِ: كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مِنَ الْخَمْرِ.

وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَيْسِرِ وَهُوَ: قِمَارُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَاسْمُ الْمَيْسِرِ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِمَارِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ،

قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ

(1) سورة الأنعام: 6/ 145.

(2)

سورة النساء: 4/ 543. [.....]

(3)

سورة المائدة: 5/ 90.

ص: 403

وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ مِنْ نَرْدٍ وَشِطْرَنْجَ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكِعَابِ وَالْجَوْزِ إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ، وَالْقُرْعَةِ فِي إِبْرَازِ الْحُقُوقِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَيْسِرُ مَيْسِرَانِ:

مَيْسِرُ اللَّهْوِ فَمِنْهُ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلَاهِي كُلُّهَا، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ: وَهُوَ مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ،

وَقَالَ عَلَى الشِّطْرَنْجِ: مَيْسِرُ الْعَجَمِ

، وَقَالَ الْقَاسِمُ، كُلُّ شَيْءٍ أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ.

قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ. أُنْزِلَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ. وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ «1» بمكة ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «2» ثُمَّ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «3» قَالَ الْقَفَّالُ: وَوَقَعَ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَلِفُوا شُرْبَهَا وَالِانْتِفَاعَ بِهَا كَثِيرًا، فَجَاءَ التَّحْرِيمُ بِهَذَا التَّدْرِيجِ، رِفْقًا مِنْهُ تَعَالَى.

انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَمْ لَا تَدُلُّ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: قُلْ فِي تَعَاطِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، أَيْ: حُصُولُ إِثْمٍ كَبِيرٍ، فَقَدْ صَارَ تَعَاطِيهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ «4» فَمَا كَانَ إِثْمًا، أَوِ اشْتَمَلَ عَلَى الْإِثْمِ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَالْإِثْمُ هُوَ الذَّنْبُ، وَإِذَا كَانَ الذَّنْبُ كَثِيرًا أَوْ كَبِيرًا فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ لَمْ يَجُزِ ارْتِكَابُهُ، وَكَيْفَ يُقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْخُسْرَانِ إِذَا كَانَ الْإِثْمُ أَكْبَرَ مِنَ النَّفْعِ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فِيهِ الْإِثْمُ مُحَرَّمٌ، وَلَمَّا كَانَ فِي شُرْبِهَا الْإِثْمُ سُمِّيَتْ إِثْمًا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى زَلَّ عَقْلِي

كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ

وَمَنْ قَالَ: لَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَالْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلِأَنَّهَا لَوْ دَلَّتْ عَلَى التَّحْرِيمِ لَقَنِعَ الصَّحَابَةُ بِهَا، وَهُمْ لَمْ يَقْنَعُوا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ، وَآيَةُ التَّحْرِيمِ فِي الصَّلَاةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَاجِلَةٌ فِي

(1) سورة النحل: 16/ 67.

(2)

سورة النساء: 4/ 43.

(3)

سورة المائدة: 5/ 90.

(4)

سورة الأعراف: 7/ 33.

ص: 404

الدُّنْيَا، وَبِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أَنْ يَنْزِلَ التَّحْرِيمُ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى أَحَدٍ، فَيَكُونُ آكَدَ فِي التَّحْرِيمِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ فِيهِمَا إِثْمًا كَبِيرًا. وَمَنَافِعَ حَالَةَ الْجَوَابِ وَزَمَانَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ: الْإِثْمُ فِيهِمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَالْمَنْفَعَةُ فِيهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِثْمُ فِي وَقْتٍ، وَالْمَنْفَعَةُ فِي وَقْتٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَالْإِثْمُ الَّذِي فِيهِمَا هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِثْمُ الَّذِي فِي الْخَمْرِ: ذَهَابُ الْعَقْلِ، وَالسِّبَابُ، وَالِافْتِرَاءُ، وَالتَّعَدِّي الَّذِي يَكُونُ مِنْ شَارِبِهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِي الْخَمْرِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَا يَحْصُلُ مِنْهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ وَالْأَكْسَابِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: وَقِيلَ مَا ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ فِي مَنَافِعِهَا مِنْ ذَهَابِ الْهَمِّ، وَحُصُولِ الْفَرَحِ، وَهَضْمِ الطَّعَامِ، وَتَقْوِيَةِ الضَّعِيفِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاءَةِ، وَتَسْخِيَةِ الْبَخِيلِ، وَتَصْفِيَةِ اللَّوْنِ، وَتَشْجِيعِ الْجَبَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهَا. وَقَدْ صَنَّفُوا فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٍ وَكُتُبًا، وَيُسَمُّونَهَا: الشَّرَابَ الرَّيْحَانِيَّ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا لَهَا مَضَارَّ كَثِيرَةً مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ.

وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِي الْمَيْسِرِ إِيسَارُ الْقَامِرِ بِغَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، وَقِيلَ: التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، فَإِنَّ مَنْ قَمَرَ مِنْهُمْ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنَ الْجَزُورِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا حُكْمَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ الْعِنَبِيَّةِ، وَحَدَّ الشَّارِبِ، وَكَيْفِيَّةَ الضَّرْبِ، وَمَا يُتَوَقَّى مِنَ الْمَضْرُوبِ فَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: إِثْمٌ كَثِيرٌ، بِالثَّاءِ، وَوُصِفَ الْإِثْمُ بِالْكَثْرَةِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الْآثِمِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ للناس آثام، أي لكل وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَاطِيهَا إِثْمٌ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِنْ تَوَالِي الْعِقَابِ وَتَضْعِيفِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُنْعَتَ بِالْكَثْرَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِمَّا يَصْدُرُ مِنْ شَارِبِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أو باعتبار من زوالها مِنْ لَدُنْ كَانَتْ إِلَى أن بيعت وشريت،

فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَمْرَ، وَلَعَنَ مَعَهَا عَشَرَةً: بَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَالْمَعْصُورَةَ لَهُ وَسَاقِيهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ لَهُ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا.

فَنَاسَبَ وَصْفُ الْإِثْمِ بِالْكَثْرَةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: كَبِيرٌ، بِالْبَاءِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالْقِمَارَ ذَنْبُهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ تَرْجِيحًا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَهَذَا

ص: 405

خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا، إِذْ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ: أَكْثَرُ، بِالثَّاءِ كَمَا فِي مُصْحَفِهِ: كَثِيرٌ، بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فِيهِمَا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِقَابُ الْإِثْمِ فِي تَعَاطِيهِمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، وَهُوَ الِالْتِذَاذُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْقِمَارِ، وَالطَّرَبِ فِيهِمَا، وَالتَّوَصُّلِ بِهِمَا إِلَى مُصَادَقَاتِ الْفِتْيَانِ وَمُعَاشَرَاتِهِمْ، وَالنَّيْلِ مِنْ مَطَاعِمِهِمْ وَمَشَارِبِهِمْ وَأُعْطِيَاتِهِمْ، وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ بِالْقِمَارِ، وَالِافْتِخَارِ عَلَى الْأَبْرَامِ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَإِثْمُهُمَا أَقْرَبُ، وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ أَنَّ: أَصْحَابَ الشُّرْبِ وَالْقِمَارِ يَقْتَرِفُونَ فِيهِمَا الْآثَامَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: إِثْمُهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: أَكْبَرُ، لِأَنَّ عِقَابَهُ بَاقٍ مُسْتَمِرٌّ وَالْمَنَافِعَ زَائِلَةٌ، وَالْبَاقِي أَكْبَرُ مِنَ الفاني.

وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ تَقَدَّمَ هَذَا السُّؤَالُ وَأُجِيبُوا هُنَا بِذِكْرِ الْكَمِّيَّةِ وَالْمِقْدَارِ، وَالسَّائِلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قِيلَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ وَاوِ الْجَمْعِ.

وَالنَّفَقَةُ هُنَا قِيلَ: فِي الْجِهَادِ، وَقِيلَ: فِي الصَّدَقَاتِ، وَالْقَائِلُونَ فِي الصَّدَقَاتِ، قِيلَ:

فِي التَّطَوُّعِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: فِي الْوَاجِبِ، وَالْقَائِلُونَ فِي الْوَاجِبِ، قِيلَ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَجَاءَ ذِكْرُهَا هُنَا مُجْمَلًا، وَفَصَّلَتْهَا السُّنَّةُ. وَقِيلَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ أَنْ يُنْفِقُوا مَا فَضَلَ مِنْ مَكَاسِبِهِمْ عَنْ مَا يَكْفِيهِمْ فِي عَامِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الزَّكَاةِ.

وَالْعَفْوُ: مَا فَضَلَ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَسِيرُ السَّهْلُ الَّذِي لَا يُجْحِفُ بِالْمَالِ قاله طاووس، أَوِ الْوَسَطُ الَّذِي لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ: الطَّيِّبُ الْأَفْضَلُ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، أَوِ: الْكَثِيرُ، مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى عَفَوْا «1» أَيْ: كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَكِنَّا يَعَضُّ السَّيْفُ مِنْهَا

بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ اللَّحْمِ كوم

(1) سورة الأعراف: 7/ 95.

ص: 406

أَوِ: الصَّفْوُ، يُقَالُ أَتَاكَ عَفْوًا، أَيْ: صَفْوًا بِلَا كَدَرٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي

وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ

أَوْ: مَا فَضَلَ عَنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ: قِيمَةِ ذَلِكَ مِنَ الذَّهَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، قَالَهُ، قَتَادَةُ. أَوْ: مَا فَضَلَ عَنِ الثُّلُثِ، أَوْ: عَنْ مَا يَقُوتُهُمْ حَوْلًا لِذَوِي الزِّرَاعَةِ، وَشَهْرًا لِذَوِي الْفِلَاتِ، أَوْ: عَنْ مَا يَقُوتُهُ يَوْمَهُ لِلْعَامِلِ بِهَذِهِ، وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ، أَوِ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، و: ما لَا يَسْتَنْفِدُ الْمَالَ وَيُبْقِي صَاحِبَهُ يَسْأَلُ النَّاسَ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا.

وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الَّذِي جَاءَ يَتَصَدَّقُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، حدف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ بِهَا

،

وَقَوْلُهُ: «يَجِيءُ أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَلَى ظَهْرِ غِنًى» .

وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» .

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجَهْدِ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجَهْدَ، وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عن حوائجكم ولم تؤدوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ فَتَكُونُوا عَالَةً وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ مُتَنَاوِلٌ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ وَلِمَا هُوَ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ الْفَضْلُ عَنِ الْغِنَى، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْفَضْلُ عَنِ الْقُوتِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْعَفْوَ، بِالنَّصْبِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى فِي قَوْلِهِ: مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ أَنْ يَكُونَ مَاذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ينفقون، ويكون كُلُّهَا اسْتِفْهَامِيَّةً، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ؟ فَأُجِيبُوا بِالنَّصْبِ ليطابق الْجَوَابُ السُّؤَالَ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وذا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ خَبَرُهُ، وَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحَذْفِ فِيهِ، تَقْدِيرُهُ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَهُ؟.

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: قُلِ الْعَفْوَ، بِالرَّفْعِ، وَالْأَوْلَى إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قُلِ الْمُنْفَقُ الْعَفْوُ، وَأَنْ يَكُونَ: مَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ: ذَا، مَوْصُولٌ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهُ اسْتِفْهَامًا مَنْصُوبًا بِيُنْفِقُونَ، وَتَكُونَ الْمُطَابَقَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَاخْتُلِفَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي الْعَفْوِ، فَرُوِيَ عَنْهُ النَّصْبُ كَالْجُمْهُورِ، والرفع كأبي عَمْرٍو.

ص: 407

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْعَفْوِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا مُتَرَكِّبٌ عَلَى: مَا، فَمَنْ جَعَلَ ما ابتداء، وذا خَبَرَهُ بِمَعْنَى الَّذِي، وَقَدَّرَ الضَّمِيرَ فِي يُنْفِقُونَهُ عَائِدًا قَرَأَ الْعَفْوُ بِالرَّفْعِ لِتَصِحَّ مُنَاسَبَةُ الْحَمْلِ، وَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ تَقْدِيرُهُ: الْعَفْوُ إِنْفَاقُكُمْ، أَوِ الَّذِي يُنْفِقُونَ الْعَفْوُ، وَمَنْ جَعَلَ مَاذَا اسْمًا واحدا مفعولا: يُنْفِقُونَ، قَرَأَ الْعَفْوَ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَصَحَّ لَهُ التَّنَاسُبُ، وَرَفْعُ الْعَفْوِ مَعَ نَصْبِ: مَا، جَائِزٌ ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُهُ مَعَ رَفْعِهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقْدِيرُهُ: الْعَفْوُ إِنْفَاقُكُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَصْدَرِ، وَلَيْسَ السُّؤَالُ عَنِ الْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ: جَائِزٌ، ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُهُ مَعَ رَفْعِهَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بِضَعِيفٍ.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَيْ:

تَبْيِينًا مِثْلَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ، أَوْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مِنْهَا ذَلِكَ التَّبْيِينَ يُبَيِّنُهُ، أَيْ: يُبَيِّنُ التَّبْيِينَ مُمَاثِلًا لِذَلِكَ التَّبْيِينِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْأَقْرَبِ مِنْ تَبَيُّنِهِ حَالَ الْمُنْفِقِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ وَهُوَ تَبْيِينُ أَنَّ الْعَفْوَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَهْدِ فِي النَّفَقَةِ. أَوْ حُكْمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالْإِنْفَاقَ الْقَرِيبِ أَيْ: مِثْلَ مَا يُبَيِّنُ فِي هَذَا يُبَيِّنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوَضِّحُ الْآيَاتِ مِثْلَ مَا أَوْضَحَ هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى بَيَانِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ كَتَبْيِينِ مَصْرَفِ مَا يُنْفِقُونَ، وَتَبْيِينِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ عِلْمُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَتَبْيِينِ حُكْمِ الْقِتَالِ، وَتَبْيِينِ حَالِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي ذُكِرَ في القتال في الشهر الحرام، وَتَبْيِينِ حَالِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَتَبْيِينِ مِقْدَارِ مَا يُنْفِقُونَ.

وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِبَيَانِ حُكْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَقَطْ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ مَا سَبَقَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ.

وَكَافُ الْخِطَابِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ لِلسَّامِعِ أَوْ لِلْقَبِيلِ، فَلِذَلِكَ أُفْرِدَ أو للجماعة الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: كَذَلِكُمْ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ يُخَاطِبُونَ الْجَمْعَ بِخِطَابِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا هُنَا قَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ فَأَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ للجمع.

لَكُمُ متعلق: بيبين، وَاللَّامُ فِيهَا لِلتَّبْلِيغِ، كَقَوْلِكَ: قُلْتُ لَكَ، وَيَبْعُدُ فِيهَا التَّعْلِيلُ،

ص: 408

وَالْآيَاتُ: الْعَلَامَاتُ، وَالدَّلَائِلُ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، تَرْجِئَةٌ لِلتَّفَكُّرِ تَحْصُلُ عِنْدَ تَبْيِينِ الْآيَاتِ.

لِأَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيَّنَةً وَوَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا التَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ فِيمَا جَاءَتْ لَهُ تِلْكَ الْآيَةُ الْوَاضِحَةُ مِنْ أَمْرِ الدنيا وأمر الآخرة.

وفِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلتَّفَكُّرِ وَمُتَعَلِّقًا بِهِ، وَيَكُونَ تَوْضِيحُ الْآيَاتِ لِرَجَاءِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُطْلَقًا، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، بَلْ لِيَحْصُلَ التَّفَكُّرُ فِيمَا يُعْنَ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَهَذَا ذَكَرَ مَعْنَاهُ أَوَّلًا الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ:

تَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّارَيْنِ، فَتَأْخُذُونَ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَكُمْ، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَتَسْتَدْرِكُونَ طَاعَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ:

تَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُمْسِكُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا يُصْلِحُكُمْ فِي مَعَاشِ الدُّنْيَا، وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِيَ فِيمَا يَنْفَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ الْآخِرَةِ، فَتَعْمَلُونَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي مَنَافِعِ الْخَمْرِ فِي الدُّنْيَا، وَمَضَارِّهَا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا تَخْتَارُوا النَّفْعَ الْعَاجِلَ عَلَى النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ الْمُسْتَمِرِّ، وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا فَتُمْسِكُونَ، وَفِي الْآخِرَةِ فَتَتَصَدَّقُونَ.

وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ، فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ لَكُمُ. الآيات، لا: بتتفكرون، وَيَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ: يُبَيِّنُ، أَيْ: يُبَيِّنُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ.

وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ عَلَى هَذَا إِنْ كَانَ التَّبْيِينُ لِلْآيَاتِ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِيهِمَا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ الْآيَاتِ، وَهِيَ:

الْعَلَامَاتُ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ: كَذَلِكَ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا والآخرة لعلكم تتفكرون. وقال: وَيُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ لِتَعَلُّقِ: فِي الدُّنْيَا والآخرة، بتتفكرون، فَفَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا الدَّلِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ:

لَعَلَّ، هُنَا جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ، فهي كالمتعلقة: بيبين، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ وَالظَّرْفُ مِنْ مَطْلُوبِ: يُبَيِّنُ، وَتَقَدُّمُ أَحَدِ الْمَطْلُوبَيْنِ، وَتَأَخُّرُ الْآخَرِ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.

ص: 409

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ باب التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ شَرْطَ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً بَيْنَ مُتَقَاضِيَيْنِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ آيَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِمَا وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمَا، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَقَوْلُهُ: فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: بِالْآيَاتِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَشَرَحَ مَكِّيٌّ الْآيَةَ بِأَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ مُنَكَّرَةً، حَتَّى يَجْعَلَ الظَّرْفَيْنِ صِفَةً لِلْآيَاتِ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: آيَاتٌ كَائِنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ شَرْحُ مَعْنَى لَا شَرْحُ إِعْرَابٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِالْآيَاتِ إِنْ عَنَى ظَاهِرَ مَا يُرِيدُهُ النُّحَاةُ بِالتَّعَلُّقِ فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْآيَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، وَلَا تَعْمَلُ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ يَكُونُ الظَّرْفُ مِنْ تَمَامِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِاعْتِقَادِ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ مَكِّيٌّ بِمَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ صِفَةً، إِذْ قَدَّرَ الْآيَاتِ مُنَكَّرَةً، وَالْحَالَ وَالصِّفَةَ سَوَاءً فِي أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِمَا مَحْذُوفٌ إِذَا كَانَا ظَرْفَيْنِ أَوْ مَجْرُورَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ: فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ لَا بِالْآيَاتِ، وَعَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، تَكُونُ الْآيَاتُ مَوْصُولًا وُصِلَ بِالظَّرْفِ وَلِتَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ وَرَدِّهِ موضع غير هذا.

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى فِي مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَيَتَجَنَّبُونَ أَمْوَالَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ:

لَمَّا نَزَلَتْ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ

«1» إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى «2» تَجَنَّبُوا الْيَتَامَى وَأَمْوَالَهُمْ، وَعَزَلُوهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَنَزَلَتْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّؤَالَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَكَانَ تَرْكُهُمَا مَدْعَاةً إِلَى تَنْمِيَةِ الْمَالِ، وَذَكَرَ السُّؤَالَ عَنِ النَّفَقَةِ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ، نَاسَبَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي حَالِ الْيَتِيمِ، وَحِفْظُ مَالِهِ، وَتَنْمِيَتُهُ، وَإِصْلَاحُ الْيَتِيمِ بِالنَّظَرِ فِي تَرْبِيَتِهِ، فَالْجَامِعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ فِي تَرْكِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِصْلَاحَ أَحْوَالِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي النَّظَرِ فِي حَالِ الْيَتَامَى إِصْلَاحًا لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاجِزٌ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ النَّفْعِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ جَمَعَ الِاثْنَيْنِ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَهِيَ لِلْجَمْعِ بِهِ وقيل به.

(1) سورة الأنعام: 6/ 152. والإسراء: 17/ 34.

(2)

سورة النساء: 4/ 10.

ص: 410

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: السَّائِلُ ثَابِتُ بْنُ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة، وَقِيلَ:

السَّائِلُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِخَلْطِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِأَمْوَالِهِمْ، فَأَعْلَمَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنَمَا كانت مخالطتهم مشؤومة لِتَصَرُّفِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ تَصَرُّفًا غَيْرَ سَدِيدٍ، كَانُوا يَضَعُونَ الْهَزِيلَةَ مَكَانَ السَّمِينَةِ، وَيُعَوِّضُونَ التَّافِهَ عَنِ النَّفِيسِ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الإصلاح لليتيم يتناول إِصْلَاحِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ، وَإِصْلَاحِ ماله بالتنمية والحفظ.

وإصلاح: مُبْتَدَأٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَمُسَوِّغُ جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ هُنَا هُوَ التَّقْيِيدُ بِالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ: لَهُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوَصْفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْمُولِ لِلْمَصْدَرِ، وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ عَنْ إِصْلَاحٍ، وَإِصْلَاحٌ كَمَا ذَكَرْنَا مَصْدَرٌ حُذِفَ فَاعِلُهُ، فَيَكُونُ: خَيْرٌ، شَامِلًا لِلْإِصْلَاحِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، فَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ لِلْجَانِبَيْنِ مَعًا، أَيْ أَنَّ إِصْلَاحَهُمْ لِلْيَتَامَى خَيْرٌ لِلْمُصْلِحِ وَالْمُصْلَحِ، فَيَتَنَاوَلُ حَالَ الْيَتِيمِ، وَالْكَفِيلِ، وَقِيلَ: خَيْرٌ للولي، والمعنى: إصلاحه مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا أُجْرَةٍ خَيْرٌ لَهُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا، وَقِيلَ: خَيْرٌ، عَائِدٌ لِلْيَتِيمِ، أَيْ: إِصْلَاحُ الْوَلِيِّ لِلْيَتِيمِ، وَمُخَالَطَتُهُ لَهُ، خَيْرٌ لِلْيَتِيمِ مِنْ إِعْرَاضِ الْوَلِيِّ عَنْهُ، وَتَفَرُّدِهِ عَنْهُ، وَلَفْظُ: خَيْرٌ، مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مُرَجِّحٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَحْسَنُ.

وقرأ طاووس: قُلْ إِصْلَاحٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ: فِي رِعَايَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ خَيْرٌ مِنْ تَحَرُّجِكُمْ، أَوْ خَيْرٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ إِصْلَاحِ أَمْوَالِكُمْ.

وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ هَذَا الْتِفَاتٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ لِأَنَّ قبله و: يسألونك، فَالْوَاوُ ضَمِيرٌ لِلْغَائِبِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ مَا فِي الْإِقْبَالِ بِالْخِطَابِ عَلَى الْمُخَاطَبِ لِيَتَهَيَّأَ لِسَمَاعِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَقَبُولِهِ وَالتَّحَرُّزِ فِيهِ، فَالْوَاوُ ضَمِيرُ الْكُفَلَاءِ، وَهُمْ ضَمِيرُ الْيَتَامَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْظُرُوا لَهُمْ كَمَا تَنْظُرُونَ لِإِخْوَانِكُمْ مِنَ النَّسَبِ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالتَّلَطُّفِ وَالْإِصْلَاحِ لِذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

وَالْمُخَالَطَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْخَلْطِ وَهُوَ الِامْتِزَاجُ، وَالْمَعْنَى: فِي الْمَأْكَلِ، فَتُجْعَلُ نَفَقَةُ الْيَتِيمِ مَعَ نَفَقَةِ عِيَالِهِ بِالتَّحَرِّي، إِذْ يَشُقُّ عَلَيْهِ إِفْرَادُهُ وَحْدَهُ بِطَعَامِهِ، فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ خَلْطِهِ بِمَالِهِ لِعِيَالِهِ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ، قاله أبو عبيد. أو: الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْمُتَاجَرَةُ لَهُمْ فِيهَا، فَتَتَنَاوَلُونَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَخْتَصُّ بِكُمْ، وَتَتْرُكُونَ لَهُمْ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ. أَوِ:

ص: 411

الْمُصَاهَرَةُ فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ غُلَامًا زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، أَوْ جَارِيَةً زَوَّجَهَا ابْنَهُ، وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذَا خِلْطَةٌ لِلْيَتِيمِ نَفْسِهِ، وَالشَّرِكَةُ خِلْطَةٌ لِمَالِهِ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْخَلْطُ مِنْ جِهَةِ النِّكَاحِ، فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْخَلْطِ أَقْرَبُ. وَبِقَوْلِهِ:

فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْيَتِيمَ إِذَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ وَجَبَ أَنْ يُتَحَرَّى صَلَاحُ مَالِهِ كَمَا يُتَحَرَّى فِي الْمُسْلِمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِخْوَانُكُمْ، إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ، وَبِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمُخَالَطَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا فِي الْيَتَامَى الَّذِينَ هُمْ لَكُمْ إِخْوَانٌ بِالْإِسْلَامِ. أَوِ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهِ وَشُرْبُهُ مَنْ لَبَنِكَ، وَأَكْلُكَ فِي قَصْعَتِهِ وَأَكْلُهُ فِي قَصْعَتِكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: خَلْطُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي النَّفَقَةِ وَالْمَطْعَمِ وَالْمَسْكَنِ وَالْخَدَمِ وَالدَّوَابِّ، فَيَتَنَاوَلُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عِوَضًا عَنْ قِيَامِكُمْ بِأُمُورِهِمْ، بِقَدْرِ مَا يَكُونُ أُجْرَةَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءً كَانَ الْقَيِّمُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ مَالِهِ. أَوِ: الْمُضَارَبَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَنْمِيَةُ أَمْوَالِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ لَمْ تُقَيَّدْ بِشَيْءٍ لَمْ يَقُلْ فِي كَذَا فَتُحْمَلُ عَلَى أَيِّ: مُخَالَطَةٍ كَانَتْ مِمَّا فِيهِ إِصْلَاحٌ لِلْيَتِيمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِخْوَانُكُمْ، أَيْ: تَنْظُرُونَ لَهُمْ نَظَرَكُمْ إِلَى إِخْوَانِكُمْ مِمَّا فِيهِ إِصْلَاحُهُمْ.

وَقَدِ اكْتَنَفَ هَذِهِ الْمُخَالَطَةَ الْإِصْلَاحُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَقَبْلُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَبَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ مَا فِيهِ إِصْلَاحٌ لِلْيَتِيمِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، مِنْ مُخَالَطَةٍ فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ مُتَاجَرَةٍ أَوْ مُشَارَكَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَإِخْوَانُكُمْ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: فَإِخْوَانُكُمْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلِ التَّقْدِيرِ: فَتُخَالِطُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَجَاءَ جَوَابُ السُّؤَالِ بِجُمْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مُنْعَقِدَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَالثَّانِيَةُ: مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ.

فَالْأُولَى: تَتَضَمَّنُ إِصْلَاحَ الْيَتَامَى وَأَنَّهُ خَيْرٌ، وَأُبْرِزَتْ ثُبُوتِيَّةً مُنَكَّرًا مُبْتَدَأُهَا لِيَدُلَّ عَلَى تَنَاوُلِهِ كُلَّ إِصْلَاحٍ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ أُضِيفَ لَعَمَّ، أَوْ لَكَانَ مَعْهُودًا فِي إِصْلَاحٍ خَاصٍّ، فَالْعُمُومُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَالْمَعْهُودُ لَا يُتَنَاوَلُ غَيْرُهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ التَّنْكِيرُ الدَّالُّ عَلَى عُمُومِ الْبَدَلِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ: بخير، الدَّالِّ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ، ليبادر الْمُسْلِمِ إِلَى فِعْلِ مَا فِيهِ الْخَيْرُ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 412

وَأُبْرِزَتِ الثَّانِيَةُ: شَرْطِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ لِجَوَازِ الْوُقُوعِ لَا لِطَلَبِهِ وَنَدْبَتِهِ.

وَدَلَّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنَ الْأَحْكَامِ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْيَتِيمِ، لِجَوَازِ تَعْلِيمِهِ أَمْرَ دِينٍ وَأَدَبٍ، وَالِاسْتِيجَارُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَقَبُولِ مَا يُوهَبُ لَهُ، وَتَزْوِيجِهِ وَمُؤَاجَرَتِهِ، وَبَيْعِهِ مَالَهُ لِلْيَتِيمِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَفِي عَمَلِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ مُضَارَبَةً، وَدَفْعِهِ إِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَنُوطَةِ بِالْإِصْلَاحِ.

وَدَلَّ الْجَوَابُ الثَّانِي عَلَى جَوَازِ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بِمَا فِيهِ إِصْلَاحٌ لَهُمْ، فَيَخْلِطُهُ بِنَفْسِهِ فِي مَنَاكِحِهِ وَمَالِهِ بِمَالِهِ فِي مَؤُونَةٍ وَتِجَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا.

قِيلَ: وَقَدِ انْتَظَمَتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الْمُخَالَطَةِ، فَدَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُسَافِرُونَ فِي الْأَسْفَارِ، وَهِيَ أَنَّ يُخْرِجَ هَذَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَيُخْلَطُ وَيُنْفَقُ وَيَأْكُلُ النَّاسُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مِقْدَارُ مَا يَأْكُلُونَ، وَإِذَا أُبِيحَ لَكَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَهُوَ فِي مَالِ الْبَالِغِ بِطِيبِ نَفْسِهِ أَجْوَزُ.

وَنَظِيرُ جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ «1» الْآيَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ: شِرَاءُ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْمُضَارَبَةُ فِيهِ، وَإِنْكَاحُ الْوَصِيِّ بِيَتِيمَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْكَاحُ الْيَتِيمِ لِابْنَتِهِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

قِيلَ: وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أُخُوَّةُ الدِّينِ، وَالثَّانِي: لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِمْ، إِمَّا فِي الثواب مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ أُجْرَةِ عَمَلِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ نَفَعَكَ فَهُوَ أَخُوكَ.

وَقَالَ الْبَاقِرُ لِشَخْصٍ: رَأَيْتُكَ فِي قَوْمٍ لَمْ أَعْرِفْهُمْ، فَقَالَ: هُمْ إِخْوَانِي، فَقَالَ: أَفِيهِمْ مَنْ إِذَا احْتَجْتَ أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي كُمِّهِ فَأَخَذْتَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِذَنْ لَسْتُمْ بِإِخْوَانٍ.

قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ لِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ إِخْوَانًا لَنَا.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ جُمْلَةٌ مَعْنَاهَا التَّحْذِيرُ، أَخْبَرَ تَعَالَى فِيهَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالَّذِي

(1) سورة الكهف: 18/ 19.

ص: 413

يُفْسِدُ مِنَ الَّذِي يُصْلِحُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجَازِي كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُنْسَبُ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالشَّيْءِ جَازَى عَلَيْهِ، فَهُوَ تَعْبِيرٌ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَ: يَعْلَمُ، هُنَا مُتَّعَدٍ إِلَى وَاحِدٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ هُنَا بِالْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّجَدُّدِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ اللَّهِ لَا يَتَجَدَّدُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْعِقَابَ وَالثَّوَابَ لِلْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَهُمَا وَصْفَانِ يَتَجَدَّدَانِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِهِمَا، فَتَكَرَّرَ تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا لِتَكَرُّرِهِمَا، وَتَعَلَّقَ الْعَمَلُ بِالْمُفْسِدِ أَوَّلًا لِيَقَعَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْإِفْسَادِ.

ومن، مُتَعَلِّقَةٌ بِيَعْلَمَ عَلَى تَضْمِينِ مَا يَتَعَدَّى بِمِنْ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَمِيزُ بِعِلْمِهِ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

وَظَاهِرُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَالْمُصْلِحُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ جُمْلَةِ مَدْلُولَاتِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيِ: الْمُفْسِدَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الْمُصْلِحِ فِيهِ، وَالْمُفْسِدُ بِالْإِهْمَالِ فِي تَرْبِيَتِهِ مِنَ الْمُصْلِحِ لَهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُخَالَطَةٌ بِإِفْسَادٍ، وَمُخَالَطَةٌ بِإِصْلَاحٍ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ فُهِمَ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِفْسَادَ شَرٌّ، فَجَاءَ هَذَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْإِصْلَاحِ. وَمُقَابِلُهُ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أَيْ: لأخرجكم وَشَدَّدَ عَلَيْكُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَوْ: لَأَهْلَكَكُمْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَوْ: لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مَوْبِقًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، أَوْ: لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ: لَآثَمَكُمْ بِمُخَالَطَتِهِمْ أَوْ: لَضَيَّقَ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، قَالَهُ عَطَاءٌ، أَوْ: لَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ مُخَالَطَتَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ.

وَمَفْعُولُ: شَاءَ، مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ إِعْنَاتَكُمْ، وَاللَّامُ فِي الْفِعْلِ الْمُوجَبِ الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَجِيءُ بِهَا فِيهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَأَعْنَتَكُمْ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَبِيعَةَ «بِتَلْيِينِ الهمزة» وقرىء بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مَرْيَمَ: لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ مُجَاهِدٍ هَذَا الْحَرْفَ، وَابْنُ كَثِيرٍ لَمْ يَحْذِفِ الْهَمْزَةَ، وَإِنَّمَا لَيَّنَهَا وَحَقَّقَهَا، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهَا مَحْذُوفَةٌ، فَإِنَّ الْهَمْزَةَ هَمْزَةُ قَطْعٍ فَلَا تَسْقُطُ حَالَةَ الوصل ما تَسْقُطُ هَمَزَاتُ الْوَصْلِ عِنْدَ الْوَصْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ إِسْقَاطَ الْهَمْزَةِ وَهْمًا، وَقَدْ نَقَلَهَا غَيْرُهُ قِرَاءَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

ص: 414

وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ إِعْلَامٌ وَتَذْكِيرٌ بِإِحْسَانِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى أَوْصِيَاءِ الْيَتَامَى، إِذْ أَزَالَ إِعْنَاتَهُمْ وَمَشَقَّتَهُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَزِيزٌ غَالِبٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعْنِتَ عِبَادَهُ وَيُحْرِجَهُمْ، لَكِنَّهُ حَكِيمٌ لَا يُكَلِّفُ إِلَّا مَا تَتَّسِعُ فِيهِ طَاقَتُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَزِيزٌ لَا يُرَدُّ أَمْرُهُ، وَحَكِيمٌ أَيْ مُحْكِمُ مَا ينفذه. انتهى.

في وصفه تعالى بالعزة، وهو الْغَلَبَةُ وَالِاسْتِيلَاءُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ لَا يُشَارَكُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لَهُمْ وِلَايَةً عَلَى الْيَتَامَى نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْهَرُونَهُمْ، وَلَا يُغَالِبُونَهُمْ، وَلَا يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ الْقَاهِرِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ لا يكون إلّا الله.

وَفِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحِكْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى مَا أَذِنَ هُوَ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَيْسَ لَكُمْ نَظَرٌ إِلَّا بِمَا أَذِنَتْ فِيهِ لَكُمُ الشَّرِيعَةُ، وَاقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. إِذْ هُوَ الْحَكِيمُ الْمُتْقِنُ لِمَا صَنَعَ وَشَرَعَ، فَالْإِصْلَاحُ لَهُمْ لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى نَظَرِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِاتِّبَاعِ مَا شُرِعَ فِي حَقِّهِمْ.

وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، أَعْتَقَ أَمَةً وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَنَاقَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ذَاتُ حَظٍّ مِنْ جَمَالٍ، مُشْرِكَةٌ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا تُعْجِبُنِي، وَرُوِيَ هَذَا السَّبَبُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَسْنَاءَ وَلِيدَةٍ سَوْدَاءَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ جَمِيعَ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْيَتَامَى فِي الْمُخَالَطَةِ، وَكَانَتْ تَقْتَضِي الْمُنَاكَحَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يُسَمَّى مُخَالَطَةً، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَهَا بِالْمُصَاهَرَةِ فَقَطْ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ مِنَ الْيَتَامَى مَنْ يَكُونُ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنَاكَحَةِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلنِّكَاحِ، وَهِيَ: الْأُخُوَّةُ

ص: 415

الدِّينِيَّةُ، فَنَهَى عَنْ نِكَاحِ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْأُخُوَّةُ، وَانْدَرَجَ يَتَامَى الْكُفَّارِ فِي عُمُومِ مَنْ أَشْرَكَ.

وَمُنَاسَبَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ حُكْمُ الشُّرْبِ فِي الْخَمْرِ، وَالْأَكْلِ فِي الْمَيْسِرِ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْمَنْكَحِ، فَكَمَا حَرَّمَ الْخَمْرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الْمَيْسِرُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَنْكِحُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ نَكَحَ، وَهُوَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ، وَبِمَعْنَى الْوَطْءِ بِمِلْكٍ وَغَيْرِهِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلَا تُنْكِحُوا بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَنْكَحَ، أَيْ: وَلَا تُنْكِحُوا أَنْفُسَكُمُ الْمُشْرِكَاتِ. وَالْمُشْرِكَاتُ هُنَا: الْكُفَّارُ فَتَدْخُلُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَقِيلَ: لَا تَدْخُلُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَالصَّحِيحُ دخولهنّ لعبادة اليهود عزيزا، وَالنَّصَارَى عِيسَى، وَلِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُ جُلِّ الْمُفَسِّرِينَ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.

فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِنَّ الْكِتَابِيَّاتُ، يَحْتَاجُ إِلَى مُجَوِّزِ نِكَاحِهِنَّ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عُمُومٌ نُسِخَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ عُمُومٌ خُصَّ مِنْهُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَثَنِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ، وَكُلُّ مَنْ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنِكَاحُهُنَّ حَرَامٌ.

وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَلَى هَذَا، نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ. وَآيَةُ الْمَائِدَةِ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي التِّلَاوَةِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي (الْمُوَطَّأِ) : وَلَا أَعْلَمُ إِشْرَاكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبَّهَا عِيسَى. وَرُوِيَ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ نَكَحَ يَهُودِيَّةً، وَأَنَّ حُذَيْفَةَ نَكَحَ نَصْرَانِيَّةً، وَأَنَّ عُمَرَ غَضِبَ عَلَيْهِمَا غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى هَمَّ أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ، وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً.

وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ، قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَجَابِرٌ، وَطَلْحَةُ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وطاووس، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، قِيلَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ

(1) سورة يونس: 10/ 18. والنحل: 16/ 1، والروم: 30/ 40 والزمر: 39/ 67.

ص: 416

تَزْوِيجِ الْكِتَابِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا وَابْنَ حَنْبَلٍ كَرِهَا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ.

وَاخْتُلِفَ فِي تَزْوِيجِ الْمَجُوسِيَّاتِ، وَقَدْ تزويج حُذَيْفَةُ بِمَجُوسِيَّةٍ، وَفِي كَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ خِلَافٌ،

وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ لَهُمْ نَبِيًّا يُسَمَّى زَرَادَشْتَ، وَكِتَابًا قَدِيمًا رُفِعَ، رُوِيَ حَدِيثُ الْكِتَابِ عَنْ عَلِيٍّ

، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَذُكِرَ لِرَفْعِهِ وَتَغْيِيرِ شَرِيعَتِهِمْ سَبَبٌ طَوِيلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.

وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا التَّحْرِيمُ، وَقِيلَ: هُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ، حَتَّى يُؤْمِنَّ، غَايَةٌ لِلْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، وَمَعْنَى إِيمَانِهِنَّ إِقْرَارُهُنَّ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَالْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.

وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَمَةِ الرَّقِيقَةَ، وَمَعْنَى: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ، أَيْ: مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَمَةٌ، وَقِيلَ:

الْأَمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْأَةِ، فَيَشْمَلُ الْحُرَّةَ وَالرَّقِيقَةَ، وَمِنْهُ:

«لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» .

وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ: وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، كِتَابِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ نِكَاحَ الْأَمَةِ المجوسية، وَفِي الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ خِلَافٌ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُوطَأَ بِنِكَاحٍ وَلَا مِلْكٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَتَأَوَّلَا: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ عَلَى الْعَقْدِ لَا عَلَى الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَاحْتَجَّا بِسَبْيِ أَوْطَاسٍ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ نَكَحُوا الْإِمَاءَ مِنْهُمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.

قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْقَادِرِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِلْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ قوله: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ مَعْنَاهُ مِنْ: حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، وَوَاجِدُ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ وَاجِدٌ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ الطَّوْلَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْرُ الْمَالِ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أُهْبَةِ نِكَاحِهَا سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ وَاجِدَ طَوْلَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لِطَيْفٌ.

وأمة: مبتدأ، ومسوغ جواز الابتداء الْوَصْفُ، وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ:

خَيْرٌ، عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ، قَالُوا: وَالْخَيْرِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَائِزَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ،

ص: 417

لِأَنَّ التَّفْضِيلَ قَدْ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ. لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُودِ، وَمِنْهُ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» وَ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ وَقَالَ عُمَرُ، في رسالته لأبي مُوسَى:

الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَيُحْتَمَلُ إِبْقَاءُ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ الْوُجُودِيِّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَنِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى مَنَافِعَ أُخْرَوِيَّةٍ، فَقَدِ اشْتَرَكَ النَّفْعَانِ فِي مُطْلَقِ النَّفْعِ إِلَّا أَنَّ نَفْعَ الْآخِرَةِ لَهُ الْمَزِيَّةُ الْعُظْمَى، فَالْحُكْمُ بِهَذَا النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيغَ، كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِيهِمَا مَنَافِعُ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْإِبَاحَةَ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ إِلَّا يَكَادُ يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ مَا.

وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ لَفْظَةَ:

أَفْعَلَ، الَّتِي لِلتَّفْضِيلِ، لَا تَصِحُّ حَيْثُ لَا اشْتِرَاكَ، كَقَوْلِكَ: الثَّلْجُ أَبْرَدُ مِنَ النَّارِ، والنور أضوء مِنَ الظُّلْمَةِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: يَصِحُّ حَيْثُ الِاشْتِرَاكُ، وَحَيْثُ لَا يَكُونُ اشْتِرَاكٌ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ: لَفْظَةُ التَّفْضِيلِ تَجِيءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِيجَابًا لِلْأَوَّلِ، وَنَفْيًا عَنِ الثَّانِي، فَعَلَى قَوْلٍ هُوَ لَا يَصِحُّ أَنْ لَا يَكُونَ خَيْرٌ فِي الْمُشْرِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ.

وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لَوْ: هَذِهِ بِمَعْنَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، نَحْوَ:

«رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفِ شَاةٍ مُحْرَقٍ» .

وَالْوَاوُ فِي: وَلَوْ، لِلْعَطْفِ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِاسْتِقْصَاءِ الْأَحْوَالِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ لَوْ هَذِهِ إِنَّمَا يَأْتِي وَهُوَ مُنَافٍ لِمَا قَبْلَهُ بِوَجْهٍ مَا، فَالْإِعْجَابُ مُنَافٍ لَحُكْمِ الْخَيْرِيَّةِ، وَمُقْتَضٍ جَوَازَ النِّكَاحِ لِرَغْبَةِ النَّاكِحِ فِيهَا، وَأُسْنِدَ الْإِعْجَابُ إِلَى ذَاتِ الْمُشْرِكَةِ، ولم يبين ما للعجب مِنْهَا، فَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْإِعْجَابِ، إِمَّا لِجَمَالٍ، أَوْ شَرَفٍ، أَوْ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْإِعْجَابُ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُشْرِكَةَ، وَإِنْ كَانَتْ فَائِقَةً فِي الْجِمَالِ وَالْمَالِ وَالنَّسَبِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا فَاقَتْ بِهِ الْمُشْرِكَةُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَالْإِيمَانُ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَبِالتَّوَافُقِ فِي الدِّينِ تَكْمُلُ الْمَحَبَّةُ وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا مِنَ الصُّحْبَةِ وَالطَّاعَةِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَبِالتَّبَايُنِ فِي الدِّينِ لَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا.

وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا الْقِرَاءَةُ بِضَمِّ التَّاءِ إِجْمَاعٌ مِنَ الْقُرَّاءِ،

(1) سورة الفرقان: 25/ 24.

ص: 418

وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنَاتِ.

وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَطَأُ الْمُؤْمِنَةَ بِوَجْهٍ مَا، وَالنَّهْيُ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِيهَا.

وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْكَلَامِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِالْعَبْدِ: أَهُوَ بِمَعْنَى الرَّقِيقِ أَمْ بِمَعْنَى الرَّجُلِ؟ كَهُوَ فِي الْأَمَةِ هُنَاكَ، وَهَلِ الْمَعْنَى: خَيْرٌ مِنْ حُرٍّ مُشْرِكٍ، حَتَّى يُقَابِلَ الْعَبْدَ؟ أَوْ مِنْ مُشْرِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ؟

أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّنْفَيْنِ، الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَ: يَدْعُونَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدعاء بالقول، كقول: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَوْلُ، بَلْ بِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُخَالَطَةِ تَسْرِقُ إِلَيْهِ مِنْ طِبَاعِ الْكُفَّارِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَتَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْعُونَ إِلَى تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَفِي تَرْكِهِمَا وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ، وَتَفَرَّقَ صَاحِبُ هَذَا التَّأْوِيلِ بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا يُحْمَلُ زَوْجُهَا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدُثُ رُبَّمَا دَعَاهُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ فَيُوَافِقُ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يُدْعَوْنَ إِلَى النَّارِ قَطْعًا، إِمَّا بِالْقَوْلِ. وَإِمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ الْخِلْطَةُ، وَالتَّآلُفُ وَالتَّنَاكُحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى النَّارِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لِئَلَّا يَسْتَمِيلَ بِدُعَائِهِ دَائِمًا مُعَاشِرَهُ فَيُجِيبُهُ إِلَى مَا دَعَاهُ، فَيَهْلَكَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْمُنَاكَحَةِ فِي الْكُفَّارِ، لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِالْتِبَاسِ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ: الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالِانْغِمَاسِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَتَرْبِيَةِ النَّسْلِ وَسَرِقَةِ الطِّبَاعِ مِنْ طِبَاعِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُعَادَلُ فِيهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ فِي بَعْضِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا نُظِرَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ فَتَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْمُنَاكَحَةِ مُطْلَقًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنُبْدِي هُنَاكَ إِنْ شاء الله كونها

(1) سورة البقرة: 2/ 135.

ص: 419

وَ: إِلَى، مُتَعَلِّقٌ بِيَدْعُونَ كقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ «1» وَيَتَعَدَّى أَيْضًا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ.

دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ: إِمَّا اقْتِصَارًا إِذِ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمُ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَفْعُولٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا اخْتِصَارًا، فَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ يَدْعُونَكُمْ إِلَى النار.

وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ هَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ مَنْعَ مُنَاكَحَةِ الْكُفَّارِ، إِذْ ذَكَرَ قَسِيمَانِ: أَحَدُهُمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَآخَرُ يجب اجتنابه، فتباين القسيمان، وَلَا يُمْكِنُ إِجَابَةُ دُعَاءِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ إِلَّا بِاجْتِنَابِ دُعَاءِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِهِمْ رَأْسًا، وَدُعَاءُ اللَّهِ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَعَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ لِتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ تَعَالَى يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

يَعْنِي: وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَمَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمَا، فَهُمُ الَّذِينَ تَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ وَمُصَاهَرَتُهُمْ، وَأَنْ يُؤْثَرُوا عَلَى غَيْرِهِمْ. انْتَهَى. وَحَامِلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ طَلَبُ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّعَاءِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَنْ أَشْرَكَ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى النَّارِ، جَعَلَ مَنْ آمَنَ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ، بَلْ إِجْرَاءُ اللفظ على ظاهره من نِسْبَةِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ آكَدُ فِي التَّبَاعُدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ جَعَلَ مُوجِدَ الْعَالَمِ مُنَافِيًا لَهُمْ فِي الدُّعَاءِ، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْمَغْفِرَةِ، بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَدْعُو إِلَى الْمَغْفِرَةِ، أَيْ: إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهِيَ التَّوْبَةُ وَالْتِزَامُ الطَّاعَاتِ، وَتَقَدَّمَ هُنَا الْجَنَّةُ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، وَتَأَخَّرَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ «2» وَفِي قَوْلِهِ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ «3» وَالْأَصْلُ فِيهِ تَقَدُّمُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مُتَسَبِّبٌ عَنْ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ، فَفِي تِلْكَ الْآيَتَيْنِ جَاءَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَأَمَّا هُنَا، فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِتَحَسُّنِ الْمُقَابَلَةِ، فَإِنَّ قَبْلَهُ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فجاء وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَلِيَبْدَأَ بِمَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ النَّفْسُ حِينَ ذَكَرَ دُعَاءَ اللَّهِ، فَأَتَى بِالْأَشْرَفِ لِلْأَشْرَفِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْمَغْفِرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّتِمَّةِ فِي الْإِحْسَانِ، وَتَهْيِئَةِ سَبَبِ دخول الجنة.

(1) سورة يونس: 10/ 25.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 133. [.....]

(3)

سورة الحديد: 57/ 21.

ص: 420

وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمَغْفِرَةُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ أَيْ: وَالْمَغْفِرَةُ حَاصِلَةٌ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْوِيفِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِذْنِ، وَعَلَى قِرَاءَاتِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ بِإِذْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَدْعُو.

وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَيْ: يُظْهِرُهَا وَيَكْشِفُهَا بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ فِيهَا الْتِبَاسٌ، أَيْ أَنَّ هَذَا التَّبْيِينَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِنَاسٍ دُونَ نَاسٍ، بَلْ يُظْهِرُ آيَاتِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ رَجَاءَ أَنْ يَحْصُلَ بِظُهُورِ الْآيَاتِ تَذَكُّرٌ وَاتِّعَاظٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ مَتَى كَانَتْ جَلِيَّةً وَاضِحَةً، كَانَتْ بِصَدَدِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا التَّذَكُّرُ، فَيَحْصُلَ الِامْتِثَالُ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، وَمُخَالَفَةِ النَّهْيِ. وَ: للناس، متعلق: بيبين، وَ: اللَّامُ، مَعْنَاهَا الْوُصُولُ وَالتَّبْلِيغُ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ

فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَسَأَلَ أَبُو الدَّحْدَاحِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِالنِّسَاءِ إِذَا حِضْنَ؟ فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كانوا يأتون الحيض استنوا سُنَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَجَنُّبِ مُؤَاكَلَةِ الْحُيَّضِ وَمُسَاكَنَتِهَا، فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: كَانَتِ النَّصَارَى يُجَامِعُونَ الْحُيَّضَ وَلَا يُبَالُونَ بِالْحَيْضِ، وَالْيَهُودُ يَعْتَزِلُونَهُنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالِاقْتِصَادِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

وَقِيلَ: سَأَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنِ الْمَحِيضِ فَنَزَلَتْ وَقِيلَ كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا، جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فَامْتَنَعَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَسُئِلَ عَنْ إِتْيَانِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، وَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ، فَنَزَلَتْ.

وَالضَّمِيرُ فِي: وَيَسْأَلُونَكَ، ضَمِيرُ جَمْعٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، لَا اثْنَانِ وَلَا وَاحِدٌ، وَجَاءَ: وَيَسْأَلُونَكَ، هُنَا وقبله في وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى وقبله وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ بالواو العاطفة على يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قِيلَ: لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَمَعُوا لَكَ بَيْنَ السؤال عن الخمر والميسر، وَالسُّؤَالِ عَنْ كَذَا وَكَذَا.

ص: 421

وَقِيلَ هَذِهِ سُؤَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ بغير واو يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «1» يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ «2» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «3» وَثَلَاثَةٌ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ قِيلَ إِنَّهَا جَاءَتْ بِغَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ وَقَعَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَلَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا سُؤَالٌ مُبْتَدَأٌ. انْتَهَى.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ مُنَاكَحَةِ الْكُفَّارِ، وَتَضَمَّنَ مُنَاكَحَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارَ ذَلِكَ، بَيَّنَ حُكْمًا عَظِيمًا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَهُوَ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ. وَالْمَحِيضُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، هُوَ مَفْعَلٌ، هُوَ مَفْعَلٌ مِنَ الْحَيْضِ يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْأُدَبَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَنِ الْحَيْضِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبِهِ بَدَأَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: الْمَحِيضُ مَصْدَرٌ كَالْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ الْمَقِيلُ مِنْ قَالَ يَقِيلُ. قَالَ الرَّاعِي:

بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ

لَا يَسْتَطِيعُ بِهَا الْقُرَادُ مَقِيلَا

وَقَالَ الطبري: المحيض اسم الحيض، وَمِثْلُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ فِي العيش:

إليك أشكوا شِدَّةَ الْمَعِيشِ

وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِ: الْمَحِيضُ مَصْدَرٌ كَالْحَيْضِ، وَبَيْنَ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ:

الْمَحِيضُ اسْمُ الْحَيْضِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا يُقَالُ فِيهِ مَصْدَرٌ، وَيُقَالُ فِيهِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَحِيضَ مَصْدَرٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَوْضِعُ الدَّمِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَكَانُ. وَرَجَّحَ كَوْنَهُ مَكَانَ الدَّمِ بِقَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ لَكَانَ الظَّاهِرُ مَنْعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ، لَزِمَ الْقَوْلُ بِتَطَرُّقِ النَّسْخِ، أَوِ التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَوْضِعِ الْحَيْضِ كَانَ الْمَعْنَى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ. قَالُوا وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَوْضِعِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْمَصْدَرِ انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ الْمَصْدَرُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ أَذىً. وَمَكَانُ الدَّمِ نَفْسُهُ لَيْسَ بِأَذًى لِأَنَّ الْأَذَى كَيْفِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ وَهُوَ عَرَضٌ، وَالْمَكَانُ جِسْمٌ، وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ عَرَضًا. وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى حَذْفٍ إِذَا أُرِيدَ الْمَكَانُ، أَيْ: ذو أذى.

(1) سورة البقرة: 2/ 189.

(2)

سورة البقرة: 2/ 215.

(3)

سورة البقرة: 2/ 217.

ص: 422

وَالْخِطَابُ فِي: وَيَسْأَلُونَكَ، وَفِي: قُلْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالضَّمِيرُ فِي: هُوَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَحِيضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْصُلُ نَفْرَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَاسْتِقْذَارٌ بِسَبَبِهِ.

فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمَحِيضِ أَهُوَ مَوْضِعُ الدَّمِ أَمِ الْحَيْضُ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالثَّانِي عَلَى الْمَكَانِ، وَإِنْ حَمَلْنَا الثَّانِيَ عَلَى الْمَصْدَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ.

وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاعْتِزَالِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِزَالُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِزَارُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا صَحَّ أَنَّهَا: تَشُدُّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا.

وَذَهَبَتْ عَائِشَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا اعْتِزَالُ الْفَرْجِ فَقَطْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِزَالُ الرَّجُلِ فِرَاشَ زَوْجَتِهِ إِذَا حَاضَتْ، أَخْذٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ.

وَلَمَّا كَانَ الْحَيْضُ مَعْرُوفًا فِي اللُّغَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَفْسِيرٍ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِأَقَلِّهِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ، بَلْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ، وَأَقَلُّهُ عِنْدَ مَالِكٍ لَا حَدَّ لَهُ، بَلِ الدَّفْعَةُ مِنَ الدَّمِ عِنْدَهُ حَيْضٌ، وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ حَيْضٌ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.

وَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَقَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ عَطَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا وَقْتَ لِقَلِيلِ الْحَيْضِ وَلَا كَثِيرِهِ إِلَّا مَا يُوجَدُ فِي النِّسَاءِ عَادَةً. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إِلَى عُرْفِ النِّسَاءِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْحَيْضُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِذَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.

وَجَمِيعُ دَلَائِلِ هَذَا، وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي الْحَيْضِ، وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ،

ص: 423

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشافعي ببغداد.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ فَدِينَارٌ، أَوْ فِي انْقِطَاعِهِ فَنِصْفُهُ، وَنَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ وَطِئَ وَهِيَ حَائِضٌ يَتَصَدَّقُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» .

وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُفَضَّلِ عَنْهُ: يَطَّهَّرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ وَالْفَتْحِ، وَأَصْلُهُ: يَتَطَهَّرْنَ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: يَطْهُرْنَ، مُضَارِعُ: طَهُرَ.

وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ: وَلَا تَقْرَبُوا النِّسَاءَ فِي مَحِيضِهِنَّ وَاعْتَزِلُوهُنَّ حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِكَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِ السَّوَادَ، وَرَجَّحَ الْفَارِسِيُّ:

يَطْهُرْنَ، بِالتَّخْفِيفِ إِذْ هُوَ ثُلَاثِيٌّ مُضَادٌّ لِطَمِثَتْ، وَهُوَ ثُلَاثِيٌّ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ التَّشْدِيدَ، وَقَالَ: هِيَ بِمَعْنَى تَغْتَسِلْنَ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ حَتَّى تَطْهُرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الطُّهْرِ مَا هُوَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

قِيلَ: وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ مَعْنَاهَا حَتَّى يَغْتَسِلْنَ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ مَعْنَاهَا يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا انْقِطَاعُ الدَّمِ وَزَوَالُ أَذَاهُ، قَالَ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ تَشْدِيدِ الطَّاءِ مُضَمَّنُهَا الِاغْتِسَالُ، وَقِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ مُضَمَّنُهَا انْقِطَاعُ الدَّمِ أَمْرٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَكَذَلِكَ ادِّعَاؤُهُ الْإِجْمَاعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَرَاهَةِ الْوَطْءِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ. انْتَهَى مَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَمُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ.

وَظَاهِرُ الِاعْتِزَالِ وَالْقُرْبَانِ أَنَّهُمَا لَا يَتَمَاسَّانِ، وَلَكِنْ بَيَّنَتِ السنة أن اعْتِزَالٌ وَقُرْبَانٌ خَاصٌّ، وَمِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ يُعْرَفُ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرِهِ.

فَإِذا تَطَهَّرْنَ أَيِ: اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْخِلَافُ فِي مَعْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ

ص: 424

مِنَ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ أَوِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ هُنَا: إِنَّهُ أُرِيدَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ، وَلَا بُدَّ لِقَرِينَةِ الْأَمْرِ بِالْإِتْيَانِ، وَإِنْ كَانَ قُرْبُهُنَّ قَبْلَ الْغُسْلِ مُبَاحًا، لَكِنْ لَا تَقَعُ صِيغَةُ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَإِذَا كَانَ التَّطَهُّرُ الْغُسْلَ بِالْمَاءِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، أَنَّهُ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ وَقَالَ طاووس، وَمُجَاهِدٌ: الْوُضُوءُ كَافٍ فِي إِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُبِيحَ لِلْوَطْءِ: هُوَ غَسْلُ مَحَلِّ الْوَطْءِ بِالْمَاءِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ عَلَى التَّطَهُّرِ الشَّرْعِيِّ أَوِ اللُّغَوِيِّ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى اللُّغَوِيِّ قَالَ: تَغْسِلُ مَكَانَ الْأَذَى بِالْمَاءِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ حَمَلَهُ عَلَى أَخَفِّ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، لِمُرَاعَاةِ الْخِفَّةِ، أَوْ عَلَى أَكْمَلِ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ أَنْ تَغْتَسِلَ كَمَا تَغْتَسِلَ لِلْجَنَابَةِ إِذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعُهْدَةِ. وَالِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، لِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إِلَّا بَعْدَهُ.

وَإِذَا قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنَ الْغُسْلِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَاخْتُلِفَ فِي الذِّمِّيَّةِ: هَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ الغسل عادة قَالَ لَا يَلْزَمُهَا لِأَنَّ نِيَّةَ الْعِبَادَةِ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ عِبَادَةً، بَلِ الِاغْتِسَالُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ لِإِحْلَالِهَا لِلْوَطْءِ، قَالَ: تُجْبَرُ، عَلَى الْغُسْلِ.

وَمَنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ فَصِفَتُهُ مَا

رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِ الْحَيْضَةِ فَقَالَ: «تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَهَا، وَتَتَطَهَّرَ فَتُحْسِنُ الطَّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَضْغَطُهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ شَعْرِهَا، ثُمَّ تَفِيضُ الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهَا» .

فَأْتُوهُنَّ هَذَا أَمْرٌ يُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا «2» وَكَثِيرًا مَا يَعْقُبُ أَمْرُ الْإِبَاحَةِ التَّحْرِيمَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ.

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ حَيْثُ: ظَرْفُ مَكَانٍ، فَالْمَعْنَى مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْقُبُلُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وأبو رزين والسدّي.

(1) سورة المائدة: 5/ 2.

(2)

سورة الجمعة: 62/ 10.

ص: 425

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَصِيرُ الْمَعْنَى فَأْتُوهُنَّ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ أَوْ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ لَا مِنْ قِبَلِ الْفُجُورِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ: مِنْ حَيْثُ أَحَلَّ لَكُمْ غِشْيَانَهُنَّ بِأَنْ لَا يَكُنَّ صَائِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ، قَالَهُ الْأَصَمُّ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ حَمْلَ: حَيْثُ، عَلَى الْمَكَانِ وَالْمَوْضِعِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَمَا سِوَاهُ مَجَازٌ.

وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْأَظْهَرِ كَانَ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَبَاحَ إتيان النساء في أدبارهن. قِيلَ: وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مُخْتَلِفٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْمَعْنَى، فِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِاعْتِزَالِهِنَّ وَهُوَ الْفَرْجُ، أَوْ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أَيِ: الرَّاجِعِينَ إِلَى الْخَيْرِ. وَجَاءَ عَقِبَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إيذانا بقبول توبة يَقَعُ مِنْهُ خِلَافُ مَا شُرِعَ لَهُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ.

وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أَيِ: الْمُبَرَّئِينَ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ التَّائِبُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُتَطَهِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَمُقَاتِلٌ وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِالتَّائِبِ مِنَ الْمُجَامَعَةِ فِي الْحَيْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: التَّوَّابِينَ مِنَ الْكُفْرِ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الْقَتَّادُ: التَّوَّابِينَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَقِيلَ: التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الْعُيُوبِ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ فَلَا يَتَلَوَّثُونَ بِالذَّنْبِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، كَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ «1» .

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي صَدْرِ الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ وَدَلَّ السَّبَبُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ حَالَةٌ يَرْتَكِبُونَهَا حَالَةَ الْحَيْضِ، مِنْ مُجَامَعَتِهِنَّ فِي الْحَيْضِ فِي الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فِي الْفَرْجِ أَوْ فِي الدُّبُرِ، ثُمَّ أَبَاحَ الْإِتْيَانَ فِي الْفَرْجِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَالتَّطَهُّرِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَرْأَةِ لِأَجْلِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي لَفْظِ الْآيَةِ، فَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَعَ عَنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَا شَرَعَهُ تَعَالَى، وَأَثْنَى عَلَى مَنِ امْتَثَلَتْ أَمْرَهُ تَعَالَى فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ عَامَّتَيْنِ، اسْتَدْرَجَ الْأَزْوَاجَ وَالزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ

(1) سورة الأعراف: 7/ 82.

ص: 426

أَيِ: الرَّاجِعِينَ إِلَى مَا شَرَعَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ ذَلِكَ فَكَانَ خَتْمُ الْآيَةِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ مَنِ انْدَرَجَ فِيهِ الْأَزْوَاجُ وَالزَّوْجَاتُ. وَذَكَرَ الْفِعْلَ لِيَدُلَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّطَهُّرِ، وَأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ مَحَبَّةً مِنَ اللَّهِ يَخُصُّ ذَلِكَ الْوَصْفَ، أَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ.

وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ بِقَوْلِهِ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1»

وَسَأَلَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: كُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الِاسْتِجْمَارِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ،

أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.

وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: الْمُطَّهِّرِينَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، إِذْ أَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرِينَ.

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ كَرَاهَةُ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بمكة، يَتَلَذَّذُونَ بِالنِّسَاءِ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ، رَوَى مَعْنَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ،

وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلَكْتُ! فَقَالَ: «وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِيَ اللَّيْلَةَ، فَنَزَلَتْ.

وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَكَانَ الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي تَسْوِيغَ إِتْيَانِهِنَّ عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِ الْإِتْيَانِ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ نَصَّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى سَائِرِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَبَيَّنَ أَيْضًا الْمَحَلَّ بِجَعْلِهِ حَرْثًا وَهُوَ: الْقُبُلُ، وَالْحَرْثُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ: شَقُّ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ، ثُمَّ سُمِّيَ الزرع حرثاصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ

«2» وَسُمِّيَ الْكَسْبُ حَرْثًا، قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا أَكَلَ الْجَرَادُ حُرُوثَ قَوْمٍ

فَحَرْثِي هَمُّهُ أَكْلُ الْجَرَادِ

قَالُوا: يُرِيدُ فَامْرَأَتِي، وَأَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى:

إِنَّمَا الْأَرْحَامُ أَرَضُو

نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ

فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا

وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتُ

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ بَيَانًا وَتَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَمْنُوعُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ وَقْتَ الْحَيْضِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصِيلَ هُوَ طلب النسل:

(1) سورة التوبة: 9/ 108.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 117.

ص: 427

«تَنَاكَحُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

، لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَقَطْ، فَأْتُوا النِّسَاءَ مِنَ الْمَسْلَكِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وهو القبل.

ونساؤكم: مبتدأ، وحرث لَكُمْ: خَبَرٌ، إِمَّا عَلَى حَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ: كَحَرْثٍ لَكُمْ وَيَكُونُ نِسَاؤُكُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَطْءُ نِسَائِكُمْ كَالْحَرْثِ لَكُمْ، شَبَّهَ الْجِمَاعَ بِالْحَرْثِ، إِذِ النُّطْفَةُ كَالْبَذْرِ، وَالرَّحِمُ كَالْأَرْضِ، وَالْوَلَدُ كَالنَّبَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مضاف أي:

مَوْضِعُ حَرْثٍ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ فِي النِّكَاحِ مِنْ بَدِيعِ كِنَايَاتِ الْقُرْآنِ، قَالُوا: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْكُلُ الطَّعامَ «1» وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها «2» عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالنِّسَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: حَرْثٌ لَكُمْ، بِمَعْنَى: مَحْرُوثَةٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ، وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ. وَفِي لَفْظَةِ: حَرْثٌ لَكُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْقُبُلُ لَا الدُّبُرُ؟ قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ مُزْدَرَعٌ لَكُمْ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى النهي عن امتناع وطئ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْمُزْدَرَعَ إِذَا تُرِكَ ضَاعَ.

وَدَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْوَطْءِ لِطَلَبِ النَّسْلِ وَالْوَلَدِ، لَا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، فَقَالَ: الْحَرْثُ إِلْقَاءُ الْبَذْرِ وَتَهْيِئَةُ الْأَرْضِ، وَالزَّرْعُ مُرَاعَاتُهُ وَإِنْبَاتُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «3» أَثْبَتَ لَهُمُ الْحَرْثَ وَنَفَى عَنْهُمُ الزَّرْعَ.

فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ الْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، وَجَاءَ: حَرْثٌ لَكُمْ، نَكِرَةً لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ الْمَجْهُولُ، فَأَفَادَتْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْمُبْتَدَإِ جَوَازَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ شَرْعًا، وَجَاءَ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، مَعْرِفَةً لِأَنَّ فِي الْإِضَافَةِ حَوَالَةً عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ، وَاخْتِصَاصًا بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ مَمْلُوكٌ لَكَ فَأَحْسِنْ إِلَى مَمْلُوكِكَ.

وَإِذَا تَقَدَّمَتْ نَكِرَةٌ، وَأَعَدْتَ اللَّفْظَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً: إِمَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَقَوْلِهِ: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «4» وَإِمَّا بِالْإِضَافَةِ كَهَذَا.

وَأَنَّى: بِمَعْنَى: كَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَزْلِ، وَتَرْكِ الْعَزْلِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، فَتَكُونُ الْكَيْفِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، أَوْ بِمَعْنَى كَيْفَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَحْوَالِ الْمَرْأَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ، فَتَكُونُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْوَطْءِ لِلْمَرْأَةِ. فِي أَيِّ حَالٍ شَاءَهَا الْوَاطِئُ مقبلة ومدبرة،

(1) سورة الفرقان: 25/ 7.

(2)

سورة الأحزاب: 33/ 27.

(3)

سورة الواقعة: 56/ 63 و 64.

(4)

سورة المزمل: 73/ 16.

ص: 428

عَلَى أَيِّ شِقٍّ، وَقَائِمَةً وَمُضْطَجِعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ فِي مَكَانِ الْحَرْثِ، أَوْ: بِمَعْنَى مَتَى؟ قَالَهُ الضَّحَّاكُ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَرَدْتُمْ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّى، بِمَعْنَى أَيْ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شِئْتُمْ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تَخْيِيرًا فِي الْخِلَالِ وَالْهَيْئَةِ، أَيْ: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ذَلِكَ لَا يُبَالَى بِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ» .

وَالصِّمَامُ رَأَسُ الْقَارُورَةِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَنَّى، بِمَعْنَى: أَيْنَ؟ فَجَعَلَهَا مَكَانًا، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَالِكٌ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي الْعُتَبِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ تَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إِنْكَارُ ذَلِكَ، وَسُئِلَ فَقِيلَ: يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُبِيحُ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وَأَنَّى يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْبَذْرِ؟ وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ،

وَنُقِلَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ: نَافِعٍ، وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ

، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُرْتَضَى مِنْ أَئِمَّةِ الشِّيعَةِ، وَذُكِرَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لهذا المذهب وما ورد بِهِ، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ، إِذْ كِتَابُنَا هَذَا لَيْسَ مَوْضُوعًا لِذِكْرِ دَلَائِلِ الْفِقْهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ.

وَقَدْ رَوَى تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِطُرُقِهَا فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ (تَحْرِيمُ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ) .

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُعَرِّجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ، وَقَالَ أَيْضًا: أَنَّى شِئْتُمْ، مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ: صَحَابَةٍ، وَتَابِعِينَ، وَأَئِمَّةٍ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُمْ، مَعْنَاهُ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً عَلَى جنب، وأنّى: إِنَّمَا يَجِيءُ سُؤَالًا وَإِخْبَارًا عَلَى أَمْرٍ لَهُ جِهَاتٌ، فَهِيَ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ: كَيْفَ، وَمِنْ: أَيْنَ، وَمِنْ: مَتَى. هَذَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ.

وَقَدْ فَسَّرَ النَّاسُ أَنَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَفَسَّرَهَا سِيبَوَيْهِ بِكَيْفَ، وَمِنْ أَيْنَ بِاجْتِمَاعِهِمَا؟ وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَنَّى، لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ تَأْتِي: أَنَّى، بِمَعْنَى: مَتَى، وَبِمَعْنَى:

أَيْنَ، وَتَكُونُ اسْتِفْهَامًا وَشَرْطًا، وَجَعَلُوهَا فِي الشَّرْطِيَّةِ ظَرْفَ مَكَانٍ فَقَطْ.

ص: 429

وَإِذَا كَانَ غَالِبُ مَدْلُولِهَا فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا لِلْأَحْوَالِ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ مَوَاضِعِ الْإِتْيَانِ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى: أَيْنَ وَقَالَ. الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَوْلُهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تَمْثِيلٌ، أَيْ فَأْتُوهُنَّ كَمَا تَأْتُونَ أَرَاضِيكُمُ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تَحْرُثُوهَا، مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ، لَا تُحْظَرُ عَلَيْكُمْ جِهَةٌ دُونِ جِهَةِ، وَالْمَعْنَى: جَامِعُوهُنَّ مِنْ أَيِّ شِقٍّ أَرَدْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْتَى وَاحِدًا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ.

وَقَوْلُهُ: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مِنَ الْكِنَايَاتِ اللَّطِيفَةِ، وَالتَّعَرُّضَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، فَهَذِهِ وَأَشْبَاهُهَا فِي كَلَامِ لله تَعَالَى آدَابٌ حَسَنَةٌ، عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَتَأَدَّبُوا بِهَا، وَيَتَكَلَّفُوا مِثْلَهَا فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ وَمُكَاتَبَاتِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ.

قَالُوا وَالْعَامِلُ فِي: أَنَّى فَأْتُوا، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَكُونُ اسْتِفْهَامًا أَوْ شَرْطًا، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ هُنَا شَرْطًا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَكُونُ ظَرْفَ مَكَانٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبِيحًا لِإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِيَّةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ الشَّرْطِيِّ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَعْمُولٌ لَهُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامًا اكْتَفَتْ بِمَا بَعْدَهَا مِنْ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ «1» ومن اسْمٍ كَقَوْلِهِ: أَنَّى لَكِ هَذَا «2» وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَا يَظْهَرُ افْتِقَارُهَا وَتَعَلُّقُهَا بِمَا قَبْلَهَا.

وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ بَعْدَهَا، فَتَبَيَّنَ عَلَى وَجْهَيْ: أَنَّى، أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَعْمُولَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَنَظَرٍ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهَا تَكُونُ شَرْطًا لِافْتِقَارِهَا إِلَى جُمْلَةٍ غَيْرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَتَكُونُ قَدْ جُعِلَتْ فِيهَا الْأَحْوَالُ. كَجَعْلِ الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ، وَأُجْرِيَتْ مَجْرَاهَا تَشْبِيهًا لِلْحَالِ بِالظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ، وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ: كَيْفَ، خَرَجَ بِهِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَكُونُ أكون، وقال تعالى:

(1) سورة آل عمران: 3/ 47. [.....]

(2)

سورة آل عمران: 3/ 37.

ص: 430

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «1» فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هُنَا اسْتِفْهَامًا، وَإِنَّمَا لُحِظَ فِيهَا مَعْنَى بالشرط وَارْتِبَاطِ الْجُمْلَةِ بِالْأُخْرَى وَجَوَابُ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّى شِئْتُمْ فَأْتُوهُ، وَكَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ، كَمَا حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِكَ: اضْرِبْ زيدا أنى لقتيه، التقدير أنى لقتيه فَاضْرِبْهُ.

فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَخْرَجْتَ: أَنَّى، عَنِ الظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَبْقَيْتَهَا لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ:

كَيْفَ، وَجَعَلْتَهَا مُقْتَضِيَةً لِجُمْلَةٍ أُخْرَى كَجُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهَلِ الْفِعْلُ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ:

شِئْتُمْ، فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا؟ أَمْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَهُوَ بَعْدَ: كَيْفَ، فِي قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَصْنَعُ أَصْنَعُ؟.

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنْ يُرَجَّحُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ الْجَزْمُ بِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا صَرِيحًا، غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ تَشْبِيهُ الْأَحْوَالِ بِالظُّرُوفِ، وَبَيْنَهُمَا عِلَاقَةٌ وَاضِحَةٌ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنَى: فِي، بِخِلَافِ: كَيْفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهَا الْجَزْمُ وَمَنْ أَجَازَ الْجَزْمَ بِهَا، فَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الْعَرَبِ الرَّفْعُ فِي الْفِعْلِ بَعْدَهَا، حَيْثُ يَقْتَضِي جُمْلَةً أُخْرَى.

وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَفْعُولُ قَدِّمُوا مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبَانِ، أَوْ: طَلَبِ الْوَلَدِ وَالْإِفْرَاطِ شُفَعَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ: الْخَيْرَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: قَدَمَ صِدْقٍ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ: الْأَجْرَ فِي تَجَنُّبِ مَا نُهِيتُمْ وَامْتِثَالِ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ: ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى الْجِمَاعِ، كَمَا

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ» .

أو التسمية على الوطئ، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ: مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ: مَنْ قَبْلَهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ طَاعَةَ اللَّهِ، وَامْتِثَالَهُ مَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «2» وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيِ: اتَّقَوُا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَلِأَنَّ الْعَظِيمَ الَّذِي تَقَدَّمَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَدَّمَ مَعَكَ مَا تَقْدَمُ بِهِ عَلَيْهِ مِمَّا لَا تُفْتَضَحُ بِهِ عِنْدَهُ، وهو العمل الصالح.

(1) سورة المائدة: 5/ 64.

(2)

سورة البقرة: 2/ 110.

ص: 431

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي: مُلَاقُوهُ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مُلَاقُو جَزَائِهِ عَلَى أَفْعَالِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي لِقَوْلِهِ: وَقَدِّمُوا، أَيْ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُو مَا قَدَّمْتُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْضًا، أَيْ: مُلَاقُو جَزَائِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَعْمُولُ قَدَّمُوا الْمَحْذُوفُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمَعَادَ، سَوَاءً عَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى مَعْمُولِ قَدِّمُوا، أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ.

وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وَصْفِ الَّذِي بِهِ يُتَّقَى اللَّهُ وَيُقَدِّمُ الْخَيْرَ، وَيَسْتَحِقُّ التَّبْشِيرَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ. وَفِي أَمْرِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّبْشِيرِ تَأْنِيسٌ عَظِيمٌ وَوَعْدٌ كَرِيمٌ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَلَمْ يَأْتِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، بَلْ أَتَى بِالظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى الْوَصْفِ، وَلِكَوْنِهِ مَعَ ذَلِكَ فَصْلَ آيَةٍ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُخْبِرَ مَنْ سَأَلَهُ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَمَلَا عَلَى إِثْمٍ كَبِيرٍ، فَكَانَ هَذَا الْإِخْبَارُ مَدْعَاةً لِتَرْكِهِمَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَاللَّعِبِ بِالْمَيْسِرِ إِثْمٌ، وَمَا اكْتَفَى بِمُطْلَقِ الْإِثْمِ حَتَّى وَصَفَهُ بِالْكِبَرِ فِي قِرَاءَةٍ، وَبِالْكَثْرَةِ فِي قِرَاءَةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ «1» إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً «2» فَحَيْثُ وَصَفَ الْإِثْمَ بِالْكَبِيرِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْآثَامِ وَأَوْغَلِهَا فِي التَّحْرِيمِ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّ فِيهِمَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، مِنْ: أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ، وَبِالْقَمْرِ فِي الْمَيْسِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءِ حُرِّمَ إِلَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِوَجْهٍ مَا، خُصُوصًا مَا كَانَ الطَّبْعُ مَائِلًا إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الشَّخْصُ نَاشِئًا عَلَيْهِ بِالطَّبْعِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ضَرَرَ الْإِثْمِ الَّذِي هُوَ جَالِبٌ إِلَى النَّارِ، أَعْظَمُ مِنَ النَّفْعِ الْمُنْقَضِي بِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ، لِيُرْشِدَ الْعَاقِلَ إِلَى تَجَنُّبِ مَا عَذَابُهُ دَائِمٌ وَنَفْعُهُ زَائِلٌ.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنْ يُنْفِقُوا مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ إنفاقه، ويشير مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْآيَاتِ بَيَانًا مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَمَا يُنْفِقُونَ. ثُمَّ ذكر أنه بهذا

(1) سورة الشورى: 42/ 37 والنجم: 53/ 32.

(2)

سورة النساء: 4/ 31.

(3)

سورة الحج: 22/ 78.

ص: 432

الْبَيَانِ يَحْصُلُ الرَّجَاءُ فِي تَفَكُّرِ حَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا فَكَّرَ فِيهِمَا يُرَجِّحُ بِالْفِكْرِ إِيثَارَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا.

ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ أَمْرِ الْيَتَامَى، وَمَا كُلِّفُوا فِي شَأْنِهِمْ، إِذْ كَانَ الْيَتَامَى لَا يَنْهَضُونَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِصِغَرِهِمْ وَنَقْصِ عُقُولِهِمْ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ إِصْلَاحَهُمْ خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِهِمْ لِلْمُصْلِحِ بِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَلِلْمُصْلِحِ بِتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَنْمِيَةِ مَالِهِ:

«أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» .

ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مُخَالَطَتِهِمْ مَطْلُوبَةٌ لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَالْأُخُوَّةُ مُوجِبَةٌ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الْأَخِ. وَأَبْرَزَ الطَّلَبَ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَأَتَى الْجَوَابُ بِمَا يَقْتَضِي الْخِلْطَةَ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ إِخْوَانَكُمْ.

وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ لِلْيَتَامَى، ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، لِيُحَذِّرَ مِنَ الْفَسَادِ وَيَدْعُوَ إِلَى الصَّلَاحِ، وَمَعْنَى عِلْمُهُ هُنَا أَنَّهُ مُجَازٍ من أفسد، و: من أَصْلَحَ، بِمَا يُنَاسِبُ فِعْلَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكَالِيفَ السَّابِقَةَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَتَكْلِيفِ الصَّدَقَةِ، بِأَنْ تَكُونَ عَفْوًا، وَتَكْلِيفِ إِصْلَاحِ الْيَتِيمِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا إِعْنَاتٌ.

ثُمَّ خَتَمَ هَذَا بِأَنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ، وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْأَكْلُ بِهِ، وَالْقَمْرُ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَكْلُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَاذِّ، اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ تَحْرِيمِ نَوْعٍ مِنْهُ، وَهُوَ نِكَاحُ مَنْ قَامَ بِهِ الْوَصْفُ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ الْإِشْرَاكُ الْمُوجِبُ لِلتَّنَافُرِ وَالتَّبَاعُدِ. وَالنِّكَاحُ مُوجِبٌ لِلْخِلْطَةِ وَالْمَوَدَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «1» ولا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «2» لَا يتراآى دَارَاهُمَا، فَنَهَى فِيهِنَّ عَنْ نكاح من قام به الْوَصْفُ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ كَانَ رَقِيقًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ كَانَ يُعْجِبُ فِي حُسْنٍ أَوْ مَالٍ أَوْ رِئَاسَةٍ وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرْكِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ دَاعٍ إِلَى النَّارِ، وَجُرَّ مِمَّنْ كَانَ مُعَاشِرَ شَخْصٍ وَمُخَالِطَهُ وَمُلَابِسَهُ، حَتَّى فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ دَاعٍ إِلَى التَّآلُفِ مِنْ كُلِّ مُعَاشَرَةٍ

(1) سورة الروم: 30/ 21.

(2)

سورة المجادلة: 58/ 22.

ص: 433

أَنْ يُجِيبَهُ إِذَا دَعَاهُ لِمَا هُوَ مِنْ هَوَاهُ، وهم كانوا قريبين عَهْدٍ بِالْإِيمَانِ وَحَدِيثِهِ، فَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِلتَّطَرُّقِ إِلَى النَّارِ.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَهُوَ النَّاظِرُ بِالْمَصْلَحَةِ لَكُمْ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ وَإِبَاحَةِ مَا أَبَاحَ، وَهُوَ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ وَيُوَضِّحُهَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ مَعَهَا لَبْسٌ، وَذَلِكَ لِرَجَاءِ تَذَكُّرِكُمْ وَاتِّعَاظِكُمْ بِالْآيَاتِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ نكاح من قام به وَصْفُ الْإِشْرَاكِ، ذَكَرَ تَحْرِيمَ وَطْءِ مَنْ قَامَ بِهِ فِي الْحَيْضِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِالطُّهْرِ كَمَا غَيَّا مَا قَبْلَهُ بِالْإِيمَانِ، ثم أباح إذا تطهرن لَنَا الْوَطْءَ لَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ مَشْغُولًا بِالْحَيْضِ، وَأَمَرَنَا بِاجْتِنَابِ وَطْئِهِ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَزِيَّةِ التَّائِبِ وَالْمُتَطَهِّرِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى يُحِبُّهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى كَرَّرَ ذَلِكَ فِي جُمْلَتَيْنِ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَصْفٍ بِمَحَبَّةٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِبَاحَةَ الْوَطْءِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي ارْتَفَعَ عَنْهَا الْحَيْضُ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَشَاؤُهَا الزَّوْجُ وَيَخْتَارُهَا، مِنْ كَوْنِهَا مُقْبِلَةً أَوْ مُدْبِرَةً، أَوْ مُجَنِّبَةً أَوْ مُضْطَجِعَةً، وَمِنْ أَيِّ شِقٍّ شَاءَ، لِمَا فِي التَّنَقُّلِ مِنْ مَزِيدِ الِالْتِذَاذِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالنَّظَرِ إِلَى سائر بدنها، والهيآت الْمُحَرِّكَةِ لِلْبَاهِ.

وَنَبَّهَ بِالْحَرْثِ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ النَّسْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النَّسْلِ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ مُنِعُوا مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَحَلُّ الْوَطْءِ مِنَ الْأَذَى بِدَمِ الْحَيْضِ، فَلَأَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ أَذًى أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَمَّا كَانَ قُدِّمَ نَهْيٌ وَأَمْرٌ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَفِي هَذَا، خُتِمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ مَا قَدَّمَهُ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أمر بتقوى الله تعالى، وَأُمِرَ بِأَنْ يَعْلَمَ وَيُوقِنَ الْيَقِينَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّا مُلَاقُو اللَّهِ، فَيُجَازِينَا عَلَى أَعْمَالِنَا، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَى عَنْهُ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّحْذِيرِ عَنْ مُعَاطَاةِ الْعِصْيَانِ، وَاخْتِتَامِهَا بِالتَّبْشِيرِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ آيَاتٍ تَعْجَزُ عَنْ وَصْفِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْبَدَائِعُ الْأَلْسُنُ، وَيُذْعِنُ لِفَصَاحَتِهَا الْجِهْبِذُ اللَّسِنُ، جَمَعَتْ بَيْنَ بَرَاعَةِ اللَّفْظِ وَنَصَاعَةِ الْمَعْنَى، وَتَعَلُّقِ الْجُمَلِ وَتَأَنُّقِ الْمَبْنَى، مِنْ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَتَحْذِيرٍ مِنْ عِقَابٍ، وَتَرْغِيبٍ فِي ثَوَابٍ، هَدَتْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتُلُقِّيَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.

ص: 434