المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٢

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 157]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 167]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 176]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 177 الى 182]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 188]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 189 الى 196]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 202]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 203 الى 212]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 213 الى 218]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 229]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 230]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 233]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 239]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 257]

- ‌[سُورَةُ البقرة (2) : الآيات 258 الى 260]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 266]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 274]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273]

وَالنَّارُ الَّتِي فِي الْإِعْصَارِ هِيَ السَّمُومُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السَّمُومُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهَا الْجَانَّ جُزْءٌ مِنْ سبعين جزأ مِنَ النَّارِ، يَعْنِي، نَارَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ فَسَّرَ أَنَّهَا هَلَكَتْ بِالصَّاعِقَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ. إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ، أَيْ: رِيحٌ فِيهَا صِرُّ بَرْدٍ.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ: مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ تُصْرَفُ الْأَمْثَالُ الْمُقَرِّبَةُ الْأَشْيَاءِ لِلذِّهْنِ، يُبَيِّنُ لَكُمُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُوَصَّلُ بِهَا إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ.

لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي: تعملون أَفْكَارَكُمْ فِيمَا يَفْنَى وَيَضْمَحِلُّ مِنَ الدُّنْيَا، وَفِيمَا هُوَ بَاقٍ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَتَزْهَدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْغَبُونَ فِي الْآخِرَةِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ وَصُنُوفِ الْبَلَاغَةِ أَنْوَاعًا: مِنَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ، وَمِنَ التَّشْبِيهِ، وَمِنَ الْحَذْفِ، وَمِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ، وَمِنَ الْمَجَازِ. وَكُلُّ هَذَا قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ غُضُونُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

ص: 674

التميم: الْقَصْدُ يُقَالُ أَمَّ كَرَدَّ. وَأُمَمٌ كَأُخَرَ، وَتَيَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَتَأَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنًى وَقَالَ الْخَلِيلُ أَمَمْتُهُ قَصَدْتُ أَمَامَهُ، وَيَمَّمْتُهُ قَصَدْتُهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ.

الْخَبِيثَ: الرَّدِيءَ وَهُوَ ضِدُّ الطَّيِّبِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خَبُثَ.

الْإِغْمَاضُ: التَّسَاهُلُ يُقَالُ: أَغْمَضَ فِي حَقِّهِ تَسَاهَلَ فِيهِ وَرَضِيَ بِهِ، وَالْإِغْمَاضُ تَغْمِيضُ الْعَيْنِ، وَهُوَ كَالْإِغْضَاءِ. وَأَغْمَضَ الرَّجُلُ أَتَى غَامِضًا مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ: أَعْمَنَ وَأَعْرَقَ وَأَنْجَدَ، أَيْ: أَتَى عُمَانَ وَالْعِرَاقَ وَنَجْدًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْغُمُوضِ وَهُوَ:

الْخَفَاءُ، غَمَضَ الشَّيْءُ يَغْمُضُ غُمُوضًا: خَفِيَ، وَإِطْبَاقُ الْجَفْنِ إِخْفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْغَمْضُ الْمُتَطَامِنُ الْخَفِيُّ مِنَ الْأَرْضِ.

الْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَلَا يَنْقَاسُ، وَتَقَدَّمَتْ أَقْسَامُ فَعِيلٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَفْسِيرُ الْحَمْدِ فِي أَوَّلِ سُورَتِهِ.

النَّذْرُ: تَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «1» وَهُوَ عَقْدُ الْإِنْسَانِ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَالْتِزَامِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ. نَذَرَ يَنْذِرُ وَيَنْذُرُ، بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا، وَكَانَتِ النُّذُورُ مِنْ سِيرَةِ الْعَرَبِ يُكْثِرُونَ مِنْهَا فِيمَا يَرْجُونَ وُقُوعَهُ، وَكَانُوا أَيْضًا يَنْذُرُونَ قَتْلَ أَعْدَائِهِمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

الشَّاتِمِي عِرْضِي، وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا

وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَقِيتُهُمَا دَمِي

وَأَمَّا عَلَى مَا يَنْطَلِقُ شَرْعًا فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

نِعِمَّ: أَصْلُهَا نِعْمَ، وَهِيَ مُقَابِلَةُ بِئْسَ، وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: بِئْسَ، فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «2» .

التَّعَفُّفُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْعِفَّةِ، عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا. أَيْ: كَفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:

(1) سورة البقرة: 2/ 6. [.....]

(2)

سورة البقرة: 2/ 90.

ص: 675

فَعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الْغَسَقِ

وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعِشْقِ

السِّيمَا: الْعَلَامَةُ، وَيُمَدُّ وَيُقَالُ: بِالسِّيمْيَاءِ، كَالْكِيمْيَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا

لَهُ سِيمْيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ

وَهُوَ مِنَ الْوَسْمِ، والسمة العلامة، جعلت فأوه مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، وَإِذَا مُدَّ:

سِيمْيَاءُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ.

الْإِلْحَافُ: الْإِلْحَاحُ وَاللَّجَاجُ فِي السُّؤَالِ، وَيُقَالُ: أَلْحَفَ وَأَحْفَى، وَاشْتِقَاقُ:

الْإِلْحَافِ، مِنَ اللِّحَافِ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: مِنْ: أَلْحَفَ الشَّيْءُ إِذَا غَطَّاهُ وَعَمَّهُ بِالتَّغْطِيَةِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:

يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ

وَيُلْحِفْهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا

يَصِفُ ذَكَرَ النَّعَامِ يَحْضُنَّ بَيْضًا بِجَنَاحَيْهِ، وَيَجْعَلُ جَنَاحَهُ كَاللِّحَافِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

ثُمَّ رَاحُوا عَبِقَ الْمِسْكُ بِهِمْ

يُلْحِفُونَ الْأَرْضَ هُدَّابَ الْأُزُرْ

أَيْ: يَجْعَلُونَهَا كَاللِّحَافِ لِلْأَرْضِ، أَيْ يُلْبِسُونَهَا إِيَّاهَا. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ لَحَفَ الْجَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُشُونَةِ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: لَحَّفَنِي مِنْ فَضْلِ لِحَافِهِ، أَيْ: أَعْطَانِي مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ تضافرت النُّصُوصُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ كَانُوا يَأْتُونَ بِالْأَقْنَاءِ مِنَ التَّمْرِ فَيُعَلِّقُونَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِيَأْكُلَ مِنْهَا الْمَحَاوِيجُ، فَجَاءَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِحَشَفٍ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: بِشِيصٍ، وَفِي بَعْضِهَا: بِرَدِيءٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَنَزَلَتْ. وَهَذَا الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

قَالَ عَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ

، وَأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالْقَلِيلِ فَلَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِنَازِلٍ فِي الْقَدْرِ، وَدِرْهَمٌ زَائِفٌ خَيْرٌ مِنْ تَمْرَةٍ، فَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا لِلْوُجُوبِ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا فِي التَّطَوُّعِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ نَدَبُوا إِلَى أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إِلَّا بِجَيِّدٍ مُخْتَارٍ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فَضْلَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحَثَّ عَلَيْهَا،

ص: 676

وَقَبَّحَ الْمِنَّةَ وَنَهَى عَنْهَا، ثم دكر الْقَصْدَ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَابْتِغَاءِ رِضَا اللَّهِ، ذَكَرَ هُنَا وَصْفَ الْمُنْفِقِ مِنَ الْمُخْتَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ.

وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ: طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الرَّدِيءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ طيبات، أي: الحلال والخبيث الْحَرَامَ،

وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ

. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ مِنْ طَيِّباتِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِهِ لَا الْحِلُّ وَلَا الْجَيِّدُ، لَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفِقُوا مِمَّا كَسَبْتُمْ، فَهُوَ حَضٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَقَطْ، ثُمَّ دَخَلَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ تَبْيِينًا لِصِفَةِ حُسْنِهِ فِي الْمَكْسُوبِ عَامًّا، وَتَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ. كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمْتُ فُلَانًا مِنْ مَشْبَعِ الْخُبْزِ، وَسَقَيْتُهُ مِنْ مَرْوِيِّ الْمَاءِ، وَالطَّيِّبُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ يَعُمُّ الْجَوْدَةَ، وَالْحِلَّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَبِيثٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا كَسَبْتُمْ عُمُومُ كُلِّ مَا حَصَلَ بِكَسْبٍ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفِقِ، وَسِعَايَةٍ وَتَحْصِيلٍ بِتَعَبٍ بِبَدَنٍ، أَوْ بِمُقَاوَلَةٍ فِي تِجَارَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُلْكُ مِنْ حَادِثٍ أَوْ قَدِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ لِأَنَّهُ مَكْسُوبٌ لِلْمَوْرُوثِ عَنْهُ.

الضمير فِي: كَسَبْتُمْ، إِنَّمَا هُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَخْصِيصُ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْمَوْرُوثِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ أَضَنُّ بِهِ مِمَّا يَرِثُهُ، فَإِذْنُ الْمَوْرُوثِ مَعْقُولٌ مِنْ فَحْوَاهُ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ.

وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَ: مَا، فِي مَا كَسَبْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَيُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِالْمَفْعُولِ، تَقْدِيرُهُ: مِنْ طَيِّبَاتِ كَسْبِكُمْ، أَيْ: مَكْسُوبِكُمْ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الطَّيِّبَةِ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، مُفْتَقِرٌ إِلَى الْبَيَانِ بِذِكْرِ الْمَقَادِيرِ، فَيَصِحُّ الْاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الْحَقِّ فِيمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، نَحْوُ: أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَصَدَقَةِ الْخَيْلِ، وَزَكَاةِ مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْحُلِيِّ الْمُبَاحِ اللَّبْسِ غَيْرِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ الْمَعْلُوفَةِ، وَالدَّيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ.

ص: 677

وقال خويزمنداذ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوْلَادُكُمْ مِنْ طِيبِ أَكْسَابِكُمْ فَكُلُوا مَنْ مال أولادكم هنيأ»

انْتَهَى.

وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»

. وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَخْرَجْنَا لَكُمْ، امْتِنَانٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» وَالْمُرَادُ: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ حَرْفَ الْجَرِّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ إِشْعَارًا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ آخَرَ، حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مَرَّتَيْنِ.

وَفِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، إِذْ قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِمَّا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ هَذَا مُؤَكِّدٌ لِلْأَمْرِ، إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَفِي هَذَا طِبَاقٌ بِذِكْرِ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثِ.

وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ: وَلَا تَيَمَّمُوا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَصْلُهُ: تَتَيَمَّمُوا، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي التَّاءِ، وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ حَصَرْتُهَا فِي قصيدتي في القراآت المسماة (عقدة اللَّآلِئِ) وَذَلِكَ فِي أَبْيَاتٍ وَهِيَ:

تَوَلَّوْا بِأَنْفَالٍ وَهُودٍ هُمَا مَعًا

وَنُورٍ وَفِي الْمِحْنَةِ بِهِمْ قَدْ تَوَصَّلَا

تَنَزَّلُ فِي حِجْرٍ وَفِي الشُّعْرَا مَعًا

وَفِي الْقَدْرِ فِي الْأَحْزَابِ لَا أَنْ تَبَدَّلَا

تَبَرَّجْنَ مَعَ تَنَاصَرُونَ تَنَازَعُوا

تَكَلَّمُ مَعَ تَيَمَّمُوا قَبْلَهُنَّ لَا

تَلْقَفُ أَنَّى كَانَ مَعَ لِتَعَارَفُوا

وَصَاحِبَتَيْهَا فَتَفَرَّقَ حَصِّلَا

بِعِمْرَانَ لَا تَفَرَّقُوا بِالنِّسَاءِ أَتَى

تَوَفَّاهُمْ تَخَيَّرُونَ لَهُ انْجَلَا

تَلَهَّى تَلَقَّوْنَهُ تَلَظَّى تَرَبَّصُو

نَ زِدْ لَا تَعَارَفُوا تَمَيَّزُ تَكْمُلَا

ثَلَاثِينَ مَعَ إِحْدَى وَفِي اللَّاتَ خَلْفَهُ

تَمَنَّوْنَ مَعَ مَا بَعْدَ ظَلْتُمْ تَنَزَّلَا

وَفِي بَدْئِهِ خَفِّفْ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا

لَدَى الْوَصْلِ حَرْفُ الْمَدِّ مُدَّ وطوّلا

(1) سورة البقرة: 2/ 29.

ص: 678

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنِ الْبَزِّيِّ: تَخْفِيفُ التَّاءِ كَبَاقِي الْقُرَّاءِ، وَهَذِهِ التَّاءَاتُ مِنْهَا مَا قَبْلَهُ مُتَحَرِّكٌ، نَحْوَ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ «1» فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ «2» وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ سَاكِنٌ مِنْ حَرْفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ نَحْوَ: وَلا تَيَمَّمُوا وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ ساكن غير حرف مدّولين نَحْوُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا «3» نَارًا تَلَظَّى «4» إِذْ تَلَقَّوْنَهُ «5» هَلْ تَرَبَّصُونَ «6» قَالَ صَاحِبُ (الْمُمْتِعِ) : لَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ إِسْكَانَ هَذِهِ التَّاءِ فِي يَتَكَلَّمُونَ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهَا إِذَا سَكَنَتِ احْتِيجَ لَهَا أَلِفُ وَصْلٍ، وَأَلِفُ الْوَصْلِ لَا تَلْحَقُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ، فَإِذَا اتَّصَلَتْ بِمَا قَبْلَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَمْزَةِ وَصْلٍ. إِلَّا أَنَّ مِثْلَ إِنْ تَوَلَّوْا وإِذْ تَلَقَّوْنَهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَالٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَلَيْسَ السَّاكِنُ الأول حرف مدّولين. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ ثَابِتَةٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ مَحْصُورًا وَلَا مَقْصُورًا عَلَى مَا نَقَلَهُ وَقَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَلَا تَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَا تَأَمَّمُوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: تَيَمَّمُوا.

وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا تَأُمُّوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ صِفَتَانِ غَالِبَتَانِ لَا يُذْكَرُ مَعَهُمَا الْمَوْصُوفُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلِذَلِكَ جَاءَ:

وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ وَجَاءَ: وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ «7» وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «8»

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ»

. و: منه، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُنْفِقُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الْخَبِيثِ. وَ: تُنْفِقُونَ، حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: تَيَمَّمُوا، قِيلَ: وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ يَقَعُ بَعْدَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: الْخَبِيثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ خَبَرًا آخَرَ فِي وَصْفِ الْخَبِيثِ، فَقَالَ: تُنْفِقُونَ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا إِذَا أَغْمَضْتُمْ، أَيْ تَسَاهَلْتُمْ، كَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِتَابٌ لِلنَّاسِ وَتَقْرِيعٌ، وَفِيهِ تنبيه

(1) سورة الأنعام: 6/ 153.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 117 والشعراء: 26/ 45.

(3)

سورة آل عمران: 3/ 32. وهود: 11/ 57، والنور: 24/ 54.

(4)

سورة الليل: 92/ 14.

(5)

سورة النور: 24/ 15.

(6)

سورة التوبة: 59/ 52.

(7)

سورة النور: 24/ 26.

(8)

سورة الأعراف: 7/ 157.

ص: 679

عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقَصْدُ لِلرَّدِيءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي يَدِهِ، فَيَخُصُّهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِنْفَاقُ الرَّدِيءِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ لِمَنْ لَا يَقْصِدُهُ، فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.

وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ:

الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.

قَالَ الْبَرَاءُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فِي دُيُونِكُمْ وَحُقُوقِكُمْ عِنْدَ النَّاسِ، إِلَّا بِأَنْ تَسَاهَلُوا فِي ذَلِكَ، وَتَتْرُكُونَ مِنْ حُقُوقِكُمْ وَتَكْرَهُونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ، أَيْ: فَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ إِلَّا أَنْ يُهْضَمَ لَكُمْ مِنْ ثَمَنِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ.

وَقَالَ الْبَرَاءُ أَيْضًا: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ أُهْدِيَ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا، أَيْ: تَسْتَحُوا مِنَ الْمُهْدِي أَنْ تقبلوا من مَا لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِهِ، وَلَا قَدْرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِي الْحَرَامَ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِي مَكْرُوهِهِ.

وَالظَّاهِرُ عُمُومُ نَفِيِ الْأَخْذِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أُخِذَ الْخَبِيثُ، مِنْ أَخْذِ حَقٍّ، أَوْ هِبَةٍ.

وَالْهَاءُ فِي: بِآخِذِيهِ، عَائِدَةٌ عَلَى الْخَبِيثِ، وَهِيَ مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولَةً. قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ: وَالْهَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: بآخذين، وَالْهَاءُ وَالنُّونُ لَا يَجْتَمِعَانِ، لِأَنَّ النُّونَ زَائِدَةٌ، وَهَاءَ الضَّمِيرِ زَائِدَةٌ وَمُتَّصِلَةٌ كَاتِّصَالِ النُّونِ، فَهِيَ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ: أَنَّ التَّنْوِينَ وَالنُّونَ قَدْ تَسْقُطَانِ لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ لَا لِلْإِضَافَةِ، وَذَلِكَ فِي نَحْوِ: ضَارِبُكَ، فَالْكَافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ أَجَازَ هِشَامٌ:

ضَارَبَنْكَ، بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ الضَّمِيرِ، وَقِيَاسُهُ جَوَازُ إِثْبَاتِ النُّونِ مَعَ الضَّمِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ:

هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ وَقَوْلِهِ:

وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ مَوْضِعُ أَنْ نَصْبٌ أَوْ خَفْضٌ عِنْدَ مَنْ قَدَّرَهُ إِلَّا بِأَنْ تُغْمِضُوا، فُحِذَفَ الْحَرْفُ، إِذْ حَذْفُهُ جَائِزٌ مطرد، وقيل: نصب بتغمضوا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَالِ، وَقَدْ

ص: 680

قَدَّمْنَا قَبْلُ، أَنَّ سِيبَوَيْهِ لَا يُجِيزُ انْتِصَابَ أَنْ وَالْفِعْلِ مُقَدَّرًا بِالْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ أَغْمَضْتُمْ أَخَذْتُمْ، وَلَكِنْ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى أَنْ فَفَتَحَتْهَا، وَمِثْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا «1» وإِلَّا أَنْ يَعْفُونَ «2» هَذَا كُلُّهُ جَزَاءٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَغَيْرُهُ قَوْلَ الْفَرَّاءِ، وَقَالُوا: أَنْ، هَذِهِ لَمْ تَكُنْ مَكْسُورَةً قَطُّ، وَهِيَ الَّتِي تَتَقَدَّرُ، هِيَ وَمَا بَعْدَهَا، بِالْمَصْدَرِ، وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا بِإِغْمَاضِكُمْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُغْمِضُوا، مِنْ أَغْمَضَ، وَجَعَلُوهُ مِمَّا حُذِفَ مَفْعُولُهُ، أَيْ: تُغَمِّضُوا أبصاركم أو بصائركم، وجوزوا أن يكون لازما مثل: أغضى عن كذا، وقرأ الزهري تُغَمِّضُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الغين وكسر الميم مشدودة، ومعناه مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْهُ:

تَغْمِضُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ: غَمِضَ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي أَغْمَضَ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: تَغْمُضُوا، بِفَتْحِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَخْفَى عَلَيْكُمْ رَأْيُكُمْ فِيهِ.

وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: تُغَمَّضُوا مُشَدَّدَةَ الْمِيمِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ تُغْمَضُوا، بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، مُخَفَّفًا، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يُغْمَضَ لَكُمْ.

وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تُوجَدُوا قَدْ أَغَمَضْتُمْ فِي الْأَمْرِ بِتَأَوُّلِكُمْ أَوْ بِتَسَاهُلِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدَ الرَّجُلُ أُصِيبَ مَحْمُودًا، وَقِيلَ: مَعْنَى قِرَاءَةِ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِيهِ وَتُجْذَبُوا إِلَيْهِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ عَلَيْكُمْ، حَمِيدٌ أَيْ: مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَحْمِدُ إِلَى خَلْقِهِ، أَيْ: يُعْطِيهِمْ نِعَمًا يَسْتَدْعِي بِهَا حَمْدَهُمْ. وَقِيلَ:

مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ عَلَى مَا تَعَبَّدَكُمْ بِهِ.

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِالْفَقْرِ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ أَمْسِكْ! فَإِنْ تَصَدَّقْتَ افْتَقَرْتَ! وَرَوَى أَبُو حَيْوَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرِّبَاطِ أَنَّهُ قَرَأَ: الْفُقْرَ، بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ لغة.

وقرىء: الْفَقَرَ، بِفَتْحَتَيْنِ.

وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أَيْ: يُغْرِيكُمْ بِهَا إِغْرَاءَ الْآمِرِ، وَالْفَحْشَاءُ: الْبُخْلُ وَتَرْكُ الصَّدَقَةِ، أَوِ الْمَعَاصِي مُطْلَقًا، أَوِ الزِّنَا، أَقْوَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَحْشَاءُ: الْكَلِمَةُ السَّيِّئَةُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

(1) سورة البقرة: 2/ 229.

(2)

سورة البقرة: 2/ 237.

ص: 681

وَلَا يَنْطِقُ الْفَحْشَاءَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ

إِذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلَا مِنْ سِوَائِنَا

وَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ الْفَقْرَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيَأْمُرُهُ، إِذْ مَنَعَ، بِالرَّدِّ الْقَبِيحِ عَلَى السَّائِلِ، وَبَّخَهُ وَأَقْهَرَهُ بِالْكَلَامِ السَّيْءِ.

وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً مِنِ ابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَتَعَوَّذْ. وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَوَعْدٌ بِالْحَقِّ وَتَصْدِيقٌ بِالْخَيْرِ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ» . ثُمَّ قَرَأَ عليه السلام:

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ الْآيَةَ.

وَتَقَدَّمَ وَعْدُ الشَّيْطَانِ عَلَى أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ بِالْوَعْدِ يَحْصُلُ الِاطْمِئْنَانُ إِلَيْهِ، فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَخَافَ الْفَقْرَ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، إِذِ الْأَمْرُ اسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْمَأْمُورِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبَخِيلُ، وَقَالَ أَيْضًا: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَيُغْرِيكُمْ عَلَى الْبُخْلِ وَمَنْعِ الصَّدَقَاتِ، انْتَهَى. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كَالتَّوْكِيدِ لِلْأُولَى، وَنَظَرْنَا إِلَى مَا شَرَحَهُ الشُّرَّاحُ فِي الْفَاحِشِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

حَتَّى تَأْوَى إِلَى لَا فَاحِشٍ بَرَمٍ

وَلَا شَحِيحٍ إِذَا أَصْحَابُهُ غَنِمُوا

وَقَالَ الْآخَرُ:

أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي

عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ

فَقَالُوا: الْفَاحِشُ السَّيْءُ الْخُلُقِ، وَلَوْ كَانَ الْفَاحِشُ هُوَ الْبَخِيلَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَا شَحِيحَ، مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ. وَقَالَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَوَافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَبَا مُسْلِمٍ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشِ بِالْبَخِيلِ، وَالْفَحْشَاءِ بِالْبُخْلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ. وَأَنْشَدَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلَ طُرْفَةَ:

عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ قَالَ: وَالْأَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْتِ الَّذِي أُنْشِدُهُ أَنَّ الْفَاحِشَ السَّيْءُ الرَّدِّ لِضِيفَانِهِ، وَسُؤَالِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَجَدْنَا بَعْدَ ذَلِكَ شِعْرًا يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْفَحْشَاءَ الْبُخْلُ. وَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ طَيِّءٍ:

ص: 682

قَدْ أَخَذَ الْمُجِدُّ كَمَا أَرَادَا

لَيْسَ بِفَحَّاشٍ يُصِرُّ الزَّادَا

انْتَهَى. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْفَحَّاشِ الْبَخِيلَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى السَّيْءِ الْخُلُقِ، أَوِ السَّيْءِ الرَّدِّ، وَيَفْهَمُ الْبَخِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: يُصِرُّ الزَّادَا.

وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا أَيْ سَتْرًا لِذُنُوبِكُمْ مُكَافَأَةً لِلْبَذْلِ، وَفَضْلًا زِيَادَةٌ عَلَى مُقْتَضَى ثَوَابِ الْبَذْلِ. وَقِيلَ: وَفَضْلًا، أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْكُمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَنْفَقْتُمْ، أَوْ وَثَوَابًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَكَانَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ بِالْجَيِّدِ الَّذِي مُثِيرُهُ الشَّيْطَانُ، بدىء بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَإِنَّ مَا تَصَدَّقْتُمْ مِنَ الْخَبِيثِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ لِيُقَبِّحَ لَهُمْ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ شَيْءٍ عَنْهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي مُقَابَلَةِ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَعْدَ اللَّهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّتْرُ لِمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِي: الْفَضْلُ وَهُوَ زِيَادَةُ الرِّزْقِ وَالتَّوْسِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

رُوِيَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: عَبْدِي، أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي أَبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي، فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ عَلَى كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ

، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِصْدَاقُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ «1» .

وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ: وَاسْعٌ بِالْجُودِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِ مَنْ أَنْفَقَ، وَقِيلَ: عَلِيمٌ أَيْنَ يَضَعُ فَضْلَهُ، وَوَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالسَّمَاحَةِ وَذَمِّ الْبُخْلِ، مِنْهَا

حَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِنْفَاقَ وَيُبْغِضُ الْإِقْتَارَ فَكُلْ وَأَطْعِمْ وَلَا تُصْرِرْ، فَيَعْسُرُ عَلَيْكَ الطَّلَبُ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَأَيُّ دَاءٍ أَرْدَأُ مِنَ الْبُخْلِ»

. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قَرَأَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ بِالتَّاءِ فِي: تُؤْتِي، وَفِي: تَشَاءُ، عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَالْحِكْمَةُ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ فِي آخَرِينَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهُ وَمُؤَخَّرِهِ. وَقَالَ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ: النُّبُوَّةُ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ: الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ مجاهد فيما رواه عنه ليث: العلم والفقه وَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابن نجيح: الإصابة في القول والفعل،

(1) سورة سبإ: 34/ 39.

ص: 683

وقاله مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْخَشْيَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَبُوهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْعَقْلُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ شَرِيكٌ:

الْفَهْمُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، لَا يُسَمَّى حَكِيمًا حَتَّى يَجْمَعَهُمَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْكِتَابَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ:

وَقَالَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ، وَقَالَ أَيْضًا: طَاعَةُ اللَّهِ وَالْفِقْهُ وَالدِّينُ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَغْفِرَةُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْوَسْوَاسِ وَالْمَقَامِ. وَوُجِدَتْ فِي نُسْخَةٍ: وَالْإِلْهَامُ بَدَلُ الْمَقَامِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْكَ خَاطَرُ الْحَقِّ دُونَ شَهْوَتِكَ. وَقَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ مَعَ إِصَابَةِ الصَّوَابِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الرَّدُّ إِلَى الصَّوَابِ. وَقَالَ الْكَتَّانِيُّ: مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ إِشَارَةٌ بِلَا عِلَّةٍ، وَقِيلَ: إِشْهَادُ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَقِيلَ: صَلَاحُ الدِّينِ وَإِصْلَاحُ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ. وَقِيلَ: تَجْرِيدُ السِّرِّ لِوُرُودِ الْإِلْهَامِ. وَقِيلَ:

التَّفَكُّرُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَقِيلَ: مَجْمُوعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: فَهَذِهِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَقَالَةً لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِنَ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا، مَا عَدَا قَوْلَ السُّدِّيِّ، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ مَصْدَرٌ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ الْإِتْقَانُ فِي عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ حِكْمَةٌ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ حِكْمَةٌ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ الْجِنْسُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ «1» فَكَانَ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ تَفْسِيرِهَا هُنَا، إِلَّا أَنَّهُ ذُكِرَتْ هُنَا أَقَاوِيلُ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُفَسِّرُونَ هُنَاكَ، فَلِذَلِكَ فُسِّرَتْ هُنَا.

وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ ضَمِيرُ:

مَنْ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ: ليؤت. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: وَمَنْ يُؤْتِ، بِكَسْرِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ. انْتَهَى.

فَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَيْسَ فِي يُؤْتَ ضَمِيرُ نَصْبٍ حُذِفَ، بَلْ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقُولُ: أَيًّا تُعْطَ دِرْهَمًا أَعْطِهِ درهما.

(1) سورة البقرة: 2/ 129. [.....]

ص: 684

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَنْ يُؤْتِهُ الْحِكْمَةَ، بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الأول: ليؤت، وَالْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ضَمِيرٌ مَسْتَكِنٌ فِي: يُؤْتَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يُضْمِرْهَا لِكَوْنِهَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَلِلِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَخِصَالِهَا.

فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي الْمَصْحُوبُ: بِقَدْ، الْوَاقِعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ، مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى. كَهَذَا. فَهُوَ الْجَوَابُ حَقِيقَةً، وَقَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «1» فَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَاقِعٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُسْتَقْبَلٌ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مُسْتَقْبَلٌ، فَالْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ مَحْذُوفٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَتَسَلَّ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَحَالُكَ مَعَ قَوْمِكَ كَحَالِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ.

قال الزمخشري: وخيرا كَثِيرًا، تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَدْ أُوتِيَ أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ.

انْتَهَى.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَسْتَدْعِي أَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَنْكِيرَ تَعْظِيمٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَتَقْدِيرُهُ، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، إِنَّمَا هُوَ على أن يجعل خير صِفَةً لِخَيْرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ. وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَيٍّ، فَإِنَّمَا تُضَافُ لِلَفْظٍ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ، تَقُولُ: مررت برجل أي رجل كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

دَعَوْتُ امْرَأً، أَيَّ امْرِئٍ، فَأَجَابَنِي

وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلَاذًا وَمَوْئِلَا

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ؟ أَيْ: إِذَا كَانَتْ صِفَةً، فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَيِّ رَجُلٍ كَرِيمٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ يَحْتَاجُ جَوَابُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَأَيْضًا فَفِي تَقْدِيرِهِ: أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ أَيَّ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي نَدُورٍ، لَا تَقُولُ: رَأَيْتُ أَيَّ رَجُلٍ، تُرِيدُ رَجُلًا، أَيَّ رَجُلٍ إِلَّا فِي نَدُورٍ. نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا حَارَبَ الْحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ

عَلَاهُ بِسَيْفٍ كُلَّمَا هُزَّ يَقْطَعُ

يُرِيدُ: مُنَافِقًا، أَيَّ مُنَافِقٍ، وَأَيْضًا: فَفِي تَقْدِيرِهِ: خَيْرًا كَثِيرًا أيّ كَثِيرٍ، حَذَفَ أَيَّ الصِّفَةَ،

(1) سورة فاطر: 35/ 4.

ص: 685

وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهَا، وَقَدْ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ بِهِ، أَيْ: فَاجْتَمَعَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ بِهِ وَحَذْفُ الصِّفَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ.

وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. أَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ، وَ: أُولُو الْأَلْبَابِ، هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَفِي هَذَا حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَنَهَى عَنْهُ مِنَ التَّصَدُّقِ بِالْخَبِيثِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ، وَوُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعَقْلُ الْمُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَكَرَ التَّذَكُّرَ لِمَا قَدْ يَعْرِضُ لِلْعَاقِلِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُ مَا بِهِ صَلَاحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ.

وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ عَامٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَتَى بِالْمُمَيِّزِ فِي قوله: من نفقة، و: من نَذْرٍ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: أَوْ نَذَرْتُمْ، مِنْ نَذْرٍ، لِتَأْكِيدِ انْدِرَاجِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ النَّفَقَةُ بِالزَّكَاةِ لِعَطْفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ النَّذْرُ، وَالنَّذْرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُحَرَّمٍ وَهُوَ كُلُّ نَذْرٍ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَمُعْظَمُ نُذُورِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ عَلَى ذَلِكَ وَمُبَاحٍ مَشْرُوطٍ وَغَيْرِ مَشْرُوطٍ، وَكِلَاهُمَا مُفَسِّرٌ، نَحْوُ: إِنْ عُوفِيتُ مَنْ مَرِضِ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةُ دِينَارٍ، وَنَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. وغير مفسر، نحوه إِنْ عُوفِيتُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ أَوْ نَذْرٌ، وَأَحْكَامُ النَّذْرِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

قَالَ مُجَاهِدٌ مَعْنَى: يَعْلَمُهُ، يُحْصِيهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُجَازِي عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَحْفَظُهُ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.

وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدًا وَوَعِيدًا بِتَرْتِيبِ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى مَا أنفقوا أو نذروا، و: من نفقة، و: من نَذْرٍ، تَقَدَّمَ نَظَائِرُهَا فِي الْإِعْرَابِ فَلَا تُعَادُ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ نَذْرٍ، دَلَالَةٌ عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: نَذَرْتُمْ، تَقْدِيرُهُ: أَوْ مَا نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ، لِأَنَّ: مِنْ نَذْرٍ، تَفْسِيرٌ وَتَوْضِيحٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَحُذِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِدَلَالَةِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:

أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ

وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟

التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، فَحَذْفُهُ لِدَلَالَةِ: مَنْ، الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هذا الذي تقرر من حَذْفِ

ص: 686

الْمَوْصُولِ، فَجَاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ، وَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِأَوْ كَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ هُوَ أَحَدُهُمَا، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الْأَوَّلُ فِي الذِّكْرِ، نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الثَّانِي نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقَةٌ. وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ فَلَا، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّحْوِيُّونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «1» بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَعَلَى الْمَهْيَعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «2» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً

«3» كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمَّا عَزَبَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، جَعَلُوا إِفْرَادَ الضَّمِيرِ مِمَّا يَتَأَوَّلُ، فَحُكِيَ عَنِ النَّحَاسِ أَنَّهُ قَالَ: التَّقْدِيرُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. ثُمَّ حُذِفَ قَالَ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «4» وَقَوْلِهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «5» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا

عِنْدَكَ رَاضٍ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ، وَوَالِدِي

بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي

التَّقْدِيرُ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا رَاضُونَ، وَكُنْتُ مِنْهُ بَرِيئًا، وَوَالِدِي بَرِيئًا. انْتَهَى. فَأَجْرَى أَوْ مَجْرَى الْوَاوِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي يَعْلَمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ مَا ذَكَرَ أَوْ نَصَّ. انْتَهَى.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَثُرَ. انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ حُكْمِ: أَوْ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاوِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ لِتَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى الْحُكْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي: أَوْ.

وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَكُلُّ ظَالِمٍ لَا يَجِدُ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هُمُ الْمُنْفِقُونَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ، وَالْمُبَذِّرُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: المنفقو الحرام.

(1) سورة النساء: 4/ 135.

(2)

سورة الجمعة: 62/ 11.

(3)

سورة النساء: 4/ 112.

(4)

سورة التوبة: 9/ 34.

(5)

سورة البقرة: 2/ 45.

ص: 687

وَالْأَنْصَارُ: الْأَعْوَانُ جَمْعُ نَصِيرٍ، كَحَبِيبٍ وَأَحْبَابٍ، وَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. أَوْ: نَاصِرٍ، كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَجَاءَ جَمْعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ جَمْعٌ، كَمَا جَاءَ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ «1» وَالْمُفْرَدُ يُنَاسِبُ الْمُفْرَدَ نَحْوُ: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «2» لَا يُقَالُ: انْتِفَاءُ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ نَفْيِ النَّفْعِ وَالْإِغْنَاءِ، وَحُصُولِ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْجَمْعُ وَلَمْ يُغْنِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُجْدِيَ وَلَا يُغْنِيَ الْوَاحِدُ.

وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فَضْلَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الْجُنُوحِ إِلَى نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَذَكَّرَنَا بِوَعْدِ اللَّهِ الْجَامِعِ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدَيْنِ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ تَخَصَّصَ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي يُؤْتِيهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ النَّفَقَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَسْهُو، وَصَارَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى مَعْرِفَتِهَا.

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أَيْ: إِنْ تُظْهِرُوا إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ.

قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ:

وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الْآيَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ أَمْ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ؟

فَنَزَلَتْ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ

وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ يَأْمُرُ بِقِسْمِ الزَّكَاةِ فِي السر، والصدقات ظَاهِرُ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَطَوَّعَ بِهَا.

وَقِيلَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، فَتُصْرَفُ إِلَى الْمَفْرُوضَةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ الصَّدَقَاتِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا صَدَقَاتُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلِ الْأَفْضَلُ إِظْهَارُ الْمَفْرُوضَةِ أَمْ إِخْفَاؤُهَا؟ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَقَالَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ: إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ:

صَدَقَاتُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفَضُلُ عَلَانِيَتَهَا بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَصَدَقَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتُهَا أَفْضَلُ مِنْ سِرِّهَا بِخَمْسَةٍ وعشرين ضعفا.

(1) سورة آل عمران: 3/ 22 و 56 و 91 والنحل: 16/ 37، والروم: 30/ 29.

(2)

سورة البقرة: 2/ 120.

ص: 688

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كِلَاهُمَا إِخْفَاؤُهُ أَفْضَلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَالنَّاسُ مُسِيئُونَ الظَّنَّ فَإِظْهَارُهَا أَفْضَلُ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَلَا صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى صَدَقَةِ السِّرِّ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَنِعِمَّا هِيَ الفاء جواب الشرط، و: نعم، فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ، فَاحْتِيجَ فِي الْجَوَابِ إِلَى الْفَاءِ وَالْفَاعِلُ بِنِعِمْ مُضْمَرٌ مُفَسَّرٌ بِنَكِرَةٍ لَا تَكُونُ مُفْرَدَةً فِي الْوُجُودِ نَحْوُ: شَمْسٍ وقمر.

و: لا مُتَوَغِّلَةً فِي الْإِبْهَامِ نَحْوُ غَيْرِ. وَلَا أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ نَحْوُ أَفْضَلِ مِنْكَ، وَذَلِكَ نَحْوِ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَالْمُضْمَرُ مُفْرَدٌ وَإِنْ كَانَ تَمْيِيزُهُ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا، وَقَدْ أَعْرَبُوا: مَا، هُنَا تَمْيِيزًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ الَّذِي في نعم، وقدروه بشيئا. فما، نَكِرَةٌ تَامَّةٌ لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً وَلَا مَوْصُولَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: مَا، اللَّاحِقَةِ لِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ، أَعَنَى: نِعْمَ وَبِئْسَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا «1» وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَهِيَ: ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَنِعِمَّا إِبْدَاؤُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ يَعُودُ عَلَى الصَّدَقَاتِ بِقَيْدِ وَصْفِ الْإِبْدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي: فَنِعِمَّا هِيَ، فَنِعِمَّا الصَّدَقَاتُ الْمَبْدَاةُ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَجُمْلَةُ الْمَدْحِ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالرَّابِطُ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمُضْمَرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: نِعْمَ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَوَرْشٌ، وَحَفْصٌ: فَنِعِمَّا، بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ هُنَا وَفِي النِّسَاءِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُحَرِّكُ الْعَيْنَ، فَيَقُولُ: نِعِمْ، وَيُتْبِعُ حَرَكَةَ النُّونِ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَتَحْرِيكُ الْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ الْعَيْنَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَ: جِسْم مَّالِكٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَنَعِمَّا، فِيهِمَا بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ وَزْنَهُ عَلَى فَعِلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ كَسْرِ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ مَا وَأُدْغِمَتْ حُرِّكَتِ الْعَيْنُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَقَالُونُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمُ الْإِسْكَانُ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَشْهَرُ، وَوَجْهُ الْإِخْفَاءِ طَلَبُ الْخِفَّةِ، وَأَمَّا الْإِسْكَانُ فَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: الْإِسْكَانُ، فِيمَا

يُرْوَى، لُغَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا اللَّفْظِ، قَالَ لعمرو بن الْعَاصِ: «نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ للرجل

(1) سورة البقرة: 2/ 90.

ص: 689

الصَّالِحِ»

. وَأَنْكَرَ الْإِسْكَانُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَلِيٍّ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حدّه.

وقال أَبُو الْعَبَّاسِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَرُومُ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَيُحَرَّكُ وَلَا يَأْتِيهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَمْ تَضْبُطِ الرُّوَاةُ اللَّفْظَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَعَلَّ أَبَا عَمْرٍو أَخْفَى، فَظَنَّهُ السَّامِعُ إِسْكَانًا. وَقَدْ أَتَى عَنْ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ مَا أَنْكَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْإِسْكَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وفي بعض تاآت الْبَزِّيِّ، وَفِي: اسْطَاعُوا وَفِي: يَخِصِّمُونَ. انْتَهَى مَا لَخَّصَ مِنْ كَلَامِهِمْ.

وَإِنْكَارُ هَؤُلَاءِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَئِمَّةَ القراءة لم يقرأوا إِلَّا بِنَقْلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَتَى تَطَرَّقَ إِلَيْهِمُ الْغَلَطُ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا، تَطَرَّقَ إِلَيْهِمْ فِيمَا سِوَاهُ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ ونقوله: إن نقل القراآت السَّبْعِ مُتَوَاتِرٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِيهِ.

وَإِنْ تُخْفُوها الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: تُخْفُوهَا، عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، لَفْظًا وَمَعْنًى، بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَتِ الصَّدَقَاتُ، وَقِيلَ: الصَّدَقَاتُ الْمُبْدَاةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَالْمُخْفَاةُ هِيَ التَّطَوُّعُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى الصَّدَقَاتِ لَفْظًا لَا مَعْنًى، فَيَصِيرُ نَظِيرَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، كَذَلِكَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا، تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تُخْفُوا الصَّدَقَاتِ غَيْرَ الْأُولَى، وَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا احْتَجْنَا فِي: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، إِلَى أَنْ نَقُولَ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا لَا مَعْنًى لِاضْطِرَارِ الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ أَنَّ عِنْدَهُ دِرْهَمًا وَنِصْفَ هَذَا الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ

خَرِيقٍ وَهِيَ سَاكِنَةُ الْهُبُوبِ

يُرِيدُ: رِيحًا أُخْرَى سَاكِنَةَ الْهُبُوبِ.

وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَطَلُّبِ مَصَارِفِهَا وَتَحَقُّقِ ذَلِكَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ.

فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوها التَّقْدِيرُ: فَالْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: خَيْرٌ، هُنَا أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، وَ: لَكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.

ص: 690

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِبْدَاءُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِبْدَائِهَا.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَفْضَلُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فرضا أو نفلا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لِبُعْدِ الْمُتَصَدِّقِ فِيهَا عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَلَوْ لَمْ يُعْلِمِ الْفَقِيرَ بِنَفْسِهِ، وَأَخْفَى عَنْهُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَعْرِفَ، كَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ.

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا اصْطُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ.

وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلِهِ، وَتَصْغِيرِهِ فِي نَفْسِكَ، وَسَتْرِهِ. فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّيْتَهُ، وَإِذَا صَغَرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ:

يُخْفِي صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا

إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا

وَفِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ طِبَاقٌ لَفْظِيٌّ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْتِي الصَّدَقَاتِ إِلَّا الْأَغْنِيَاءُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَبْدُ الصَّدَقَاتِ الْأَغْنِيَاءُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ حَقٌّ لِلْفَقِيرِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أن يفرق الصدق بِنَفْسِهِ.

وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَ بِالْوَاوِ الْجُمْهُورُ فِي: وَيُكَفِّرُ، وَبِإِسْقَاطِهَا وَبِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ، وَبِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا، وَبِرَفْعِ الرَّاءِ وَجَزْمِهَا وَنَصْبِهَا، فَإِسْقَاطُ الْوَاوِ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَلٌ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنه في موضع جَزْمٍ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: يَكُنْ لَكُمُ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الْإِبْدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ: أَيْ وَيُكَفِّرُ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْفَاءَ وَبَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ الَمَهَدَوِيُّ بِالتَّاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: بِالتَّاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَرُوِيَ الْخَفْضُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالنُّونِ وَنَصْبِ الرَّاءِ فِيمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ.

فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَنُكَفِّرُ، بِالنُّونِ فَإِنَّهُ ضَمِيرٌ لِلَّهِ

ص: 691

تَعَالَى بِلَا شَكٍّ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ صَرْفِ الصَّدَقَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى الْإِخْفَاءِ أَيْ: وَيُكَفِّرُ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ وَنَسَبَ التَّكْفِيرَ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّكْفِيرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالضَّمِيرُ فِي الْفِعْلِ لِلصَّدَقَاتِ، وَمَنْ رَفَعَ الرَّاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَنَحْنُ نُكَفِّرُ، أَيْ: وَهُوَ يُكَفِّرُ، أَيِ: اللَّهُ. أَوِ الْإِخْفَاءُ أَيْ:

وَهِيَ تُكَفِّرُ أَيِ: الصَّدَقَةُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ، إِذْ لَوْ وَقَعَ مُضَارِعٌ بَعْدَهَا لَكَانَ مَرْفُوعًا، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «1» وَمَنْ جَزَمَ الرَّاءَ فَعَلَى مُرَاعَاةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ جَزَاءً، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ «2» .

وَنَذَرْهُمْ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ: وَنَذَرَهُمْ، وَمَنْ نَصَبَ الرَّاءَ فَبِإِضْمَارِ: أَنْ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَنَظِيرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «3» بِنَصْبِ الرَّاءِ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَا يَعْسُرُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُحَاسِبْكُمْ، فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ تَقَعُ مُحَاسَبَةٌ فَغُفْرَانٌ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ: وَإِنْ تُخْفُوهَا يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَنْ نُكَفِّرَ عَنْكُمْ. انْتَهَى.

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَأَنْ نُكَفِّرَ، يَكُونُ مُقَدَّرًا بِمَصْدَرٍ، وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى:

خَيْرًا، خَبَرُ يَكُنِ الَّتِي قَدَّرَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَكُنِ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا لَكُمْ وَتَكْفِيرًا، فَيَكُونُ: أَنْ يُكَفِّرَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.

وَالَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةَ مَعَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا هُوَ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مَرْفُوعٍ، تَقْدِيرُهُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ:

مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا، فَالتَّقْدِيرُ: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فحديث، وكذلك إن تجيء وَتُحْسِنْ إِلَيَّ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، التَّقْدِيرُ إِنْ يَكُنْ مِنْكَ مَجِيءٌ وَإِحْسَانٌ أُحْسِنُ إِلَيْكَ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بَعْدَ جَوَابِ الشَّرْطِ. كَالتَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ فِي: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «4» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، فيغفر،

(1) سورة المائدة: 5/ 95.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 186.

(3- 4) سورة البقرة: 2/ 284.

ص: 692

فعلى هذا يكون القدير: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ يَكُنْ زِيَادَةُ خَيْرٍ لِلْإِخْفَاءِ عَلَى خَيْرٍ لِلْإِبْدَاءِ وَتَكْفِيرٌ.

وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: فِي نَصْبِ الرَّاءِ: هُوَ مُشَبَّهٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، إِذِ الْجَزَاءُ يَجِبُ بِهِ الشَّيْءُ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ كَالِاسْتِفْهَامِ.

وَقَالَ ابن عطية: بالجزم فِي الرَّاءِ أَفْصَحُ هَذِهِ القراآت لِأَنَّهَا تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التَّكْفِيرِ فِي الْجَزَاءِ، وَكَوْنِهِ مَشْرُوطًا إِنْ وَقَعَ الْإِخْفَاءُ، وَأَمَّا رَفْعُ الرَّاءِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى.

وَنَقُولُ: إِنَّ الرَّفْعَ أَبْلَغُ وَأَعَمُّ، لِأَنَّ الْجَزْمَ يَكُونُ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشرط الثاني، والرفع يدل عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ مُتَرَتِّبٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى بَذْلِ الصَّدَقَاتِ، أَبْدَيْتَ أَوْ أَخْفَيْتَ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا التَّكْفِيرَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قبله، ولا يختص التَّكْفِيرُ بِالْإِخْفَاءِ فَقَطْ، وَالْجَزْمُ يُخَصِّصُهُ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي يُبْدِي الصَّدَقَاتِ لَا يُكَفِّرُ مِنْ سَيِّئَآتِهِ، فَقَدْ صَارَ التَّكْفِيرُ شَامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ مِنْ إِبْدَاءِ الصَّدَقَاتِ وَإِخْفَائِهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الإبداء.

وَ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ، لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُكَفِّرُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ.

وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ قَالَتْ: مِنْ، زَائِدَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا سَبَبِيَّةً وَقَدَّرَ: مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِكُمْ، ضَعِيفٌ.

وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خَتَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا لَطُفَ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَخَفِيَ، فَنَاسَبَ الرفع خَتْمَهَا بِالصِّفَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا خُفِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ اخْتَلَفَ النَّقْلُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَضْمُونُهَا أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ كَرِهَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُشْرِكِ، أَوْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، أَوِ امْتَنَعَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَأَلَهُ يَهُودِيٌّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَظَاهِرُ الْهُدَى أَنَّهُ مُقَابِلُ الضَّلَالِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ، أَيْ: خَلْقَ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَهُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا. وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ نَظِيرُ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «1» فَالْمَعْنَى: لَيْسَ

(1) سورة الشورى: 42/ 48.

ص: 693

عَلَيْكَ هُدَى مَنْ خَالَفَكَ حَتَّى تَمْنَعَهُ الصَّدَقَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، هُدَاهُمْ لَيْسَ إِلَيْكَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا الْهُدَى لَيْسَ مُقَابِلًا لِلضَّلَالِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ، فَقَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَهُمْ مَهْدِيِّينَ إِلَى الِانْتِهَاءِ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ وَغَيْرِهِ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَهُمُ النَّوَاهِيَ فَحَسْبُ، وَيُبْعِدُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قوله: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ هُدَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَلَطُفٌ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ، فَيَنْتَهِي عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ. انْتَهَى. فَلَمْ يَحْمِلِ الْهُدَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْإِيمَانِ الْمُقَابِلِ لِلضَّلَالِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هُدًى خَاصٍّ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، كَمَا قُلْنَا. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ هُنَا الْغِنَى أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُغْنِيَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُوَاسِيَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ.

وَتَسْمِيَةُ الْغِنَى: هِدَايَةٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: رَشَدْتُ وَاهْتَدَيْتُ، لِمَنْ ظَفِرَ، وَغَوَيْتُ لِمَنْ خَابَ وَخَسِرَ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ

وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا

وَتَفْسِيرُ الْهُدَى بِالْغِنَى أَبْعَدُ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ: هُدَاهُمْ، طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، إِذِ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَى الضَّالِّينَ، وَظَاهِرُ الْخِطَابِ فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ، أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم.

وَمُنَاسَبَةُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ الْآيَةَ اقْتَضَى أَنْهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَانْقَسَمَ النَّاسُ مِنْ مَفْهُومِ هَذَا إِلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ إِيَّاهَا فَهُوَ يَخْبِطُ عَشْوَاءً فِي الضَّلَالِ. فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، بَلِ الْهِدَايَةُ وَإِيتَاءُ الْحِكْمَةِ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِيَتَسَلَّى بِذَلِكَ فِي كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُلْجِئَهُمْ إِلَى الْهُدَى بِوَاسِطَةِ أَنْ تَقِفَ صَدَقَتَكَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَبِيلِ الطَّوْعِ وَالِاخْتِيَارِ.

وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَتَجْنِيسٌ مُغَايِرٌ إِذْ: هُدَاهُمُ اسْمٌ، وَيَهْدِي فِعْلٌ.

وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: فَهُوَ لِأَنْفُسِكُمْ، لَا يَعُودُ نَفْعُهُ وَلَا جَدْوَاهُ إِلَّا

ص: 694

عَلَيْكُمْ، فَلَا تَمَنُّوا بِهِ، وَلَا تُؤْذُوا الْفُقَرَاءَ، وَلَا تُبَالُوا بِمَنْ صَادَفْتُمْ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ إِنَّمَا هُوَ لَكُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَى: فَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلِأَهْلِ دِينِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» أَيْ: أَهْلُ دِينِكُمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْفَرْضِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ حُكْمِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ الْكُفَّارِ.

وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، ثُمَّ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ مَعَ أَحَدٍ خَيْرًا قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ مَعَ نَفْسِي، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَحْسَنْتُ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَلَا أَسَأْتُ لَهُ ثُمَّ يَتْلُو: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «3»

. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّ لَكُمْ قَبُولُهَا إِلَّا مَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَإِذَا عَرِيَتْ مِنْ هَذَا الْقَصْدِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا فَهَذَا خَبَرُ شَرْطٍ فِيهِ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّةَ الْقَبُولَ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ. وقيل: هو خير مِنَ اللَّهِ أَنَّ نَفَقَتَهُمْ أَيْ: نَفَقَةَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنِ ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً لَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَتَبْشِيرًا بِقَبُولِهَا، إِذْ قَصَدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَخَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ خَاصًّا بِالصَّحَابَةِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَتْ نَفَقَتُكُمْ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، فَمَا لَكُمْ تَمُنُّونَ بِهَا وَتُنْفِقُونَ الْخَبِيثَ الَّذِي لَا يُوَجَّهُ مِثْلُهُ إِلَى اللَّهِ؟ وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، ثُمَّ عَرَضَ لَهَا الْإِبْطَالُ. بِخِلَافِ قَوْلِ غَيْرِهِمْ: إِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى قَارَنَهَا. وَقِيلَ: هُوَ نَفْيُ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ: وَلَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَمَجَازُهُ أنه: لما نهى عن أَنْ يَقَعَ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ، حَصَلَ الِامْتِثَالُ، وَإِذَا حَصَلَ الِامْتِثَالُ، فَلَا يَقَعُ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّهْيِ بِالنَّفْيِ لِهَذَا الْمَعْنَى.

وَانْتِصَابُ ابْتِغَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: مُبْتَغِينَ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الرِّضَا، كَمَا قَالَ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وذلك على عادة

(1) سورة النور: 24/ 61. [.....]

(2)

سورة النساء: 4/ 29.

(3)

سورة الإسراء: 17/ 7.

ص: 695

الْعَرَبِ، وَتَنَزُّهِ اللَّهِ عَنِ الْوَجْهِ بِمَعْنَى: الْجَارِحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نِسْبَةِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1» مُسْتَوْفًى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ: يُوَفَّرُ عَلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ مُضَاعَفًا، وَفِي هَذَا، وَفِيمَا قَبْلَهُ، قَطْعُ عُذْرِهِمْ فِي عَدَمِ الْإِنْفَاقِ، إِذِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ هُوَ لَهُمْ حَيْثُ يَكُونُونَ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ، فَيُوَفُّونَهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِنْفَاقُهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَفْضَلِهَا، وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «2»

وَقَوْلُهُ، صلى الله عليه وسلم في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:«إِذَا تَصَدَّقَ الْعَبْدُ بِالصَّدَقَةِ وَقَعَتْ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ، أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ»

. وَالضَّمِيرُ فِي: يُوَفَّ، عَائِدٌ عَلَى: مَا، وَمَعْنَى تَوْفِيَتُهُ: إِجْزَالُ ثَوَابِهِ.

وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا يُوَفَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تُنْفِقُونَ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ إِنْفَاقِكُمْ.

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: هُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَصَارُوا زَمْنَى، وَاخْتَارَ هَذَا الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ: أُحْصِرُوا مِنَ الْمَرَضِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَبْسَ مِنَ الْعَدُوِّ لَقَالَ: حَصَرُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «3» وَثَبَتَ مِنَ اللُّغَةِ هُنَاكَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أُحْصِرَ وَحُصِرَ، وَحَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُحْصِرُوا مِنْ خَوْفِ الْكُفَّارِ، إِذْ أَحَاطُوا بِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْغَزْوِ، وَمَنَعَهُمُ الْفَقْرُ مِنَ الْغَزْوِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: مَنَعَهُمْ عُلُوُّ هِمَّتِهِمْ عَنْ رَفْعِ حَاجَتِهِمْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَحْصَرَهُمُ الْجِهَادُ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِهِ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِلْكَسْبِ. انْتَهَى.

وَ: لِلْفُقَرَاءِ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ:

لِمَنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتُ الْمَحْثُوثُ عَلَى فِعْلِهَا؟ فَقِيلَ: لِلْفُقَرَاءِ، أَيْ: هِيَ لِلْفُقَرَاءِ. فَبَيَّنَ مَصْرِفَ

(1) سورة البقرة: 2/ 115.

(2)

سورة البقرة: 2/ 276.

(3)

سورة البقرة: 2/ 196.

ص: 696

النَّفَقَةِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَعَجِبُوا لِلْفُقَرَاءِ، أَوِ اعْمَدُوا لِلْفُقَرَاءِ، وَاجْعَلُوا مَا تُنْفِقُونَ لِلْفُقَرَاءِ، وَأَبْعَدَ الْقَفَّالُ فِي تَقْدِيرِ: إِنْ تَبْدُوَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ: لِلْفُقَرَاءِ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ:

فَلِأَنْفُسِكُمْ، لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ.

لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أَيْ تَصَرُّفًا فِيهَا، إِمَّا لِزَمِنِهِمْ وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ لِقِلَّتِهِمْ، فَقِلَّتُهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاكْتِسَابِ بِالْجِهَادِ، وَإِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ إِسْلَامَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ، فَبَقُوا فُقَرَاءَ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: أَحُصِرُوا عَاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.

يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ مَاضِيَهُ عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مَسْمُوعٌ فِي أَلْفَاظٍ، مِنْهَا: عَمَدَ يَعْمُدُ وَيَعْمِدُ وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، وَالْفَتْحُ فِي السِّينِ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفَرْطِ انْقِبَاضِهِمْ، وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ، وَاعْتِمَادِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَحْسَبُهُمْ مَنْ جَهِلَ أَحْوَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ، وَ: مِنْ، سَبَبِيَّةٌ، أَيِ الْحَامِلُ عَلَى حُسْبَانِهِمْ أَغْنِيَاءَ هُوَ تَعَفُّفُهُمْ، لِأَنَّ عَادَةَ مَنْ كَانَ غَنِيَّ مَالٍ أَنْ يَتَعَفَّفَ، وَلَا يسأل، ويتعلق، بيحسبهم وَجُرَّ الْمَفْعُولُ لَهُ هُنَاكَ بِحَرْفِ السَّبَبِ، لِانْخِرَامِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَفْعُولِ لَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ فَاعِلَ يَحْسَبُ هُوَ: الْجَاهِلُ، وَفَاعِلَ التَّعَفُّفِ هُوَ: الْفُقَرَاءُ. وَهَذَا الشَّرْطُ هُوَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مُنْخَرِمًا لَكَانَ الْجَرُّ بِحَرْفِ السَّبَبِ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَفْعُولِ لَهُ، لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ حَرْفُ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ نَصْبُهُ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ كَمَا أَنْشَدُوا.

لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ أَيْ: لِلْجُبْنِ، وَإِنَّمَا عُرِّفَ الْمَفْعُولُ لَهُ، هُنَا لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُمُ التَّعَفُّفُ مِرَارًا، فَصَارَ مَعْهُودًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مِنْ تَعَفُّفِهِمُ ابْتَدَأَتْ مَحْسَبَتُهُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِمْ لَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ غِنَى تَعَفَّفٍ، وَإِنَّمَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مَالٍ، فَمَحْسَبَتُهُ مِنَ التَّعَفُّفِ نَاشِئَةٌ، وَهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ عِفَّةً تَامَّةً مِنَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ،

ص: 697

وَكَوْنُهَا لِلسَّبَبِ أَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: حَالُهُمْ يَخْفَى على الجاهل به، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَعَلَى تَعْلِيقِ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْجَاهِلَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَلَكِنْ بِالتَّعَفُّفِ، وَالْغَنِيُّ بِالتَّعَفُّفِ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، قَالَ: يَكُونُ التَّعَفُّفُ دَاخِلًا فِي الْمَحْسَبَةِ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ سُؤَالٌ، بَلْ هُوَ قَلِيلٌ. وَبِإِجْمَالٍ فَالْجَاهِلُ بِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِفَقْرِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ عِفَّةٍ. فَمِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.

انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنْ: مِنْ، هَذِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ لَهَا اعْتِبَارًا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ يَتَقَدَّرُ بِمَوْصُولٍ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ يَحْصُلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، نَحْوَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» التَّقْدِيرُ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. وَلَوْ قُلْتَ هُنَا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ الَّذِي هُوَ التَّعَفُّفُ، لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّقْدِيرُ، وَكَأَنَّهُ سَمَّى الْجِهَةَ الَّتِي هُمْ أَغْنِيَاءُ بِهَا بَيَانَ الْجِنْسِ، أَيْ: بَيَّنَتْ بِأَيِّ جِنْسٍ وَقَعَ غِنَاهُمْ بِالتَّعَفُّفِ، لَا غِنَى بِالْمَالِ. فَتُسَمَّى: مِنْ، الدَّاخِلَةُ عَلَى مَا يُبَيِّنُ جِهَةَ الْغِنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ مِنْ سَبَبِيَّةٌ، لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ: بِأَغْنِيَاءَ، لَا: بيحسبهم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: يَحْسَبُهُمْ، جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً.

تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ الْخِطَابُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَعْرِفُ فَقْرَهَمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْفَقْرِ، مِنْ: رَثَاثَةِ الْأَطْمَارِ، وَشُحُوبِ الْأَلْوَانِ لِأَجْلِ الْفَقْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:

السِّيمَا الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفَاقَةُ، وَالْجُوعُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقِلَّةُ النِّعْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَثَاثَةُ أَثْوَابِهِمْ، وَصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ. وَقِيلَ: أَثَرُ السُّجُودِ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ:

لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «2» إِلَّا إِنْ كَانَ يَكُونُ أَثَرُ السُّجُودِ فِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ السِّيمَا بِالْخُشُوعِ، فَالْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ظَاهِرًا إِنَّمَا هُوَ: رَثَاثَةُ الْحَالِ، وَشُحُوبُ الْأَلْوَانِ. وَلِلصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ السيما

(1) سورة الحج: 22/ 30.

(2)

سورة الفتح: 48/ 29.

ص: 698

مَقَالَاتٌ. قَالَ الْمُرْتَعِشُ: عِزَّتُهُمْ عَلَى الْفَقْرِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: فَرَحُهُمْ بِالْفَقْرِ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِيثَارُ مَا عِنْدَهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: تِيهُهُمْ عَلَى الْغَنِيِّ، وَقِيلَ: طِيبُ الْقَلْبِ وَبَشَاشَةُ الْوَجْهِ.

والباء متعلقة: بتعرفهم، وَهِيَ لِلسَّبَبِ، وَجَوَّزُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا جَوَّزُوا فِي الْجُمَلِ قَبْلَهَا، مِنَ الْحَالِيَّةِ، وَمِنَ الِاسْتِئْنَافِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طِبَاقٌ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي قَوْلِهِ: أحصروا وضربا فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي: فِي قوله: للفقراء وأغنياء.

لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إِذَا نُفِيَ حُكْمٌ عَنْ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقَيْدٍ، فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ انْصِرَافُ النَّفْيِ لِذَلِكَ الْقَيْدِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا ثُبُوتَ سُؤَالِهِمْ، وَنَفْيَ الْإِلْحَاحِ أَيْ: وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ سُؤَالٌ، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِتَلَطُّفٍ وَتَسَتُّرٍ لَا بِإِلْحَاحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فَيَنْتَفِي ذَلِكَ الْقَيْدُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا نَفْيُ السُّؤَالِ وَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ، فَلَا يَكُونُ النَّفْيُ عَلَى هَذَا مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ فَقَطْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُونَ إِلْحَافًا وَلَا غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَنَظِيرُ هَذَا: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا.

فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فَلَا يَكُونُ حَدِيثٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْهُمْ سُؤَالٌ الْبَتَّةَ فَلَا يَقَعُ إِلْحَاحٌ. وَنَبَّهَ عَلَى نَفْيِ الْإِلْحَاحِ دُونَ غَيْرِ الْإِلْحَاحِ لِقُبْحِ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ هَذَا الْوَصْفِ وَحْدَهُ وَوُجُودُ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِنَفْيِ مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ نَفْيُ الْمُتَرَتِّبَاتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ نَفَى الْأَوَّلَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، فَتُنْفَى مُتَرَتِّبَاتُهُ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ الْإِتْيَانَ فَانْتَفَى الْحَدِيثُ، انْتَفَتْ جَمِيعُ مُتَرَتِّبَاتِ الْإِتْيَانِ مِنَ: الْمُجَالَسَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْكَيْنُونَةِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ مُتَرَتِّبٍ وَاحِدٍ لِغَرَضٍ مَا عَنْ سَائِرِ الْمُتَرَتِّبَاتِ، وَتَشْبِيهُ الزَّجَّاجِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمناره إِنَّمَا هُوَ مُطْلَقَ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، أَيْ لَا سُؤَالَ وَلَا إِلْحَافَ. وَكَذَلِكَ: هَذَا لَا مَنَارَ وَلَا هِدَايَةَ، لَا أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا إِلْحَافَ، فَلَا سُؤَالَ، وَلَيْسَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَصِحُّ: لَا إِلْحَافَ فَلَا سُؤَالَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ، كَمَا لَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْمَنَارِ نَفْيُ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَعْضِ

ص: 699

لَوَازِمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي مَعْنَى النَّفْيِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّفْيِ فِي الْبَيْتِ أَنْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ: لَا يُلْحِفُونَ النَّاسَ سُؤَالًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ السُّؤَالِ نَفْيُ الْإِلْحَافِ، إِذْ نَفِيُ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ، فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ نَفْيَ الشَّيْئَيْنِ تَارَةً يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى شَيْءٍ فَتَنْتَفِي جَمِيعُ عَوَارِضِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى بَعْضِهَا بِالذِّكْرِ لغرض ما، وتارة يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى عَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُهُ، فَيَنْتَفِي لِنَفْيِهِ عَوَارِضَهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْبِيهُهُ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، الْآيَةَ بِبَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ غَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ انْتِفَاءَ صِحَّةِ التَّشْبِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمَنَارِ فِي الْبَيْتِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْهِدَايَةِ، وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الْإِلْحَاحِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السُّؤَالِ، وَأَطَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الزَّجَّاجِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُطْلَقِ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، وَقَرَّرْنَا ذَلِكَ.

وَقِيلَ: مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُ السُّؤَالُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْمَالُ لِكَثْرَةِ تَلَطُّفِهِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِالرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا، فَلِأَنْ لَا يُوجَدَ بِطَرِيقِ الْعُنْفِ أَوْلَى، وَقِيلَ:

مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُمْ يُلْحِفُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِ السُّؤَالِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ لِإِلْحَاحِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ في: ترك، السُّؤَالَ، وَمَنْعُهُمْ ذَلِكَ بِالتَّكْلِيفِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ: مَنْ سَأَلَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُلِحَّ، فَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مُوجِبٌ لِنَفْيِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ عَدَمِ إِظْهَارِ آثَارِ الْفَقْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَضُمُّونَ إلى السكوت مِنْ رَثَاثَةِ الْحَالِ وَالِانْكِسَارِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ السُّؤَالِ الْمُلِحِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً.

وَمَنْ جَوَّزَ الْحَالَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ وَذُو الْحَالِ وَاحِدٌ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعَدَّدَ الْحَالِ لِذِي حَالٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ: إِلْحَافًا، أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ: يَسْأَلُونَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُلْحِفُونَ. وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: لَا يَسْأَلُونَ مُلْحِفِينَ.

وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَالتَّأْكِيدِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ قَيْدِ الْآخَرِ فَالْأَوَّلُ: ذَكَرَ أَنَّ الْخَيْرَ الذي يعلمه مَعَ غَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالثَّانِي: ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الناشئ عَنِ الْخَيْرِ يُوَفَّاهُ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا بَخْسٍ،

ص: 700