الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
الرِّبَا: الزِّيَادَةُ يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو وَأَرْبَاهُ غَيْرُهُ. وَأَرْبَى الرَّجُلُ، عَامَلَ بِالرِّبَا، وَمِنْهُ الربوة والرابي. وَقَالَ حَاتِمٌ:
وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كأن كعوبه
…
نوى القشب قَدْ أَرْبَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ
وَكُتِبَ فِي الْقُرْآنِ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ، وَبِالْأَلِفِ. وَتُبْدَلُ الْبَاءُ مِيمًا قَالُوا: الرِّمَا، كَمَا أَبْدَلُوهَا فِي كَتَبَ قَالُوا: كَتَمَ، وَيُثَنَّى: رِبَوَانِ، بِالْوَاوِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ أَلِفَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَكَذَلِكَ الثُّلَاثِيُّ الْمَضْمُومُ الْأَوَّلُ نَحْوُ: ضُحَى، فَتَقُولُ: رِبَيَانِ وَضَحْيَانِ، فَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا نَحْوَ: صَفَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى الْوَاوِ.
وَأَمَّا الرِّبَا الشَّرْعِيُّ فَهُوَ مَحْدُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ.
تَخَبَّطَ: تَفَعَّلَ مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ، وَخَبَطَ الْبَعِيرُ الْأَرْضَ بِأَخْفَافِهِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَتَصَرَّفُ وَلَا يَهْتَدِي: خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَتَوَرَّطَ فِي عَمْيَاءَ. وَقَوْلُ عَلْقَمَةَ:
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ أَيْ: أَعْطَيْتَ مَنْ أَرَدْتَ بِلَا تَمْيِيزٍ كَرَمًا.
سَلَفَ: مَضَى وَانْقَضَى، وَمِنْهُ سَالِفُ الدَّهْرِ أَيْ مَاضِيهِ.
عَادَ عَوْدًا: رَجَعَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَأَنْشَدَ:
تَعُدُّ فِيكُمُ جَزْرَ الْجَزُورِ رِمَاحُنَا
…
وَيَرْجِعْنَ بِالْأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ
الْمَحْقُ: نُقْصَانُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَمِنْهُ: الْمَحَاقُ فِي الْهِلَالِ، يُقَالُ: مَحَقَهُ اللَّهُ فَانْمَحَقَ وَامْتَحَقَ أَنْشَدَ اللَّيْثُ:
يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ
…
كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا وَارِدٌ فِي تَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ
يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طِيبِ مَا كَسَبَ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْخَبِيثِ. فَذُكِرَ نَوْعٌ غَالِبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ: خَبِيثٌ، وَهُوَ: الرِّبَا، حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا كَانَ مِنْ رِبًا، وَأَيْضًا فَتَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ فِيهَا نُقْصَانُ مَالٍ، وَالرِّبَا فِيهِ زِيَادَةُ مَالٍ، فَاسْتَطْرَدَ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ التَّضَادِّ، وَأَبْدَى لِأَكْلِ الرِّبَا صُورَةً تَسْتَبْشِعُهَا الْعَرَبُ عَلَى عَادَتِهَا فِي ذِكْرِ مَا اسْتَغْرَبَتْهُ وَاسْتَوْحَشَتْ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَقَوْلِ الْآخَرِ:
خَيْلًا كَأَمْثَالِ السَّعَالِي شُرَّبًا وَقَوْلِ الْآخَرِ:
بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ وَالْأَكْلُ هُنَا قِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ خُصُوصِ الْأَكْلِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ: عَنْهُمْ، مُخْتَصٌّ بِالْآكِلِ الربا، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْ مُعَامَلَةِ الرِّبَا وَأَخْذِهِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ غَالِبُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا «2» وَقِيلَ: الرِّبَا هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، لَا يَخُصُّ الرِّبَا الَّذِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا الرِّبَا الشَّرْعِيِّ. وَقَرَأَ العدوي: الربو، بالواو قيل: وَهِيَ لُغَةُ الْحِيرَةِ، وَلِذَلِكَ كَتَبَهَا أَهْلُ الْحِجَازِ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى لُغَةِ مَنْ وَقَفَ عَلَى أَفْعَى بِالْوَاوِ، فَقَالَ: هذه أفعو، فأجرى الْقَارِئُ الْوَصْلَ إِجْرَاءَ الْوَقْفِ.
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ بَعِيدَةٌ، لِأَنْ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، بَلْ مَتَى أَدَّى التَّصْرِيفُ إِلَى ذَلِكَ قُلِبَتْ تِلْكَ الْوَاوُ يَاءً وَتِلْكَ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَقَدْ أُوِّلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: فِي أَفْعَى: أَفْعُو، فِي الْوَقْفِ. وَأَنَّ الْقَارِئَ إِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَضْبُطْ حَرَكَةَ الْبَاءِ، أَوْ سَمَّى قُرْبَهَا مِنَ الضَّمَّةِ ضَمًّا.
وَ: لَا يَقُومُونَ، خَبَرٌ عَنْ: الَّذِينَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، إِذْ يُتَكَلَّفُ إِضْمَارُ خَبَرٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّهُ إخبار عن الذين
(1) سورة الصافات: 37/ 65.
(2)
سورة النساء: 4/ 161.
يَأْكُلُونَ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ وَوَعِيدٌ عَنِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا مُسْتَحِلِّينَ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ:
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ وَقَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» ومن اخْتَارَ حَرْبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الْقِيَامُ الَّذِي فِي الْآيَةِ قِيلَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجُبَيْرٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَالْمَجَانِينِ، عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ جَمْعِ الْمَحْشَرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سِيَمًا لَهُمْ يُعْرَفُونَ بِهَا، ويقوي بهذا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْعَلُ مَعَهُ شَيْطَانٌ يَخْنُقُهُ كَأَنَّهُ يَخْبِطُ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا، فَجُوزِيَ فِي الْآخِرَةِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. وَقَدْ أُثِرَ
فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى أَكْلَةَ الرِّبَا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، وَذَكَرَ حَالَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا تَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَيُصْرَعُونَ، وَفِي طَرِيقٍ أَنَّهُ رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْآيَةِ فَيُحْتَمَلُ تَشْبِيهُ حَالِ الْقَائِمِ بِحِرْصٍ وَجَشَعٍ إِلَى تِجَارَةِ الرِّبَا بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ يَسْتَفِزُّهُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَعْضَاؤُهُ، كَمَا يَقُومُ الْمُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ يَخْلِطُ فِي هَيْئَةِ حَرَكَاتِهِ، إِمَّا مِنْ فَزَعٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ جُنَّ. هَذَا وَقَدْ شَبَّهَ الْأَعْشَى نَاقَتَهُ فِي نَشَاطِهَا بِالْجُنُونِ فِي قَوْلِهِ:
وَتُصْبِحُ عَنْ غَبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا
…
أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ
لَكِنْ مَا جَاءَتْ بِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ يُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ.
وَ: مَا، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: كَقِيَامِ الَّذِي، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِلَّا كَمَا يَقُومُهُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ. قِيلَ: مَعْنَاهُ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي يَسْتَجِرْهُ الشَّيْطَانُ فيقع ظهرا لبطن، وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ فِي سُكْرِهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَبَّطُ الْإِنْسَانَ، فَقِيلَ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ هُوَ مِنْ فِعْلِ الشيطان
(1) سورة البقرة: 2/ 279.
بِتَمْكِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ:
ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لِمَا يُحْدِثُهُ فِيهِ مِنْ غَلَبَةِ السُّوءِ أَوِ انْحِرَافِ الْكَيْفِيَّاتِ وَاحْتِدَادِهَا فَتَصْرَعُهُ، فَنُسِبَ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا تَشْبِيهًا بِمَا يَفْعَلُهُ أَعْوَانُهُ مَعَ الَّذِينَ يَصْرَعُونَهُمْ، وَقِيلَ: أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ عَلَى زَعَمَاتِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الْإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ، فَوَرَدَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، يَقُولُونَ: رَجُلٌ مَمْسُوسٌ، وَجُنَّ الرَّجُلُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَأَيْتُهُمْ لَهُمْ فِي الْجِنِّ قِصَصٌ وَأَخْبَارٌ وَعَجَائِبُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَإِنْكَارِ الْمُشَاهَدَاتِ. انْتَهَى.
وَتَخَبَّطَ هُنَا: تَفَعَّلَ، مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ خَبَطَ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي: تَفَعَّلَ، نَحْوَ:
تَعَدَّى الشَّيْءَ وَعَدَّاهُ إِذَا جَاوَزَهُ.
مِنَ الْمَسِّ، الْمَسُّ الْجُنُونُ يُقَالُ: مَسَّ فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَبِهِ مَسٌّ. أَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أُعَلِّلُ نَفْسِي بِمَا لَا يَكُونُ
…
كَذِي الْمَسِّ جُنَّ وَلَمْ يَخْنُقِ
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَسِّ بِالْيَدِ، كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّ الْإِنْسَانَ فَيُجِنُّهُ، وَسُمِّيَ الْجُنُونُ مَسًّا كَمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُهُ وَيَطَأُهُ بِرِجْلِهِ فَيُخَيِّلُهُ، فَسُمِّيَ الْجُنُونُ خَبْطَةٌ، فَالتَّخَبُّطُ بِالرِّجْلِ وَالْمَسُّ بِالْيَدِ، وَيَتَعَلَّقُ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: يَتَخَبَّطُهُ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَرَفْعِ مَا يَحْتَمِلُهُ يَتَخَبَّطُهُ مِنَ الْمَجَازِ إِذْ هُوَ ظَاهَرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَسِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّخَبُّطِ الْإِغْوَاءُ وَتَزْيِينُ الْمَعَاصِي، فَأَزَالَ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ، هَذَا الِاحْتِمَالَ. وَقِيلَ: يتعلق: بيقوم، أَيْ: كَمَا يَقُومُ مِنْ جُنُونِهِ الْمَصْرُوعُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ؟
قُلْتُ: بلا يَقُومُونَ، أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي بِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ.
انْتَهَى.
وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ فِي شَرْحِ الْمَسِّ أَنَّهُ الْجُنُونُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي تَعَلُّقِ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: لَا يَقُومُونَ، ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ شَرَحَ الْمَسَّ بِالْجُنُونِ، وَكَانَ قَدْ شَرَحَ أَنَّ قِيَامَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهُنَاكَ لَيْسَ بِهِمْ جُنُونٌ وَلَا مَسٌّ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُكَنَّى بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ الْجُنُونُ عَنْ أَكْلِ
الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ مِنْ قُبُورِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ التَّصْرِيحُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَسِّ، إِذِ التَّصْرِيحُ بِهِ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ: مَا، بَعْدَ: إِلَّا، لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «1» بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا «2» وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا أَرْسَلْنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ الْمَخْصُوصِ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً، وَالْمَجْرُورُ الْخَبَرُ، أَيْ: ذَلِكَ الْقِيَامُ كائن بسبب أَنَّهُمْ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: قِيَامُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ: بِأَنَّهُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ جَوَازُ ذَلِكَ لِحَذْفِ الْمَصْدَرِ، فَلَمْ يَظْهَرْ قُبْحٌ بِالْفَصْلِ بِالْخَبَرِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْعِقَابُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ، وَالْعِقَابُ هُوَ ذَلِكَ الْقِيَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَكْلِهِمُ الرِّبَا، أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلِ الَّذِي اسْتَحَلُّوهُ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، أَيْ: مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ، وَشَبَّهُوا الْبَيْعَ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى جَوَازِهِ بِالرِّبَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَعْكِسُوا تَنْزِيلًا لِهَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنَ الرِّبَا مَنْزِلَةَ الْأَصْلِ الْمُمَاثِلِ لَهُ الْبَيْعُ، وَهَذَا مِنْ عَكْسِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
قَالَهُ ذو الرمّة:
ورمل كأروال الْعَذَارَى قَطَعْتُهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِ الْمُوَلِّدِيَنَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ هانىء:
كَأَنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ
…
رَأَى الْقِرْنَ فَازْدَادَتْ طَلَاقَتُهُ ضِعْفًا
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ عَلَى غَرِيمِهِ طَالَبَهُ، فَيَقُولُ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي الْمَالِ، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ وَيَقُولَانِ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا الزِّيَادَةُ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ بِالرِّبْحِ، أَوْ عِنْدَ الْمَحَلِّ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَتْ ثَقِيفُ أَكْثَرَ الْعَرَبِ رِبًا، فَلَمَّا نُهُوا عَنْهُ قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مثل البيع.
(1) سورة النحل: 16/ 44.
(2)
سورة النحل: 16/ 43.
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا. ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ إِذْ سَاوَوْا بَيْنَهُمَا، وَالْحُكْمُ فِي الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُعَارَضُ فِي حُكْمِهِ وَلَا يُخَالَفُ فِي أَمْرِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يصح، إذ جعل الدَّلِيلَ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ هُوَ: أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْبَيْعَ عِوَضٌ وَمُعَوَّضٌ لَا غَبْنٌ فِيهِ، وَالرِّبَا فِيهِ التَّغَابُنُ وَأَكْلُ الْمَالِ البطل، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا مُقَابِلَ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الثَّمَنَ مُقَابَلٌ بِالْمُثَمَّنِ..
قَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا لِيَتَقَارَضَ النَّاسُ
، وَقِيلَ: حَرَّمَ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلْأَمْوَالِ، مُهْلِكٌ لِلنَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنْ كَلَامِهِمْ، فَكَانُوا قَدْ عَرَفُوا تَحْرِيمَ اللَّهِ الرِّبَا فَعَارَضُوهُ بِآرَائِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُمْ.
وَالظَّاهِرُ: عُمُومُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا فِي كُلِّ بَيْعٍ، وَفِي كُلٍّ رِبًا، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْبُيُوعِ وَإِحْلَالِ بَعْضِ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُمَا مُجْمَلَانِ، فَلَا يُقْدَمُ عَلَى تَحْلِيلِ بَيْعٍ وَلَا تَحْرِيمِ رِبًا إِلَّا بِبَيَانٍ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعَامِ وَالْمُجْمَلِ، وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَمُجْمَلٌ دَخَلَهُ التَّفْسِيرُ، وَتَقَاسِيمُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا وَتَفَاصِيلُهُمَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ كَمَا قَالُوا فِي الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ: فَلَهُ مَا سَلَفَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ بِالرِّبَا لَيْسَ لَهُ مَا سَلَفَ، بَلْ يَنْقُضُ وَيَرُدُّ فِعْلُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، لَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِطَرَفٍ مِنْ وَعِيدِ هَذِهِ الْآيَةِ.
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ حَذْفُ تَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ: جَاءَتْهُ، لِلْفَصْلِ، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَ الْمَوْعِظَةِ مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ: فَمَنْ جَاءَتْهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَتَلَتْ عَائِشَةُ هَذِهِ الآية سَأَلَتْهَا الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَبْقَعَ، زَوْجُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ شِرَائِهَا جَارِيَةً بِسِتِّمَائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَكَانَتْ قَدْ بَاعَتْهُ إِيَّاهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ، فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَقَالَتِ الْعَالِيَةُ: أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ مِنْهُ إِلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتِ الْآيَةَ عَائِشَةُ. وَالْمَوْعِظَةُ: التَّحْرِيمُ، أَوِ: الْوَعِيدُ، أَوِ: الْقُرْآنُ، أَقْوَالٌ. وَيَتَعَلَّقُ: من ربه، بجاءته، أَوْ: بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ صِفَةً لِمَوْعِظَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمَوْعِظَةِ إِذْ جَاءَتْهُ مِنْ رَبِّهِ، النَّاظِرُ لَهُ فِي مَصَالِحِهِ، وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تَأْنِيسٌ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ. إِذِ الرَّبُّ فِيهِ إِشْعَارٌ بِإِصْلَاحِ عَبْدِهِ، فَانْتَهَى تَبَعَ النَّهْيِ، وَرَجَعَ عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا، أَوْ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ مِنَ
الِاكْتِسَابِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ مَا تَقَدَّمَ لَهُ أخذه من الربا لا تبعة عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ، وَمَنْ كَانَ يَتَّجِرُ هُنَالِكَ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْكُفَّارِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فَمَعْنَاهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: أَمْرُهُ، عَائِدٌ عَلَى الْمُنْتَهِي، إِذْ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّأْنِيسِ لَهُ وَبَسْطِ أَمَلِهِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: أَمْرُهُ إِلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ، وَمَوْضِعِ رَجَاءٍ، وَالْأَمْرُ هُنَا لَيْسَ فِي الرِّبَا خَاصَّةً، بَلْ وَجُمْلَةُ أَمُورِهِ، وَقِيلَ: فِي الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَقِيلَ: فِي الْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يَحْكُمُ فِي شَأْنِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا إِلَى الَّذِينَ عَامَلَهُمْ، فَلَا يُطَالِبُونَهُ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ لِقَبُولِهِ الْمَوْعِظَةَ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى: مَا سَلَفَ، أَيْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ، وَإِسْقَاطُ التَّبَعَةِ فِيهِ، وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى ذِي الرِّبَا، أَيْ: فِي أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى الِانْتِهَاءِ، أَوْ يُعِيدَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الرِّبَا أَيْ فِي إِمْرَارِ تَحْرِيمِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: فِي عَفْوِ اللَّهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ.
وَمَنْ عادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، قَالَ سُفْيَانُ: وَمَنْ عَادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا حَتَّى يَمُوتَ فَلَهُ الْخُلُودُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا: لِمَنْ، وَحَمْلُ فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَالْخُلُودُ خُلُودُ تَأْبِيدٍ، أَوْ فِي مُسْلِمٍ عَاصٍ فَخُلُودُهُ دوام مكثه لا التأييد.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى تَخْلِيدِ الْفُسَّاقِ. انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي: أَنَّ الفاسق يخلد في النار أَبَدًا وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا،
وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَحَّ أَنَّ أَكْلَ الرِّبَا مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ
،
وَرُوِيَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله، وَسَأَلَ مَالِكًا رحمه الله رَجُلٌ رَأَى سَكْرَانَ يَتَقَافَزُ، يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَمَرَ، فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ شَرٌّ مِنَ الْخَمْرِ، أَتُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ؟
فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ، بَعْدَ أَنْ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ: امْرَأَتُكَ طَالِقٌ، تَصَفَّحْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَشَرَّ مِنَ الرِّبَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ آذَنَ فِيهِ بِالْحَرْبِ.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَيْ: يَذْهَبُ بِبَرَكَتِهِ وَيَذْهَبُ الْمَالُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، رَوَاهُ أَبُو
صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَعَاقِبَتُهُ إِلَى قَلٍّ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِحَاقَهُ إِبْطَالُ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ صَدَقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قِيلَ: الْإِرْبَاءُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَزِيدُهَا وَيُنَمِّيهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ، وَكَثْرَةِ الْأَرْبَاحِ فِي الْمَالِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ تَضَاعُفُ الْحَسَنَاتِ وَالْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ بِالصَّدَقَةِ، كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.
وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ،
وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُمَحِّقُ وَيُرَبِّي، مِنْ: مَحَقَ وَرَبَّى مُشَدَّدًا.
وَفِي ذِكْرِ الْمَحْقِ وَالْإِرْبَاءِ بَدِيعُ الطِّبَاقِ، وَفِي ذِكْرِ الرِّبَا وَيُرَبَّى بَدِيعُ التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِيهِ تَغْلِيظُ أَمْرِ الرِّبَا وَإِيذَانٌ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَافِرِ وَالْآثِمِ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْكَافِرَ، تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ أَمْرِ الرِّبَا وَمُخَالَفَةِ اللَّهِ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا مُبَالِغٌ فِي الْكُفْرِ، مَبَالِغٌ فِي الْإِثْمِ.
وَذَكَرَ الْأَثِيمَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: ذَكَرَ الْأَثِيمَ لِيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي: كَفَّارٍ، إِذْ يَقَعُ عَلَى الزَّارِعِ الَّذِي يَسْتُرُ الْأَرْضَ. انْتَهَى.
وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إذ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ الْكَافِرَ، وَالْكَافِرُونَ، وَالْكَفَّارَ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى الزَّارِعِ فَبِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «1» .
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ مُحْسِنًا صَالِحًا، بَلْ يُرِيدُهُ مُسِيئًا فَاجِرًا، وَيَحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ تَوْفِيقَ الْكُفَّارِ الْأَثِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ مُسْتَكْرَهَةٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَفْرَطَ فِي تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ، وَحَمَّلَهُ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ التَّوْفِيقَ عَلَى الْعُمُومِ وَيُحَبِّبُهُ، وَالْمُحِبُّ فِي الشَّاهِدِ يَكُونُ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَلُطْفٌ بِهِ، وَحِرْصٌ عَلَى حِفْظِهِ وَتَظْهَرُ دَلَائِلُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ وُجُودَ ظُهُورِ الْكَافِرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ مَزِيَّةُ الْحُبِّ بِأَفْعَالٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِ، نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّاهِدِ، وَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ مَوْجُودَةٌ لِلْمُؤْمِنِ. انتهى كلامه.
(1) سورة الحديد: 57/ 20.