الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْحُبُّ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الْمَيْلُ الطَّبِيعِيُّ، مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَابْنُ فُورَكٍ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَهُ بِمَعْنَى اللُّطْفِ وَإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ، فَيَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ آكِلِ الرِّبَا، وَحَالَ مَنْ عَادَ بَعْدَ مَجِيءِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَنَّهُ كَافِرٌ أَثِيمٌ، ذَكَرَ ضِدَّ هَؤُلَاءِ لِيُبَيِّنَ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَآمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. انْتَهَى. وَنَصَّ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَا مُنْدَرَجَيْنِ فِي عُمُومِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، كَانَتْ لَهُمْ دُيُونُ رِبًا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقِيلَ: فِي عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: فِي عُثْمَانَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتَقَاضَوْا رِبَاهُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ «1» وَكَانَ الْمَعْنَى: فَلَهُ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، أَيْ: لا تبعة
(1) سورة البقرة: 2/ 275. [.....]
عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: مَا سَلَفَ، أَيْ: مَا تَقَدَّمَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ إِنْشَاءَ عَقْدٍ رِبَوِيٍّ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، أَزَالَ تَعَالَى هَذَا الْاحْتِمَالَ بِأَنْ أَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ السَّابِقَةِ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الرِّبَا هُوَ كَالْمُنْشَأِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَنَادَاهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ، إِذْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ ثَانِيًا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا.
وَفُتِحَتْ عَيْنُ: وَذَرُوا، حَمْلًا عَلَى: دَعَوْا، وَفُتِحَتْ عَيْنُ: دَعَوْا، حَمْلًا عَلَى: يَدَعُ، وَفُتِحَتْ فِي يَدَعُ، وَقِيَاسُهَا الْكَسْرُ، إِذْ لَامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَا بَقَا، بِقَلْبِ الْيَاءِ أَلِفًا، وَهِيَ لُغَةٌ لِطَيِّءٍ، وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ:
زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إنسان عينه
…
يفيض بمغمور مِنَ الْمَاءِ مُتَّأَقِ
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: مَا بَقِي، بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى
…
عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيَ لَكُمْ
…
مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ شَرْطٌ مَجَازِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ إِقَامَةَ نَفْسِهِ:
إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا! قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ صَحَّ إِيمَانُكُمْ، يَعْنِي أَنَّ دَلِيلَ صِحَّةِ الإيمان وثباثه امْتِثَالُ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ، لِأَنَّهُ إِذَا تَوَقَّفَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يُجَامِعُهَا الصِّحَّةُ مَعَ فِعْلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَهُوَ مُدَّعَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ بِمَعْنَى إِذْ أَيْ إِذْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، أَنَّ: إِنَّ، تَكُونُ بِمَعْنَى: إِذْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَلَا يَثْبُتُ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ، وَكَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَكَامَلُ إِذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَبِيرَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ لَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّاهَا، وَقِيلَ: الْإِيمَانُ مُتَغَايِرٌ بِحَسَبِ متعلقه، فمعنى الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَمَعْنَى الثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِكُمْ.
وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: يا أيها الذي آمَنُوا بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ، إِذْ لَا يَنْفَعُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِهَذَا، قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ الْآيَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ، أَوْ فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، أَوْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ ثَقِيفٍ وَلَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ قَبْلَ الْإِيمَانِ آمَنُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ فِي ثَقِيفٍ عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ اسْتِدَامَةِ الْإِيمَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ أَبَا السَّمَاكِ، وَهُوَ الْعَدَوِيُّ، قَرَأَ هُنَا: مِنَ الرِّبُو، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا «1» وَشَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: شُذَّ هَذَا الْحَرْفُ فِي أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الضَّمِّ بِنَاءً لَازِمًا، وَالْآخَرُ: وُقُوعُ الْوَاوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ فِي آخِرِ الِاسْمِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إِلَّا في الفعل، نحو: يغزو، وَيَدْعُو.
وَأَمَّا ذُو، الطَّائِيَّةُ بِمَعْنَى: الَّذِي فَشَاذَّةٌ جَدًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَيِّرُ وَاوَهَا إِذَا فَارَقَ الرَّفْعَ، فَتَقُولُ: رَأَيْتُ ذَا قَامَ. وَجْهُ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ فَخَّمَ الْأَلِفَ انْتَحَى بِهَا الْوَاوُ الَّتِي الْأَلِفُ بَدَلٌ مِنْهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ.
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: بِنَاءً لَازِمًا، أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَارِضًا نَحْوَ: الْحِبْكُ، فَكَسْرَةُ الْحَاءِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَمِنْ قولهم الردؤ، فِي الْوَقْفِ، فَضَمَّةُ الدَّالِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي أَبْنِيَةِ كَلَامِهِمْ فِعْلٌ لَا فِي اسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إلا في الفعل، نحو: يَغْزُو، فَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ:
لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ، لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا لِمَا ذَكَرُوا، وَنَقُولُ: إِنَّ الضَّمَّةَ الَّتِي فِيمَا قَبْلَ الْآخِرِ إِمَّا هِيَ لِلِاتِّبَاعِ، فَلَيْسَ ضَمَّةٌ تَكُونُ فِي أَصْلِ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ كَضَمَّةِ يَغْزُو.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرُهُ: فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَسُمِّيَ التَّرْكُ فِعْلًا، وَإِذَا أُمِرُوا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لزم مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ إِنْشَاءِ الرِّبَا عَلَى طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَالَ الرَّازِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بتحريمه فأذنوا بحرب
(1) سورة البقرة: 2/ 275.
من الله ورسوله، ومن ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ كَمَا لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِهَا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ الْبُرْجُمِيِّ، وَابْنِ غَالِبٍ عَنْهُ: فَآذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: آذَنَ الرُّبَاعِيِّ بِمَعْنَى: أَعْلَمُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «1» .
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: فَأْذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: أَذِنَ، الثُّلَاثِيِّ، مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «2» .
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَأَيْقِنُوا بِحَرْبٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هُوَ لِمَنْ صَدَرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا، فَعَلَى هَذَا الْمُحَارَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْإِعْلَامُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْحَرْبِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ دُونَ حَقِيقَةِ الْحَرْبِ، كَمَا
جَاءَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدَ آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْحَرْبِ.
وَنَقُولُ: الْإِصْرَارُ عَلَى الرِّبَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، قَبَضَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَعَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ التَّوْبَةُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حَارَبَهُ كَمَا تُحَارَبُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى مَنْ يَكُونُ مُسْتَبِيحًا لِلرِّبَا، مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا حَارَبَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَأَنْتُمْ حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ: أَعْدَاءٌ.
وَالْحَرْبُ دَاعِيَةُ الْقَتْلِ، وَقَالُوا: حَرْبُ اللَّهِ النَّارُ، وَحَرْبُ رَسُولِهِ السَّيْفُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: «يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ» . وَالْبَاءُ فِي بِحَرْبٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْقَصْرِ لِلْإِلْصَاقِ، تَقُولُ: أَذِنَ بِكَذَا، أَيْ: عَلِمَ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى فَاسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنَ الْأُذُنِ، وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ. انْتَهَى.
وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ تُقَوِّي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِالْقَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ عِنْدِي مِنَ الْإِذْنِ، وَإِذَا أَذِنَ الْمَرْءُ فِي شَيْءٍ فَقَدْ قَرَّرَهُ وَبَنَى مَعَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قَرِّرُوا الْحَرْبَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الله ورسوله.
(1) سورة الأنبياء: 21/ 109.
(2)
سورة النبأ: 78/ 38.
وَيَلْزَمُهُمْ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَدْعَو الْحَرْبَ وَالْبَاغُونَ، إِذْ هُمُ الْآذِنُونَ فِيهَا، وَبِهَا، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ حَرْبُ اللَّهِ، وَتَيَقُّنُهُمْ لِذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْبَاءَ فِي: بِحَرْبٍ ظَرْفِيَّةٌ. أَيْ: فَأْذَنُوا فِي حَرْبٍ، كَمَا تَقُولُ أُذِنَ فِي كَذَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَوَّغَهُ وَمَكَّنَ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَنْ قَرَأَ فَآذَنُوا بِالْمَدِّ، فَتَقْدِيرُهُ: فَأَعْلِمُوا مَنْ لَمْ بنته عَنْ ذَلِكَ بِحَرْبٍ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْمَفْعُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «1» وَإِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ عَلِمُوا هُمْ لَا مَحَالَةَ، قَالَ: فَفِي إِعْلَامِهِمْ عَلِمَهُمْ، وَلَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ إِعْلَامُهُمْ غَيْرَهُمْ.
فَقِرَاءَةُ الْمَدِّ أَرْجَحُ، لِأَنَّهَا أَبْلُغُ وَآكُدُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قِرَاءَةُ الْقَصْرِ أَرْجَحُ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَدِّ بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقِرَاءَتَانِ عِنْدِي سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ مَحْصُورٌ، لِأَنَّهُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَذَرْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فَإِنْ قِيلَ: فَأْذَنُوا، فَقَدْ عَمَّهُمُ الْأَمْرُ. وَإِنْ قِيلَ: فَآذِنُوا، بِالْمَدِّ فَالْمَعْنَى: أَنْفُسَكُمْ، أَوْ: بَعْضَكُمْ بَعْضًا. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَقْتَضِي فَسَحًا لَهُمْ فِي الِارْتِيَاءِ وَالتَّثَبُّتِ، فَأَعْلِمُوا نُفُوسَكُمْ هَذَا، ثُمَّ انْظُرُوا فِي الْأَرْجَحِ لَكُمْ: تَرْكِ الرِّبَا أَوِ الْحَرْبِ. انْتَهَى.
وَرُوِيَ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَتْ ثَقِيفٌ: لَا يَدَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَمِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ عَظِيمٌ، إِذِ الْحَرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ حُرُوبِ اللَّهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قُلْتُ: كَانَ هَذَا أَبْلَغَ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَأْذَنُوا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَرْبِ عَظِيمٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ أَبْلَغَ لِأَنَّ فِيهَا نَصًّا بِأَنَّ الْحَرْبَ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَارِبُهُمْ، وَلَوْ قِيلَ: بِحَرْبِ اللَّهِ، لَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ مُضَافَةً لِلْفَاعِلِ، فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُحَارِبَ لَهُمْ، وَأَنْ تَكُونَ مُضَافَةً لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْمُحَارِبِينَ اللَّهَ. فَكَوْنُ اللَّهِ مُحَارِبَهُمْ أَبْلَغُ وَأَزْجَرُ فِي الْمَوْعِظَةِ مِنْ كونهم محاربين الله.
(1) سورة الأنبياء: 21/ 109.
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أَيْ: إِنْ تُبْتُمْ من الربا ورؤوس الْأَمْوَالِ: أُصُولُهَا، وَأَمَّا الْأَرْبَاحُ فَزَوَائِدُ وَطَوَارِئُ عَلَيْهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا كَفَرُوا بِرَدِّ حُكْمِ اللَّهِ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فيصير مالهم فيأ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى رؤوس الْأَمْوَالِ مَعَ مَا قَبْلَهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَلَيْسَ لَهُمْ رؤوس أَمْوَالِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ أَصْلِ الْمَالِ رَأْسًا مَجَازٌ.
لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَا تَظْلِمُونَ الْغَرِيمَ بِطَلَبِ زِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا تُظْلَمُونَ أَنْتُمْ بِنُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ، وَقِيلَ: بِالْمَطْلِ. وَقَرَأَ أَبَانُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ الأول مبنيا للمفعول، والثاني مبينا لِلْفَاعِلِ وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهَا تُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وَإِنْ تُبْتُمْ، فِي إِسْنَادِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَتَظْلِمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ أُشَكِلَ بِمَا قَبْلَهُ.
وَالْجُمْلَةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا اقْتَصَرُوا على رؤوس الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ نَصَفَةً، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي: لَكُمْ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي حَرْفِ الْجَرِّ مِنْ شَوْبِ الْفِعْلِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ.
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ شَكَا بَنُو الْمُغِيرَةِ الْعُسْرَةَ وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الْغَلَّاتُ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخَّرُوا، فَنَزَلَتْ. قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَيْعِ مَنْ أَعْسَرَ بِدَيْنٍ، وَقِيلَ: أُمِرَ بِهِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَالْعُسْرَةُ ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ، وَمِنْهُ: جَيْشُ الْعُسْرَةِ، وَالنَّظِرَةُ:
التَّأْخِيرُ، وَالْمَيْسَرَةُ: الْيُسْرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو عُسْرَةٍ، عَلَى أَنَّ: كَانَ، تَامَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَإِنْ وَقَعَ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنْ تَكُونَ: كَانَ، نَاقِصَةً هُنَا.
وَقُدِّرَ الْخَبَرُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ فَحُذِفَ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، وَقُدِّرَ أَيْضًا:
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ لَكُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَحَذْفُ خَبَرِ كَانَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا لِعِلَّةٍ ذَكَرُوهَا فِي النَّحْوِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: ذَا عُسْرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مُعْسِرًا.
وَحَكَى الدَّانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أَبِي عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ اسْمُهَا
ضَمِيرًا تَقْدِيرُهُ: هُوَ، أَيْ: الْغَرِيمُ، يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ الْمُرَابِيَ لَا بُدَّ له ممن يرابيه.
وقرىء: وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: فَإِنْ كَانَ، بِالْفَاءِ، فَمَنْ نَصَبَ ذَا عُسْرَةٍ أَوْ قَرَأَ معسرا، وذلك بعد: إن كَانَ، فَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الرِّبَا. وَمَنْ رَفَعَ فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ فِي أَهْلِ الرِّبَا، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ.
وَقِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِيسَارُ، وَأَنَّ الْعَدَمَ طَارِئٌ جَاذِبٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُثْبَتَ.
فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَظِرَةٌ، عَلَى وَزْنٍ نَبِقَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: بِسُكُونِ الظَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، يَقُولُونَ فِي: كَبَدَ كَبِدَ. وَقَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، عَلَى وَزْنِ: فَاعِلَةٌ وَخَرَّجَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «1» وَكَقَوْلِهِ: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «2» وَكَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «3» وَقَالَ: قَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، بِمَعْنَى: فَصَاحِبُ الْحَقِّ نَاظِرَهُ، أَيْ: مُنْتَظِرُهُ، أَوْ:
صَاحِبُ نَظِرَتِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وَبَاقِلٌ، بِمَعْنَى: ذُو عُشْبٍ وَذُو بَقْلٍ. وَعَنْهُ: فَنَاظِرَهُ، عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى: فَسَامَحَهُ بِالنَّظِرَةِ، وَبَاشَرَهُ بِهَا. انْتَهَى. وَنَقَلَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: جَعَلَاهُ أَمْرًا، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْغَرِيمِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَاظِرُوهُ، أَيْ:
فَأَنْتُمْ نَاظِرُوهُ. أَيْ: فَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُوهُ.
فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ، وَمَنْ جَعَلَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ أَوْ مَصْدَرًا فَهُوَ يَرْتَفِعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: فَالْأَمْرُ وَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ نَظِرَةٌ مِنْهُ لِطَلَبِ الدَّيْنِ مِنَ الْمَدِينِ إِلَى مَيْسَرَةٍ مِنْهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: مَيْسُرَةٍ، بِضَمِّ السِّينِ، وَالضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ قَلِيلٌ كَمَقْبُرَةٍ، وَمَشْرُفَةٍ، وَمَسْرُبَةٍ. وَالْكَثِيرُ مَفْعَلَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى اللُّغَةِ الْكَثِيرَةِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَى مَيْسُورِهِ، عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَرِيمِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ مَصْدَرٌ كَالْمَعْقُولِ وَالْمَجْلُودِ فِي قَوْلِهِمْ: ما له معقول
(1) سورة الواقعة: 56/ 2.
(2)
سورة القيامة: 75/ 25.
(3)
سورة غافر: 40/ 19.
وَلَا مَجْلُودٌ، أَيْ: عَقْلٌ وَجَلْدٌ، وَلَمْ يُثْبِتْ سِيبَوَيْهِ مَفْعُولًا مُصَدَّرًا، وَقَرَأَ عَطَاءُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَيْسُرِهِ، بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضمير الغريم. وقرىء كَذَلِكَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ. كَقَوْلِهِ:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَّ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا أَيْ: عِدَّةَ، وَهَذَا أَعْنِي حذف التاء لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ، هُوَ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَدَّاهُمْ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: أَنْ مُفْعَلًا لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، فَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنَى مَأْلُكًا
…
أَنَّهُ قَدْ طال حبسي وانتظار
وَفِي قَوْلِ جَمِيلٍ:
بُثَيْنَ الْزَمِي لَا إِنَّ لَا إِنْ لَزِمْتِهِ
…
عَلَى كَثْرَةِ الْوَاشِينَ أَيُّ مَعُونِ
فَمَأْلُكٌ وَمَعُونٌ جَمْعُ مَأْلُكَةٍ وَمَعُونَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فِعَالِ مَكْرُمِ هَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَتَأَوَّلَ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّهَا مُفْرَدَةٌ حُذِفَ مِنْهَا التَّاءُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ:
لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَفْعِلٌ، يَعْنِي فِي الْآحَادِ، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: مَهْلَكٌ، مُثَلَّثُ اللَّامِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ: مَفْعِلٌ، وَاحِدًا وَلَا يُخَالِفُ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُقَالُ:
لَيْسَ فِي الْكَلَامِ كَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْهُ حَرْفٌ أَوْ حَرْفَانِ، كَأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يُجْعَلُ لَهُ حُكْمٌ.
وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْخِلَافِ: أَهَذَا الْإِنْظَارُ يَخْتَصُّ بِدَيْنِ الرِّبَا؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، أَمْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُعْسِرٍ بِدَيْنِ رَبًا أَوْ غَيْرِهِ؟ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ،
. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: تَصَدَّقُوا عَلَى الْغَرِيمِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِبَعْضِهِ خَيْرٌ مِنَ
الْإِنْظَارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيٌّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا فَالْإِنْظَارُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ لِلْمُعْسِرِ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ الدَيْنِ، فَالْحَمْلُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى. وَلِأَنَّ: أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ وَصْفِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ:
حُصُولُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَدَبُوا إِلَى أَنْ يتصدقوا برؤوس أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تَصَدَّقُوا، بِحَذْفِ التَّاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: تَتَصَدَّقُوا، بِتَاءَيْنِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِدْغَامُ تَخْفِيفٌ. وَالْحَذْفُ أَكْثَرُ تَخْفِيفًا.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: يُرِيدُ الْعَمَلَ، فَجَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمَ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ فَضْلَ التَّصَدُّقِ عَلَى الْإِنْظَارِ وَالْقَبْضِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَصْلُحُ لَكُمْ.
قِيلَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، لأن الْجُمْهُورُ قَالُوا: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فَقِيلَ: قَبْلَ مَوْتِهِ بِتِسْعِ لَيَالٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ. وَرُوِيَ: بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ،
وَقِيلَ: عاش بعدها صلى الله عليه وسلم أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا
. وَقِيلَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
وَرَوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عليه السلام: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلْهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا، فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «1» .
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَخَبَرُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يُرْجَعُونَ، عَلَى مَعْنَى يَرْجِعُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى رَفَقَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِذْ هِيَ مِمَّا تَتَفَطَّرُ لَهُ الْقُلُوبُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاتَّقُوا، ثُمَّ رَجَعَ فِي ذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِلَى الْغَيْبَةِ رِفْقًا بِهِمْ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تُرَدُّونَ، بِضَمِّ التَّاءِ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
يَرُدُّونَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تصيرون. انتهى.
(1) سورة البقرة: 2/ 48.