الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ بِسَبَبِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ فَخَالَفُوهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُمْ فِي مُعَادَاةٍ لا تنقطع.
[سورة البقرة (2) : الآيات 177 الى 182]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
قِبَلُ: ظَرْفُ مَكَانٍ، تَقُولُ: زِيدَ قِبَلَكَ. وَشَرْحُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُكَ فِيهِ. وَقَدْ يَتَّسِعُ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: الْعِنْدِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. تَقُولُ لِي: قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ.
الرِّقَابُ: جَمْعُ رَقَبَةٍ، وَالرَّقَبَةُ: مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَكَانَهَا مِنَ الْبَدَنِ مَكَانُ الرَّقِيبِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْقَوْمِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ، وَلَا يُقَالُ:
أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ، لِأَنَّهَا لَمَّا سُمِّيَتْ رَقَبَةً، كَانَتْ كَأَنَّهَا تُرَاقِبُ الْعَذَابَ. وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ: رَقُوبٌ، لِأَجْلِ مُرَاعَاتِهَا مَوْتَ وَلَدِهَا. قَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: وَفِعَالٌ جَمْعٌ يَطَّرِدُ لِفَعْلَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتِ اسْمًا نَحْوَ: رَقَبَةٍ وَرِقَابٍ، أَوْ صِفَةً نَحْوَ: حَسَنَةٍ وَحِسَانٍ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالرَّقَبَةِ
عَنِ الشَّخْصِ بِجُمْلَتِهِ. الْبَأْسَاءُ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبُؤْسِ، إِلَّا أَنَّهُ مُؤَنَّثٌ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ:
هُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ. وَالْبُؤْسُ وَالْبَأْسَاءُ: الْفَقْرُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَئِسَ الرَّجُلُ، إِذَا افْتَقَرَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمْ يَكُ فِي بُؤْسٍ إِذَا بَاتَ لَيْلَةً
…
يُنَاغِي غَزَالًا سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلَا
وَالْبَأْسُ: شِدَّةُ الْقِتَالِ، وَمِنْهُ
حَدِيثُ عَلِيٍّ: كُنَّا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَيُقَالُ: بَؤُسَ الرَّجُلُ، أَيْ شَجُعَ. الضَّرَّاءُ: مِنَ الضُّرِّ، فَقِيلَ: لَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضُرٍّ أَوْ مَضَرَّةٍ» .
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ:
الضَّرَّاءُ، بِالْفَتْحِ: ضِدَّ النَّفْعِ، وَالضُّرُّ، بالضم. الزمانة. القصاص: مصد قَاصَّ يُقَاصُّ مُقَاصَّةً وَقِصَاصًا نَحْوُ: قَاتَلَ يُقَاتِلُ مُقَاتَلَةً وَقِتَالًا. وَالْقِصَاصُ: مُقَابَلَةُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَمِنْهُ: قَتْلُ مَنْ قَتَلَ بِالْمَقْتُولِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَصَصْتُ الْأَثَرَ: أَيُ اتَّبَعْتُهُ، لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ بِدَمِ الْمَقْتُولِ، وَمِنْهُ قَصُّ الشَّعْرِ: اتِّبَاعُ أَثَرِهِ. الْحُرُّ: مَعْرُوفٌ، تَقُولُ: حَرَّ الْغُلَامُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً فَهُوَ حُرٌّ، وَجَمْعُهُ، أَعْنِي فَعْلًا الصِّفَةُ عَلَى أَحْرَارٍ محفوظ. وقالوا مرّوا إمرارا، فَإِنْ كَانَتْ فَعْلًا صِفَةً للآدميين، جمعت بالواو وَالنُّونُ، وَكَمَا أَنَّ أَحْرَارًا مَحْفُوظٌ فِي الْجَمْعِ، كَذَلِكَ حَرَائِرُ مَحْفُوظٌ فِي جَمْعِ حُرَّةٍ مُؤَنَّثَةٍ. الْقَتْلَى: جَمْعُ قَتِيلٍ، وَهُوَ مُنْقَاسٌ فِي فَعِيلٍ، الْوَصْفُ بِمَعْنَى مَمَاتٍ أَوْ مُوجِعٍ.
الْأُنْثَى: مَعْرُوفٌ، وَهِيَ فُعْلَى، الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ لِلْمَرْأَةِ.
وَيُقَالُ لِلْخُصْيَتَيْنِ أُنْثَيَانِ، وَهَذَا الْبِنَاءُ لَا تَكُونُ أَلِفُهُ إِلَّا لِلتَّأْنِيثِ، وَلَا تَكُونُ لِلْإِلْحَاقِ، لِفَقْدِ فُعْلَلٍ فِي كَلَامِهِمْ. الْأَدَاءُ: بِمَعْنَى التَّأْدِيَةِ، أَدَّيْتُ الدَّيْنَ: قَضَيْتُهُ، وَأَدَّى عَنْكَ رِسَالَةً: بَلَّغَهَا أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، أَيْ لَا يُبَلِّغُ. أُولُوا: مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ فِي الرَّفْعِ بِالْوَاوِ، وَفِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِالْيَاءِ. وَمَعْنَى أُولُوا: أَصْحَابٌ، وَمُفْرَدُهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَهُوَ ذُو بِمَعْنَى: صَاحِبٍ. وَأُعْرِبَ هَذَا الْإِعْرَابُ عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، وَمُؤَنَّثُهُ أُولَاتُ بِمَعْنَى:
صَاحِبَاتٍ، وَإِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِهَا، فَتُرْفَعُ بِالضَّمَّةِ وَتُجَرُّ وَتُنْصَبُ بِالْكَسْرَةِ، وَهُمَا لَازِمَانِ لِلْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ ظَاهِرٍ، وَكُتِبَا فِي الْمُصْحَفِ بِوَاوٍ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَلَوْ سَمَّيْتَ بِأُولُوا، زِدْتَ نُونًا فَقُلْتَ: جَاءَ مِنْ أُولُونَ، وَرَأَيْتُ أُولِينَ، وَمَرَرْتُ بِأُولِينَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهَا حَالَةَ إِضَافَتِهَا مُقَدَّرٌ سُقُوطُ نُونٍ مِنْهَا لِأَجَلِ الْإِضَافَةِ. كَمَا تَقُولُ: ضَارِبُو زَيْدٍ، وَضَارِبِينَ زَيْدًا.
الْأَلْبَابِ: جَمْعُ لُبٍّ، وَهُوَ الْعَقْلُ الْخَالِي مِنَ الْهَوَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ، إِمَّا لِبِنَائِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَلَبَّ بِالْمَكَانِ، وَلَبَّ بِهِ: أَقَامَ، وَإِمَّا مِنَ اللُّبَابِ، وَهُوَ الْخَالِصُ. وَهَذَا الْجَمْعُ مُطَّرِدٌ، أَعْنِي أَنْ يُجْمَعَ فُعْلٌ اسْمٌ عَلَى أَفْعَالٍ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وكسرها، قالوا: لببت.
ولبيت وَمَجِيءُ الْمُضَاعَفِ عَلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ شَاذٌّ، اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِفَعْلَ نَحْوَ: عَزَّ يَعِزُّ، وَخَفَّ يَخِفُّ. فَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ شَاذًّا: لبيت، وَسَرِرْتُ، وَفَلِلْتُ، وَدَمِمْتُ، وَعَزِزْتُ. وَقَدْ سُمِعَ الْفَتْحُ فِيهَا إلا في: لبيت، فَسُمِعَ الْكَسْرُ كَمَا ذَكَرْنَا. الْجَنَفُ: الْجَوْرُ، جَنِفَ، بِكَسْرِ النُّونِ، يَجْنَفُ، فَهُوَ جَنِفٌ وَجَانِفٌ عَنِ النَّحَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ
…
ضَيْمِي وَقَدْ جَنِفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
وَقِيلَ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
تَجَانَفَ عَنْ حُجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي
…
وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا
وَقَالَ آخَرُ:
هُمُ الْمَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا
…
وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ
وَيُقَالُ: أَجْنَفَ الرَّجُلُ، جَاءَ بِالْجَنَفِ، كَمَا يُقَالُ: أَلَامَ الرَّجُلُ، أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَأَخَسَّ: أَتَى بِخَسِيسٍ.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَمُقَاتِلٌ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَانَتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي لِلْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى لِلْمَشْرِقِ، وَيَزْعُمُ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ الْبِرَّ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَسُفْيَانُ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، سَأَلَ رَجُلٌ النبي صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ، فَدَعَاهُ وَتَلَاهَا عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصَلَّى إِلَى أَيِّ نَاحِيَةٍ ثُمَّ مَاتَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَلَمَّا هَاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلَتِ الْفَرَائِضُ، وَحُدَّتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ.
وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا إِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَحْوِيلَهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُمْ بِأَقْبَحِ الذِّكْرِ مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَاشْتِرَائِهِمْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَذِكْرُ مَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِمَّا يُظْهِرُونَ بِهِ شِعَارَ دِينِهِمْ إِلَّا صَلَاتُهُمْ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبِرُّ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ شَرِيعَتِهِمْ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ كَمَا تَعَلَّقَ
أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ مَا فِي طَاقَتِهِمْ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ لَيْسَ الْبِرَّ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِرَفْعِ الرَّاءِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الْبِرَّ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا: لَيْسَ الْبِرَّ بِأَنْ تُوَلُّوا، فَمَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الْبِرَّ جعله خبر ليس، وأن تُوَلُّوا فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَلِيَ الْمَرْفُوعَ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى، وَهُوَ أَنْ جُعِلَ فِيهَا اسْمُ لَيْسَ: أَنْ تُوَلُّوا، وَجُعِلَ الْخَبَرُ الْبِرَّ، وَأَنْ وَصِلَتُهَا أَقْوَى فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ: أَنَّ تَوَسُّطَ خَبَرِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اسْمِهَا قَلِيلٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ تَشْبِيهًا لَهَا: بِمَا.. أَرَادَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا حَرْفٌ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَوْسِيطُ خَبَرِ مَا، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَبِوُرُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ
…
وَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
وَقَالَ الْآخَرُ.
أَلَيْسَ عَظِيمًا أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ
…
وَلَيْسَ عَلَيْنَا في الخطوب معوّل
وقرأه: بِأَنْ تُوَلُّوا، عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ كَمَا زَادُوهَا فِي اسْمِهَا إِذَا كَانَ أَنْ وَصِلَتَهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَيْسَ عَجِيبًا بِأَنَّ الْفَتَى
…
يُصَابُ بِبَعْضِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ
أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى اسْمِ لَيْسَ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُهَا الْخَبَرُ، وَحَسُنَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ ذِكْرُ الْعَجِيبِ مَعَ التَّقْرِيرِ الَّذِي تُفِيدُهُ الْهَمْزَةُ، وَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَعْجَبُ بِأَنَّ الْفَتَى، وَلَوْ قُلْتَ: أَلَيْسَ قَائِمًا بِزَيْدٍ لَمْ يَجُزْ.
وَالْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَانْتِصَابُ قِبَلَ عَلَى الظَّرْفِ وَنَاصِبُهُ تُوَلُّوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا الْخَوْضَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ حَتَّى وَقَعَ التَّحْوِيلُ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَزَعَمَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى قِبْلَتِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ الْبِرَّ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ خَارِجٌ مِنَ الْبِرِّ.
وَقِيلَ: لَيْسَ الْبِرَّ الْعَظِيمَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَذْهَلُوا بِشَأْنِهِ عَنْ سَائِرِ صُنُوفِ الْبِرِّ أَمْرَ الْقِبْلَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ قِبْلَةُ النَّصَارَى مَشْرِقُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ مِيلَادُ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكاناً شَرْقِيًّا
«1» وَالْيَهُودُ مَغْرِبُهُ وَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الْبِرُّ: مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ الذَّوَاتَ إِلَّا مَجَازًا، فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ: الْبِرُّ، هُوَ نَفْسَ مَنْ آمَنَ، عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ الْبَارَّ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ مِنَ الثَّانِي أَيْ: بِرُّ مَنْ آمَنَ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَعَلَى هَذَا خَرَّجَهُ سِيبَوَيْهِ، قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ وَإِنَّمَا هُوَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ السَّابِقَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ كَوْنِ الْبِرِّ هُوَ تَوْلِيَةَ الْوَجْهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَالَّذِي يُسْتَدْرَكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْفَى، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: لَيْسَ الْكَرَمُ أَنْ تَبْذُلَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّ الْكَرَمَ بَذْلُ الْآلَافِ، فَلَا يُنَاسِبُ: وَلَكِنَّ الْكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الْآلَافَ إِلَّا إِنْ كَانَ قَبْلَهُ: لَيْسَ الْكَرِيمُ بِبَاذِلِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّ الْبَرَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْمَ فَاعِلٍ، تَقُولُ: بَرَرْتُ أَبَرُّ، فَأَنَا بَرٌّ وَبَارٌّ، قِيلَ: فَبُنِيَ تَارَةً عَلَى فَعْلٍ، نَحْوَ: كَهْلٍ، وَصَعْبٍ، وَتَارَةً عَلَى فَاعِلٍ، وَالْأَوْلَى ادِّعَاءُ حَذْفِ الْأَلِفِ مِنَ الْبَرِّ، وَمِثْلُهُ: سَرٌّ، وَقَرٌّ، وَرَبٌّ، أَيْ: سَارٌّ، وَقَارٌّ، وَبَارٌّ، وَرَابٌّ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ آمَنَ، مَعْنَاهُ الْإِيمَانُ لَمَّا وَقَعَ مَنْ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ جُعِلَ خَبَرًا لِلْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الِاسْمَ خَبَرًا لِلْفِعْلِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
لَعَمْرُكَ مَا الْفِتْيَان أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى
…
وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَانُ كل فتى ندب
جَعَلَ نَبَاتَ اللِّحْيَةِ خَبَرًا لِلْفَتَى، وَالْمَعْنَى: لَعَمْرُكَ مَا الْفُتُوَّةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: ولكن بِسُكُونِ النُّونِ خَفِيفَةً، وَرَفْعِ الْبِرِّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ مُشَدَّدَةً وَنَصْبِ الْبِرِّ، وَالْإِعْرَابُ وَاضِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا «2» .
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إن كان الْإِيمَانِ مُصَرَّحًا بِهَا كَمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وملائكته
(1) سورة مريم: 19/ 16.
(2)
سورة البقرة: 2/ 102.
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ يَتَضَمَّنُهُ، وَمَضْمُونُ الْآيَةِ: أَنَّ الْبِرَّ لَا يَحْصُلُ بِاسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بَلْ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، أمّا اليهود فللتجسم وَلِقَوْلِهِمْ:
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِقَوْلِهِمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «2» .
الثَّانِي: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهِ حَيْثُ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً «3» وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ.
وَالثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ عَادَوْا جِبْرِيلَ.
وَالرَّابِعُ: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ أَنْكَرُوا الْقُرْآنَ.
وَالْخَامِسُ: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ، وَالْيَهُودُ قَتَلُوهُمْ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ طَعَنَا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَالسَّادِسُ: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ أَلْقَوُا الشُّبَهَ لِأَخْذِ الْأَمْوَالِ.
وَالسَّابِعُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْيَهُودُ يَمْتَنِعُونَ مِنْهَا.
وَالثَّامِنُ: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوهُ.
وَهَذَا النَّفْيُ السَّابِقُ، وَالِاسْتِدْرَاكُ لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ بِرًّا، ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّ الْبِرَّ أُمُورٌ.
أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَيُحْمَلُ النَّفْيُ لِلْبِرِّ عَلَى نَفْيِ مَجْمُوعِ الْبِرِّ، لَا عَلَى نَفْيِ أَصْلِهِ، أَيْ: لَيْسَ الْبِرُّ كُلُّهُ هُوَ هَذَا، وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ مَا ذُكِرَ، وَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ أَصْلِ الْبِرِّ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بَعْدَ النَّسْخِ كَانَ إِثْمًا وَفُجُورًا، فَلَا يُعَدُّ فِي الْبِرِّ، أَوْ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لَا يَكُونُ بِرًّا إِذَا لَمْ تُقَارِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِرًّا مَعَ الْإِيمَانِ وَتِلْكَ الشَّرَائِطِ.
وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَالْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَصِدْقِ الْكُتُبِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ اعْتُبِرَ فِيهِ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ، لأن
(1) سورة التوبة: 9/ 30.
(2)
سورة التوبة: 9/ 30.
(3)
سورة البقرة: 2/ 80، وسورة آل عمران: 3/ 24.
الْمَلَكَ يُوجَدُ أَوَّلًا ثُمَّ يَحْصُلُ بِوَسَاطَةِ تَبْلِيغِهِ نُزُولُ الْكُتُبِ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الرَّسُولِ، فَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ الْخَارِجِيُّ، لَا التَّرْتِيبُ الذِّهْنِيُّ.
وَقُدِّمَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَهُ مَبْدَأٌ، وَوَسَطٌ، وَمُنْتَهًى، وَمَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَصَالِحِ الْوَسَطِ فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةِ الْآتِينَ بِالْوَحْيِ، وَالْمُوحَى بِهِ: وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُوحَى إِلَيْهِ: وَهُوَ الرَّسُولُ.
وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ عَلَى أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ: إِيتَاءُ الْمَالِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ النَّافِعَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَنْشَأُ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ الْإِيمَانِ، حَصَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يَسْتَدْعِي الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَبَقَائِهِ وَعِلْمِهِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَإِرَادَتِهِ وَكَوْنِهِ سَمِيعًا وَبَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَالِّيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَالْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا يَلْزَمُ، مِنْ أَحْكَامِ: الْمَعَادِ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. وَالْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ أَدَائِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ يَقْتَضِي التَّصْدِيقَ بِكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَالْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّينَ يَقْتَضِي التَّصْدِيقَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ.
قَالَ الرَّاغِبُ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَخَّرَهُ فِي قَوْلِهِ:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» قِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْرِفُ الْآخِرَةَ، وَلَا يُعْنَى بِهَا وَهِيَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْحَقَائِقِ عِنْدَهُ، فَأَخَّرَ ذِكْرَهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ أَمْرُ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ وَيَتَحَرَّاهُ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ الله تعالى، ثم أمر الْآخِرَةِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبِرَّ مُرَاعَاةُ اللَّهِ وَمُرَاعَاةُ الْآخِرَةِ ثُمَّ مُرَاعَاةُ غَيْرِهِمَا. انْتَهَى كَلَامُهُ..
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إِيتَاءُ الْمَالِ هُنَا قِيلَ: كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ بِالزَّكَاةِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ.
(1) سورة النساء: 4/ 136.
وَقِيلَ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَصَارِفَهَا، وَضُعِّفَ بِعَطْفِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أنه غيرها.
قيل: هِيَ نَوَافِلُ الصَّدَقَاتِ وَالْمَبَارِّ، وَضُعِّفَ بِقَوْلِهِ آخِرَ الْآيَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ نَدْبًا لَمَا وَقَفَ التَّقْوَى، وَهَذَا التَّضْعِيفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِالتَّقْوَى مَنِ اتَّصَفَ بِمَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَفْرُوضِ وَالْمَنْدُوبِ، فَلَمْ يُفْرِدِ التَّقْوَى، ثُمَّ اتَّصَفَ بِالْمَنْدُوبِ فَقَطْ وَلَا وَقَفَهَا عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ جَاءَ ذِكْرُ التَّقْوَى لِمَنْ فَعَلَ الْمَنْدُوبَ سَاغَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ فِي الْمَنْدُوبِ فَلَأَنْ يُطِيعَهُ فِي الْمَفْرُوضِ أَحْرَى وَأَوْلَى.
وَقِيلَ: هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: رَفْعُ الْحَاجَاتِ الضرورية مثل إطعام لِلْمُضْطَرِّ، فَأَمَّا مَا
رُوِيَ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَنْحِتُ كُلَّ حَقٍّ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُقَدَّرَةِ.
أَمَّا مَا لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا فَغَيْرُ مَنْسُوخٍ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ التَّصَدُّقِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَعَلَى الْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.
عَلى حُبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَى وَهُوَ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعْطِي الْمَالَ مُحِبًّا لَهُ، أَيْ:
فِي حَالِ مَحَبَّتِهِ لِلْمَالِ وَاخْتِيَارِهِ وَإِيثَارِهِ، وَهَذَا وَصْفٌ عَظِيمٌ، أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مُتَعَلِّقَةً بِشَيْءٍ تَعَلُّقَ الْمُحِبِّ بِمَحْبُوبِهِ، ثُمَّ يُؤْثِرُ بِهِ غَيْرَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُبِّهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَمِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ فَاعِلُهُ الْمُؤْتِي، كَمَا فَسَّرْنَاهُ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ الْمُؤْتُونَ، أَيْ حُبُّهُمْ لَهُ وَاحْتِيَاجُهُمْ إِلَيْهِ وَفَاقَتُهُمْ، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ: أَعْطَى الْمَالَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ فَآثَرَ بِهِ غَيْرَهُ، فَقَوْلُ ابْنِ الْفَضْلِ: أَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ آتَى، أَيْ:
عَلَى حُبِّ الْإِيتَاءِ، بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّهُ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مُصَرَّحٍ بِهِ، وَعَلَى أَبْعَدِ مِنَ الْمَالِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يَكَادُ يُمْدَحُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ هَوَى نَفْسِهِ وَمُرَادُهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا
…
كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ
وَقَوْلُ مَنْ أَعَادَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَبْعَدُ، لِأَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى لَفْظٍ بَعِيدٍ مَعَ حُسْنِ عَوْدِهِ عَلَى لَفْظٍ قَرِيبٍ، وَفِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجِيءُ قَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ اعْتِرَاضًا بَلِيغًا أَثْنَاءَ الْقَوْلِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالِاعْتِرَاضِ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فِي النَّحْوِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِجُمْلَةٍ، وَلَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَإِنْ أَرَادَ بِالِاعْتِرَاضِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ بِالْحَالِ فَيَصِحُّ، لَكِنْ فِيهِ إِلْبَاسٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَصْلًا بَلِيغًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْقَوْلِ.
ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى فَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ بِوِلَادَةٍ، وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، لِأَنَّ الحرم حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَأَمَّا الْقَرَابَةُ فَهِيَ لَفْظَةٌ لُغَوِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي صِلَةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، فِي قَوْلِهِ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1» فاغنى عن إعادته.
ذَوِي الْقُرْبى وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، الْمالَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ إِيتَاءَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ اعْتِنَاءً بِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ فَإِنَّ الْمالَ عِنْدَهُ هُوَ المفعول الأول، وذَوِي الْقُرْبى وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، فَأَتَى التَّقْدِيمُ على أصله عنده. والْيَتامى مَعْطُوفٌ عَلَى ذَوِي الْقُرْبى حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفٍ أَيْ ذَوِي الْيَتَامَى، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَعْرِفُ وُجُوهَ مَنَافِعِهِ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ أَخْطَأَ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا عَارِفًا بِمَوَاقِعِ حَقِّهِ، وَالصَّدَقَةُ تُؤْكَلُ أَوْ تُلْبَسُ، جَازَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَصَّ الْيَتِيمَ بِغَيْرِ الْبَالِغِ، وَأَمَّا مَنَ الْبَالِغُ وَالصَّغِيرُ عِنْدَهُ يَنْطَلِقُ عليها يَتِيمٌ، فَيُدْفَعُ لِلْبَالِغِ وَلِوَلِيِّ الصغير. انتهى.
(1) سورة البقرة: 2/ 83.
وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ لِصِدْقِ: آتَيْتُ زَيْدًا مَالًا، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ هُوَ الْأَخْذَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَكِيلِهِ.
وَابْنَ السَّبِيلِ: الضَّيْفِ، قَالَهُ قَتَادَةٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ أَوِ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ عَلَيْكَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَسُمِّيَ: ابْنَ السَّبِيلِ بِمُلَازَمَتِهِ السَّبِيلَ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، كَمَا قِيلَ لِطَائِرٍ يُلَازِمُ الْمَاءَ ابْنُ مَاءٍ، وَلِمَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ دُهُورٌ: ابْنُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَ ابْنَ سَبِيلٍ لِأَنَّ السَّبِيلَ تُبْرِزُهُ، شَبَّهَ إِبْرَازَهَا لَهُ بِالْوِلَادَةِ، فَأُطْلِقَتْ عَلَيْهِ البنوّة مجازا والمنقطع فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدِهِ، وَبَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي انْقَطَعَ فِيهِ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَفَرًا وَلَا يَجِدُ نَفَقَةً، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَالسَّائِلُونَ: هُمُ الْمُسْتَطْعِمُونَ، وَهُوَ الَّذِي تَدْعُوهُ الضَّرُورَةُ إِلَى السُّؤَالِ فِي سَدِّ خَلَّتِهِ، إِذْ لَا تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ إِلَّا عِنْدَ ذَلِكَ.
وَمَنْ جَعَلَ إِيتَاءَ الْمَالِ لِهَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ الزَّكَاةَ، أَجَازَ إِيتَاءَهُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ السُّؤَالِ وَيُحْمَلُ عَلَى غير حال الضرورة.
والرِّقابِ:
هُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ، قَالَهُ عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ.
أَوْ: عَبِيدٌ يُشْتَرَوْنَ وَيُعْتَقُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ.
أَوِ: الْأُسَارَى يُفْدَوْنَ وَتُفَكُّ رِقَابُهُمْ مِنَ الْأَسْرِ وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِيتَاءُ هُوَ الزَّكَاةَ فَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَنْ يَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ الْأَمْرَانِ، وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِيمَنْ يُؤْتِي الْمَالَ تَقْدِيمًا، الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، لِأَنَّ الْفَقِيرَ الْقَرِيبَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِلْجَمْعِ فِيهَا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ القرابة من أو كد الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهَا، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْإِرْثُ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْيَتَامَى لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ
لِصِغَرِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ بِابْنِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ بِالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
قَالَ الرَّاغِبُ: اخْتِيرَ هَذَا التَّرْتِيبُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى مَنْ يَتَفَقَّدُ الْإِنْسَانُ لِمَعْرُوفِهِ أَقَارِبَهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْيَتَامَى، وَالنَّاسُ فِي الْمَكَاسِبِ ثَلَاثَةٌ: مَعِيلٌ غَيْرُ مَعُولٍ، وَمَعُولٌ مَعِيلٌ، وَمَعُولٌ غَيْرُ مَعِيلٍ. وَالْيَتِيمُ: مَعُولٌ غَيْرُ مَعِيلٍ، فَمُوَاسَاتُهُ بَعْدَ الْأَقَارِبِ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ الَّذِينَ مِنْهُمْ صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّقَابَ الَّذِينَ لَهُمْ أَرْبَابٌ يَعُولُونَهُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَخَّرَ ذِكْرَهُ أَقَلُّ فَقْرًا مِمَّنْ قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَيْهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَكُّ أَسْرَاهُمْ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَتِيمِ: هَلْ يُعْطَى مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِمُجَرَّدِ الْيُتْمِ عَلَى جِهَةِ الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ أَوْ لَا يُعْطِي حَتَّى يَكُونَ فَقِيرًا؟ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِالْإِيتَاءِ السَّابِقِ الزَّكَاةُ كَانَ ذِكْرُ هَذَا تَوْكِيدًا، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقَاوِيلُ فِيهِ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الزَّكَاةُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِيهِ أَشْيَاءُ لَمْ تُذْكَرْ فِي مَصْرِفِ هَذَا والإيتاء، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَتُكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَتَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ:
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ عَلَى صِلَةِ مَنْ، وَصِلَةُ مَنْ آمَنَ وَآتَى، وَتَقَدَّمَتْ صِلَةُ مَنْ الَّتِي هِيَ: آمَنَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَبَّدِ بِهَا، وَهُوَ رَأْسُ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ. وَثَنَّى بِإِيتَاءِ الْمَالِ مَنْ ذُكِرَ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَرِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمِنْ مَنَاقِبِهَا الْجَلِيَّةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ حَتَّى هُمْ يُحْسِنُونَ لِلْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانُوا مُسِيئِينَ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يَحْتَمِلُونَ مِنْ غَيْرِ الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ طَرَفَةَ الْعَبْدِيِّ:
فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّيَ مَالِكًا
…
مَتَّى أَدْنُ مِنْهُ يَنْأَ عَنِّي وَيَبْعُدِ
وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى قَصِيدَةُ الْمُقَنَّعِ الْكِنْدِيِّ الَّتِي أَوَّلُهَا:
يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا
…
دُيُونِي فِي أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْدَا
وَمِنْهَا:
لَهُمْ جُلُّ مَالِي إِنْ تَتَابَعَ لِي غِنَى
…
وَإِنْ قَلَّ مَالِي لَمْ أُكَلِّفْهُمْ رِفْدَا
وَكَانُوا يُحْسِنُونَ إِلَى الْيَتَامَى وَيَلْطُفُونَ بِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
إِذَا بَعْضُ السِّنِينَ تَعَرَّقَتْنَا
…
كَفَى الْأَيْتَامَ فَقْدُ أَبِي الْيَتِيمِ
وَيَفْتَخِرُونَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ مِنَ الْأَضْيَافِ وَالْمُسَافِرِينَ، كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ
…
وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ
وَقَالَ الْمُقَنَّعُ وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ نَازِلًا وَقَالَ آخَرُ
وَرُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الْحَيَّ سُرَى
…
صَادَفَ زَادًا وَحَدِيثًا مَا اشْتَهَى
وَقَالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانَ:
لَا تَعْذِلِينِي عَلَى إِتْيَانِ مَكْرُمَةٍ
…
نَاهَبْتُهَا إِذْ رَأَيْتُ الْحَمْدَ مُنْتَهَبَا
فِي عُقْرِ نَابٍ وَلَا مَالٌ أَجْوَدُ بِهِ
…
وَالْحَمْدُ خَيْرٌ لِمَنْ يَنْتَابُهُ عَقِبَا
وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ الأرت:
وإني لقوّال لعافيّ: مَرْحَبَا
…
وَلِلطَّالِبِ الْمَعْرُوفِ: إِنَّكَ واجده
وإني لمما أَبْسُطُ الْكَفَّ بِالنَّدَى
…
إِذَا شَنِجَتْ كَفُّ الْبَخِيلِ وَسَاعِدُهْ
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِهِمُ الْكَرِيمَةِ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مقدمة لإيتاء الزكاة، يحرص عَلَيْهَا بِذَلِكَ، إِذْ مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ إِنْفَاقَ مَالِهِ عَلَى الْقَرَابَةِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وإيتاء السَّبِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْمَكْرُمَةِ، فَلَأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْفَاقَهُ مِنَ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ طُهْرَتُهُ وَيَرْجُو بِذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عِنْدَهُ أَوْكَدُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ.
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا: وَالْمُوفُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ، وَقِيلَ: رَفْعُهُ عَلَى إِضْمَارِ، وَهُمُ الْمُوفُونَ، وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، الْمُوفُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ الْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ
عَنْ وَقْتِ الْمُعَاهَدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِيفَاءِ وَالْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَالْمُوفِينَ، نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ.
وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: بِعُهُودِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ.
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ: انْتَصَبَ: وَالصَّابِرِينَ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْقَطْعُ إِلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ فِي صِفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالتَّرَحُّمِ، وَعَطْفُ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَعْقُوبُ: وَالصَّابِرُونَ، عَطْفًا عَلَى: الْمُوفُونَ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي معرض المدح والذم، والأحسن أَنْ تُخَالَفَ بِإِعْرَابِهَا وَلَا تُجْعَلَ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ من موضع الْإِطْنَابِ فِي الْوَصْفِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الْقَوْلِ، فَإِذَا خُولِفَ بِإِعْرَابِ الْأَوْصَافِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ، وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الْإِعْرَابِ يَكُونُ وَجْهًا وَاحِدًا أو جملة وَاحِدَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ الرَّاغِبُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَوَفَّى، كَمَا قَالَ: وَأَقَامَ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
اللَّفْظُ، وَهُوَ أَنَّ الصِّلَةَ مَتَى طَالَتْ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَوْصُولِ دُونَ الصِّلَةِ لِئَلَّا يَطُولَ وَيَقْبُحَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الشَّرِيعَةِ، وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ إِلَّا مِنْهَا، وَالْحِكْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْعَدَالَةَ دُونَ الْجَوْرِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ مِمَّا تَقْضِي بِهِ الْعُقُودُ الْمُجَرَّدَةُ، صَارَ عَطْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَحْسَنَ، وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ مِنْ وَجْهٍ مَبْدَأَ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ وَجْهٍ جَامِعًا لِلْفَضَائِلِ، إِذْ لَا فَضِيلَةَ إِلَّا وَلِلصَّبْرِ فِيهَا أَثَرٌ بَلِيغٌ، غَيَّرَ إِعْرَابَهُ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى تفسير قوله حِينَ الْبَأْسِ أَنَّهُ: حَالَةُ الْقِتَالِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي: الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَأْسَاءَ هُوَ الْفَقْرُ وَأَنَّ الضَّرَّاءَ الزَّمَانَةُ فِي الْجَسَدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ.
وَقِيلَ: الْبَأْسَاءُ: الْقِتَالُ، وَالضَّرَّاءُ: الْحِصَارُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَهَذَا مِنْ باب الترقي
(1) سورة البقرة: 2/ 40.
فِي الصَّبْرِ مِنَ الشَّدِيدِ إِلَى أَشَدَّ، فَذَكَرَ أَوَّلًا الصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ، ثُمَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَرَضِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْفَقْرِ، ثُمَّ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: اسْتَوْعَبَ أَنْوَاعَ الصَّبْرِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُوتِ فَلَا يَنَالُهُ، وَهُوَ: الْبَأْسَاءُ، أَوْ فِيمَا يَنَالُ جِسْمَهُ مِنْ أَلَمٍ وسقم، وهو: الضراء فِي مُدَافَعَةِ مُؤْذِيهِ، وَهُوَ: البأساء. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعَدَّى الصَّابِرِينَ إِلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ بِفِي لِأَنَّهُ لَا يُمْدَحُ الْإِنْسَانُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا إِذَا صَارَ لَهُ الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ كَالظَّرْفِ، وَأَمَّا الْفَقْرُ وَقْتًا مَا، أَوِ الْمَرَضُ وَقْتًا مَا، فَلَا يَكَادُ يُمْدَحُ الْإِنْسَانُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْقِتَالُ فَعَدَّى الصَّابِرِينَ إِلَى ظَرْفِ زَمَانِهِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا تَكَادُ تَدُومُ، وَفِيهَا الزَّمَانُ الطَّوِيلُ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِ الْقِتَالِ، فَلَمْ تَكُنْ حَالَةُ الْقِتَالِ تُعَدَّى إِلَيْهَا بِفِي الْمُقْتَضِيَةِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ فِيهَا، كَالْجِرْمِ الْمَحْسُوسِ، وَعَطْفُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْبِرِّ اسْتِكْمَالَهَا وَجَمْعَهَا، فَمَنْ قَامَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا لَمْ يُوصَفْ بِالْبِرِّ، وَلِذَلِكَ خَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا بِالْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، قَالَ: لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أَشَارَ: بِأُولَئِكَ، إِلَى الَّذِينَ جَمَعُوا تِلْكَ الْأَوْصَافَ الْجَلِيَّةَ، مِنَ الِاتِّصَافِ بِالْإِيمَانِ وَمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يُؤْتَى بِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ: يُشَارُ بِهِ إِلَى مَنْ جَمَعَ عِدَّةَ أَوْصَافٍ سَابِقَةٍ، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «1» وَالصِّدْقُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ فَيَكُونُ مُقَابِلَ الْكَذِبِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطَابِقُ أَقْوَالَهُمْ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْخَبَرِ فَإِذَا أَخْبَرُوا بِشَيْءٍ كَانَ صِدْقًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْكَذِبُ، وَمِنْهُ:
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالصِّدْقِ: الصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الرِّيَاءِ أَيْ: أَخْلَصُوا أَعْمَالَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، بَلْ قَصَدُوا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا عِنْدَ الظن بهم،
(1) سورة البقرة: 2/ 5.
كَمَا تَقُولُ: صَدَقَنِي الرُّمْحُ، أَيْ: وَجَدْتُهُ عِنْدَ اخْتِبَارِهِ كَمَا أَخْتَارُ وَكَمَا أَظُنُّ بِهِ، وَالتَّقْوَى هُنَا اتِّقَاءُ عَذَابِ اللَّهِ بِتَجَنُّبِ مَعَاصِيهِ، وَامْتِثَالِ طَاعَتِهِ.
وَتَنَوَّعَ هُنَا الْخَبَرُ عَنْ أُولَئِكَ، فَأَخْبَرَ عَنْ أُولَئِكَ الْأُوَلِ: بِالَّذِينَ صَدَقُوا، وَهُوَ مَفْصُولٌ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ اتِّصَافِهِمْ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ وَثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، وَأَخْبَرَ عَنْ أُولَئِكَ الثَّانِي: بِمَوْصُولٍ صِلَتُهُ اسْمُ الْفَاعِلِ لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ لَا يَتَجَدَّدُ، بَلْ صَارَ سَجِيَّةً لَهُمْ وَوَصْفًا لَازِمًا، وَلِكَوْنِهِ أَيْضًا وَقَعَ فَاصِلَةَ آيَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا لَمَا كَانَ يَقَعُ فَاصِلَةً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى: رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ أَعِزَّةٍ أَقْوِيَاءَ لَا يَقْتُلُونَ بِالْعَبْدِ مِنْهُمْ إِلَّا سَيِّدًا، وَلَا بِالْمَرْأَةِ إِلَّا رَجُلًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي فَرِيقَيْنِ قتل أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ، وَالْآخَرُ كَافِرٌ مُعَاهِدٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَعَبِيدٍ، فَنَزَلَتْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ الرَّجُلِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الرَّجُلِ، وَدِيَةَ الْمَرْأَةِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَدِيَةَ الْعَبْدِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الْعَبْدِ. ثُمَّ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا.
وَقِيلَ: نزلت في حين مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ لَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. وقال مقاتل بن حبان: هُمَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا طَوْلٌ عَلَى الْأُخْرَى فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ، وَكَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَهُمْ بِغَيْرِ مُهُورٍ، وَأَقْسَمُوا لَيَقْتُلُنَّ بِالْعَبْدِ الْحُرَّ، وَجَعَلُوا جِرَاحَاتِهِمْ ضِعْفَيْ جِرَاحَاتِ أُولَئِكَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فَرَضُوا
، وَفِي ذَلِكَ قَالَ قَائِلُهُمْ:
هُمُ قَتَلُوا فِيكُمْ مَظِنَّةَ وَاحِدٍ
…
ثَمَانِيَةً ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فَأَرْبَعُوا
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ غَنِيٍّ قَتَلَ شَاسَ بْنَ زُهَيْرٍ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ أَبُوهُ زُهَيْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ فَقَالُوا لَهُ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ يَذُبُّ عَنْهُمْ: سَلْ فِي قَتْلِ شَاسٍ، فَقَالَ: إِحْدَى ثَلَاثٍ لَا يُرْضِينِي غَيْرُهُنَّ، فَقَالُوا: مَا هُنَّ؟ فَقَالَ: تحيون شأسا، أو تملؤون دَارِي مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ، أَوْ تَدْفَعُونَ لِي غَنِيًّا بِأَسْرِهَا فَأَقْتُلُهَا، ثُمَّ لَا أَرَى أَنِّي أَخَذْتُ عِوَضًا.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا حَلَّلَ مَا حَلَّلَ قَبْلُ، وَحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِذِكْرِ مَنْ أَخَذَ مَالًا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَأَنَّهُ مَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ إِلَّا النَّارَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ انْتِظَامَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي انْطَوَوْا عَلَيْهَا، أَخَذَ يَذْكُرُ تَحْرِيمَ الدِّمَاءِ، وَيَسْتَدْعِي حِفْظَهَا وَصَوْنَهَا، فَنَبَّهَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ مَالٍ بِسَبَبِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ تَبْيِينِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ مِنَ الْمَأْكُولِ عَلَى تَبْيِينِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِالْمَأْكُولِ، لِأَنَّ بِهِ قِوَامَ الْبِنْيَةِ، وَحِفْظَ صُورَةِ الْإِنْسَانِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ مُتْلِفِ تِلْكَ الصُّورَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا يَنْدُرُ مِنْهُ وُقُوعُ الْقَتْلِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ بَعِيدٌ مِنْهُ وُقُوعُ ذَلِكَ، وَكَانَ ذِكْرُ تَقْدِيمِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَعَمُّ، وَنَبَّهَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ، وَإِنَّ عَرَضَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْبِرِّ، وَلَا عَنِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.
وَأَصْلُ الْكِتَابَةِ: الْخَطُّ الَّذِي يُقْرَأُ، وَعَبَّرَ بِهِ هُنَا عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَالْإِثْبَاتِ، أَيْ:
فُرِضَ وَأُثْبِتَ، لِأَنَّ مَا كُتِبَ جَدِيرٌ بِثُبُوتِهِ وَبَقَائِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَسَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى كُتِبَ: أُمِرَ، كَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «1» أَيِ: الَّتِي أُمِرْتُمْ بِدُخُولِهَا.
وَقِيلَ: يَأْتِي كَتَبَ بِمَعْنَى جَعَلَ، وَمِنْهُ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «2» فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «3» وَتَعَدِّي كَتَبَ هُنَا بِعَلَى يُشْعِرُ بالفرض والوجوب، وفِي الْقَتْلى فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ الْقَتْلَى، مِثْلَ:«دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» .
وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَجَبَ عَلَيْكُمُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ بِسَبَبِ قَتْلِ الْقَتْلَى بِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقَ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يُجْرَى مَجْرَاهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ إِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الدَّمِ اسْتِيفَاءَهُ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا مَعَ الْقَاتِلِ، وَالتَّقْدِيرُ، يَا أيها القاتلون، كتب
(1) سورة المائدة: 5/ 21.
(2)
سورة المجادلة: 58/ 22.
(3)
سورة الأعراف: 7/ 156. [.....]
عَلَيْكُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ قَتْلَهُ، أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَيَنْقَادَ لِقِصَاصِهِ الْمَشْرُوعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، فَإِنَّ لَهُمَا الْهَرَبُ مِنَ الْحَدِّ، وَلَهُمَا أَنْ يَسْتَتِرَا بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلَهُمَا أَنْ لَا يَعْتَرِفَا.
وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ الْوُقُوفُ عِنْدَ قَاتِلِ وَلِيِّهِ، وَأَنْ لَا يَتَعَدَّى عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ بِأَنْ تَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِ قَتِيلِهَا مِنْ قَوْمِهِ، وَهَذَا الْكَتْبُ فِي الْقِصَاصِ مَخْصُوصٌ بِأَنْ لَا يَرْضَى الْوَلِيُّ بِدِيَةٍ أَوْ عَفْوٍ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ هُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ التَّشَاحُنِ، وَأَمَّا إِذَا رَضِيَ بِدُونِ الْقِصَاصِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ عَفْوٍ فَلَا قِصَاصَ.
قَالَ الرَّاغِبُ: فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَنْ يَتَوَجَّهُ هَذَا الْوُجُوبُ؟ قِيلَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَهُوَ الْقَاتِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ الْإِمَامُ إِذَا طَلَبَهُ الْوَلِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ المعاونة والرضى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، بَلْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَالْقَصْدُ بِالْآيَةِ مَنْعُ التَّعَدِّي، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَعَدَّوْنَ فِي الْقَتْلِ، وَرُبَّمَا لَا يَرْضَى أَحَدُهُمْ إِذَا قُتِلَ عَبْدُهُمْ إِلَّا بِقَتْلِ حُرٍّ. اه كَلَامُهُ.
وَتَلَخَّصَ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْقَاتِلُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَهْيَ ناسخة أو مَنْسُوخَةٌ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي نَسْخِ التَّرَاجُعِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، إِذَا قَتَلَ الرَّجُلَ امْرَأَةً كَانَ وَلَيُّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِهِ مَعَ تَأْدِيَةِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَتَرْكِهِ،. وَإِنْ كَانَ قَاتِلُ الرَّجُلِ امْرَأَةً، كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَأَخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرجل، وإن شاؤوا أَخَذُوا الدِّيَةَ كَامِلَةً وَلَمْ يَقْتُلُوهَا.
قَالَ: فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. اه. وَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا، لِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ فَيُنْسَخُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى كِتَابَةَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بَيَّنَ مَنْ يَقَعُ بَيْنَهُمُ الْقِصَاصُ فَقَالَ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى، وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمَلِ، فَقِيلَ: يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلَّا بَيْنَ الْحُرَّيْنِ، وَبَيْنَ
الْعَبْدَيْنِ، وَبَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْخَذُ الْحُرُّ إِلَّا بِالْحُرِّ، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ إِلَّا بِالْعَبْدِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْأُنْثَى إِلَّا بِالْأُنْثَى.
رُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَفِيهَا إِجْمَالٌ فَسَّرَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ.
وَقِيلَ: لَا تَدَلُّ عَلَى الْحَصْرِ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ بين المذكور، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمُومَ: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى تَقْتَضِي قِصَاصَ الْحُرَّةِ بِالرَّقِيقَةِ؟ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ لِتَصَادُمِ الْعُمُومَانِ.
وَقَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَقَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ ذِكْرٌ لِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْجُزْئِيَّاتِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ فِيهِ، وَأُعِيدَ ذِكْرُ الْأُنْثَى تَوْكِيدًا وَتَهَمُّمًا بِإِذْهَابِ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً حُكْمَ الْمَذْكُورِينَ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ عَبْدٌ حُرًّا، وَذَكَرٌ أُنْثَى، أَوْ أُنْثَى ذَكَرًا.
وَقَالَا: إِنَّهُ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهَا قَتَلُوا بِهَا صَاحَبَهُمْ وَوَفَّوْا أَوْلِيَاءَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا اسْتَحْيَوْهُ وَأَخَذُوا مِنْهُ دِيَةَ الْمَرْأَةِ. وَإِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهُ قَتَلُوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِلَّا أَخَذُوا دِيَةَ صَاحِبِهِمْ وَاسْتَحْيَوْهَا، وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْعَبْدَ فَإِنْ أَرَادَ سَيِّدُ الْعَبْدِ قَتَلَ وَأَعْطَى دِيَةَ الْحُرِّ إِلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَحْيَى وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَبْدِ.
وَقَدْ أُنْكِرُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَرَوْنَ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ، وَفِرْقَةٌ تَرَى الْإِتْبَاعَ بِفَضْلِ الدِّيَاتِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ إِذَا قتل مسلم حُرًّا بِمُحَدَّدٍ، وَظَاهِرُ عُمُومِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ أَنَّ الْوَالِدَ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، قَالَ: إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَصَدَ إِلَى قَتْلِهِ مِثْلَ أَنْ يُضْجِعَهُ وَيَذْبَحَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ الَّتِي لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ قُتِلَ بِهِ، وإن قتله يرمى بشيء أو يضرب، فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْتَلُ، وَالْآخَرُ: لَا يُقْتَلُ.
وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَيْهِ الدية في ماله، قَالَ بِذَلِكَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوُّوا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يُقَادُ الْجَدُّ بِابْنِ الِابْنِ، وَكَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ، وَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ قَتْلُ الِابْنِ بِأَبِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا قَتْلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ لَوِ انْفَرَدَ إِذَا شَارَكَ مَنْ لَا يَجِبُ عليه القتل كالمخطىء وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْأَبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَى الْأَبِ الْقَاتِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمُخْطِئُ وَالْمَجْنُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِكِينَ مِمَّنْ ذُكِرَ الدِّيَةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ الْمُشَارِكِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَا عَبْدًا، وَالْمُسْلِمُ وَالنَّصْرَانِيُّ إِذَا قَتَلَا نَصْرَانِيًّا، وَإِنْ شَارَكَهُ قَاتِلُ خَطَأٍ فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَجِنَايَةُ الْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بقتل الْحُرُّ بِالْعَبْدِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ بِهِ. قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: إِنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ وَكُلُّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ الْقَتْلُ، مِنْ مُثَقَّلِ حَجَرٍ، أَوْ خَشَبَةٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَالشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ بِمُثَقَّلٍ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَدَمُ تَعْيِينِ الْآلَةِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ،
وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْغُنَيْمِ، عَنْ مَالِكٍ: إِنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ نَارٍ أَوْ تَغْرِيقٍ قُتِلَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا قَتَلَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ.
وَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ: يُقْتَلُ بِمِثْلِ الَّذِي قَتَلَ بِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بِخَشَبٍ، أَوْ بِخَنْقٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ: إِنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ حَتَّى مَاتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَبَسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يُضْرَبُ مِثْلَ ضَرْبِهِ وَلَا يُضْرَبُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ المثلة ويقولون: يجزي ذَلِكَ كُلِّهِ السَّيْفُ. قَالَ: فَإِنْ غَمَسَهُ فِي الْمَاءِ حَتَّى مَاتَ، فَلَا يَزَالُ يُغْمَسُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَمُوتَ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ: فِي الْقَتْلى وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ. وَهُوَ: أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ إِلَّا فِي الْأَنْفُسِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ فِي الْجِنَايَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحِ، وَلَا يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ ظَاهِرِهَا، وَأَجْمَعُوا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِنْ صَنْعَاءَ بِامْرَأَةٍ، وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ وَبِالْعَبْدِ، وَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَقَدْ وَهَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نِسْبَتِهِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الذَّكَرَ لَا يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى، وَلَا خِلَافَ عَنْهُمَا فِي أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا.
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إِذَا قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَتَلَهَا هُوَ فَعَلَيْهِ الْقَوْدُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، إِلَى أَنَّهُ لا قصاص من بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا فِي
الْأَنْفُسِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَاقِعٌ فِيمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، إِلَّا أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: إِذَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ عَقَلَهَا وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ.
وَأَعْرَبَ هذه الجمل مبتدأ وخبر، وَهِيَ ذَوَاتٌ ابْتُدِئَ بِهَا، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ أَخْبَارٌ عَنْهَا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلسَّبَبِ، وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنٍ خَاصٍّ لَا بِكَوْنٍ مُطْلَقٍ، وَقَامَ الْجَارُّ مَقَامَ الْكَوْنِ الْخَاصِّ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذِ الْكَوْنُ الْخَاصُّ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا، إِذِ الدَّلِيلُ عَلَى حَذْفِهِ قَوِيٌّ إِذْ تَقَدَّمَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَالتَّقْدِيرُ: الْحُرُّ مَقْتُولٌ بِالْحُرِّ، أَيْ: بِقَتْلِهِ الْحُرَّ، فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ الْعَامِلِ كَوْنًا مُطْلَقًا، وَلَوْ قُلْتَ: الْحُرُّ كَائِنٌ بِالْحُرِّ، لَمْ يَكُنْ كَلَامًا إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ مُضَافًا قَدْ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَيَجُوزُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَتْلُ الْحُرِّ كَائِنٌ بِالْحُرِّ، أي: بقتل الْحُرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُرُّ مَرْفُوعًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا قَبْلَهُ، التقدير: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِقَتْلِهِ الْحُرَّ، إِذْ فِي قَوْلِهِ: الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى دَلَالَةٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ.
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ كَانَ لَهُمُ الْقَتْلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَهْلَ الْإِنْجِيلِ كَانَ لَهُمُ الْعَفْوُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْدٌ، وَجَعَلَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِمَنْ شَاءَ الْقَتْلَ، وَلِمَنْ شَاءَ أَخْذَ الدِّيَةِ، وَلِمَنْ شَاءَ الْعَفْوَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَحِلَّ الدِّيَةُ لِأَحَدٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ كَانَ الْقِصَاصَ أَوِ الْعَفْوَ. وَلَا أَرْشَ بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ الدِّيَةَ وَالْعَفْوَ لَا أَرْشَ بَيْنَهُمْ، فَخَيَّرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ.
وَارْتِفَاعُ: مَنْ، عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهِيَ شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ: مَنْ، هُوَ الْقَاتِلُ وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ ومِنْ أَخِيهِ عائد عليه، وَشَيْءٍ: هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فاعله، وهو معنى الْمَصْدَرِ، وَبُنِيَ عَفَا، لِلْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا، لِأَنَّ اللَّازِمَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ «1» وَالْأَخُ هُوَ الْمَقْتُولُ، أَيْ: مِنْ دَمِ أَخِيهِ أَوْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَسَمَّاهُ أَخًا لِلْقَاتِلِ اعْتِبَارًا بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ اسْتِعْطَافًا لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ لكونه
(1) سورة الحاقة: 69/ 13.
مُلَابِسًا لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلدَّمِ وَمُطَالِبٌ بِهِ كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ كَذَا، لِمَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهَذَا الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ يُرَادُ بِهِ الدَّمُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ رُجِعَ إِلَى أَخْذِ الدِّيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الْقِصَاصُ، وَإِمَّا الدِّيَةُ. لِأَنَّ الدِّيَةَ تَضَمَّنَتْ عَافِيًا وَمَعْفُوًّا عَنْهُ، وَلَيْسَ إِلَّا وَلِيَّ الدَّمِ وَالْقَاتِلَ، وَالْعَفْوُ لَا يَتَأَتَى إِلَّا مِنَ الْوَلِيِّ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْعَفْوَ بِمَعْرُوفٍ. وَعَفَا يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الْجِنَايَةِ، تَقُولُ: عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وَعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ، فَإِذَا عَدَّيْتَ إِلَيْهِمَا مَعًا تَعَدَّتْ إِلَى الْجَانِي بِاللَّامِ، وَإِلَى الذَّنْبِ بِعَنْ، تَقُولُ:
عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَحُذِفَ عَنْ جِنَايَتِهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلَا يُفَسَّرُ عُفِيَ بِمَعْنَى تُرِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مُعَدًّى إِلَّا بِالْهَمْزَةِ، وَمِنْهُ:«أَعْفُوا اللِّحَى» وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضَمَّنَ عَفَى مَعْنَى تَرَكَ وَإِنْ كَانَ الْعَافِي عَنِ الذَّنْبِ تَارِكًا لَهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ، لِأَنَّ التَّضْمِينَ لَا يَنْقَاسُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُمْ عَفَا أَثَرَهُ إِذَا مَحَاهُ وَأَزَالَهُ، فَهَلَّا جَعَلْتَ مَعْنَاهُ: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: عِبَارَةٌ قِيلَتْ فِي مَكَانِهَا، وَالْعَفْوُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ عِبَارَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِعْمَالِ النَّاسِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى أُخْرَى قَلِقَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ مَكَانِهَا، وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هذا العلم يجترىء إِذَا عَضَلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْمُشْكِلِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى اخْتِرَاعِ لُغَةٍ. وَادِّعَاءٍ عَلَى الْعَرَبِ مَا لَا تَعْرِفُ، وَهَذِهِ جُرْأَةٌ يُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ عَفَا يكون بمعنى محافلا يَبْعُدُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ إِسْنَادُ عَفَى لِمَرْفُوعِهِ إِسْنَادًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ مَفْعُولٌ بِهِ صَرِيحٌ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتَعَدَّى كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ مَجَازًا وَتَشْبِيهًا لِلْمَصْدَرِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، فَقَدْ يَتَعَادَلُ الْوَجْهَانِ أَعْنِي: كَوْنَ عَفَا اللَّازِمِ لِشُهْرَتِهِ فِي الْجِنَايَاتِ، وَعَفَا الْمُتَعَدِّي لِمَعْنَى مَحَا لِتَعَلُّقِهِ بِمَرْفُوعِهِ تَعَلُّقًا حَقِيقِيًّا.
وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هَذَا الْعِلْمَ إِلَى آخِرِهِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فِعْلُ غَيْرِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَا الْمَوْثُوقِ بِهِمْ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَذْهَبِهَا لِخَاصَّةِ الْإِنْسَانِ، وَخُصُوصًا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ تُكْرَهُ،
إِلَّا مَا كَانَ مِنْ الْكَاذِبِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ مُفَارِقٍ لَهُ، لَكِنْ لَا يُنَاسِبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنَا:
وَتَرَى كَثِيرًا إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ إِثْرَ قَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ إِلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ حَمْلُ الْعَفْوِ عَلَى مَعْنَى الْمَحْوِ، وَهُوَ حَمْلٌ صَحِيحٌ وَاسْتِعْمَالٌ فِي اللُّغَةِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْجُرْأَةِ، وَاخْتِرَاعِ اللُّغَةِ.
وَبُنِيَ الْفِعْلُ هُنَا لِلْمَفْعُولِ لِيَعُمَّ الْعَافِيَ كَانَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، هَذَا إِنْ أُرِيدَ بِأَخِيهِ الْمَقْتُولُ. أَيْ: مِنْ دَمِ أَخِيهِ، وَقِيلَ: شَيْءٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الدَّمِ أَوْ عَنْ كُلِّهِ، أَوْ أَنْ يَعْفُوَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوْ كُلُّهُمْ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ الْعَفْوُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا الدِّيَةُ، وَقِيلَ: مَنْ عُفِيَ لَهُ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ، وَعُفِيَ هُنَا بِمَعْنَى يُسِّرَ لَا عَلَى بَابِهَا فِي الْعَفْوِ، وَمِنْ أَخِيهِ: هُوَ الْقَاتِلُ، وَشَيْءٌ: هُوَ الدِّيَةُ، وَالْأُخُوَّةُ هِيَ: أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَخِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: الْمَقْتُولُ، أَيْ: مِنْ قِبَلِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَالِكٍ، فَسَّرَ الْمَعْفُوَّ لَهُ بِوَلِيِّ الدَّمِ، وَالْأَخَ: بِالْقَاتِلِ، وَالْعَفْوَ بِالتَّيْسِيرِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا جَنَحَ الْوَلِيُّ إِلَى الْعَفْوِ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ خُيِّرَ الْقَاتِلُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهَا أَوْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ.
وَغَيْرُ مَالِكٍ يَقُولُ: إِذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِالدِّيَةِ فَلَا خِيَارَ لِلْقَاتِلِ، وَيَلْزَمُ الدِّيَةُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَرَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ عُفِيَ بِمَعْنَى: يُسِّرَ لَمْ يَثْبُتْ.
وَقِيلَ: هَذِهِ أَلْفَاظٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ الَّذَيْنِ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا، وَتَسَاقَطُوا الدِّيَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُقَاصَّةً، فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ فَضَلَ لَهُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الدِّيَاتِ، وَتَكُونُ: عَفَا بِمَعْنَى: فَضَلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَفَا الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ، أَيْ: أَفْضَلَتِ الْحَالَةُ لَهُ، أَوِ الْحِسَابُ، أَوِ الْقَدَرُ، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ فِي الْفَضْلِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، أَيْ: مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلُ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَعُفِيَ هُنَا بِمَعْنَى:
أُفْضِلَ، وَكَأَنَّ الْآيَةَ مِنْ أَوَّلِهَا بَيَّنَتِ الْحُكْمَ إِذَا لَمْ تَتَدَاخَلِ الْأَنْوَاعُ، ثُمَّ بَيَّنَتِ الْحُكْمَ إِذَا تَدَاخَلَتْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا قُلْنَاهُ، وَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ عُفِيَ بِمَعْنَى: تُرِكَ، فَيَرْتَفِعُ شَيْءٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ عُفِيَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ، وَأَنَّ ارْتِفَاعَ شَيْءٌ، هُوَ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ عُفِيَ بِمَعْنَى: تُرِكَ لَمْ يَثْبُتْ.
فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. ارْتِفَاعُ اتِّبَاعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْحُكْمُ، أَوِ الْوَاجِبُ كَذَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَالْأَمْرُ اتِّبَاعٌ، وَجَوَّزَ أَيْضًا رَفْعَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَكُنِ اتِّبَاعٌ، وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ: فَعَلَى الْوَلِيِّ اتِّبَاعُ الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ، وَقَدَّرُوهُ أَيْضًا مُتَأَخِّرًا تَقْدِيرُهُ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ تَقْدِيرِهِ: فَالْحَكَمُ أَوِ الْوَاجِبُ اتِّبَاعٌ، وَهَذَا سَبِيلُ الْوَاجِبَاتِ، كَقَوْلِهِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ «1» وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَيَأْتِي مَنْصُوبًا كَقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ «2» انْتَهَى.
وَلَا أَدْرِي هَذِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ إِلَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ أَثْبَتُ وَآكَدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ «3» فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي لَحِظَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا إِضْمَارُ الْفِعْلِ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلْيَكُنْ، فَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ: كَانَ، لَا تُضْمَرُ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ أَنِ الشَّرْطِيَّةِ، أَوْ: لَوْ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهَا الدليل، وبِالْمَعْرُوفِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاتِّبَاعٌ، وَارْتِفَاعُ: وَأَداءٌ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى اتِّبَاعٌ، فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الْإِعْرَابِ مَا قَدَّرُوا فِي: فَاتِّبَاعٌ، وَيَكُونُ بِإِحْسَانٍ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَأَدَاءٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يكون: وأداء، مُبْتَدَأً، وَبِإِحْسَانٍ، هُوَ الْخَبَرُ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاتِّبَاعٌ، جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ كَانَتْ مَنْ شَرْطًا، والداخلة فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إِنْ كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْ:
كِنَايَةً عَنِ الْقَاتِلِ وَأَخُوهُ: كِنَايَةً عَنِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَوْصِيَةً لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ والعافي يحسن الْقَضَاءِ مِنَ الْمُؤَدِّي، وَحُسْنِ التَّقَاضِي مِنَ الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَخُ كِنَايَةً عَنِ الْمَقْتُولِ كَانَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ، عَائِدَةً عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ يصاحب يوجه مَا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: عُفِيَ، دَلَالَةً عَلَى الْعَافِي فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «4» إِذْ فِي الْعَشِيِّ دَلَالَةٌ عَلَى مَغِيبِ الشمس، وقول الشاعر:
لك الرجل الْحَادِي وَقَدْ مَنَعَ الضُّحَى
…
وَطَيْرُ الْمَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ
أَيْ: فَوْقَ الْإِبِلِ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: الْحَادِيَ، دَلَالَةً عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْ كِنَايَةً عَنِ الْقَاتِلِ فَيَكُونُ أَيْضًا تَوْصِيَةً لَهُ وَلِلْوَلِيِّ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ وَالتَّقَاضِي، أَيْ: فاتباع من الولي
(1) سورة البقرة: 2/ 229.
(2)
سورة محمد: 47/ 4.
(3)
سورة هود: 11/ 69.
(4)
سورة ص: 38/ 32.
بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدَاءٌ مِنَ الْقَاتِلِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، وَالِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ عَلَيْهِ وَلَا يُطَالِبَهُ إِلَّا مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، وَلَا يَسْتَعْجِلَهُ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ يُجْعَلُ انْتِهَاءَ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْأَدَاءُ بِالْإِحْسَانِ:
أَنْ لَا يَمْطُلَهُ وَلَا يَبْخَسَهُ شَيْئًا. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الِاتِّبَاعِ وَالْأَدَاءِ.
وَقِيلَ: اتِّبَاعُ الْوَلِيِّ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنَ الْقَاتِلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ،
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ زَادَ بَعِيرًا فِي إِبِلِ الدِّيَةِ وَفَرَائِضِهَا فَمِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ» .
وَقِيلَ الِاتِّبَاعُ وَالْأَدَاءُ مَعًا مِنَ الْقَاتِلِ، وَالِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَنْقُصَهُ، وَالْأَدَاءُ بِالْإِحْسَانِ أَنْ لَا يُؤَخِّرَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ حِفْظُ الْجَانِبِ وَلِينُ الْقَوْلِ، وَالْإِحْسَانُ تَطْيِيبُ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ مَا أَوْجَبَهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ مَا يَتَعَاهَدُ الْعَرَبُ بَيْنَهَا مِنْ دِيَةِ الْقَتْلَى.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ الْآيَةَ. أَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِجَابَةُ الْقَاتِلِ إِلَى الْقَوَدِ مِنْهُ إِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ وَاخْتَارَ الْمُسْتَحِقُّ الدِّيَةَ وَيَلْزَمُ الْقَاتِلَ الدِّيَةُ إِذَا اخْتَارَهَا الْوَلِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا الْقِصَاصُ، وَلَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إِلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ، فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَدَّرُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ وَرَضِيَ الْمَعْفُوُّ عنه وَدَفَعَ الدِّيَةَ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَنَا الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَ تَفْسِيرِنَا: فَمَنْ عُفِيَ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ.
ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا شَرَعَهُ تَعَالَى مِنَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ إِذْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ كَانَ مَشْرُوعُهُمُ الْقِصَاصَ فَقَطْ، وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ مَشْرُوعُهُمُ الْعَفْوُ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنِ الْعَفْوُ فِي أُمَّةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طُرُقٌ مِنْ هَذَا النَّقْلِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ خُيِّرَتْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ، وَكَانَ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ إِذْ فِيهِ انْتِفَاعُ الْوَلِيِّ بِالدِّيَةِ، وَحُصُولُ الْأَجْرِ بالعفو استبقاء مُهْجَةِ الْقَاتِلِ، وَبَذْلُ مَا سِوَى النَّفْسِ هَيِّنٌ فِي اسْتِبْقَائِهَا، وَأَضَافَ هَذَا التَّخْفِيفَ إِلَى الرَّبِّ لِأَنَّهُ الْمُصْلِحُ لِأَحْوَالِ عَبِيدِهِ، النَّاظِرُ لَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَعَطْفُ وَرَحْمَةٌ عَلَى تَخْفِيفٌ لِأَنَّ مَنِ اسْتَبْقَى مُهْجَتَكَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ إِتْلَافِهَا فَقَدْ رَحِمَكَ. وَأَيُّ: رَحْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَلَعَلَّ الْقَاتِلَ الْمَعْفُوَّ عَنْهُ
يَسْتَقِلُّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي عَاشَهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِ مَا يَمْحُو بِهِ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الشَّنْعَاءَ، فَمِنَ الرَّحْمَةِ إِمْهَالُهُ لَعَلَّهُ يُصْلِحُ أَعْمَالَهُ.
فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ: مَنْ تَجَاوَزَ شَرْعَ اللَّهِ بعد القود وَأَخْذِ الدِّيَةِ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ، أَوْ بِقَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيَقْتُلُونَ بِالْوَاحِدِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْعَشَرَةَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَنْ قُتِلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ الْعَفْوِ، وَقِيلَ: مَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهَا. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ الْعَفْوِ، وَأَخْذِ الْمَالِ، وَالِاعْتِدَاءُ، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْفِيفِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى التَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْفِيفِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا شَرَحْنَاهُ بِهِ مِنَ الْعَفْوِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَخْفِيفًا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَيَحْتَمِلُ: مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اعْتَدى أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً.
فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرٌ عَنِ الْمَوْصُولِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ التَّوَعُّدَاتِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ قَتْلُهُ قِصَاصًا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ: وَقِيلَ: هُوَ قَتْلُهُ الْبَتَّةَ حَدًّا، وَلَا يُمَكِّنُ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقِيلَ: عَذَابُهُ أَنْ يَرُدَّ الدِّيَةَ وَيَبْقَى إِثْمُهُ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقِيلَ: عَذَابُهُ تَمْكِينُ الْإِمَامِ مِنْهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَرَى، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ هُوَ كَمَنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، إِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ.
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الْحَيَاةُ الَّتِي فِي الْقِصَاصِ هِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، أَمْسَكَ عَنِ الْقَتْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ، والذي امْتَنَعَ مِنْ قَتَلَهُ، فَمَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَإِبْقَاءُ الْقَاتِلِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، فَتُقَدَّمُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. أَوِ الْمَعْنَى: وَلَكُمْ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ حَمِيَ قَبِيلُةٌ أَنْ تَقْتَصَّ مِنْهُ، فَيَقْتَتِلُونَ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا شُرِعَ الْقِصَاصُ رَضُوا بِهِ وَسَلَّمُوا الْقَاتِلَ لِلْقَوْدِ، وَصَالَحُوا عَلَى الدِّيَةِ
وَتَرَكُوا الْقِتَالَ، فَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ، وَكَمْ قَتَلَ مُهَلْهِلٌ بِأَخِيهِ كُلَيْبٍ حَتَّى كَادَ يُفْنِي بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ.
وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ لَا يقتل غير خِلَافَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ:
حَيَاةٌ لِلْقَاتِلِ. وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِارْتِدَاعِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَصَّ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. فَلَا تَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ الْحَيَاةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ.
وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ، أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَعِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقَصَصِ، أَيْ: فِيمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ، وَقِيلَ: الْقَصَصُ: الْقُرْآنُ، أَيْ: لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «1» وَكَقَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «2» .
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقِصَاصِ، أَيْ: أَنَّهُ إِذَا قُصَّ أَثَرُ الْقَاتِلِ قَصَصًا قُتِلَ كَمَا قَتَلَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كَلَامٌ فَصِيحٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ قَتْلٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ جُعِلَ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلْحَيَاةِ، وَمِنْ إِصَابَةِ مَحَزِّ الْبَلَاغَةِ بِتَعْرِيفِ، الْقِصَاصِ، وَتَنْكِيرِ: الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَكُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْحَيَاةُ الْحَاصِلَةُ بِالِارْتِدَاعِ عَنِ الْقَتْلِ.
لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِالِاقْتِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَتِ الْعَرَبُ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْقَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَكَفُّ لِلْقَتْلِ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي كَوْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: تَكْرِيرُ لَفْظِ الْقَتْلِ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: الِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا هُوَ قَتْلٌ، وَلَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ. وَقَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَالْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَفِيهِ أَنَّ نَوْعًا مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ سَبَبٌ لِنَوْعٍ مِنْ أنواع
(1) سورة الشورى: 42/ 52.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 122.
الْحَيَاةِ، لَا لِمُطْلَقِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَلَكُمْ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ، اتَّضَحَ كَوْنُ شَرْعِ الْقِصَاصِ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: فَظَاهِرٌ لِعُذُوبَةِ الْأَلْفَاظِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَقْدِيرِ الْحَذْفِ، لِأَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قُلْنَاهُ تكرارا للفظ، والحذف إذا نفي، أو أكف، أو أوفي، هو افعل تفضيل، فلابد مِنْ تَقْدِيرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ أَنَفَى لِلْقَتْلِ مِنْ تَرْكِ الْقَتْلِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: فَالْقِصَاصُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ فِي نَفْسٍ وَفِي غَيْرِ نَفْسٍ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ، فَالْآيَةُ أَعَمُّ وَأَنْفَعُ فِي تَحْصِيلِ الْحَيَاةِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْعِرٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَتَرَتَّبَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وُجُودُ الْحَيَاةِ.
ثُمَّ الْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ فِيهَا مُقَابَلَةُ الْقِصَاصِ بِالْحَيَاةِ فَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَيَانِ يُسَمَّى الطِّبَاقَ، وَهُوَ شِبْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا»
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وفي الْقِصَاصِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيمُ هَذَا الْخَبَرِ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَكُونُ لَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَنَبَّهَ بِالنِّدَاءِ نِدَاءِ ذَوِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ، إِذْ لَا يَعْرِفُ كُنْهَ مَحْصُولِهَا إِلَّا أولوا الْأَلْبَابِ الْقَائِلُونَ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْخِطَابِ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «2» لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «3» لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «4» لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى «5» لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «6» وَذَوُو الْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْعَوَاقِبَ وَيَعْلَمُونَ جِهَاتِ الْخَوْفِ، إِذْ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَوْفُ، فَلِهَذَا خَصَّ بِهِ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيِ: الْقِصَاصُ، فَتَكُفُّونَ عَنِ الْقَتْلِ وَتَتَّقُونَ الْقَتْلَ حَذَرًا مِنَ الْقِصَاصِ أَوِ الِانْهِمَاكِ فِي الْقَتْلِ، أَوْ تَتَّقُونَ اللَّهَ بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، أَوْ تعملون عمل أهل
(1) سورة النجم: 53/ 44.
(2)
سورة الرعد: 13/ 19، وسورة الزمر: 39/ 9.
(3)
سورة البقرة: 2/ 164، وسورة الرعد: 13/ 4 وسورة النحل: 16/ 12.
(4)
سورة آل عمران: 3/ 190، وسورة الروم: 30/ 24.
(5)
سورة طه: 20/ 54 و 128.
(6)
سورة ق: 50/ 37.
التَّقْوَى فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقِصَاصِ وَالْحُكْمِ بِهِ، وَهُوَ خِطَابٌ لَهُ فَضْلُ اخْتِصَاصٍ بِالْأَئِمَّةِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أُولَاهَا مَا سِيقَتْ لَهُ الْآيَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقَتْلَ فِي الْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى يَتَنَبَّهَ كُلُّ أَحَدٍ فَيُوصِي مُفَاجَأَةَ الْمَوْتِ، فَيَمُوتَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ: كُتِبَ، أَصْلُهُ: الْعَطْفُ عَلَى. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وكُتِبَ عَلَيْكُمُ وَأَنَّ الْوَاوَ حُذِفَتْ لِلطُّولِ، بَلْ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ظَاهِرَةُ الِارْتِبَاطِ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَهُوَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ أَيْ: حُضُورُ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ الْمَخُوفَةِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى أَسْبَابِ الْمَوْتِ مَوْتًا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ «1» وَقَالَ عَنْتَرَةُ.
وَأَنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا
…
وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهِنْدُوَانِ
وَقَالَ جَرِيرٌ.
أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ
…
فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ
وَقَالَ غَيْرُهُ.
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا
…
قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ: إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَالْخِطَابُ فِي: عَلَيْكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ مُقَيَّدًا بِالْإِمْكَانِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّجَوُّزِ فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، وَلَوْ جَرَى نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ: إِذَا حَضَرَكُمُ الْمَوْتُ، لَكِنَّهُ رُوعِيَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومِ فِي: عَلَيْكُمْ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذَ الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، ثُمَّ أُظْهِرَ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ، إِذْ كَانَ يَكُونُ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقِيلَ: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ، وَنَظِيرُ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى فِي الْعُمُومِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي
…
أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ
فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ في رجالك لأنه رعى مَعْنَى الْعُمُومِ، إِذِ الْمَعْنَى وَلَسْتُ بِسَائِلٍ كُلَّ جَارَةٍ مِنْ جَارَاتِ بَيْتِي، فَجَاءَ قَوْلُهُ: أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ، عَلَى مُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا شَيْءٌ غَرِيبٌ مُسْتَطْرَفٌ مِنْ علم العربية.
(1) سورة إبراهيم: 14/ 17. [.....]
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ هُنَا حَقِيقَتُهُ لَا مُقَدِّمَاتُهُ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْأَوْصِيَاءِ وَالْوَرَثَةِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ، إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، إِنْفَاذُ الْوَصِيَّةِ وَالْعَمَلُ بِهَا، فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، بَلْ يُسْتَدَلُّ عَلَى وُجُوبِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً يَعْنِي: مَالًا، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ الْمَالُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «1» إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ «2» فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً «3» إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ «4» وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْخَيْرِ، وَبِهِ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَغَيْرُهُمَا، قَالُوا: تَجِبُ فِيمَا قَلَّ وَفِيمَا كَثُرَ.
وَقَالَ أَبَانُ: مِائَتَا دِرْهَمِ فِضَّةً. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ عَلِيٌّ: وَقَتَادَةُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، وَقَالَ الْجَصَّاصُ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. هَذَا قَوْلُ مَنْ قَدَّرَ الْخَيْرَ بِالْمَالِ.
وَأَمَّا مَنْ قَدَّرَهُ بِمُطْلَقِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ، وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ، وَقِلَّتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أَرَى فَضْلًا فِي مَالٍ هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِي وَلَهُ عِيَالٌ، وَقَالَتْ فِي آخَرَ: لَهُ عِيَالٌ أَرْبَعَةٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَإِنَّ هَذَا الشَّيْءَ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعَيَالِكَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ مَوْلًى لَهُ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ وَلَهُ سَبْعُمِائَةٍ فَمَنَعَهُ، وَقَالَ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَالْخَيْرُ: هُوَ الْمَالُ، وَلَيْسَ لَكَ مَالٌ.
انْتَهَى.
وَلَا يَدُلُّ عَدَمُ تَقْدِيرِ الْمَالِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجِبْ، إِذِ الظَّاهِرُ التَّعْلِيقُ بِوُجُودِ مُطْلَقِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَ الظَّاهِرِ، فَيُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ فِي الْخَيْرِ وَفِي تَسْمِيَتِهِ هُنَا وَجَعْلِهِ خَيْرًا إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَالٌ طَيِّبٌ لَا خَبِيثٌ، فَإِنَّ الْخَبِيثَ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، وَيَأْثَمُ بِالْوَصِيَّةِ فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَاجِبَةٌ، وَيُجْمَعُ لِلْوَارِثِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ والميراث بحكم الآيتين.
(1) سورة العاديات: 100/ 8.
(2)
سورة ص: 38/ 32.
(3)
سورة النور: 24/ 33.
(4)
سورة هود: 11/ 84.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّطَوُّعِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ مُخَالِفًا لِلْمِيرَاثِ، بَلِ الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ «1» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ كُتِبَ عَلَى الْمُحْتَضِرِ أَنْ يُوصِيَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِتَوْفِيرِ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ أَنْصَابِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَيُخَصَّصُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ بِأَنْ لَا يَكُونُوا وَارِثِينَ بَلْ أَرِقَّاءً أَوْ كُفَّارًا، كَمَا خُصِّصَ فِي الْمُوصَى بِهِ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ: ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرِبَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهَا بُرْهَةً، وَنُسِخَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ يَرِثُ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ زَيْدٍ: الْآيَةُ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَبَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ نَدْبًا، وَنَحْوُ هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَغَيْرُهُ: لَا وَصِيَّةَ، وَقِيلَ: كَانَتْ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ،
وَبِقَوْلِهِ عليه السلام: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» .
وَلِتَلَقِّي الْأُمَّةِ إِيَّاهُ بِالْقَبُولِ حَتَّى لَحِقَ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْآحَادِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتَلَقَّوْنَ بِالْقَبُولِ إِلَّا الْمُثْبَتَ الَّذِي صَحَّتْ رِوَايَتُهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَعَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ تَرْكِهِمْ. وَقَالَ النَّاسُ، حِينَ مَاتَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَجَبًا لَهُ، أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ رِيَاحٍ، وَأَوْصَى بِمَالِهِ لِبَنِي هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ، وَقَالَ طاووس: إِذَا أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى قَرَابَتِهِ وَنُقِضَ فِعْلُهُ، وَقَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ إسحاق بن رَاهَوَيْهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، أَيْضًا، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى: يَبْقَى ثُلُثُ الْوَصِيَّةِ حَيْثُ جَعَلَهَا الْمَيِّتُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: إِذَا أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَتَرَكَ
(1) سورة النساء 4/ 11.
قَرَابَتَهُ جَازَ ذَلِكَ وَأُمْضِيَ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ غَنِيًّا، أَوْ فَقِيرًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنها.
وَظَاهِرُ: كَتْبِ، وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَنْ خَلَّفَ مَالًا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ:
لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ لِقَوْمٍ، فَأَمَّا مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا وَدِيعَةَ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ، وَاسْتُدِلَّ
بِقَوْلِ النَّخَعِيِّ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُوصِ، وَبِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ، فَعَلَّقَ بِإِرَادَةِ الْوَصِيَّةِ.
وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا عَلَّقَهَا بِإِرَادَتِهِ. وَالْمُوصَى لَهُ، إِنْ كَانَ وَارِثًا وَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. أَوْ قَاتِلًا عَمْدًا وَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالٍ، فَقَالَ: إِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا كَانَ مِيرَاثًا. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَعْمَرٌ: يُمْضَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَلَوْ أَوْصَى الأجنبي بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَجَازَهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَشُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنِ اسْتَأْذَنَهُمْ فَأَذِنُوا فَكُلُّ وَارِثٍ بَائِنٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ كَانَ مِنْ عَمٍّ وَابْنِ عَمٍّ، أَنْ يَقْطَعَ نَفَقَتَهُ عَنْهُمْ إِنْ صَحَّ، فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي الصِّحَّةِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، أَوْ فِي الْمَرَضِ فَلَا. وَقَوْلُ اللَّيْثِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ إِذَا أَجَازُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ.
وروي عن طاووس وَعَطَاءٍ: إِنْ أَجَازُوهُ فِي الْحَيَاةِ جَازَ عَلَيْهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ وَصِيَّةِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ فِي الصَّبِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ الْمَنْعُ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُغَيِّرَ وَصِيَّتَهُ وَأَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَبَّرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا دَبَّرَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: هُوَ وَصِيَّتُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ مُدَبَّرًا
، وَأَنَّ عَائِشَةَ بَاعَتْ مُدَبَّرَةً، وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ:
أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، فَلَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: فُلَانٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّدْبِيرَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَرْجِعْ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، فَكُلُّ هذا عندهم وصية.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّجُوعِ فِي التَّدْبِيرِ بِمَاذَا يَكُونُ؟.
فَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا قَالَ: رَجَعْتُ فِي مُدَبَّرِي بَطَلَ التَّدْبِيرُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ رَجَعْتُ رُجُوعًا. وَمَنْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يُرِدِ الْوَصِيَّةَ وَلَا التَّدْبِيرَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ وَصِيَّةٌ؟ وَقَالَ أَشْهَبُ: هُوَ مُدَبَّرٌ.
وَكَيْفِيَّةُ الْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَكْتُبُونَهَا: هَذَا مَا أَوْصَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ، مِنْ أَهْلِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تبارك وتعالى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كانوا مؤمنين، ويوصوهم بِمَا أَوْصَى بِهِ إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «2» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَبُنِيَ كُتِبَ لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِلِاخْتِصَارِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَرْفُوعُ: كُتِبَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْوَصِيَّةُ، وَلَمْ يُلْحِقْ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ لِلْفِعْلِ لِلْفَصْلِ، لَا سِيَّمَا هُنَا، إِذْ طَالَ بِالْمَجْرُورِ وَالشَّرْطَيْنِ، وَلِكَوْنِهِ مُؤَنَّثًا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَبِمَعْنَى الْإِيصَاءِ. وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْنَى: كُتِبَ، لِمُضِيِّ كُتِبَ وَاسْتِقْبَالِ الشَّرْطَيْنِ. وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى: كُتِبَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَحَدِكُمْ إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا فَلْيُوصِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يَقْتَضِي جَوَابًا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ جوابا للشرط الأول،
(1) سورة الحج: 22/ 7.
(2)
سورة البقرة: 2/ 132.
وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّرْطِ الثَّانِي مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ دَلَّ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي شَرْطٌ فِي الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا لَفْظًا. وَاجْتِمَاعُ الشَّرْطَيْنِ غَيْرُ مَجْعُولٍ الثَّانِي جَوَابًا لِلْأَوَّلِ بِالْفَاءِ مِنْ أَصْعَبِ الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ فِيهِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تأليفنا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ مَحْذُوفٌ وَيُقَدَّرُ مِنْ مَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ وَيُتَجَوَّزُ بِلَفْظِ: كُتِبَ، عَنْ لَفْظِ: يَتَوَجَّهُ إِيجَابُ الْوَصِيَّةِ عَلَيْكُمْ. حَتَّى يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا فيفسر الجواب، لأن مُسْتَقْبَلٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا ظَرْفًا مَحْضًا لَا شَرْطًا، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْعَامِلُ فِيهَا: كُتِبَ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ جَوَابُ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ: كُتِبَ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ إِذَا مَعْمُولًا لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ وَمَوْصُولٌ، وَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ إِذَا كَانَ ظَرْفًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا مَحْضًا، وَهُوَ عِنْدَهُ الْمَصْدَرُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي نَحْوِ: الضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْجُودٌ هُنَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ فِي قَوْلِهِ.
أَبَعْلِيَ هَذَا بالرَّحَى المُتَقاعِسُ فَعَلَّقَ: بِالرَّحَى، بِلَفْظِ: الْمُتَقَاعِسِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَيُتَّجَهُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ: كُتِبَ، هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا، وَالْمَعْنَى: تَوَجَّهَ إِيجَابُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مُقْتَضَى كِتَابِهِ إِذَا حَضَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ تَوْجِيهِ الْإِيجَابِ: بكتب، لِيَتَنَظَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْأَزَلِ، وَالْوَصِيَّةُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بكتب، وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ، مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقُولُ: شَكَرْتُ فِعْلَكَ أَنْ جِئْتَنِي إِذَا كَانَ كَذَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَالَ: الْعَامِلُ فِي إِذَا: كُتِبَ، وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا كُتِبَ تَمَحَّضَتْ لِلظَّرْفِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا، ثُمَّ قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَتْ إِذَا شَرْطًا فَالْعَامِلُ فِيهَا إِمَّا الْجَوَابُ، وَإِمَّا الْفِعْلُ بَعْدَهَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْعَامِلِ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، وَيُفَرِّعُ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا.
وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، وَمَا كَانَ مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلْفُوظُ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ هُوَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مرفوع بكتب.
وَالزَّمَخْشَرِيُّ يُسَمِّي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَاعِلًا وَهَذَا اصْطِلَاحُهُ، قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْوَصِيَّةُ فَاعِلُ كُتِبَ، وَذُكِّرَ فِعْلُهَا لِلْفَاصِلِ، وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى: أَنْ يُوصِيَ، وَلِذَلِكَ ذُكِّرَ الرَّاجِعُ فِي قَوْلِهِ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ. اه.
وَنَبَّهْتُ عَلَى اصْطِلَاحِهِ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا المفعول الذي لم يسم فَاعِلُهُ فَاعِلًا سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ تَرْتَفِعَ الْوَصِيَّةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ، وَالْخَبَرُ إِمَّا مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَعَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ. وَإِمَّا مَنْطُوقٌ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَيْ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ جَوَابًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ: يكتب، مُضْمَرٌ. أَيِ: الْإِيصَاءُ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عطية في هَذَا الْوَجْهِ: وَيَكُونُ هَذَا الْإِيصَاءُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ بَعْدُ، هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَتَرْتَفِعُ الْوَصِيَّةُ بِالِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رحمه الله:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَحْفَظْهُ وَيَكُونُ رَفْعُهَا بِالِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ. فَعَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، أَوْ بِتَقْدِيرِ الْفَاءِ فَقَطْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ. اه. كَلَامُهُ. وَفِيهِ أَنَّ إِذَا مَعْمُولَةٌ لِلْإِيصَاءِ الْمُقَدَّرِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِبْدَاءُ تَنَاقُضِ ذَلِكَ، لِأَنَّ إِذَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْإِيصَاءِ لَا تَكُونُ شَرْطًا، وَمِنْ حَيْثُ إن الوصية فيه جواب إِذَا يَكُونُ شَرْطًا فَتَنَاقَضَا، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ شَرْطًا وَغَيْرَ شَرْطٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيصَاءُ الْمُقَدَّرُ عَامِلًا فِي إِذَا أَيْضًا لِأَنَّكَ إِمَّا أَنْ تُقَدِّرَ هَذَا الْعَامِلَ فِي: إِذَا، لَفْظَ الْإِيصَاءِ بِحَذْفٍ، أَوْ ضَمِيرَ الْإِيصَاءِ: لَا، جائز أن يقدره لَفْظُ الْإِيصَاءِ حُذِفَ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَدَّرَ لَفْظَ: الْإِيصَاءِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَدِّرَهُ ضَمِيرَ الْإِيصَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِضَمِيرِ الْمَصْدَرِ لَمْ
يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ مِنْ شَرْطِ عَمَلِهِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مُظْهَرًا، وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُ لَفْظِ مضمر المصدر فمنويه أَحْرَى أَنْ لَا يَعْمَلَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ كُلَّ شرط يقتضي جَوَابًا عَلَى حَذْفِهِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ جَوَابًا لِشَرْطَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَيَّدَ سِيبَوَيْهِ.
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَحْفَظُهُ وَهُوَ تَحْرِيفٌ عَلَى سِيبَوَيْهِ، وَإِنَّمَا سِيبَوَيْهِ أَيَّدَهُ فِي كِتَابِهِ:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا
…
وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِتَقْدِيرِ فَعَلَيْهِ لوصية، أَوْ بِتَقْدِيرِ الْفَاءِ فَقَطْ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَكَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَفَّحْ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَسَأَلْتُهُ، يَعْنِي الْخَلِيلَ، عَنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَأْتِنِي أَنَا كَرِيمٌ، قَالَ: لَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ شَاعِرٌ مِنْ قِبَلِ: أَنَّ أَنَا كَرِيمٌ، يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَالْفَاءُ وَإِذَا لَا يَكُونَانِ إلّا معلقتين بما قبلها، فَكَرِهُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا حَيْثُ لَمْ يُشْبِهِ الْفَاءَ، وَقَدْ قَالَهُ الشَّاعِرُ مُضْطَرًّا، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ السَّابِقَ.
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ
…
وَذُكِرَ عَنِ الْأَخْفَشِ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِنَقْلِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي اضْطِرَارٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تُقَامَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ: عَلَيْكُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ، فَنَقُولُ: لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى أَحَدِهِمْ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا تَشَوَّفَ السَّامِعُ لِذِكْرِ الْمَكْتُوبِ مَا هُوَ، فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ مُبْتَدَأً، أَوْ خبرا لمبتدأ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الْمَكْتُوبُ عَلَى أَحَدِنَا إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَتَرَكَ خَيْرًا؟ فَقِيلَ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ، أَوِ: الْمَكْتُوبُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَظِيرُهُ: ضُرِبَ بِسَوْطٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَيْدٌ الْمَضْرُوبُ أَوِ الْمَضْرُوبُ زَيْدٌ، فَيَكُونُ هذا جواب بالسؤال مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنِ الْمَضْرُوبُ؟
وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ، وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ
فَاعِلُهُ الْإِيصَاءَ، وَضَمِيرُ الْإِيصَاءِ، وَالْوَالِدَانِ مَعْرُوفَانِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «1» .
وَالْأَقْرَبِينَ جَمْعُ الْأَقْرَبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ دَخَلَ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَأَقْرَبُ مَا إِلَيْهِ الْوَالِدَانِ، فَصَارَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، فَكَأَنَّهُمَا ذُكِرَا مَرَّتَيْنِ: تَوْكِيدًا وَتَخْصِيصًا عَلَى اتِّصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمَا، هَذَا مَدْلُولُ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَعِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: الْأَقْرَبُونَ الْأَوْلَادُ، أَوْ مَنْ عَدَا الْأَوْلَادِ، أَوْ جَمِيعُ الْقَرَابَاتِ، أَوْ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقَارِبِ. أَقْوَالٌ.
بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: لَا يُوصِي بِأَزْيَدَ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَا لِلْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأَخَلُّ فَالْأَخَلُّ، أَيِ: الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا حَيْفَ فِيهِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مَوْكُولًا إِلَى اجْتِهَادِ الْمُوصِي، ثُمَّ بُيِّنَ ذَلِكَ وَقُدِّرَ:«بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقِيلَ: بِالْقَصْدِ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ دُونَ إِضْرَارٍ بِالْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ يُوصُونَ بِالْمَالِ كُلِّهِ، وَقِيلَ:
بِالْمَعْرُوفِ مِنْ ماله غير المجهول.
وهذا الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى قَدْرِ مَا يُوصَى بِهِ، وَإِلَى تَمْيِيزِ مَنْ يُوصِي لَهُ، وَقَدْ لَخَّصَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفَسَّرَهُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُوصِيَ لِلْغَنِيِّ وَيَدَعَ الْفَقِيرَ، وَلَا يَتَجَاوَزَ الثُّلُثَ، وَتَعَلَّقَ بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ: الْوَصِيَّةُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ بِالْمَعْرُوفِ حَالًا مِنَ الْوَصِيَّةِ.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ انْتَصَبَ: حَقًّا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَهَذَا تَأْبَاهُ الْقَوَاعِدُ النَّحْوِيَّةُ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: عَلَى الْمُتَّقِينَ إِذَنْ يَتَعَلَّقُ عَلَى بِ: حَقًّا، أَوْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ، وَكِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْكِيدِ، أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِهِ فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُؤَكَّدَ لَا يَعْمَلُ إِنَّمَا يَعْمَلُ الْمَصْدَرُ الَّذِي يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ أَوِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي الْأَمْرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الْأَخِيرِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَمَّا جَعْلُهُ صفة:
لحقا أَيْ: حَقًّا كَائِنًا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْكِيدِ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَتَخَصَّصُ بِالصِّفَةِ، وَجَوَّزَ الْمُعْرِبُونَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، إِمَّا لِمَصْدَرٍ مِنْ: كتب عليكم،
(1) سورة البقرة: 2/ 83، وسورة النساء: 4/ 36، وسورة الأنعام: 6/ 151 وسورة الإسراء: 17/ 23 والآية المقصودة هنا هي الأولى.
أَيْ: كَتْبًا حَقًّا، وَإِمَّا لمصدر مِنَ الْوَصِيَّةِ أَيْ إِيصَاءً حَقًّا، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أنه منصوب:
بالمتقين، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: عَلَى الْمُتَّقِينَ حَقًّا، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا «1» لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ، وَلِتَقَدُّمِهِ عَلَى عَامِلِهِ الْمَوْصُولِ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى:
كُتِبَ، لِأَنَّ مَعْنَى: كُتِبَتِ الْوَصِيَّةُ، أَيْ: وَجَبَتْ وَحَقَّتْ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، كَقَوْلِهِمْ: قَعَدْتُ جُلُوسًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كُتِبَ وَحَقًّا، الْوُجُوبُ، إِذْ مَعْنَى ذَلِكَ الْإِلْزَامُ عَلَى الْمُتَّقِينَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ: مَنِ اتَّقَى فِي أُمُورِ الْوَرَثَةِ أَنْ لَا يُسْرِفَ، وَفِي الْأَقْرَبِينَ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجَ، وَقِيلَ: مَنِ اتَّبَعَ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ الْعَامِلِينَ بِالتَّقْوَى قَوْلًا وَفِعْلًا، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ الْمُتَّقِينَ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: مَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَمُخَالَفَةَ الْأَمْرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ يَدُلُّ عَلَى نَدْبِ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى وُجُوبِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَقَالَ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى مَا قَالَ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ: الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الْكُفْرَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ هنا..
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ، أَيْ: فَمَنْ بَدَّلَ الْإِيصَاءَ عَنْ وَجْهِهِ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَالشُّهُودِ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ سَمَاعَ تَحَقُّقٍ وَتَثَبُّتٍ، وَعَوْدُهُ عَلَى الْإِيصَاءِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُرَاعَى فِي الضَّمَائِرِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنِ الْمُؤَنَّثِ الْمَجَازِيِّ، بَلْ يَسْتَوِي الْمُؤَنَّثُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ فِي ذَلِكَ تَقُولُ: هِنْدٌ خَرَجَتْ. وَالشَّمْسُ طَلَعَتْ، وَلَا يَجُوزُ طَلَعَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَالتَّذْكِيرُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى وَارِدٌ فِي لِسَانِهِمْ، وَمِنْهُ:
كَخُرْعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ ذهب إلى المعنى: الْقَضِيبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَقَضِيبِ الْبَانَةِ، وَمِنْهُ فِي الْعَكْسِ: جَاءَتْهُ كِتَابِي، فَاحْتَقَرَهَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ.
وَالضَّمِيرُ فِي سَمِعَهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيصَاءِ كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ، فِي: فَمَنْ بَدَّلَهُ عَائِدَةٌ إِلَى الْفَرْضِ، وَالْحُكْمِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ بَدَّلَ الْأَمْرَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمَنْ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ وَتَكُونُ: مَنْ، عَامَّةً فِي كُلِّ مُبَدِّلٍ: مَنْ رَضِيَ بِغَيْرِ الْوَصِيَّةِ فِي كِتَابَةٍ، أَوْ قِسْمَةِ حُقُوقٍ، أو شاهد بغير
(1) سورة الأنفال: 8/ 4.
شَهَادَةٍ، أَوْ يَكْتُمُهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَمْنَعُ حُصُولَ الْمَالِ وَوُصُولَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وقيل:
المراد بمن: مُتَوَلِّي الْإِيصَاءِ دُونَ الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْعَدْلُ وَالْجَنَفُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْإِمْضَاءُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بمن: هُوَ الْمُوصِي، نُهِيَ عَنْ تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَهَا إِلَى الْأَجَانِبِ، فَأُمِرُوا بِصَرْفِهَا إِلَى الْأَقْرَبِينَ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ وَفِي قَوْلِهِ: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ عَائِدًا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَدِّلُ قَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ، وَكَنَّى بِالسَّمَاعِ عَنِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ حُصُولِهِ. فَإِنَّما إِثْمُهُ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيصَاءِ الْمُبَدَّلِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ بَدَّلَهُ، أَيْ: فَإِنَّمَا إِثْمُ التَّبْدِيلِ عَلَى الْمُبَدِّلِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا، فَإِنَّمَا وَبَالُهُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَصَّرَ الْوَصِيُّ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، لَمْ يَلْحَقِ الْمَيِّتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَرَاعَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نسق اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَكَانَ: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ، أَوْ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَيْهِ عَلَى الَّذِي يُبَدِّلُهُ، وَأَتَى فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ بِالظَّاهِرِ مَكَانَ الْمُضْمَرِ لِيُشْعِرَ بِعِلْيَةِ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ التَّبْدِيلُ، وَأَتَى بِصِلَةِ: الَّذِينَ، مُسْتَقْبَلَةً جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ، إِذْ هُوَ مُسْتَقْبَلٌ.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِلْمُبَدِّلِينَ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى تَبْدِيلِهِمْ شَرَّ الْجَزَاءِ، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِقَوْلِ الْمُوصِي، عَلِيمٌ بِفِعْلِ الْمُوصَى، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِوَصَايَاهُ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِ. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَجِيئِهِ فِي أَثَرِ ذِكْرِ التَّبْدِيلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ.
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَوْفَ هُوَ الْخَشْيَةُ هُنَا، جَرْيًا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ فِي الْخَوْفِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: بِتَوَقُّعِ الجنف أو الإثم من الْمُوصِي.
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى: مَنْ خَشِيَ أَنْ يَجْنَفَ الْمُوصِي، وَيَقْطَعَ مِيرَاثَ طَائِفَةٍ، وَيَتَعَمَّدَ الْإِذَايَةَ أَوْ يَأْتِيَهَا دُونَ تَعَمُّدٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَنَفُ دُونَ إِثْمٍ، وَإِذَا تَعَمَّدَ فَهُوَ الْجَنَفُ فِي إِثْمٍ، فَوَعَظَهُ فِي ذَلِكَ وَرَدَّهُ، فَصَلُحَ بِذَلِكَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ عَنِ الْمُوصِي إِذَا عَمِلَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ وَرَجَعَ عَمَّا أَرَادَ مِنَ الْأَذِيَّةِ
رَحِيمٌ بِهِ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِالْخَوْفِ هُنَا: الْعِلْمُ، أَيْ: فَمَنْ عَلِمَ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «1» .
وَقَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ.
أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَالْعُلْقَةُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالْعِلْمِ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَى الْعِلْمِ الْخَوْفُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ شَيْئًا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِمَّا يُخَافُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ ظَنٍّ مَخْصُوصٍ، وَبَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ مُشَابَهَةٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَلِذَلِكَ صَحَّ إِطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعَلَى الْخَوْفِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ خَافَ، أَيْ عَلِمَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنَّ الْمُوصِيَ حَافَ وَجَنَفَ وَتَعَمَّدَ إِذَايَةَ بَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَأَصْلَحَ مَا وَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالشِّقَاقِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَيْ:
لَا يَلْحَقُهُ إِثْمُ التَّبْدِيلِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ تَبْدِيلُهَا، وَلَكِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ، وَالتَّبْدِيلُ الَّذِي فِيهِ الْإِثْمُ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلُ الْهَوَى.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَأَعْطَى بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ في ذلك.
وقال طاووس: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي وَصِيَّتِهِ لِغَيْرِ وَرَثَتِهِ بِمَا يَرْجِعُ بَعْضُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَنْ يُوصِيَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكَ الْأَقَارِبَ، فَيَرُدَّ إِلَى الْأَقَارِبِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْإِصْلَاحُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ بِآبَائِهِ وَأَقْرِبَائِهِ جَنَفًا عَلَى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَاقِعٍ، وَأَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ، فَإِنْ كانت
(1) سورة البقرة: 2/ 229.
الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً أَمَرَ الْمُوصِي بإصلاحه، وَرَدَّ مِنَ الْجَنَفِ إِلَى النَّصَفِ، وَإِنْ كَانَتْ مَاضِيَةً أَصْلَحَهَا الْمُوصَى إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُوصِيَ لِوَلَدِ ابْنَتِهِ، يَقْصِدُ بِهَا نَفْعَ ابْنَتِهُ، وَهَذَا راجع إلى قول طاووس الْمُتَقَدِّمِ.
وَإِذَا فَسَّرْنَا الْخَوْفَ بِالْخَشْيَةِ، فَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي أَمْرٍ مُرْتَبِطٍ وَالْوَصِيَّةُ قَدْ وَقَعَتْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيقُهَا بِالْخَوْفِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُصْلِحَ إِذَا شَاهَدَ الْمُوصِيَ يُوصِي، فَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ أَوِ التَّعَدِّي بِزِيَادَةِ غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ نَقْصِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ عَدَلَ عَنْ مُسْتَحِقٍّ، فَأَصْلَحَ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَمَارَاتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِالْجَنَفِ وَالْإِثْمِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَلِّقَ بِالْخَوْفِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَمْضِ بَعْدُ وَلَمْ تَقَعْ، أَوْ عَلَّقَ بِالْخَوْفِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَنْسَخَهَا أَوْ يُغَيِّرَهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَلَمْ يَصِرِ الْجَنَفُ أَوِ الْإِثْمُ مَعْلُومَيْنِ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ الرُّجُوعِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ أَوْ عَلَّقَ بِالْخَوْفِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ اسْتَقَرَّتْ وَمَاتَ الْمُوصِي، يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ مُصَالَحَةٌ عَلَى وَجْهٍ يَزُولُ بِهِ الْمَيْلُ وَالْخَطَأُ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَنَفُ وَلَا الْإِثْمُ مُسْتَقِرًّا، فَعَلَّقَ بِالْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَمَنْ: شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: فَلَا إِثْمَ عليه: ومِنْ مُوصٍ مُتَعَلِّقٌ، بِخَافَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا مِنْ مُوصٍ، وَتَكُونُ حَالًا، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، كَقَوْلِهِ: جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَلَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا، وَيَكُونُ الْخَائِفُ فِي هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ، لَيْسَ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ، لِتَبْيِينِ جِنْسِ الْخَائِفِ، فَيَكُونُ الْخَائِفُ بَعْضَ الْمُوصِينَ عَلَى حَدِّ، مَنْ جَاءَكَ مِنْ رَجُلٍ فَأَكْرِمْهُ، أَيْ: مَنْ جَاءَكَ مِنَ الرِّجَالِ فَالْجَائِي رَجُلٌ، وَالْخَائِفُ هُنَا مُوصٍ.
وَالْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنَ الْمُوصِي جنفا أو إثما من وَرَثَتِهِ وَمَنْ يُوصِي لَهُ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَى الْمُوصِي الْمُصْلِحِ، وَهَذَا مَعْنَى لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُفَسِّرُونَ، إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمُوصِيَ مَخُوفٌ مِنْهُ لَا خَائِفٌ، وَأَنَّ الْجَنَفَ أَوِ الْإِثْمَ مِنَ الْمُوصِي لَا مَنْ وَرَثَتِهِ، وَلَا مَنْ يُوصِي لَهُ.
وَأَمَالَ حَمْزَةُ خافَ وَقَرَأَ هُوَ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بكر: موص، من، وصا وَالْبَاقُونَ:
مُوصٍ، مِنْ: أَوْصَى، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَفًا، بِالْجِيمِ وَالنُّونِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ: حَيْفًا، بِالْحَاءِ وَالْيَاءِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْجَنَفُ الْجَهَالَةُ بِمَوْضِعِ الْوَصِيَّةِ، وَالْإِثْمُ: الْعُدُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا،
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَثِمَ فِي إِيثَارِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْجَنَفُ: الْخَطَأُ، وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ.
وَأَمَّا الْحَيْفُ فَمَعْنَاهُ: الْبَخْسُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرِيدَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ قال الفراء: تحيف: مال أَيْ: نَقَصَهُ مِنْ حَافَاتِهِ،
وَرُوِيَ: مَنْ حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ أُلْقِيَ فِي أَلْوَى، وَأَلْوَى وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، أَوْ عَلَى الْمُوصَى لَهُمَا وَعَلَى الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي سَبَقَتْ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُمْ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ: الْمُوصِي، لَمَّا ذَكَرَ الْمُوصِيَ أَفَادَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ أَنَّ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَداءٌ إِلَيْهِ «1» أَيْ: إِلَى الْعَافِي، لِدَلَالَةِ مَنْ عُفِيَ لَهُ، وَمِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا
…
أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
فَقَالَ: أَيُّهُمَا، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الشَّرِّ، لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ الْخَيْرُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الشَّرِّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمُصْلِحَ هُوَ الْوَصِيُّ، وَالْمُشَاهِدُ وَمَنْ يَتَوَلَّى بَعْدَ مَوْتِهِ ذَلِكَ مِنْ وَالٍ، أَوْ وَلِيٍّ، أَوْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَمَنْ خافَ إِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ أَوِ الْإِثْمِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْخَائِفِ بِالْوَصِيِّ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ هَذَا الْإِصْلَاحِ فَبِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، أَوْ كَفٍّ لِلْعُدْوَانِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يَعْنِي: فِي تَبْدِيلِ الْوَصِيَّةِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَالضَّمِيرُ: عَلَيْهِ، عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ: فَأَصْلَحَ، وَضَمِيرُ: خَافَ، وَهُوَ:
مَنْ، وَهُوَ: الْخَائِفُ الْمُصْلِحُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ، لَمَّا ذَكَرَ الْمُبَدِّلَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: وَكَانَ هَذَا مِنَ التَّبْدِيلِ بَيَّنَ مُخَالَفَتَهُ لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدَدِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُصْلِحُ يُنْقِصُ الْوَصَايَا، وَذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، أَزَالَ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي، وَصَرَفَ مَالَهُ عَنْ مَنْ أَحَبَّ إِلَى مَنْ يَكْرَهُ.
انْتَهَى. وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْإِصْلَاحَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِكْثَارِ من
(1) سورة البقرة: 2/ 178.
الْقَوْلِ، وَقَدْ يَتَخَلَّلُهُ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا إِثْمَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ إِذَا خَافَ مَنْ يُرِيدُ الصُّلْحَ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُنَازَعَةِ إِلَى أَمْرٍ مَحْذُورٍ فِي الشَّرْعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قِيلَ: غَفُورٌ لِمَا كَانَ مِنَ الْخَائِفِ، وَقِيلَ: لِلْمُصْلِحِ رَحِيمٌ حَيْثُ رَخَّصَ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لِلْمُوصِي فِيمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْجَنَفِ وَالْخَطَأِ وَالْعَهْدِ وَالْإِثْمِ إِذْ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، رَحِيمٌ لِلْمُصْلِحِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ مُتَجَاوِزٌ عَنْ مَا عَسَى أَنْ يسقط من المصلح ما لَمْ يَجُرْ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ، أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ هُوَ تَوْلِيَةُ الْوُجُوهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا كُلِّفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ، اعْتِقَادًا وَفِعْلًا وَقَوْلًا.
فَمِنَ الِاعْتِقَادِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، وَكُتُبِهِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى أيدي الملائكة، وأنبيائه المتقين. تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مِنْ: إِيتَاءِ الْمَالِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ فِي الشَّدَائِدِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَنِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ فَهُوَ الصَّابِرُ الْمُتَّقِي، وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ قَبْلُ مَا حَلَّلَ وَمَا حَرَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَنْ أَخَذَ مَالًا من غير حله، وعده بِالنَّارِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ التَّامِّ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي انْطَوَوْا عَلَيْهَا، أَخَذَ تَعَالَى يَذْكُرُ مَا حَرَّمَ مِنَ الدِّمَاءِ، وَيَسْتَدْعِي صَوْنَهَا، وَكَانَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْمَأْكُولِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِالْأَكْلِ، فَشَرَعَ الْقِصَاصَ، وَلَمْ يُخْرِجْ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْقَتْلُ وَاقْتُصَّ مِنْهُ عَنِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَاهُ قَدْ نَادَاهُ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَفَصَّلَ شَيْئًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ فَقَالَ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى «1» ثُمَّ أَخْبَرَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَفْوٌ مِنَ الْوَلِيِّ عَلَى دِيَةٍ فَلْيَتَّبِعِ الْوَلِيُّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّيَ الْجَانِي بِالْإِحْسَانِ لِيَزْرَعَ بِذَلِكَ الْوُدَّ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْوَلِيِّ، وَيُزِيلَ الْإِحَنَ، لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْعَفْوِ تَسْتَدْعِي عَلَى التآلف والتحاب وُصَفَاءَ الْبَوَاطِنِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْهُ تَعَالَى، إِذْ فِيهِ صَوْنُ نَفْسِ الْقَاتِلِ بِشَيْءٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، إِذْ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ بِمَنْ قَتَلَ، وَكَانَ عَاقِلًا، مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، إِذْ فِي ذلك إتلاف نفس
(1) سورة البقرة: 2/ 178.