الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَنْجِدِ وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْمُسْتَضِيءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَنْجِدَ كَانَ قَدْ مَرِضَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ عُوفِيَ فِيمَا يَبْدُو للناس، فعمل ضِيَافَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، ثم أدخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام، وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِشَارَةِ بَعْضِ الدَّوْلَةِ على الطبيب، استعجالا لموته، توفى يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ وَأَعْدَلِهِمْ وَأَرْفَقِهِمْ بِالرَّعَايَا، وَمَنَعَ عَنْهُمُ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِالْعِرَاقِ مَكْسًا، وَقَدْ شَفَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي رَجُلٍ شِرِّيرٍ، وَبَذَلَ فِيهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَنَا أُعْطِيكَ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَائْتِنِي بِمِثْلِهِ لِأُرِيحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ، وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ أَسْمَرَ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَذَلِكَ فِي الْجُمَّلِ لَامٌ بَاءٌ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
أَصْبَحْتَ لُبَّ بَنِي الْعَبَّاسِ جملتها
…
إذا عددت حساب الْجُمَّلِ الْخُلَفَا
وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: قُلِ اللَّهمّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فَيْمَنْ عَافَيْتَ، دُعَاءَ الْقُنُوتِ بِتَمَامِهِ. وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَحَدِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التُّرَبِ مِنَ الرُّصَافَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
خِلَافَةُ الْمُسْتَضِيءِ
وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ الْمُسْتَنْجِدِ بْنِ الْمُقْتَفِي، وَأُمُّهُ أَرْمَنِيَّةٌ تُدْعَى عصمت، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ أَبُوهُ بُكْرَةَ الْأَحَدِ تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بَعْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ غَيْرُ هَذَا، وَوَافَقَهُ فِي الْكُنْيَةِ أَيْضًا، وَخَلَعَ يَوْمئِذٍ عَلَى النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ خِلْعَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَوَلَّى قَضَاءَ قضاة بغداد الروح ابن الحدثنى يوم الجمعة حادي عشرين ربيع الآخر، وخلع على الوزير وهو الأستاذ عضد الدولة، وضربت على بابه الدبابات ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَأَمَّرَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنَ الْمَمَالِيكِ وَأَذِنَ لِلْوُعَّاظِ فَتَكَلَّمُوا بعد ما منعوا مدة طويلة، لما كان يحدث بسبب ذلك من الشرور الطويلة، ثم كثر احتجابه، ولما جاءت البشارة بولايته إلى الموصل قال العماد الكاتب:
قد أضاء الزمان بالمستضيء
…
وَارِثِ الْبَرْدِ وَابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ
جَاءَ بِالْحَقِّ والشريعة والعدل
…
فيا مرحبا بهذا المحيي
فَهَنِيئًا لِأَهْلِ بَغْدَادَ فَازُوا
…
بَعْدَ بُؤْسٍ بِكُلِّ عَيْشٍ هَنِيِّ
وَمُضِيٌّ إِنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ المظلم
…
بالعود فِي الزَّمَانِ الْمُضِيِّ
وفيها سار الملك نور الدين إِلَى الرَّقَّةِ فَأَخَذَهَا، وَكَذَا نَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ وَسِنْجَارَ، وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه مودود بن عماد الدين، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَقَرَّهَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيِّ بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ، مَعَ الْجَزِيرَةِ، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الْأُخْرَى، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ جَامِعِهَا وَتَوْسِعَتِهِ، وَوَقَفَ عَلَى تَأْسِيسِهِ بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ لَهُ خطيبا ودرسا للفقه، وولى التدريس للفقيه أبى بكر البرقاني، تِلْمِيذِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، وَكَتَبَ لَهُ مَنْشُورًا بِذَلِكَ، وَوَقَفَ عَلَى الْجَامِعِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ الشَّيْخِ الصالح العابد عمر الملا، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ زَاوِيَةٌ يُقْصَدُ فِيهَا، وَلَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ دَعْوَةٌ فِي شَهْرِ الْمَوْلِدِ، يحضر فيها عِنْدَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَيَحْتَفِلُ بِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ صَاحِبَهُ، وَكَانَ يستشيره في أموره، وممن يعتمده في مهماته وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ فِي الْمَوْصِلِ بِجَمِيعِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَلِهَذَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ لِأَهْلِ الْمَوْصِلِ كُلُّ مَسَرَّةٍ، واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عَبْدَ الْمَسِيحِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَسِيحِ هَذَا نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ يُقَالُ إِنَّ لَهُ كَنِيسَةً فِي جوف داره، وكان سيئ السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة، وَلَمَّا دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ كَانَ الَّذِي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا، وَحِينَ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ خَرَجَ إِلَيْهِ ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إِلَى الْبَلَدِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ حَتَّى قَوِيَ الشِّتَاءُ فَأَقَامَ بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته بِهَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ:
طَابَتْ لَكَ بَلَدُكَ وَتَرَكْتَ الْجِهَادَ وَقِتَالَ أَعْدَاءِ اللَّهِ؟ فَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى السفر، وما أصبح إلا سائرا إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أَبِي عَصْرُونَ، وَكَانَ مَعَهُ عَلَى سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ، فَاسْتَنَابَ فِيهَا ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ نُوَّابًا وَأَصْحَابًا.
وَفِيهَا عَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ قُضَاةَ مِصْرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِيعَةً، وَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِهَا لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعيّ، فاستناب فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ قُضَاةً شَافِعِيَّةً، وَبَنَى مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأُخْرَى لِلْمَالِكِيَّةِ، وَاشْتَرَى ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدين عمر دارا تُعْرَفُ بِمَنَازِلِ الْعِزِّ، وَجَعَلَهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا الرَّوْضَةَ وَغَيْرَهَا. وَعَمَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَسْوَارَ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ أَسْوَارَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَرَكِبَ فَأَغَارَ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ بنواحي عسقلان وغزة وضرب قَلْعَةً كَانَتْ لَهُمْ عَلَى أَيْلَةَ، وَقَتَلَ خَلْقًا كثيرا من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم قادمون مِنَ الشَّامِ، وَاجْتَمَعَ شَمْلُهُ بِهِمْ بَعْدَ فُرْقَةٍ طَوِيلَةٍ. وَفِيهَا قَطَعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَذَانَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ كُلِّهَا، وَشَرَعَ فِي تَمْهِيدِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَلَى المنابر.