الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأعتقد أن
القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق
.
لما كان من أصول وأركان الإيمان: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على رسله لأجل هداية العباد، والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وإقامة الحجة عليهم؛ كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]، وقال تعالى لنبينا محمد – عليه الصلاة والسلام:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وقال:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .
فلما كان القرآن المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم كلام الله؛ كغيره من الكتب الإلهية، وأن الإيمان بذلك ركن من أركان الإيمان الستة، وهذا أمر لم يختلف عليه المسلمون – ولله الحمد – ولكن نبتت نابتة بعد انقضاء القرون المفضلة على يد الجعد بن درهم الذي تلقى عقيدته عن اليهود، تقول: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله لا يتكلم - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا – وإنما إضافة الكلام إليه إضافة مجازية؛ لأنه خلق الكلام في غيره، فخلقه الله في اللوح المحفوظ، أو في جبريل، أو في محمد صلى الله عليه وسلم.
ويا سبحان الله!! كيف يضاف الكلام إلى غير من تكلم به؟
العقول لا تقر هذا. فهذا محال في العقول، وغرضهم من ذلك أن يبطلوا الاحتجاج بالقرآن، وأن يقولوا: ليس عند الناس كلام لله عز وجل، القرآن الذي هو أول الأدلة، فأول الأدلة: القرآن ثم السنة، ثم الإجماع،
ثم القياس، فإذا قيل: إنه ليس لله كلام بين الناس، بماذا يستدل الناس؟ إذا أبطلوا الأصل الأول بطلت بقية الأصول وبهذا يقضى على الإسلام بهذه الطريقة، وشبهتهم يقولون: ننزه الله من أنه يتكلم؛ لأنه لو وصفناه بأنه يتكلم شبهناه بالخلق، فنحن ننزه الله عن ذلك. فجاؤوا من طريق تنزيهه بزعمهم، وفي الحقيقة أنهم فروا من التشبيه الذي زعموه إلى تشبيه أقبح، فإذا نفوا عنه الكلام لئلا يشبه بالمتكلمين من الخلق، فقد شبهوه بالجمادات التي لا تنطق، وهذا نقص أعظم.
ولذلك حكم أئمة أهل السنة بكفر الجهمية، قال الإمام ابن القيم:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
…
عشر من العلماء في البلدان
خمسون في عشرة يعني خمسمائة عالم حكموا بكفر الجهمية؛ لأنهم نفوا كلام الله سبحانه. ولذلك خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد بن الدرهم لأجل هذه المسألة، في يوم عيد الأضحى فقال:«أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا» . ثم نزل وذبحه تحت المنبر في مشهد من العلماء والمسلمين، وشكروه على ذلك.
ولهذا قال الإمام ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ال
…
قسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله
…
كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة
…
لله درك من أخي قربان
ولما قتل الجعد بن درهم جاء من بعده الجهم بن صفوان، فتبنى مقالته الخبيثة، فقتله الأمير سلم بن أحوز، وهكذا كان ولاة أمور المسلمين، يقتلون الزنادقة حماية للعقيدة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«من بدل دينه فاقتلوه» ، وقال عليه الصلاة والسلام:«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . فكانوا يقتلون الزنادقة ويريحون المسلمين من شرهم حماية للعقيدة التي هي الضرورية الأولى من الضروريات الخمس التي تجب المحافظة عليه.
فهذا أصل منشأ هذه المقالة الخبيثة، ثم ورثها عنه المعتزلة، والجعفرية من الشيعة يقولون بهذه المقالة؛ لأنهم تتلمذوا على المعتزلة فأخذوها عنهم، والشيعة الزيدية والإباضية يرون هذا الرأي ويعتقدون أن القرآن مخلوق، وأنه ليس كلام الله، كل هذا ورثوه عن الجهمية، وهذا مدون في عقائدهم التي يدروسونها الآن.
جاءت الأشاعرة فأتوا بقول غريب في هذه المسألة، لا هو مع الجهمية، ولا هو مع أهل السنة، فقالوا: الكلام هو المعنى القائم بالنفس الإلهية، وأما هذا القرآن والكلام الذي نزل على الرسل فإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فهو – أي القرآن الذي معنا – مخلوق؛ لأنه عبر به محمد أو جبريل عن كلام الله، والله لا يتكلم،
وإنما كلامه معنى قائم بنفسه يعبر عنه الرسول. فهم جمعوا متناقضات لم يقل بها أحد غيرهم، فجعلوا القرآن بعضه غير مخلوق وهو المعنى النفسي، وألفاظه مخلوقة، فهذا القرآن الذي معنا الآن ليس هو كلام الله، إنما هو كلام محمد، أو جبريل، وهو مخلوق، أو أن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، فهو ليس كلام الله، وإنما هو حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، «عبارة» هذا قول الأشاعرة، و «حكاية» هذا قول الماتريدية، وكلهم يقولون: هو ليس كلام الله؛ لأن كلام الله هو المعنى القائم بالنفس فقط، فالقرآن بعضه إلهي وبعضه بشري، مثل مقالة النصارى في عيسى: اتحد اللاهوت بالناسوت، فعيسى بعضه من الله، وبعضه مخلوق، فكذلك قول الأشاعرة يشبه قول النصارى في المسيح، بعضه مخلوق، وبعضه غير مخلوق، تناقضات والعياذ بالله.
أما من التزم بالحق فهو – ولله الحمد – على بينة وعلى بصيرة، وأهل السنة والجماعة ما زالوا يقولون: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وامتحن أهل السنة من المعتزلة على يد المأمون في هذه المسألة، وعذب الإمام أحمد عند هذه المسألة، المأمون يريد أن يلزم الناس بعقيدة المعتزلة في القرآن وأنه مخلوق، وأهل السنة أبوا ورفضوا، وفي مقدمتهم الإمام أحمد رحمه الله، أبوا أن يقولوا وأن يخضعوا لهذه المقالة الخبيثة، فثبتهم الله على الإيمان، وخذل الله المعتزلة ومن نحا نحوهم، ولم يحصلوا على طائل إلا الفضيحة والنكسة والعياذ بالله.
ومع الأسف أن بعض الكتاب يقولون: مسألة القول بخلق القرآن أو عدم خلقه مسألة لا طائل تحتها، ولا تحتاج إلى انقسام، والإمام أحمد
مخطئ عندما امتنع، أو هذه أمور سياسية، هم عذبوا الإمام أحمد ليس من أجل موقفه من القول بخلق القرآن، بل عذبوه؛ لأنهم يخافون أن يقلب الناس عليهم، فهي مسألة سياسية. هكذا يقول هؤلاء الكتاب الجهال أو المغرضون، ويقولون: مسألة القول بخلق القرآن لا تستحق كل هذا.
هكذا يقولون؛ لأنهم إما جهال لم يدركوا الخطر، وإما أنهم مغرضون معتزلة ويريدون أن تمر هذه المسألة على الناس، ويقال: لا تستحق كل هذه الجلبة، هذا موجود الآن في كتاباتهم في الصحف وفي المؤلفات.
فالحاصل: أني نبهت على هذا لئلا يغتر أحد بكتابات هؤلاء، ويقول: المسألة سهلة، والمسألة لا تحتاج إلى كل هذه الردود. بل المسألة خطيرة جدا، فإذا نفينا أن القرآن كلام الله، إذًا ماذا يبقى معنا؟ وبالتالي تبطل الشريعة، إذا هدم الدليل الأول لها والمصدر الأول بها بطلت الشريعة، وهذا غرض المؤسسين لهذه المقالة الخبيثة، وإن كان كثير من أتباعهم لا يدركون هذا الغرض، ولكن هذا هو المقصود، يكفي أن هذه المقالة جاءت من اليهود على يد الجعد بن درهم الذي تلقاها عن اليهود.
وقوله: «وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل» منزل؛ كما يقوله أهل السنة والجماعة «غير مخلوق» ؛ كما تقوله الجهمية ومن سار في ركابهم، هذه هي عقيدة يجب على المسلم أن يعتقدها، ولا يقول: هذه مسألة شكلية.
منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة.
قوله: «منه بدأ» يعني: نزل من الله – جل وعلا – حيث تكلم الله به حقيقة، وسمعه منه جبريل، ونزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فهو كلام الله حقيقة لا مجازا. وأما قوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19، 20] يعني: جبريل عليه السلام، وقوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 40، 41]، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم. أضافه إلى الرسول البشري تارة، وإلى الرسول الملكي تارة، وأضافه إلى نفسه سبحانه وتعالى تارة.
فيقال: الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا، وأما إضافته إلى جبريل أو إلى محمد فهي إضافة تبليغ، ولا يمكن للقول الواحد أن يقوله عدة قائلين أبدا، فدل على أنه كلام الله، ولكن أضافه إلى جبريل وإلى محمد في قوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} إضافة تبليغ، والكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مبلغا مؤديا.
فهذا هو الجواب عن هذه الشبهة التي يتعلقون بها.
قوله: «وإليه يعود» ، إشارة إلى ما يكون في آخر الزمان حينما يرفع القرآن، ويؤخذ من صدور الرجال ومن المصاحف، ولا يبقى له أثر، وذلك من علامات الساعة، فكما أنه نزل منه فإنه يرفع في آخر الزمان ويعود إليه سبحانه وتعالى، ولا يبقى في الأرض قرآن.
قوله: «تكلم به حقيقة» ، هذا رد على الذين يقولون: أنه تكلم به
مجازا، فإضافته إلى الله من باب المجاز؛ لأنه هو الذي خلقه فيضاف إليه مجازا.
وليس هو المعنى القائم في نفسه كما تقوله الأشاعرة، وليس هو مخلوقا كما تقوله الجهمية، وإنما تكلم الله به حقيقة وسمعه منه جبريل وتحمله عن الله – جل وعلا – وبلغه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن عن محمد عن جبريل عن الله – جل وعلا -، هذا سند القرآن؛ كما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} هذا كله في جبريل.
ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} يعني محمدا: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما تقوله الكفار، {وَلَقَدْ رَآهُ} أي: رأى جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية الملكية {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} رأى جبريل وهو في الأفق على صورته في بطحاء مكة، ورآه مرة أخرى ليلة المعراج عند سدرة المنتهى، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، أي: رأى جبريل عند سدرة المنتهى ليلة المعراج، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على خلقته الملكية مرتين، وفيما عدا ذلك يأتي إليه بصورة إنسان، ويراه الصحابة على صورة إنسان، ويظنون أنه من البشر، وأنه وافد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وأنزله على عبده ورسوله» ، هو محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، «عبده» هذا رد على الذين يغلون في محمد صلى الله عليه وسلم ويجعلون له شيئا من الإلهية، فهو عبد وليس معبودا، و «رسوله» هذا رد على الذين ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم طرفي نقيض، طائفة غلت فيه ورفعته إلى مقام الألوهية، وطائفة فرطت في حقه وجحدت رسالته، فنحن نقر بالأمرين: أنه عبد وأنه رسول.
قوله: «وأمينه على وحيه» ، الرسول أمين، لم يزد في القرآن ولم ينقص، بل بلغه كما جاءه عن الله عز وجل، قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 44، 45] ، لو تقول محمد صلى الله عليه وسلم على الله ونسب إليه ما لم يقل لأهلكه الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه تزكية للرسول صلى الله عليه وسلم وأنه بلغ البلاغ المبين، فهو مبلغ عن الله سبحانه وتعالى أمين على الوحي؛ ولهذا لما قسم الصدقة، وتكلم من تكلم من المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم:«ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» ، ألا تأمنوني على قسم الصدقات، وأنا أمين من في السماء – وهو الله – على الوحي.
قوله: «وسفيره بينه وبين عباده» ، السفير: هو الرسول، فالرسول سفير بين الله وبين عباده لتبليغ الرسالة، أرسله الله سبحانه وتعالى ليبلغ رسالات الله عز وجل.
وأؤمن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره.
انتهى الشيخ رحمه الله من مسألة الكلام، وبين عقيدته فيها، وأنها عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنه يتبرأ من عقيدة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين خاضوا في كلام الله، وقالوا مقالات شنيعة، ومن مقالة الكفار الذين قالوا: إن محمدا هو الذي اخترع هذا القرآن، وجاء به ونسبه إلى الله عز وجل، هذه مقالة الكفار؛ ولهذا يقول الوليد بن المغيرة: إن هذا إلا قول البشر، قال تعالى مخبرا عنه:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 18 - 25]، يعني: أن القرآن قول محمد ولم يقله الله جل وعلا.
فالجهمية شابهوا الكفار في هذا وقالوا: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو قول محمد.
قال رحمه الله بعد ذلك: «وأؤمن بأن الله فعال لما يريد» ، وهذه مسألة أخرى، وهي الإيمان بأفعال الله - جل وعلا – له أسماء، وله صفات، وله أفعال، وله إرادة ومشيئة، « {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} » ، يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدبر، هذه أفعال الله - جل وعلا -، وهي بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] ،
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] ، يفعل ما يشاء، ويفعل ما يريد.
وقوله: «ولا يكون شيء إلا بإرادته» ، ما يكون في هذا الكون فهو من خلقه وإيجاده سبحانه وتعالى وبمشيئته وإرادته، لا يكون في هذا الكون شيء بغير إرادته، أو بغير خلقه، أو أن أحدا يخلق مع الله - جل وعلا -.
هذا رد على المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وإن الله لم يخلق أفعال العباد، وإنما هم الذين خلقوها مستقلين عن الله - جل وعلا -، وليس لله فيها إرادة ولا مشيئة.
فنحن نؤمن بأن أفعال العباد هي خلق الله، وهي كسب العباد، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، أي: وخلق ما تعملون.
قوله: «ولا يخرج شيء عن مشيئته» ، في هذا الكون، لا يمكن يحدث شيء من كفر أو إيمان أو طاعة أو معصية أو غنى أو فقر أو حياة أو موت أو رزق إلا بمشيئته سبحانه وتعالى، مشيئته شاملة وإرادته شاملة، وكل شيء بإرادته ومشيئته، لا كما تقوله المعتزلة: إن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم استقلالا وليس لله فيها أي تدخل، لكونهم هم الذين يخلقون أفعالهم. فيصفون الله - جل وعلا - بالعجز، ويعطلونه عن الخلق والفعل ويجعلونه معه خالقا غيره، وعلى نقيضهم الجبرية الذين يقولون: إن العباد ليس لهم أفعال، إنما هي أفعال الله يحركهم فيها كما تحرك الآلة، ليس لهم إرادة ولا مشيئة، فهم على النقيض من المعتزلة.
فالجبرية غلوا في إثبات أفعال الله، وغلوا في نفي أفعال العباد، وقالوا: العباد ليس لهم أفعال، فهم غلوا في إثبات وغلوا في نفي.
والقدرية والمعتزلة على العكس غلوا في إثبات أفعال العباد، فهم على طرفي نقيض.
أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إن الله هو الذي يخلق ويرزق ويدبر؛ كما يشاء وكما يريد، والعباد لهم مشيئة، ولهم إرادة ولهم اختيار، يفعلون الأفعال باختيارهم ومشيئتهم وإرادتهم، فلهم مشيئة ولهم إرادة، لا كما تقوله الجهمية الجبرية، ولكن مشيئتهم ليست مستقلة كما تقول المعتزلة، وهذا كما في قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، فقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ} رد على الجبرية الذين ينفون مشيئة العبد، وقوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} رد على المعتزلة القدرية الذين ينفون إرادة الله ومشيئته، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] .
والعقاب والثواب إنما على أفعال العباد التي فعلوها بإرادتهم ومشيئتهم واختيارهم، يعذبون على المعاصي؛ لأنهم هم الذين فعلوا هذه الأشياء باختيارهم، وكانوا يستطيعون تركها وتجنبها والابتعاد عنها، وهم منهيون عنها، فهم أقدموا عليها باختيارهم، فيعذبون على هذا؛ ولذلك الذي ليس له مشيئة ولا اختيار؛ كالمجنون والصغير والنائم لا يؤاخذ، لأنه ليس له مشيئة ولا إرادة، أما العاقل البالغ فهذا يؤاخذ على أفعاله؛ لأنه يستطيع الفعل والترك، الله أعطاه الإمكانية لهذا وهذا، يستطيع يصلي ويستطيع يزني في آن واحد، وهو يستطيع هذا وهذا، فإن كف عن الزنا وأقام الصلاة آجره الله عز وجل، وإن عكس وأتى الزنا وترك الصلاة عاقبه الله على أفعاله، وعلى إرادته.
قوله: «وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره» ، كل هذا رد
على المعتزلة القدرية، «ولا يصدر إلا عن تدبيره» ، قال تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، وقال:{كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40] .
ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
كذلك أيضا يؤمن الشيخ – وأهل السنة والجماعة يؤمنون – أنه لا محيد للإنسان عن القضاء والقدر الذي قدره الله سبحانه وتعالى، خلافا للمعتزلة الذين يقولون: العبد يستطيع أن يفعل، وليس لله عليه إرادة ولا سيطرة.
وأهل السنة يقولون: إنه يقدر سبحانه وتعالى على العبد امتحانا وابتلاء لأجل أن يثيبه أو يعاقبه، وقد يقدر الأشياء على العبد عقوبة له، فالعبد يفعل الأسباب، والله - جل وعلا – يرتب الأسباب نتائجها، فإن فعل أسبابا طيبة رتب الله عليها نتيجة طيبة، وإنه فعل أسبابا محرمة رتب الله عليها نتيجة سيئة؛ كما قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7] .
فالسبب من قبل العبد، والنتيجة من قبل الله سبحانه وتعالى، وهو يثيب أهل الطاعة وييسرهم لليسرى ويعينهم، ويعاقب أهل المعصية، فيتركهم يتمكنون من هذه الأفعال عقوبة لهم؛ لأجل أن يؤاخذهم ويعاقبهم بسبب نياتهم الخبيثة، وبسبب تصرفاتهم، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10] ، العبد هو المتسبب، والله يقدر عليه نتيجة لعمله هو ونيته هو، إما ثوابا وإما عقابا؛ ولهذا سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بين لهم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، «قالوا: يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له» . فأنزل الله هذه الآيات:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 – 10]، فلا يجوز للعبد أن يتوقف ويقول: إن كان قدر لي أن أصير في الجنة فأنا في الجنة، وإن كان مقدرا إنه في النار يصير في النار. هذا لا يجوز، والعبد لا يطرد هذا في أفعاله، هل يجلس الإنسان ويترك طلب الطعام والشراب، ويقول: إن كان الله مقدرا لي الطعام فسيأتيني وأنا جالس، وسيأتيني الشراب وأنا جالس؟ لا يقول هذا، بل يقوم ويبحث، إذا جاع يقوم ويبحث عن الطعام، وإذا عطش يقوم ويبحث عن الماء، ولا يقول: إذا كان الله مقدرا لي الطعام والشراب سيأتيني؛ لأن فطرته تقتضي أن يتحرك ويبحث.
لو أن إنسانا جاء وضربه أو قتل ابنه هل يسكت ويقول: هذا قضاء وقدر، أو يطلب الانتقام؟ الجواب: يطلب الانتقام، ولم لا يقول: هذا قضاء وقدر، ولا يؤاخذ القاتل أو الضارب، ولا يطالب بالانتقام؟ هذا دليل على أن الأشياء لها أسباب، وأن العبد مطلوب منه فعل الأسباب، ولا يبقى بدون فعل الأسباب، الله ربط المسببات بالأسباب، حتى الطيور والحيوانات لا ترى هذا الرأي، لا تقعد في أوكارها وتقول: سيأتيني الرزق وأنا في وكري. وهذه طيور وحيوانات، بل تروح وتبحث عن الرزق؛ لأن الله فطرها على هذا، أنه لا يحصل لها شيء إلا بعمل وحركة وبحث، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] .
فهذه المقولة خاسرة وكاذبة – وهي الاحتجاج بالقدر على ترك العمل – والمسلم مطلوب منه أن يعمل العمل الصالح، وإذا أذنب مطلوب منه التوبة، وعنده القدرة على هذا، فهو يقدر أن يفعل، ويقدر أن يترك، فلو ترك العمل عجزا لم يؤاخذه الله، ولكن إن تركه كسلا
فهو مؤاخذ على هذا؛ لأنه مفرط، فهناك فرق بين الكسل وبين العجز، العجز لا يؤاخذه الله عليه، ولكن إذا كسل فهذا يؤاخذ؛ لأنه هو الذي فرط، ففطر العباد تقتضي هذا مع دلالة الكتب والسنة.
قوله: «لا محيد» : أي لا مفر عن القدر المحدود، ولكن أنتم مأمورون بفعل الأسباب، أما خلق النتائج فهذا بيد الله سبحانه وتعالى، قد تفعل ولا يحصل لك شيء؛ لأن الله لم يقدر لك نتيجة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل» .
أنت فعلت السبب، ومسألة حصول المقصود هذا عند الله سبحانه وتعالى، فإذا لم يحصل المقصود فإنك لا تلوم نفسك؛ لأنك فعلت ما تستطيع، وتؤمن بالقضاء والقدر، وتقول: لعل الله اختار لي ما هو أحسن؛ لأنه لو حصل لي المقصود فربما صار ضرر علي، فالله حبسه عني لمصلحتي، ولا تكره ذلك.
قوله: «ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور» ، كل الأشياء مكتوبة في اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم فكتب فيه كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وكان ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، كل شيء مكتوب ومقدر ومحدود، ولا بد من وقوعه في وقته، ولكن أنت مأمور بفعل الأسباب، لا تتوقف وتقول: أنا سأتوقف مع القضاء والقدر. هذا لا
يجوز أبدا إلا لإنسان ليس بعاقل، أما العاقل فلا يمكن أن يجلس ويعطل الأسباب ويقول: المكتوب سيقع.
فالصواب: أن هذا الشيء مكتوب إذا فعلت السبب، أما إذا لم تفعل السبب فلا يحصل لك شيء، لو لم تتزوج لم ترزق الولد، فالزواج سبب لحصول الولد، وهكذا كل الأسباب.
فأنت أيها العبد عليك فعل السبب، وأما النتيجة فهي عند الله سبحانه وتعالى، ولا تأسف إذا لم تحصل النتيجة بل ترضى بقضاء الله وقدره، وتقول:«قدر الله وما شاء فعل» ، وربما يكون هذا خيرا لك، فلا تكره ذلك.
وقوله: «في اللوح المسطور» ، الذي فيه كتابة مقادير الأشياء كلها، وهناك مقادير جزئية تؤخذ من اللوح المحفوظ، مثل: الجنين في بطن أمه إذا بلغ أربعة أشهر نفخت فيه الروح، يرسل إليه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
هذا مأخوذ من اللوح المحفوظ من الكتابة السابقة.