الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع وأول مشفع.
قوله: «أؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم» ، «أؤمن» معناه: أصدق وأعتقد حصول شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
و
الشفاعة:
مأخوذة من الشفع، وهو ما كان أكثر من واحد، فالواحد يقال له: وتر، والاثنان يقال لهما: شفع. قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]، فالشفع: هو ما كان أكثر من فرد، وأما الوتر: فهو الفرد. هذا في اللغة.
وأما في الاصطلاح، فالشفاعة: يراد بها الوساطة للمحتاج في قضاء حاجته عند من يملكها؛ لأن طالب الحاجة واحد، فإذا انضم إليه واسطة صار شفعا بعد أن كان واحدا؛ لذلك سميت الشفاعة، وبعضهم يقول: الشفاعة: هي طلب الخير للغير.
والشفاعة على قسمين:
* شفاعة عند الله.
* وشفاعة عند الخلق.
والشفاعة عند الخلق تنقسم إلى قسمين:
* شفاعة حسنة.
* وشفاعة سيئة.
قال تعالى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85] ، فإذا كانت الشفاعة في تحصيل شيء مباح وشيء نافع فهي حسنة؛ كما لو شفعت بجاهك عند السلطان أو عند ولي الأمر في قضاء حاجة أخيك، فتشفع لإخوانك في
تحصيل مطالبهم المباحة ومصالحهم النافعة، فهذه شفاعة حسنة؛ لأنها من التعاون على البر والتقوى، «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» ، فقوله:«اشفعوا تؤجروا» فيه بيان أن الشفاعة الحسنة فيها أجر؛ لما فيها من النفع للمحتاجين.
وأما الشفاعة السيئة: فهي الشفاعة في أمر محرم، كأن تشفع في إسقاط حد من حدود الله لمن وجب عليه أن لا يقام عليه الحد، فهذه شفاعة محرمة، وملعون من قام بها، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع» ، ولما «أراد أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع في امرأة وجب عليها حد السرقة، وشق ذلك على قومها، فطلبوا من أسامة أن يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم قطع يدها، فشفع أسامة وكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فغضب عليه غضبا شديدا، وقال: أتشفع في حد من حدود الله، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها» ، وفي الحديث:«لعن الله من آوى محدثا» ، آواه يعني: حماه من إقامة الحكم الشرعي عليه، فالشفاعة السيئة هي ما كانت في شيء محرم.
أما الشفاعة عند الله - جل وعلا – فهي ثابتة في القرآن وفي السنة، وذلك بأن الله يكرم بعض عباده بأن يدعو لأخيه بما يخلصه من العقاب يوم القيامة، تكريما للشافع ورحمة بالمشفوع، فهذه هي الشفاعة عند الله، وهي: أن يأذن الله - جل وعلا – لبعض أوليائه في أن يدعو الله بأن يتجاوز عمن استوجب العقوبة ويعفو عنه، وهذه ثابتة في القرآن، ولكن بشرطين:
الشرط الأول: أن تطلب الشفاعة من الله - جل وعلا – ويأذن الله بها، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، بخلاف المخلوقين، فقد يشفع الشفعاء عندهم ولو لم يأذنوا، بل ربما يكرهون ذلك، أما الله - جل وعلا – فإنه لا يشفع عند أحد إلا بإذنه، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل الإيمان، ولكن عنده ما يوجب عليه العذاب لكبيرة من كبائر الذنوب ارتكبها، فهو من أهل الإيمان من أصحاب الجرائم التي دون الشرك، وأما المشرك فإن الله لا يرضى أن يشفع فيه، ولا تقبل فيه شفاعة، قال تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وقال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ} يعني: الملائكة {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ارتضى الله قوله وعمله وهو المؤمن، أما الكافر فإن الله لا يرتضيه، فلا تنفعه الشفاعة، قال تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] .
فإذا توفر الشرطان: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع فيه، فالشفاعة حق، وإذا اختل شرط فهي شفاعة مردودة، قال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، هذا الشرط الأول، {وَيَرْضَى} [النجم: 26] ، هذا الشرط
الثاني، فهذه هي الشفاعة عند الله، تجوز بشرطين، فإذا توفر الشرطان فالشفاعة صحيحة ومقبولة عند الله جل وعلا، وإذا اختل شرط فهي مردودة ولا تقبل.
والناس انقسموا في أمر الشفاعة إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:
الطرف الأول: الذي نفوا الشفاعة وهم الخوارج والمعتزلة، وقالوا: إن من استوجب النار لا بد أن يدخلها، بناء – عندهم – على أنه لا يستوجب النار إلا كافر؛ لأنهم يكفرون أصحاب الكبائر من هذه الأمة، فيقولون: لا تنفعهم الشفاعة، فمن استوجب النار لا بد أن يدخلها، ومن دخلها فإنه لا يخرج منها. هذا مذهبهم، فينفون الشفاعة التي ثبتت وتواترت بها الأدلة.
الطرف الثاني: الذين غلوا في إثبات الشفاعة، وهم القبوريون والخرافيون الذين يتعلقون بالأموات، ويطلبون منهم الشفاعة، ويدعونهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، وإذا قيل لهم: هذا شرك، قالوا: هذا طلب للشفاعة؛ كما قال المشركون الأولون: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، فهم غلوا في إثبات الشفاعة حتى طلبوها من غير الله، طلبوها من الموتى والمقبورين، وطلبوها أيضا لمن لا يستحقها وهم أهل الشرك والكفر بالله عز وجل.
الوسط: أهل السنة والجماعة توسطوا، كما هي عادتهم: الوسطية في كل الأمور – ولله الحمد – فلم ينفوا الشفاعة مطلقا كما نفتها الخوارج والمعتزلة، ولم يثبتوها مطلقا كما غلا في إثباتها القبوريون والخرافيون.
هذا مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة؛ فمما يجري
في يوم القيامة: الشفاعة؛ ولهذا ساقها المصنف رحمه الله في جملة ما يكون في اليوم الآخر، أنه يؤمن بكل ما يكون في اليوم الآخر، ومنه الشفاعة.
والشفاعة ستة أنواع:
منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو مشترك بينه وبين غيره من الملائكة، والأولياء والصالحين، والأطفال الأفراط الذين يشفعون.
فأما الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو:
الشفاعة الأولى: الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، وذلك حينما يتقدم الناس في الموقف، موقف الحشر، ويطلبون من الأنبياء أن يشفعوا لهم عند الله في أن يريحهم من الموقف؛ لأنه طال عليهم الوقوف، مع ما هم فيه من الحر والضيق وطول الوقوف، حيث يقفون خمسين ألف سنة، فيتقدمون ويطلبون من آدم عليه السلام أبي البشرية أن يشفع لهم عند الله في أن يفصل بينهم ويريحهم من الموقف، فيعتذر آدم عليه السلام، ثم يطلبونها من نوح عليه السلام أول الرسل، فيعتذر، فيطلبونها من إبراهيم عليه السلام فيعتذر، ويطلبونها من موسى عليه السلام فيعتذر، ويطلبونها من عيسى عليه السلام فيعتذر، ثم يطلبونها من محمد صلى الله عليه وسلم فيستعد لها، ويقول:«أنا لها، أنا لها» ، بعد ما يطلبونها من أولي العزم كلهم ويعتذرون إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه يقبل أن يشفع لهم عند الله، فيخر ساجدا تحت العرش، فيدعو ربه عز وجل ويحمده، ولا يزال كذلك حتى يقال له:«يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع» . فيشفع عند الله في أهل المحشر، في أن يفصل الله بينهم بحكمه، ويريحهم من الموقف،
ويقبل الله شفاعته، فهذا هو المقام المحمود، الذي قال الله - جل وعلا – فيه:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، وهو الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، إظهارا لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم.
الشفاعة الثانية: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوها، وتفتح لهم، فهو أول من يستفتح باب الجنة عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال - جل وعلا -:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] ، لا تفتح لهم أول ما يأتون، بل عطف الفتح على مجيئهم؛ لأنه لا يفتح لهم إلا بعد الشفاعة، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أما الكفار – والعياذ بالله – فمن حين يصلون إلى النار تفتح لهم أبوابها، يدفعون إليها ويدعون إليها دعا – والعياذ بالله - {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ، إلى آخر الآيات، هذه الشفاعة الثانية للرسول صلى الله عليه وسلم والخاصة به.
الشفاعة الثالثة: أنه يشفع صلى الله عليه وسلم لأناس من أهل الجنة في رفعة منازلهم في الجنة.
الشفاعة الرابعة: شفاعته في عمه أبي طالب، الشفاعة لا تنفع الكفار، ولكن نظرا لأن أبا طالب حمى النبي صلى الله عليه وسلم ودافع عنه، وصبر معه على الضيق، وأحسن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يوفق للدخول في الإسلام، وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام وحرص على أن يدخل في الإسلام، ولكنه أبى؛ لأنه يرى أنه دخوله في الإسلام فيه مسبة لدين آبائه، حيث أخذته الحمية الجاهلية لدين آبائه، وإلا فهو يعترف أن محمدا على الحق، وأن دينه هو الحق، ولكن منعته الحمية والأنفة؛ لأنه لو أسلم بزعمه لصار ذلك سبة على قومه.
وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لرأيتني سمحا بذاك مبينا
فقد منعته الملامة وحذر المسبة على قومه، ولقد جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في سياق الموت، «وقال له: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا عليه، وقالا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: هو على ملة عبد المطلب. ومات على ذلك، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] » ، ونزل في أبي طالب:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع في إخراجه من النار؛ لأنه مخلد في النار، ولكن يشفع في أن يخفف عنه العذاب فقط، ويجعل في ضحضاح من نار، وفي أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، فلا يرى أن أحدا أشد منه عذابا، مع أنه أخف أهل النار عذابا.
فهذه الشفاعات خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الشفاعة الخامسة: مشتركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الملائكة
والنبيين والأولياء والصالحين وأفراط المؤمنين، وهي الشفاعة في أهل الكبائر التي دون الشرك، يشفعون لهم ألا يدخلوا النار، وإن دخلوها يشفعون لهم أن يخرجوا منها، وهذه هي التي أنكرها الخوارج والمعتزلة، وقالوا: إن من استحق دخول النار فإنه لا بد أن يدخلها، ومن دخلها فإنه لا يخرج منها.
فقوله: «أؤمن» يعني: أصدق وأعتقد «بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم» الخاصة به، وكذلك يؤمن بالشفاعة المشتركة؛ لأن هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
«وأنه أول شافع» كما في الحديث، حديث الموقف، «وأول مشفع» فهناك شفعاء ولكن هو أول الشفعاء عليه الصلاة والسلام، وهو أول من يستجاب له من الشفعاء، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن الشيخ ينكر الشفاعة.
ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى؛ كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] .
وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب؛ كما قال تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] .
ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال؛ كالخوارج والمعتزلة الذين يكفرون أصحاب الكبائر، ويقولون: إنهم خالدون مخلدون في النار لا تنفعهم شفاعة الشافعين. أما أهل السنة فيثبتون الشفاعة، ولكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الشفعاء لا تكون إلا بشرطين، ذكرهما الله في القرآن:
الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع، وليس كما يكون من ملوك الدنيا الذين يشفع عندهم الشفعاء ولو لم يأذنوا.
الشرط الثاني: أن يرضى عن المشفوع فيه، بأن يكون من أهل التوحيد، ومن أهل الإيمان، ولو كان عنده ذنوب يستوجب بها دخول النار، أو دخل بها النار، فهذا مؤمن تنفعه الشفاعة بإذن الله، أما الكافر فلا تنفعه الشفاعة، إلا ما استثني من شفاعة أبي طالب، وهذه خاصة.
وقوله: «وهو لا يرضى إلا التوحيد» ، لا يرضى عن المشرك، وإنما يرضى لأهل التوحيد، «ولا يأذن إلا لأهله» ، ولا يأذن للشفعاء إلا في أهل التوحيد.
«وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب» . قال تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 40 - 43]، من الأسباب التي أدخلتهم النار: أنهم لم يكونوا من المصلين، فدل على أن من ترك الصلاة متعمدا فهو كافر مخلد في النار، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن ترك الصلاة كفر أصغر. بل هو كفر أكبر بدليل هذه الآية: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} يعني لا يصلون ولا يدفعون الزكاة، والصلاة والزكاة قرينتان في كتاب الله، فدل على أن ترك الصلاة كفر من وجهين:
الوجه الأول: أن الله ذكر ترك الصلاة مع هذه الأمور التي هي كفر بالإجماع: التكذيب بيوم الدين هذا كفر بالإجماع، منع الزكاة جحدا لوجوبها هذا كفر بالإجماع، الخوض في آيات الله عز وجل هذا من الكفر بالإجماع، فدل على أن ترك الصلاة كفر؛ لأنه قرن مع هذه الأشياء.
الوجه الثاني: قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ، فدل على أن تارك الصلاة عمدا لا تقبل فيه الشفاعة، وهذا إنما يكون في الكافر، فلو كان مؤمنا لقبلت فيه الشفاعة.
وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان.
مما يكون يوم القيامة: الجنة والنار، الجنة التي أعدها الله للمتقين، والنار التي أعدت للكافرين، داران لا بد من ورودهما، وهما الداران الباقيتان، دار القرار:{وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] ، ليس فيها ارتحال ولا انتقال، بل أهلها يستقرون فيها أبد الآباد، فأهل الإيمان يكونون إلى الجنة التي أعدت للمتقين، وأهل النار يكونون إلى النار التي أعدت للكافرين.
والإيمان بالجنة والنار في ثلاث مسائل ذكرها هنا:
المسألة الأولى: أنهما مخلوقتان، قال تعالى في كل منهما {أُعِدَّتْ} ، أي: خلقت وهيئت، فهما مخلوقتان من جملة الخلق.
المسألة الثانية: أنهما موجودتان، قال رحمه الله:«وأنهما اليوم موجودتان» ردا على الذين يقولون: إنما توجدان يوم القيامة، أما الآن ليس هناك جنة ونار. وهذا باطل فإنهما الآن موجودتان، ودليل ذلك:
أولا: أن الله قال في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال في النار:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، فقوله: أعدت هذا فعل ماض يدل على أنهما قد خلقتا، لم يقل: تخلق أو تعد، بل قال: أعدت، هذه حكاية للماضي.
ثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ما يصيب الناس من شدة الحر، أو من شدة البرد أنه من جهنم، وجهنم لها نفسان:
* نفس في الصيف، وهذا أشد ما يجده الناس من الحر.
* ونفس في الشتاء، وهذا أشد ما يجده الناس من البرد.
فدل على أنهما موجودتان، وأن هذا الحر وهذا البرد من النار والعياذ بالله.
ثالثا: «أن الصحابة كانوا جالسين عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعوا وجبة، يعني: شيئا سقط، قال: أتدرون ما هذا؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها» ، فهذا دليل على أن النار موجودة.
رابعا: - جل وعلا – ذكر أن الميت إذا وضع في قبره يفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من روحها وطيبها، وأن الكافر والمنافق يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وحرها، فهذا دليل على أنهما موجودتان الآن.
المسألة الثالثة: أنهما لا يفنيان، ولا يبيدان أبد الآباد، النار تبقى، وأهلها يبقون، والجنة تبقى، وأهلها يبقون فيها إلى ما لا نهاية.
وفي هذا رد على الذين يقولون: إن الجنة والنار تفنيان ولا يبقى إلا الله؛ لأنهما لو بقيتا لشاركتا الله في البقاء. فنقول لهما: هناك فرق بين بقاء الخالق، وبقاء المخلوق، بقاء الخالق ذاتي، وأما بقاء المخلوق فهو بإبقاء الله - جل وعلا – له، ففرق بين هذا وهذا. ومنهم من يقول: إن الجنة تبقى، ولكن النار تفنى. وهذا أيضا قول خطأ، والصواب: أنهما باقيتان أبد الآباد.
وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
هذه المسألة من مسائل يوم القيامة أيضا؛ لأن الشيخ لا زال رحمه الله يعدد ما يكون يوم القيامة، ومن ذلك:«أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم» ، إكراما لهم في الجنة، ولا يجدون أطيب من رؤيتهم لله عز وجل ولا ألذ من رؤيتهم لربهم عز وجل.
وقد جاء هذا في القرآن، قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله؛ كما في «صحيح مسلم» ، وقال تعالى:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، المزيد: هو رؤيتهم لوجه الله سبحانه وتعالى؛ كما جاء في التفسير.
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]{نَاضِرَةٌ} الأولى بالضاد، من النضرة وهي البهاء والحسن، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بالظاء المشالة، أي: ناظرة بأبصارها، {إِلَى رَبِّهَا} عداه بـ «إلى» ، وإذا عدي النظر بـ «إلى» فمعناه المعاينة بالأبصار، فأبصار أهل الإيمان تنظر إلى ربها جل وعلا.
وكذلك قوله تعالى في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، أي: لا يرون الله يوم القيامة، فدل على أن المؤمنين يرون الله؛ لأنه إذا حجب عنها الكفار، دل على أن المؤمنين لا
يحجبون عنها؛ كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وإلا لم يكن هناك فرق، لو كان الله لا يرى يوم القيامة لما خص الكفار، وقال:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] .
وأما الأحاديث فكثيرة جدا ومتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقصاها الإمام العلامة ابن القيم في كتابه:«حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» ؛ أي: استقصى الأحاديث الواردة في الرؤية، وأنها بلغت حد التواتر.
أما المعتزلة ومن سار في ركابهم فإنهم ينفون الرؤية كعادتهم؛ لأنهم لا يصدقون بالأحاديث، وإنما يتبعون عقولهم وأفكارهم، ويستدلون بالمتشابه من القرآن، مثل قوله تعالى عن موسى:{قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، قالوا:{لَنْ تَرَانِي} هذا نفي للرؤية فدل على أن الله لا يُرى.
والرد على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أنه لو كانت رؤية الله غير جائزة لما سألها موسى؛ لأن موسى نبي الله وكليم الله، لا يمكن أن يسأل شيئا لا يجوز، فدل هذا على أن رؤية الله جائزة، ولكنه لن يراه في هذه الدنيا؛ لأن المخلوقين لا يقوون على رؤية الله في هذه الدنيا؛ ولهذا ضرب الله له المثل:{قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} يعني: مغشيا عليه، فدل على أن موسى لا
يطيق رؤية الله في هذه الدنيا، وكل مخلوق لا يطيق رؤية الله في هذه الدنيا لضعف المخلوقين في هذه الدار.
أما في الجنة، فالله يعطي المؤمنين قوة على أن يروا ربهم سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن الله - جل وعلا – لم يقل لموسى: إني لا أرى، بل قال:{لَنْ تَرَانِي} يعني: في هذه الدنيا، و «لن» لا تقتضي النفي مطلقا، وإنما تقتضي النفي المؤقت؛ ولهذا يقول ابن مالك في «الكافية الشافية» :
ومن رأى النفي ب (لن) مؤبدا
…
فقوله اردد وسواه فاعضدا
فلن للنفي غير المؤبد؛ ولهذا قال الله - جل وعلا – في اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] يعني: الموت، وفي الآخرة يتمنون الموت، قال تعالى:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ، ففي يوم القيامة يطلبون الموت مع أنهم في الدنيا لن يتمنوه، فدل على أن «لن» لمطلق النفي ولا تقتضي تأبيدا، وإنما هو نفي مؤقت، والله - جل وعلا – قال:{لَنْ تَرَانِي} يعني: في الدنيا، فليس لهم متمسك في هذه الآية.
الشبهة الثانية: تمسكوا بظاهر قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، قالوا:{لَا تُدْرِكُهُ} يعني: لا تراه.
والجواب أن يقال: ليس معنى {لَا تُدْرِكُهُ} أنها لا تراه، لكن معناه أنها لا تحيط به، والإدراك معناه: الإحاطة، والله لم يقل: لا
تراه الأبصار، بل قال:{لَا تُدْرِكُهُ} ، ونفي الإدراك لا يلزم منه نفي الرؤية، فقد يرى الإنسان الشيء ولا يدركه كله، فأنت مثلا، ترى الشمس، ولكن هل تدركها كلها؟ فما كل ما يرى يدرك كله، فالآية ليس فيها نفي الرؤية، بل فيها نفي الإدراك. يعني: وإن رأته فهي لا تدركه؛ لأن الله - جل وعلا – أعظم من كل شيء، فلا يحاط به جل وعلا، فليس في الآية دليل على نفي الرؤية، وإنما فيها نفي الإدراك فقط.
فقوله: «يرون ربهم بأبصارهم» رد على من يقول: يرونه بقلوبهم؛ لأن الرؤية قد تكون قلبية، وتكون بصرية، وهم يقولون: يرونه بقلوبهم. لو كان بقلوبهم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب» ، هل الشمس ترى بالقلب أو بالبصر؟ الجواب: بالبصر.
وقوله: «كما يرون القمر ليلة البدر» كما يرون البدر عند تمامه ليلة الخامس عشر؛ لأن القمر يتكامل ليلة الرابع عشر والخامس عشر: ولهذا تسمى ليالي الإبدار، يعني: تكامل القمر، فأنت تراه واضحا، وكل الناس يرونه ليلة البدر واضحا، كل أهل الأرض يرونه جليا، والشمس لا مرية أن الناس يرونها كل يوم. وقوله:«لا يضامون في رؤيته» ، يعني: كل يراه بسهولة ويسر بدون زحام ولا خطر: لأن الناس ربما يتزاحمون على الشيء الواحد، ويحصل خطر أو موت أو دهس، ولكنهم يرون ربهم من غير مضارة ولا زحام، وهذا حتى في المخلوق،
فالناس كلهم يرون القمر ولا يتزاحمون على رؤيته، ويرون الشمس ولا يتزاحمون على رؤيتها، فإذا كان هذا في المخلوق، ففي الخالق من باب أولى.
وأؤمن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته.
لما ذكر رحمه الله في مقدمة الرسالة بعض أصول الاعتقاد الذي سئل عنه، ذكر في هذا اعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أول أصول الاعتقاد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله يدخل فيها كل ما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى من توحيده بأقسامه الثلاثة، وما يتعلق بأفعاله، وبكلامه وكل ما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى كله يدخل في شهادة أن لا إله إلا الله، ثم شهادة أن محمدا رسول الله، وهي الإقرار والاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، يعتقدها بقلبه، وينطق بلسانه، ويتبع ذلك باتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه وتصديق خبره.
كل هذا يدخل في شهادة أن محمدا رسول الله، يدخل فيها الإيمان بعموم رسالته إلى الجن والإنس – الثقلين – ويدخل فيها الإيمان بأنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، كل هذا يدخل في شهادة أن محمدا رسول الله، فلا بد من الاعتراف بالقلب والنطق باللسان، فلا يكفي النطق باللسان دون اعتقاد القلب بأنه رسول الله، فالمنافقون يشهدون أنه رسول الله بألسنتهم:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، وهم كاذبون في شهادتهم.
ثم لا يكفي أيضا الاعتقاد بالقلب بدون تلفظ ونطق وإفصاح باللسان، فإن المشركين يشهدون أنه رسول الله بقلوبهم، لكن لا يتلفظون بذلك، فقد أبوا استكبارا وعنادا وجحودا أن يتلفظوا
برسالته صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يعترفون بها في قلوبهم، قال تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] ، واليهود والنصارى يعلمون أنه رسول الله، لكن منعهم الكبر والحسد أن ينطقوا بذلك، وأن يتبعوه، قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146، 147]، فلا بد من هذه الأمور في شهادة أنه رسول الله:
* النطق باللسان.
* والاعتقاد بالقلب.
* والمتابعة له صلى الله عليه وسلم.
فلا يكفي أن يعترف بأنه رسول الله وينطق بذلك ولكن لا يتابعه، فلا يطيعه فيما أمر، ولا يجتنب ما نهى عنه، أو يكذبه فيما أخبر؛ ولهذا يقول الشيخ في عبارة جميلة له في «ثلاثة أصول» :«ومعنى أشهد أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله بما شرع» ، فالعبد ما دام يشهد أنه رسول الله فلا بد أن يتقيد بما جاء به، ولا يخالفه بالبدع والمحدثات.
قوله: «خاتم النبيين» يعني: آخر الأنبياء، ليس بعده إلا قيام الساعة، ولهذا يسمى نبي الساعة، قال صلى الله عليه وسلم:«بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى» ، فهو نبي الساعة، وبعثته
من علامات الساعة، لا نبي بعده، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، قال صلى الله عليه وسلم:«إنه سيكون بعدي كذابون ثلاثون، كل منهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي» .
فالذي لا يعتقد ختم الرسالة به صلى الله عليه وسلم كافر، أي: الذي يقول: يجوز أنه يبعث نبي بعد الرسول. هذا كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين؛ كالقاديانية الذين يعتقدون نبوة غلام القادياني، وكذلك الذين اعتقدوا نبوة مسيلمة، ونبوة الأسود العنسي.
ومن ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرتد بذلك عن الإسلام، فإن تابوا تاب الله عليهم، مثل: طليحة الأسدي الذي ادعى النبوة ثم تاب من ذلك فتاب الله عليه وقتل شهيدا رضي الله عنه، وسجاح التميمية التي ادعت النبوة ثم تابت فتاب الله عليها، أما من ادعى النبوة أو صدق من يدعيها فهو كافر مرتد عن دين الإسلام؛ لأنه لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى النبي بعد الرسول، ولا حاجة إلى كتاب ينزل بعد القرآن؛ لأن الله أغنى العالم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، فرسالته عامة في الزمان والمكان، فهي عامة في الزمان إلى أن تقوم الساعة، وعامة في المكان لجميع أقطار الأرض، كلها عامة إلى أن تقوم الساعة وشاملة وكافية للخلق، وإنما تكون بعثة الرسل عند الحاجة، والعالم ليس بحاجة لبعثة رسول أو إلى نزول كتاب بعد محمد صلى الله عليه وسلم وبعد القرآن.
وأما نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان – كما تواترت بذلك الأخبار – فهو حق، ولكنه ينزل على أنه تابع لهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يحكم بشريعة الإسلام، ويكون تابعا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ولا يبقى إلا دين الإسلام، فبعد نزول المسيح لا يبقى إلا الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مجدد لدين الإسلام وتابع للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: «والمرسلين» ؛ لأن بعض الملاحدة يقول: الرسول يقول: «لا نبي بعدي» ولا يمنع أن يبعث رسول؛ لأنه قال: «لا نبي بعدي» ، فالممنوع هو النبوة أما الرسالة فلا. يا سبحان الله! لا يكون الرسول إلا نبيا. فبينهما عموم وخصوص، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا.
وقوله: «ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته» ، لا بد أن يشهد بنبوته ويؤمن برسالته، أي: بأنه نبي رسول عليه الصلاة والسلام، والرسالة أعم من النبوة، فمن أبى أن يشهد أنه رسول الله فهو كافر، أو لم يعترف بأنه خاتم النبيين، وأجاز أن يبعث بعده رسول فهو كافر، وقال: إن رسالته خاصة بالعرب وليست عامة؛ كما يقوله بعض النصارى، الذين يؤمنون برسالته ولكن يقولون: إنه نبي للعرب خاصة.
وهذا كفر؛ لأنه لا بد من الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
الصحابة رضي الله عنهم هم أفضل قرون هذه الأمة، وأفضل المسلمين على الإطلاق لا يساويهم أحد، لامتيازهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، وتلقي العلم عنه صلى الله عليه وسلم، فعندهم ميزات ليست عند غيرهم من المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، فنهى عن سب أصحابه وتنقصهم وبغضهم، ثم بين فضلهم، وأن أعمالهم أفضل من أعمال غيرهم، فالصدقة مثلا: لو تصدق الإنسان بمثل جبل أحد ذهبا خالصا ما بلغ المد – وهو ربع الصاع – الذي يتصدق به واحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا لفضلهم رضي الله عنهم ولمكانتهم، والعمل يضاعف لشرف العامل عند الله تعالى.
فهم أفضل قرون هذه الأمة على الإطلاق، وتجب محبتهم وتوقيرهم واحترامهم وإجلالهم وعدم تنقص أحد منهم، ولا يجوز الدخول فيما حصل بينهم وقت الفتنة، ولا يجوز أن نخطئ فلانا ونصوب فلانا من الصحابة؛ لأنهم كلهم مجتهدون، ولا يجوز أن نتلمس أخطاءهم، ونقول: فلان فعل كذا. لأن لهم من الفضائل ما
يغطي أخطاءهم إن حصلت، فإن حصل من أحدهم شيء فله من الفضائل ما يغطي هذه الأخطاء رضي الله عنهم وأفرادهم ليسوا معصومين، فقد يحصل من أفرادهم خطأ، ولكن عندهم من الفضائل، ما يغطي هذا الخطأ، أما إجماعهم فهم معصومون فيه، فالصحابة معصومون بجماعتهم.
ثم هم يتفاضلون، فأفضلهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة: طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير بن العوام وأبو عبيدة عامر بن الجراح، هؤلاء شهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، ومات وهو عنهم راض، رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم أفضل الصحابة.
ثم أصحاب بدر أفضل من غيرهم؛ لأن الله اطلع عليهم وقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، ثم أصحاب بيعة الرضوان – وهي صلح الحديبية – الذين بايعوا تحت الشجرة، قال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18] ، أخبر سبحانه أنه رضي عنهم فمنحهم رضاه، ثم المهاجرون أفضل من الأنصار؛ ولهذا دائما يأتي ذكر المهاجرين قبل الأنصار في القرآن، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100]، وقال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]، إلى أن قال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} ، يعني: الأنصار، فيأتي ذكر المهاجرين قبل الأنصار، فهم أفضل؛ لأنهم تركوا أوطانهم وأموالهم وأولادهم وخرجوا لنصرة الله ورسوله،
{وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أثنى الله عليهم بالصدق، فهم يتفاضلون رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن أسلم قبل فتح مكة فهو أفضل ممن أسلم عام الفتح أو بعده، قال تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ، فالذين أسلموا قبل الفتح أفضل من الذين أسلموا بعد الفتح، ولكن يشتركون كلهم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضيلة عامة ويتفاضلون فيما بينهم.
قوله: «وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق رضي الله عنه» ؛ لأنه أول الخلفاء الراشدين، وهو الذي بايع له الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم واختاروه؛ لأنه أفضلهم.
قوله: «ثم عمر الفاروق» ؛ لأنه هو الخليفة بعد أبي بكر، وقد اختاره أبو بكر وعهد إليه، وهذا يدل على أنه أفضل الأمة بعد أبي بكر.
قوله: «ثم عثمان» ، هو الثالث؛ لأن أصحاب الشورى الستة الذين عهد إليهم عمر اختاروا عثمان رضي الله عنه لفضله، ومكانته.
قوله: «ثم علي المرتضى» ، علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، وأبو الحسنين، وله من الفضائل أنه:«يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فله فضائل عظيمة رضي الله عنه. وهذا معنى قول الشيخ.
«ثم بقية العشرة» ، أي: العشرة المبشرين بالجنة.
قوله: «ثم أهل بدر» ؛ لأن «الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .
قوله: «ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان» ، الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على القتال، بايعوه على الموت لما منع المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة للعمرة، فأرسل صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه يفاوضهم، فجاءت إشاعة أن عثمان قتل، فعند ذلك عزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم، فطلب من أصحابه البيعة فبايعوه، وكانوا ألفا وأربعمائه، بايعوه على الموت، ثم تبين أن عثمان رضي الله عنه لم يقتل، ثم جرى الصلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة كما هو معلوم، والشاهد أن الله ذكر هذه البيعة، وأثنى على أهلها ورضي عنهم.
قوله: «ثم سائر الصحابة» ؛ لأنهم يشتركون في الصحبة، فكلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولهم وآخرهم، لا يساويهم أحد.
وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
قوله: «وأتولى أصحاب رسول الله» ، يعني: أتولاهم بالمحبة والتوقير والاتباع والاقتداء، هذا معنى توليهم، بخلاف أهل الزيغ وأهل الضلال، وفي مقدمتهم الشيعة الذين يتنقصون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم ويكفرونهم، ويقولون: إنهم ظلموا أهل البيت وأخذوا الخلافة واغتصبوها، وهي لأهل البيت. كما يكذبون ويفترون على المسلمين، وخلافا للخوارج الذين كفروا الصحابة وقاتلوهم واستحلوا دماءهم.
قوله: «وأذكر محاسنهم» ، هذا الواجب على المسلم أنه يذكر محاسنهم ويترضى عنهم، ويقول: رضي الله عنهم، كل واحد منهم إذا جاء ذكره يقول: رضي الله عنه؛ لأن الله قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
ويترضى عنهم ويثني عليهم ولا يتنقص أحدا منهم أو يتلمس أخطاءهم ويشهر أخطاءهم؛ كما يفعله أهل الزيغ وأهل الضلال، أو الجهال الذين يقولون: نحن نبحث في التاريخ، ونحن نريد التحقيق التاريخي. ويبحثون في الصحابة وما حصل بينهم وقت الفتنة، الفتنة هذا شيء جرى، وهم ما اختاروا الفتنة، ولكن جرى قضاء الله،
ووقعت عليهم الفتنة، وابتلوا بها، فهذا حصل من غير اختيارهم رضي الله عنهم، وهم يريدون الخير، يريدون نصرة الدين ويجتهدون في هذا، فنحن لا ندخل في هذا أبدا، وإن دخلنا فنعتذر عنهم.
قوله: «وأستغفر لهم» عملا بالقرآن، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، لما ذكر المهاجرين والأنصار قال:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، هذا موقف المسلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وأكف عن مساويهم» ، فلا أبحث عن مساويهم وأنبش عن الأشياء التي قيلت، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الواسطية» :«الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطؤون فلهم أجر» ، وهم على كل حال مأجورون، ثم لهم من الفضائل ما يغطي ما يحصل من الخطأ الذي قد يحصل من أفرادهم، فالصحبة تغطي كل هذا.
وأما ما شجر بينهم وقت الفتنة، فهذا ليس باختيارهم ابتلوا به بسبب دعاة الضلال الذين اندسوا بينهم؛ كعبد الله بن سبأ والذين اتبعوه، فصاروا ينشرون الفتنة حتى صارت الحرب، أول الفتنة: تنقص ولي الأمر، حيث تنقصوا عثمان وطعنوا فيه، ثم آل الأمر إلى أن قتلوا عثمان رضي الله عنه، فلما قتلوه انفتح باب القتل والفتنة، فهذا أمر جرى
عليهم رضي الله عنهم وابتلوا به، فلا ندخل فيما شجر بينهم، ونخطئ عليا، أو نخطئ معاوية، ما ندخل بينهم في هذا أبدا، هذا كله صادر عن اجتهاد، كلهم يريد نصرة الحق.
قوله: «وأعتقد فضلهم» ، نعتقد أنهم أفضل الأمة، فهذا الاعتقاد واجب، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، والغل: هو البغض والحقد، فلا يكن في صدرك أو في قلبك بغض أو غل أو حقد لأحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأترضى عن أمهات المؤمنين، المطهرات من كل سوء.
والشيخ رحمه الله يترضى عن أمهات المؤمنين – زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فهن أمهات المؤمنين في القدر والاحترام لا في النسب، ولكن في القدر والإجلال، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو المؤمنين في القدر لا في النسب {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] يعني في النسب؛ لأن هذا رد على الذين يقولون: إن زيد بن حارثة ابن للرسول صلى الله عليه وسلم،والله نفى هذا، ولكن ليس معنى هذا أنه ليس أبا لهم في القدر والإجلال، قال تعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وفي قراءة:(وهو أب لهم)، يعني: في القدر والإجلال.
وأما إنهن أمهات المؤمنين فهذا بنص القرآن الذي يقرأ إلى يوم القيامة {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} بمعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج منهن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن زوجاته في الجنة: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] .
فهن محرمات على الأمة؛ لأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، وكفى بذلك فضلا لهن؛ ولأنهن حملن من العلم والشرع ما بلغنه الأمة، حملنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهن الفضل، ولهن الإجلال، رضي الله عنهن جميعا.
والذين يطعنون في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يطعنون في النبي عليه
الصلاة والسلام، فالذين يطعنون في عائشة رضي الله عنها – هم الشيعة – هؤلاء يطعنون بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول يحبها ويحب أباها، ولها مكانة عند الرسول صلى الله عليه وسلم، مُرِّض عندها، وتوفي بين سحرها ونحرها، وكان رأسه في حجرها – عليه الصلاة والسلام – وفضلها عظيم؛ لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في فراشها، ولها فضائل عظيمة.
فالشيعة الذين يطعنون في عائشة رضي الله عنها هؤلاء لا شك أنهم بذلك يعادون الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤذونه، فمن آذى عائشة فقد آذى الرسول صلى الله عليه وسلم، والله أنزل براءتها مما اتهمت به من المنافقين في حادث الإفك {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ، قال - جل وعلا -:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] ، ما كان الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم امرأة خائنة في فراشها، فإذا طعن فيها فقد طعن في النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا طعن في النبي صلى الله عليه وسلم فهذا طعن في الله جل وعلا، وهذا كفر، كفر أكبر.
والذين لا يبرئون عائشة رضي الله عنها مما اتهمها به المنافقون هؤلاء كفار؛ لأنهم مكذبون لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
وقبلها مريم ابنة عمران اتهمها اليهود – لعنهم الله – فبرأها الله مما قالوا، فالشيعة فيهم شبه من اليهود من عدة وجوه وهذا أقبحها.
وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات.
لما فرغ رحمه الله مما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم، وما يجب لأصحابه، وما يجب لأهل بيته رضي الله عنهم انتقل إلى بيان الاعتقاد في كرامات الأولياء.
والكرامات: جمع كرامة، وهي الأمر الخارق للعادة الذي يجري خارقا للعادة، ويكون من الله - جل وعلا – لا دخل للبشر فيه، إن جرى على يد نبي فهو معجزة، مثل:
* تكثير الطعام القليل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونبع الماء من بين أصابعه، وأعظم من ذلك نزول القرآن، وهو المعجزة العظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة منه.
* عصا موسى، ويد موسى، والآيات التسع التي أعطاها الله لموسى عليه الصلاة والسلام.
* ما أعطي عيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
فهذه معجزات، وما أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم من المعجزات كثير جدا.
أما إن جرت الخارقة على يد عبد صالح وليس نبيا فهي كرامة من الله - جل وعلا – مثل الذي جرى لمريم لما كانت معتزلة في مكان ومتخذة حجابا دون الناس، ويأتيها رزقها وهي في مكانها:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37]، يعني: المصلى الذي تصلي فيه، كلما دخل عليها زكريا مصلاها، وهو المحراب {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
ومثل الذي جرى لأصحاب الكهف من الكرامات؛ لأنهم مؤمنون، تبرأوا من دين المشركين، وخرجوا من البلد وأووا إلى غار
فرارا بدينهم، فالله ضرب عليهم النوم سنين طويلة حتى زادت شعورهم وأظفارهم، وهم يتقلبون من جنب إلى جنب، ومضت عليهم سنون كثيرة وهم لم يتغيروا، وهم في نومهم، هذا من كرامات الأولياء.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب: «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ، وهو كتاب نفيس جدا في هذا الباب.
أما إذا جرى الخارق على يد كافر أو على يد ساحر، فهذا ليس كرامة، وإنما هذا خارق شيطاني، فالساحر قد يطير في الهواء، ويمشي على الماء، ويدخل في النار ولا تحرقه، وهذا عمل شيطاني وليس بكرامة، وهو ابتلاء وامتحان.
فنحن نؤمن بكرامات الأولياء وأنها منحة من الله، قال أهل العلم: كرامات الأولياء معجزة للأنبياء. لأنهم ما حصلوا على هذه الكرامات إلا باتباعهم للأنبياء، فهي كرامة للأولياء ومعجزة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والناس في الكرامات على ثلاثة أقسام، طرفان ووسط.
الطرف الأول: من ينكر الكرامات، وهم المعتزلة، ينكرون كرامات الأولياء، ويقولون: ليس هناك كرامات ولا خوارق؛ لأنهم يعتمدون على عقولهم ولا يعتمدون على الأدلة، فينكرون الكرامات.
الطرف الثاني: فريق غلا في إثبات الكرامات حتى عدوا مخاريق السحرة والكهنة والصوفية كرامات، وهي خوارق شيطانية وليست كرامات، هؤلاء غلوا في إثبات الكرامات حتى اعتقدوا أن كل شيء يخالف العادة فهو كرامة، ولو كان جرى على يد ساحر وكاهن
ومشرك، فيقولون: هذه كرامة. ولذلك يعبدون القبور ويقولون: إن صاحبها حصل له كرامات وحصل له كذا وكذا، ويطلبون منه المدد، وهذا غلو في أصحاب الكرامات.
الثالث: أهل السنة والجماعة، فيتوسطون، يثبتون الكرامات الصحيحة، أما خوارق الشياطين وما يجري على يد الشياطين فهذه ليست كرامات، وإنما هي شيطنة وابتلاء وامتحان، فقد يطير الساحر في الهواء، ويمشي على الماء ويحصل له أشياء، ولكن هذا بفعل الشياطين، وقد يخبر عن أشياء غائبة؛ لأن الشياطين تخبره، إذا هو عبدهم وخضع لهم خدموه، {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] ، فإذا تقرب الإنسي إلى الجن وخضع لهم خدموه، وهم يقدرون على ما لا يقدر عليه الإنس، فيظن الجاهل أن هذه كرامة، وهي ليست كرامة، وإنما هي شيطنة، فيجب التنبه لهذا في أمور، فالكرامات لا تنفى مطلقا ولا تثبت مطلقا، وإنما يفصل فيها فيكون الإنسان على بصيرة.
وقوله: «وما لهم من المكاشفات» ، يعني: الفراسة، يعطي الله بعض المؤمنين فراسة، يتفرس فيها الأشياء، وتحصل كما تفرسها.