الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأرى وجوب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة.
ويرى الشيخ كغيره من أهل السنة والجماعة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ، وغير ذلك من الآيات.
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] ، فجعل من صفاتهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر هذا من المنافقين، قال تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] ، فهم بالعكس، وها هم الآن يأمرون بالمنكر، بل يأمرون بكل منكر، ويدعون إليه، ويدعون المسلمين إلى أن يتخلوا عن دينهم، ويسمون التمسك بالدين تشددا وغلوا، فيقولون: لا بد أن يترك المسلمون هذا، ولا بد أن تتمرد النساء ويتركن الحجاب، اتركوا الولاء والبراء واجعلوا الناس سواء ما بينهم فرق. هذا أمر بالمنكر، هم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف دائما وأبدا، عكس المؤمنين فإنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الدين، ولا بد منه في الإسلام، فإذا وجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا علامة نجاة الأمة، وإذا فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا
علامة هلاك الأمة، قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] ، قليل هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأنجاهم الله من العذاب، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] ،فلا ينجو إلا أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر فهو إما منافق ليس في قلبه إيمان، وإما مؤمن ضعيف الإيمان، وإذا هلك أهل المنكر يهلك معهم؛ لأنه لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر بحسب استطاعته؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» ، وفي رواية:«وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» ، فدل على أن الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر هذا هالك مع الهالكين، فلا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تحصل النجاة إلا بوجود هذا الأمر، فإذا فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق على الناس الهلاك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقول الشيخ: «على ما توجبه الشريعة» ، هذا رد لقول الخوارج والمعتزلة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخروج على ولاة الأمور، وشق عصا الطاعة، وتفريق الجماعة، وسفك الدماء، بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا لا توجبه الشريعة، بل تنهى عنه الشريعة، وليس هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم يسمون الخروج على ولاة الأمور، وشق عصا الطاعة، واستباحة
دماء المسلمين وتكفيرهم، يسمون هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا انحراف في هذا المسمى العظيم، ولهذا يقول شيخ الإسلام وغيره من أهل السنة:«على ما توجبه الشريعة» ؛ كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في «العقيدة الواسطية» ؛ لأجل ألا يعتقد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما اعتقده الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون مرتكب الكبيرة من المؤمنين، ويسمون هذا من إنكار المنكر، وهذا خلاف ما توجبه الشريعة، وهو غلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فيجب التنبه لهذا، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو كما قال صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» ، هذه كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الاستطاعة، فإذا لم تستطع، فأنت لست مكلفا بذلك، إلا أنك لا بد أن تنكره بقلبك، وتعتزل أهله وتبتعد عنهم.
أما الذين يحملون السلاح في وجوه المسلمين، ويقولون: هذا هو الأمر المعروف والنهي عن المنكر. فهذا مذهب الخوارج ومذهب المعتزلة أهل الضلال.
فهذا هو القيد الذي أراده أهل العلم بقولهم: «على ما توجبه الشريعة» .
فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل، ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم، قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم.
يخاطب أهل القصيم الذين سألوه عن عقيدته، يقول:«هذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال» ؛ لأنه رحمه الله مشغول بأعماله الجليلة في الدعوة والتعليم، وأمور عظيمة قام بها رحمه الله، فهو كتب هذا المختصر جوابا على سؤالهم، وبسطه موجود في كتب العقيدة المبسوطة؛ كالعقيدة الواسطية، والعقيدة الطحاوية وشرحها.
وقوله: «لتطلعوا على ما عندي» ؛ لأنه اتهم بأشياء، ورمي بأشياء هو منها بريء، فهو بين عقيدته ليرد على خصومه، ويكذبهم فيما يقولون عنه رحمه الله.
وقوله: «والله على ما نقول وكيل» ، يشهد الله على ذلك، وهذا من صدقه رحمه الله، كما أنه في بداية هذه العقيدة أشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين على ما تضمنته.
وقوله: «ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم» ، لما ذكر عقيدته، أراد أن يرد على من اتهموه بتهم هو منها بريء، وهذه التهم لا يسلم منها نبي ولا أتباع الأنبياء، كلهم يتهمون إذا دعوا إلى الله، وأنكروا ما عليه أهل الباطل، توجه إليهم التهم، بأنهم يريدون الملك، يريدون الملك، يريدون الأموال، يريدون الرياء والسمعة، وأنهم سحرة، وأنهم مجانين، وأنهم يريدون كذا وكذا؛ كما هو مذكور في القرآن من أقوال الكفار في اتهام الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام، خصوصا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، اتهموه بأنه شاعر، وأنه مجنون، وأنه معلم، وأنه كذاب، وأنه يريد الترأس على الناس، فكيف بمن دونه من أهل العلم؟ مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لما دعا إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم اتهموه، وكذبوا عليه وافتروا عليه، وأكاذيبهم مدونة، ومردود عليها – ولله الحمد – في كتب ورسائل تتضمنها «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» ، وتضمنتها كتب مستقلة مثل:«مصباح الظلام فيمن كذب على الشيخ الإمام واتهمه بتكفير أهل الإسلام» للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله، والرد على داود بن جرجيس العراقي فيما كتب من الباطل، والرد على دحلان في كتاب اسمه:«صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان» .
ودحلان هذا هو مفتي أهل مكة، وكان خرافيا أتى بشبه على دعوة الشيخ، وصار يكذب عليه، وألف كتابا سماه:«الدرر السنية في الرد على الوهابية» ، وذكر فيها افتراءات على الشيخ، فرد عليه عالم من علماء الهند هو محمد بشير السهسواني رحمه الله بكتاب سماه:«صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان» ، وهو مطبوع موجود، ومثل كتاب:«غاية الأماني في الرد على النبهاني» للشيخ محمود شكري الآلوسي.
ومن افتراءات دحلان يقول: إن ابن عبد الوهاب كان يضمر يريد أن يدعي النبوة، لكن لما رأى أن الناس لن يصدقوه كتم هذه الفكرة، وإلا فهي في نفسه. فكأن دحلان يعلم ما في القلوب، ويعلم الغيب، إلى غير ذلك من الافتراءات المضحكة، فليس الشيخ هو الوحيد الذي اتهم وشبه على دعوته، إذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام تناولهم شيء من الاتهامات، فأتباعهم من باب أولى، قال تعالى لنبيه:
وقوله: «سليمان بن سحيم» ، هذا من خصوم الشيخ في وقته، وهو مطوع معكال، حارة في الرياض معروفة بهذا الاسم إلى الآن، كان يجتمع في هذه الحارة أناس من الخرافيين ومنهم هذا، كذب على الشيخ وكتب رسالة تضحك الناس في الاتهامات والكذب، والشيخ رد على افتراءات ابن سحيم في رسالة موجودة في رسائل الشيخ، وأشار إليها هنا.
وهذه إشارة فقط، وإلا فالرد المفصل في رسالة مستقلة على سليمان بن سحيم، كتب إليه:«من محمد بن عبد الوهاب إلى سليمان بن سحيم، أما بعد: فقد بلغني أنك تقول كذا وتقول كذا..» وكل فرية يرد عليها.
وقوله: «قد وصلت إليكم» ، يعني: كأنه رحمه الله يستشف أن سؤال أهل القصيم له عن عقيدته سببها رسالة ابن سحيم، فهم لما جاءتهم رسالة ابن سحيم كتبوا إلى الشيخ يسألونه عن عقيدته، وهذا هو الواجب، فالواجب التثبت، فهم أحسنوا صنعا في هذا، إذا بلغك عن شخص أنه يقول كذا ويقول كذا، فالواجب أنك تتثبت، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ، يعني: تثبتوا {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .
فليت طلبة العلم الآن والشباب ينتهجون هذا المنهج، ويتثبتون
ويتركون هذا التحارش بينهم، وهذا التراشق بينهم؛ لأنهم إخوان وطلبة علم، عقيدتهم ولله الحمد واحدة، فلو يتركون هذا التراشق وهذه الاتهامات ويتثبتون فيما بينهم، وإذا ثبت شيء مما قيل يتناصحون فيما بينهم ولا يتخذونه تشهيرا أو اتهامات وتراشق بالكلام، هذا لا يجوز أبدا، فالواجب التثبت، فإذا ثبت فإنه يناصح من ثبت عليه الخطأ والمخالفة؛ لأن الإنسان ليس معصوما.
هناك شخص آخر اسمه عبد الله بن سحيم من تلاميذ الشيخ وهو رجل طيب، فلا يشتبه عليكم عبد الله بن سحيم بسليمان بن سحيم.
والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي، فمنها:
قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء.
هل صحيح أن الشيخ يبطل كتب المذاهب الأربعة؟ هذا من أعظم الكذب، الشيخ تتلمذ على مذهب الحنابلة، ولا يجمد على مذهب الحنابلة بل يأخذ ما يقوم عليه الدليل من مذهب الشافعي أو مذهب مالك أو مذهب أبي حنيفة، هذا منهج الشيخ، هو في الأصل على مذهب الإمام أحمد، ولكن في الإفتاء يأخذ ما ترجح بالدليل سواء من مذهب الإمام أحمد أو من غيره، لا يتعصب وإنما يريد الحق، هذا منهجه في الفتوى والتعليم، يأخذ بما ترجح بالدليل من أي مذهب من المذاهب الأربعة، لكنه لا يخرج عن المذاهب الأربعة.
فقول ابن سحيم: إن الشيخ «مبطل كتب المذاهب الأربعة» . هذه كذب؛ لأنه رحمه الله ما خرج عن المذاهب الأربعة، بل هو يستفيد منها، ويفتي بما ترجح بالدليل منها، سواء وافق مذهبه الحنبلي أو لم يوافقه؛ لأنه يريد الحق.
وقوله: «إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء» ، يعني: أنه يكفر الناس، هذا من افتراءات ابن سحيم أن الشيخ يكفر الناس، لماذا يكفر الناس؟ لأنه يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك، فهو بهذا – يزعمون – أنه يكفر الناس، وهو إنما يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك، وما كفر الناس، هو ما كفر إلا من ثبت كفره بالدليل من الكتاب والسنة، كما جاء في النواقض العشرة التي كتبها.
وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد.
«وإني أدعي الاجتهاد» ، يعني: يقولون عنه أنه يدعي أنه مستقل في الاجتهاد، يضاهي الأئمة الأربعة، وهذا كذب، فالشيخ حنبلي، ولكنه لا يتعصب لمذهب إمامه، وإنما يأخذ ما ترجح بالدليل ولو كان في غير مذهب إمامه؛ لأنه يريد الحق، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من المحققين، فهم لا يتعصبون وإنما يأخذون بما قام عليه الدليل، لكن لا يخرجون عن المذاهب الأربعة التي هي مذاهب الأئمة، التي درست وعرفت وحررت، وتوارثها المسلمون جيلا بعد جيل، فهو لا يدعي الاجتهاد المطلق، يعني: لا يدعي أنه في مصاف الأئمة الكبار: كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، ولكنهم يكذبون عليه.
قوله: «خارج عن التقليد» وهو قبول قول العالم بدون معرفة دليله، والتقليد على قسمين:
الأول: تقليد أعمى بأن يتعصب لقول العالم ولو كان مخالفا للدليل، فهذا يخرج عليه الشيخ محمد وغيره.
الثاني: التقليد بالحق، كأن تأخذ قول العالم إذا وافق الدليل، فهذا تقليد بحق، وهذا اتباع لأهل الحق، يسمونه تقليدا، أو يسمونه اتباعا، فالمعنى واحد، يوسف عليه السلام يقول:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] ، هذا اتباع الحق، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] ،فهذا يسمى اتباعا، فمن كان على الحق، فنحن نتبعه.
وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة.
هذا كذب على الشيخ؛ لأن اختلاف العلماء في أمور الفروع والاجتهاد ليس نقمة، العلماء اجتهدوا وبحثوا، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، فالاجتهاد مطلوب، والاختلاف فيه لا يذم، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفتوى، كل يقول بحسب ما ظهر له من الدليل، فهذا النوع من الاختلاف محمود؛ لأنه بحث عن الحق.
أما الاختلاف المذموم فهو الاختلاف في الحق، فلا يجوز الاختلاف في الحق بعدما تبين، بل يجب أخذ الحق، ولا تجوز مخالفته.
فالاختلاف على قسمين:
الأول: اختلاف مذموم، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] ، فالتفرق والاختلاف مذمومان، فالذي يسبب الارتباك في الحق، والتعصب للباطل مذموم.
الثاني: الاختلاف الذي يبحث فيه عن الحق، فهذا محمود، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وإذا علمنا أنه أخطأ فنحن لا نأخذ بقوله بل بقول من أصاب، هذا هو المطلوب.
ولهذا الفقهاء يقولون: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، مثلا: تحية المسجد وقت النهي، بعض العلماء يرى أنها تصلى عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ، قالوا
هذا عام في أوقات النهي وفي غيرها؛ لأنها من ذوات الأسباب. بينما الجمهور يقولون: وقت النهي لا يصلى فيه، لا تحية المسجد ولا غيرها من النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ونهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، فقدموا عموم النهي على عموم الأمر، فمن أخذ بهذا القول فإنه لا ينكر عليه، ومن أخذ بالقول الأول فلا ينكر عليه؛ لأن كلا له مستند، وهذه مسائل اجتهادية لا يجوز فيها التعادي، فالصحابة يختلفون – وهم إخوة - في المسائل الفرعية.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الأحزاب وجهز الصحابة لغزو يهود بني قريظة فقال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، بعض الصحابة قال: مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم المبادرة، وليس المقصود ألا نصلي إلا عندما نصل بني قريظة. فصلوا في الطريق، والبعض الآخر قالوا: الرسول يقول: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، فأخروا العصر إلى أن وصلوا إلى بني قريظة، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الفريقين؛ لأن كل واحد منهم له مأخذ من الدليل، فالاجتهاد من هذا النوع لا إنكار فيه، ولا يقال: إنه نقمة، بل يقال: إنه اجتهاد وبحث عن الحق.
وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها.
قوله: «أني أكفر من توسل بالصالحين» ، هذا الحكم على الإطلاق ليس بصحيح، فالتوسل فيه تفصيل: إن كان يصرف شيئا من العبادة لمن يتوسل به؛ كعباد القبور الذين يذبحون للأموات، وينذرون لهم، ويستغيثون بهم، فهذا شرك أكبر؛ لأنه عبادة لغير الله، أما إن كان لا يصرف لهم شيئا من العبادة، وإنما يتوسل إلى الله بهم، أي: بواسطتهم، فهذه بدعة، وليست كفرا، كالسؤال بالجاه، أو بحق فلان، أو بنبيك، أو بعبدك فلان من غير أن يصرف له شيئا من العبادة، وإنما جعله واسطة بينه وبين الله في قبول دعائه، فهذه بدعة؛ لأن الله أمرنا بدعائه بدون اتخاذ واسطة بيننا وبينه.
فقولهم: إن الشيخ يكفر بالتوسل مطلقا، هذا كذب؛ لأن الشيخ يفصل في هذا.
وقوله: «وأني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق» ، هذه مسألة تكفير المعين؛ كأن الشيخ لا يرى تكفير المعين، والبوصيري كلامه كفر؛ كقوله يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن لي ذمة منه بتسميتي
…
محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
إلى آخر ما قال في «البردة» ، وهذا كفر، لكن الشخص قد يكون ما بلغته الحجة، أو يكون متأولا، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة، وأيضا هو لا يعلم ما ختم له به.
قوله: «وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها» ، وهذا من الكذب على الشيخ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معلوم أنه دفن في بيته محافظة عليه من الغلو، وبيته له جدران، وله سقف، فالسقف موجود من وقت دفنه صلى الله عليه وسلم، غاية ما هنالك أنه أزيل السقف وجعل على شكل قبة، فالشيخ لا يرى أن هذا منكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم دفن في بيته، واستمر صلى الله عليه وسلم مقبورا في بيته حفاظا عليه من الغلو؛ كما تقول عائشة لما ذكرت نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في القبور:«ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» ، فدفن في بيته محافظة عليه من الغلو، فيتهمون الشيخ، ويجعلون قبة الرسول مثل القباب التي على القبور المبنية عليها تعظيما لها، وهذا غلط، القباب المبنية على القبور مخالفة للشرع، يعني بأن يدفن الميت ويقام على قبره بناية وقبة، أو يجعل مسجدا، هذا الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا وسيلة إلى الشرك، الصحابة أفضل قرون الأمة كانوا يدفنون في البقيع، ولا يجعل على قبورهم شيء، وإنما الرسول – عليه الصلاة والسلام – عزل وجعل في بيته حفاظا عليه من الغلو، وفرق بين ما بني عليه غلوا فيه وبين ما دفن في بيته حفاظا عليه من الغلو.
فالبناء على القبور تعظيما لها منهي عنه، وهو وسيلة من وسائل الشرك، ومما يجعل العوام يتعلقون بها، لكن قبر الرسول ما بني عليه،
وإنما دفن في بيته عليه الصلاة والسلام، وعرفنا العلة: أنه لأجل المحافظة عليه، ما رأيكم لو كان الرسول مدفونا في البقيع، ماذا يكون عنده من الزحام والغلو، وفعل الجهال؟ ولكن الله أجاب دعاء نبيه فقد قال:«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» ، فأجاب الله دعاءه ودفن في بيته محافظة عليه.
قال ابن القيم رحمه الله:
فأجاب رب العالمين دعاءه
…
وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه
…
في عزة وحماية وصيان
هذا الفرق بين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبر غيره مما بني عليه، فلا يشتبه هذا بهذا، ونقول: قبر الرسول مبني عليه، وعليه قبة، فعلى هذا يجوز البناء على القبور الأخرى وجعل عليها قباب؛ كما يقوله الخرافيون.
ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله.
وهذا من الكذب على الشيخ، أنه يقول:«لو أقدر على أخذ ميزاب الكعبة» ؛ لأن ميزاب الكعبة مصنوع من الذهب، يقولون عن الشيخ: إنه يقول: «لو أقدر أخذته، وجعلت مكانه ميزابا من خشب» . وهذا كذب على الشيخ، ولا مانع من أنه يجعل ميزاب الكعبة من الذهب؛ لأن الذهب لا يخرب ولا يتغير، أما لو كان من الخشب لأكلته الأرضة، وتغير، فالشيخ ما قال في ميزاب الكعبة شيئا أبدا، ولكن اتهموه بهذا، حتى قالوا: إنه يقول: إن عصاي هذا أفضل من الرسول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ميت ولا ينفع أحدا، وعصاي هذا أنتفع به وأضرب به. هذا من أعظم الكذب على الشيخ.
كذلك زعموا أن الشيخ حرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير صحيح، بل كان رحمه الله يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقبر الرسول يزار كما تزار القبور، قال صلى الله عليه وسلم:«فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة» ، فمن ضمن ذلك: قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يزار ويسلم عليه؛ كما تزار القبور ويسلم عليها، فهو لم ينكر الزيارة الشرعية، وإنما ينكر الزيارة البدعية أو الشركية لقبر الرسول ولغيره، فالذي يزور القبور ليدعو الأموات، ويستغيث بأصحاب القبور ويتبرك بها، ويتبرك بترابها، هذا هو الذي يمنعه العلماء – الشيخ وغيره – أما الزيارة الشرعية التي يقصد منها السلام على الميت والدعاء
له، والاعتبار بالقبور فهذه لا ينكرها أحد من العلماء.
فالشيخ ينكر الزيارة الشركية والبدعية للقبور، ولا ينكر الزيارة الشرعية، ولكن هم يلبسون على الناس بهذا الكلام.
قوله: «وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما» ، كذلك هذا بناء على أنهم يقولون: إنه يكفر الذين سبقوه، فيقول للناس: لا تزوروا والديكم؛ لأنهم كفار. وهذا كذب، فالشيخ لا يدري عن الذين ماتوا وعما ماتوا عليه، والأصل إحسان الظن بأموات المسلمين، فهذا من الكذب على الشيخ رحمه الله.
وقوله: «وإني أكفر من حلف بغير الله» ، كذلك الحلف بغير الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ، ولكن ليس معناه الكفر المخرج من الملة، وإنما هو كفر أصغر، وشرك أصغر لا يخرج من الملة، فالذي يقول: إنه كفر أو شرك، إن كان يقصد أنه شرك أصغر وكفر أصغر فهذا صحيح؛ لأن الرسول سماه كفرا وسماه شركا، أما إن كان يقصد أنه الكفر المخرج من الملة فهذا باطل.
وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق "دلائل الخيرات " و" روض الرياحين "، وأسميه: روض الشياطين.
ابن الفارض صاحب المنظومة التائية في وحدة الوجود، فيها كفر وإلحاد والعياذ بالله، ولكن الشيخ لا يكفر صاحبها؛ لأنه لا يدري ماذا ختم له، ولا يدري هل بلغته الحجة أو لم تبلغه، فهو يقول: إن ما فيها إلحاد وكفر، ولكن صاحبها يتوقف فيه، هذا مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لأحد بجنة أو نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن عربي معروف، هو محيي الدين بن عربي الطائي إمام أهل وحدة الوجود، وابن الفارض من أتباع ابن عربي، ومع هذا فإن الشيخ لا يجزم بكفرهما، وإن كانا قالا كفرا وضلالا وإلحادا، ولكن تكفير المعين يحتاج إلى دليل؛ لأنه ربما تاب، وربما ختم له بالتوبة، فالله أعلم.
ومن الكذب على الشيخ أيضا: قولهم: إنه أحرق دفتر «دلائل الخيرات» ، ودلائل الخيرات هو كتاب في «الصلاة والسلام على خير البريات» ، فيه غلو، وفيه دعاء للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كتاب فيه باطل، ولكن الشيخ لم يحرقه، ولكنه كان يوصي بقراءة الكتب المفيدة الخالية من المخالفات.
وكذلك «روض الرياحين» ، هو من كتب الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تحريقها لا يؤدي إلى نتيجة.
وافتروا على الشيخ وقالوا: سماه «روض الشياطين» ، وهذا كله من الكذب على الشيخ رحمه الله.
جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. وقبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم عليهما السلام ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور، قال تعالى {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] ، بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله في ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] .
هذه المسائل التي افتروها، قال رحمه الله في جوابه عنها:«سبحانك هذا بهتان عظيم» كل ما قيل في هذه الكلمات فهو بهتان عظيم لم يقله الشيخ، وهو منه بريء، رحمه الله رحمة واسعة.
وقوله: «قبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم» ، «قبله» يعني: قبل ابن سحيم، من بهت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار والمشركين، فلي أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا بهتني ابن سحيم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بهت بما هو أعظم من هذا.
قالوا في الرسول: «أنه يسب عيسى بن مريم» وذلك لما نزل عليه قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، قالوا: محمد يسب عيسى وأمه؛ لأن عيسى عبد من دون الله فمعناه أنه يلقى في النار، {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] ، يعنون عيسى عليه السلام، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101، 102] ، فالآية فيمن عبد وهو راض، وعيسى لم يرض ولم يأمرهم بعبادته، بل أمرهم بعبادة الله عز وجل، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}
[المائدة: 117]، {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 36] ، فعيسى عليه السلام ما دعا الناس إلى عبادة نفسه بل أنكر هذا، إنما الذين يدعون الناس إلى أن يعبدوهم هم الذين يكونون في النار مع عبدهم.
أما عيسى وعزير وغيرهما من الأنبياء فإنهم ينكرون هذا في حياتهم، ولما ماتوا فعل الناس هذا بهم بعد موتهم، قال عيسى – عليه الصلاة والسلام:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، فالأنبياء والرسل والصالحون لا يأمرون الناس أن يعبدوهم {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] ، {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79] ، فنزه الله الأنبياء عن هذا الكلام، فعيسى ما قال لهم: اعبدوني. وإنما هم عبدوه بعد موته، فلا لوم عليه عليه الصلاة والسلام، ورد الله عليهم بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} ، ومنهم عيسى عليه الصلاة والسلام:{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} ، وقال في الزخرف {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] .
قالوا: إذا كانت الآلهة في النار فعيسى معهم؛ لأنه معبود من دون الله. يريدون أن يردوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله - جل وعلا -:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} يعني: عيسى عليه السلام {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59]، فالله رد عليهم في موضعين: في سورة الأنبياء، وفي سورة الزخرف، وهكذا القرآن يرد على أهل الباطل ويفند شبهاتهم ولله الحمد.
فإذا كانوا اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يكفر المسيح، وأنه يقول: إنه في النار؛ لأن النصارى عبدوه، فكيف لا يتهمون الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ !
«بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار» ؛ لأنهم عبدوا من دون الله، والآية تقول:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ، يقولون: هذه عامة للملائكة ولعيسى وعزير والصالحين.
الجواب: أن هؤلاء لم يريدوا أن يعبدوا من دون الله، بل كانوا ينكرون هذا في حياتهم، فهم مبعدون عن النار، {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} ، وهم عيسى وعزير ومن سبقت له الحسنى من الله فإنه مبعد من النار، ولو عبد بعد موته فهذا لا يضره؛ لأنه كان ينكره يوم أن كان حيا.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد بعد أن مات، يعبده الخرافيون والمشركون، هل هذا يذم به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يقال: إن محمدا في النار؛ لأنه عبد من دون الله؟ لا؛ لأنه كان ينكر هذا في حياته، ويجاهد عليه بالسيف، أما كونه يعبد بعد موته فلا يرجع عليه في ذلك ملامة.
وأما المسائل الأخر وهي:
أني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى " لا إله إلا الله "، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام.
فهذه المسائل حق وأنا قائل بها، ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال العلماء المتبعين؛ كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى.
ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} .... الآية [الحجرات: 6] .
قوله: «لا يتم إسلام عبد حتى يعرف معنى لا إله إلا الله» ، هذا صحيح، والشيخ رحمه الله يعلم الناس معنى (لا إله إلا الله) بأن معناها: لا معبود بحق إلا الله، وما سواه فعبادته باطلة وشرك، هل هذا يلام الشيخ عليه؟ ! الجواب: لا، بل هذا منهج الأنبياء.
وقوله: «وأني أكفر الناذر» ، هذا أيضا صحيح، من نذر لغير الله فإنه كافر؛ لأنه صرف نوعا من أنواع العبادة لغير الله، فلا لوم على الشيخ ولا على غيره إذا كفره بذلك.
وقوله: «وإن الذبح لغير الله كفر» ، هذا صحيح؛ لقوله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ}
[الأنعام: 162، 163]، وفي السنة:«لعن الله من ذبح لغير الله» .
وقوله: «والذبيحة حرام» ؛ لأنها مما أهل به لغير الله، والله - جل وعلا – يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، ويقول:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] .
وقوله: «فهذه المسائل حق وأنا قائل بها» : لأن هذا مقتضى الكتاب والسنة، فلا لوم على الشيخ، بل يشكر على هذا ويدعى له، ولكنهم يعدون المحاسن سيئات.
وبهذا انتهى الشرح على هذه الرسالة المباركة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين
تمت في 18 \ 1 \ 1426 هـ