الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت.
من أركان الإيمان:
الإيمان باليوم الآخر
، وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم، ففي أول سورة البقرة قوله تعالى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] ، فمن صفات المتقين أنهم يوقنون باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر من البر، قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] ، فيؤمنون بالله واليوم الآخر، وتكرر في القرآن الكريم، وسمي باليوم الآخر؛ لأنه بعد الدنيا، الدنيا هي اليوم الأول، ويوم القيامة هو اليوم الآخر، سمي يوم القيامة لقيام الناس من قبورهم لرب العالمين.
وهذا الركن من أركان الإيمان خالف فيه كثير من الكفرة، فالكفار الذين بعث إليهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم يكفرون باليوم الآخر، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ، {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] ، فالذي ينكر اليوم الآخر، وينكر البعث كافر بالله عز وجل الكفر المخرج من الملة؛ لأنه جاحد لركن من أركان الإيمان؛ ولأنه مكذب لله ولرسوله، بل لجميع الرسل، مكذب لما علم من الدين بالضرورة، وليس لهم حجة أو شبهة إلا أنهم يقولون: لا يمكن هذا؛ لأننا صرنا رفاتا وعظاما فمن يحيي العظام وهي رميم؟ {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49]، {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] ، إلى غير ذلك.
يستبعدون قدرة الله على أن يحيي العظام وهي رميم، وأن يعيدها
وهي تراب، ويقولون:{ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25]، يتحدون الله فيقولون: إذا كان هناك بعث فآباؤنا ماتوا فأحيوهم ونحن ننظر إلى ذلك {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، الله - جلا وعلا – أخبر أنه لا يغير سنته سبحانه من أجل استعجال الكافرين، الله قضى بأنه لا يكون البعث إلا في وقته، فلا يعجله من أجل استعجال الكافرين، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 26] ، فالله قضى بأن البعث له معاد لا يتقدم، ولا يتأخر، والله - جل وعلا – لا يستفزه أحد، ولا يغير وعده وتوقيته سبحانه وتعالى من أجلهم.
وكذلك يتحدون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: متى قيام الساعة؟ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 63] ، فقيام الساعة لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، فلما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة أصحابه «قال: أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، يعني: أنا وأنت سواء، لأننا لا نعلمها؛ لأن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ثم ما هي فائدتهم إذا عرفوا وقت قيامها؟ ليس لهم فائدة في هذا، إنما الفائدة في الاستعداد والعمل، وأما متى تقوم الساعة فهذا ليس لهم فيه فائدة، وإلا لبينه الله لهم، ولكن هذا من باب المكابرة والعناد، وإلا فمعلوم أنه لو جاءك أحد، وقال: إنه مقبل عليك عدو إن لم تستعد للقائه وتحذر منه فسوف يقتلك ويأخذك. هل من الحكمة أنك تقول:
متى يأتي هذا العدو؟ هذا ليس من الحكمة، ولا من العقل، الحكمة أن تستعد وتكون على أهبة الاستعداد متى ما جاء، كذلك قيام الساعة، الحكمة أنك تستعد، وأما وقت قيامها فهذا ليس لك فيه مصلحة من قريب أو بعيد {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] ، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم هذا، ولا أحد يعلم هذا إلا الله - جل وعلا – لحكمة أخفاها عن جميع خلقه، لا يعلمها إلا هو.
كذلك من شبههم أنهم يقولون: هذه الأجسام صارت ترابا، نخرة {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 11] ، فكيف تعود فيها الحياة بعد أن كانت نخرة ورميما؟ {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] ، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ، يستبعدون هذا، الله - جل وعلا – رد عليهم بردود، منها:
أن الذي بدأ خلقهم قادر على أن يعيدهم من باب أولى، الذي يقدر على البداية قادر على الإعادة من باب أولى، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] ، فالله عز وجل كل شيء عليه هين، ولكن هذا من باب ضرب المثل للعقول، فالعقول تدري أن الإعادة أسهل من البداءة، فلو يأتي شخص ويصنع جهازا مركبا من أدوات ومسامير ومن أشياء هائلة ودقيقة، ثم بعد ذلك ينتقض هذا الجهاز ويتشتت ويتقطع كل أداة على حدة، وكل مسمار على حدة، أليس الذي ركبه في الأول قادر على أن يركبه بسرعة مرة ثانية؟ الجواب: نعم؛ لأنه عرفه، وعرف مكان كل أداة ومكان كل مسمار، فالمهندس الذي ركبه في الأول سهل عليه أن يعيده وينظمه من جديد، هذا من ناحية العقل، الذي بدأ الشيء قادر
على إعادته من باب أولى؛ ولهذا قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} نسي أن الله خلقه من العدم، {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79] ، فالذي قدر على البداءة قادر على الإعادة من باب أولى، هذا في نظر العقول وإلا فالله - جل وعلا – لا يعجزه شيء، ولكن هذا من باب إفحام هؤلاء.
وكذلك الله - جل وعلا – احتج بأنه يحيي الأرض بعد موتها، فأنت تمر على الأرض هامدة ليس فيها شيء، جرداء بيضاء ليس فيها أي عود أو أي ورقة، فينزل عليها الغيث، ثم تربو وتنتفخ طبقتها، ثم تتفتق عن النبات، ثم بعد فترة وجيزة تصبح روضة خضراء فيها من أنواع النباتات والزهور والثمار، وكانت في الأول جرداء يابسة، من الذي أعادها وأحياها؟ الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] ، الذي يحيي الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد موتهم وإعادتهم كما كانوا. فهذا من أدلة البعث، إحياء الأرض بعد موتها بالنبات.
ثم هذه الحبة اليابسة إذا سقاها الله بالماء انفرجت عن عروق وعن ورق وعن سيقان، ثم في النهاية يكون لها سنابل وتثمر، وهي في الأول حبة يابسة أخرج الله منها هذا النبات العجيب، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] ، فالنطفة مثل البذرة، نطفة من الماء يخلط فيها ماء الرجل وماء المرأة، ثم تتحول إلى علقة: أي إلى دم، ثم يتحول الدم إلى مضغة، أي قطعة لحم، ثم تتحول قطعة اللحم إلى أعضاء وعروق وسمع وبصر وحواس، ثم تنفخ فيه الروح، ثم يحيي:
فالذي قدر على تحويل هذه النطفة من ماء الأمشاج – يعني: المختلط من ماء الذكر وماء الأنثى – إلى إنسان، هذا الذي خلق هذا الإنسان من هذا الماء وأنشأه قادر على إحيائه بعد موته، وإذا كانوا يقولون: إنه يضيع في الأرض ويتفتت. فالله - جل وعلا – يقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] ، فالتراب الذي تحول من هذا الإنسان يعاد لحما ودما وعظاما كما كان، هذا الرفات يعاد ويتكون كما كان، ولا يضيع منه شيء، حتى ولو فني كله وصار ترابا فهناك شيء لا يفنى، وهو عظمة يسيرة وهي عجب الذنب، لا يفنى ومنه يركب خلق الإنسان.
ثم أيضا لو لم يكن هناك بعث وحساب وجزاء للزم العبث في حق الله - جل وعلا -، وأنه يخلق الخلق للفناء فقط، وليس لحياتهم وأعمالهم نتيجة، خلقهم وأوجدهم واعتنى بهم، وهم يعملون، ومنهم من يعمل أعمالا صالحة، ويموت ولا ينال من جزائها شيئا، ومنهم من يعمل أعمالا قبيحة، ومعاصي، وكفرا، وإلحادا، ويموت ولا ينال من جزائه شيئا، هل ينتهي عند هذا؟ الجواب: لا، هذا فيه طعن في عدل الله - جل وعلا -:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36] ، الله لا يجعل المسلمين كالمجرمين كلهم يموتون ولا ينالون من جزاء أعمالهم شيئا، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}
[ص: 27، 28] ، فلا يكون فيه بعث وجزاء، لا جزاء للمحسن على إحسانه ولا للمسيء على إساءته، هذا من باب العبث أن الله يخلق خلقا ويتركه ولا يصير له نتيجة، ويعملون أعمالا سيئة أو صالحة ولا يكون لها ثمرة ولا نتيجة، هذا من العبث، ومن باب الطعن في عدالة الله - جل وعلا -:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116] ، تعالى الله عن ذلك أن يكون خلق هذا الخلق ويتركهم يموتون ولا يصير لأعمالهم نتيجة، ولا يتميز المؤمن من الكافر، بل ربما يكون الكافر منعما في هذه الدنيا وهو على المعاصي والكفر، ويكون المؤمن مضيقا عليه في هذه الدنيا ولا ينال من جزائه شيئا، هذا يلزم فيه الطعن في عدالة الله - جل وعلا -، ويلزم عليه أنه خلق الخلق عبثا لا نتيجة لأعمالهم، فهذا من الطعن في حكمة الله - جل وعلا -، وفي عدل الله سبحانه وتعالى، فهذا من أدلة البعث ذكرها الله في القرآن الكريم في مواضع متعددة، فالإيمان بالبعث ركن من أركان الإيمان الستة، تكرر ذكره في القرآن الكريم.
فأؤمن بفتنة القبر ونعيمه.
هذا أول ما يكون في اليوم الآخر، إذا وضع الميت في قبره، وانتُهي من دفنه، وتولى عنه مشيعوه، وأنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيقعدانه فتعاد روحه في جسده، ويحيى حياة برزخية ليست مثل حياته في الدنيا، حياة برزخية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه مات على الإيمان فيبعث عليه، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] .
فإذا أجاب بهذه الإجابات نادى مناد: « «أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا من الجنة» » ، ويوسع له في قبره مد بصره حتى يرى منزله في الجنة، ويأتيه من روحها وطيبها، ويصبح قبره روضة من رياض الجنة، ويقول: يا رب أقم الساعة حتى أعود إلى أهلي ومالي.
وأما المنافق الذي كان يعيش في الدنيا على الشك، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ويقرأ القرآن، ويتعلم العلم، ولكن ليس في قلبه إيمان، إنما يعمل هذه الأشياء لمصالح دنيوية، ليعيش مع الناس، وهو لا يؤمن بها في قلبه، {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] ، فهذا لا يستطيع الجواب وإن كان في الدنيا يحفظ كل المتون، ويحفظ كل الأشعار والنحو والتفسير والحديث، ما دام ليس فيه إيمان لا يستطيع الإجابة في القبر في هذه اللحظة، كلما سئل
قال: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته – يعني: مثلما يقوله الناس من غير إيمان في قلبه، وإنما يقول ذلك مجاملة ومسايرة للناس – فيقال له: لا دريت ولا تليت. فيضرب بمرزبة من حديد، لو ضربت بها جبال الدنيا لذابت، ثم يضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويصبح قبره حفرة من حفر النار، فيقول: يا رب لا تقم الساعة. لأنه علم أنه ما بعد القبر أشد منه، فيقول: يا رب لا تقم الساعة.
هذا ما يكون في القبر، والإيمان بعذاب القبر أو نعيمه حتم واجب؛ لأنه متواتر في القرآن والسنة بأدلته، فيجب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، من جحده متعمدا فهو كافر، أما إن كان مقلدا أو متأولا فهذا ضال، ولكن من أنكره بعد العلم به متعمدا فهو كافر، وقد أنكرته المعتزلة العقلانيين؛ لأنهم يعتمدون على عقولهم، ويقولون: لو فتحنا القبر وجدناه كما وضعناه ليس فيه جنة ولا نار. فنقول: أنتم في عالم الدنيا وهو في عالم الآخرة، ويأتيه العذاب أو النعيم وأنتم لا تشعرون بذلك؛ لأن هذا من أمور الآخرة التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا تتسع العقول إلى إدراك ذلك، وإنما يعتمد على ما صح به النقل، وتواتر به الخبر فنؤمن به ولا نتدخل؛ لأن هذا من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
أنت تشاهد الناس الآن بعضهم في سرور وبهجة وبعضهم في هم وغم، وهم كلهم يمشون ويأكلون ويشربون وأنت لا تدري عن هذا ولا
عن هذا، لا تدري عن المسرور ولا عن المغتم؛ لأن هذه أمور باطنة لا يعلمها إلا الله سبحانه.
فقوله: «فأومن بفتنة القبر» ، فتنة القبر يعني: الاختبار؛ لأنه يأتيه الفتانان، الملكان يسألانه ويختبرانه.
وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس.
ثم بعد القبر: البعث، وهو: إعادة الأرواح إلى الأجساد، وقد أنكره المشركون والملاحدة، وقد مر بنا شيء من البراهين على ثبوته في القرآن الكريم، وهي أدلة عقلية مذكورة في القرآن، منها:
* أن القادر على البداءة قادر على الإعادة من باب أولى، هذا دليل عقلي ودليل سمعي أيضا، دليل عقلي سمعي.
* ومنها أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها.
* ومنها أن الله سبحانه منزه عن العبث ومنزه عن الظلم، فلا بد من إقامة العدل بين عباده، وهذا إنما يكون في الآخرة، ولا يكون في الدنيا.
والقيام من القبور، قال الله - جل وعلا – فيه:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68]، صعق يعني: مات، هذه نفخة الصعق، فيصعق كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، قيل: الملائكة، وقيل: الحور العين.
ثم يؤمر فينفخ النفخة الثانية، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، تطير الأرواح إلى أجسادها في النفخة الثانية {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} تشقق الأرض عنهم:{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44] ، يخرجون من القبور ويسيرون إلى المحشر كأنهم جراد منتشر، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}
يعني: من القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 6، 7] ، يكسون الأرض من كثرتهم، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} منقادين لا يتأخر أحد، لا الكافر ولا المسلم، لا يتأخر أحد منهم ولا يستطيع التأخر، وفي الآية الأخرى:{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]، نصب: علم يذهبون إليه ويسرعون إليه، تسوقهم الملائكة ولا أحد يتخلف.
وذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعث من في القبور أرسل عليها نوعا من المطر ينزل من السماء لا يمنع منه شيء، لا السقوف ولا غيرها، ينفذ إلى الأرض، ويدخل إلى الأجسام في القبور، فتنبت مثلما ينبت الحب، وتنبني الأجسام كما كانت، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] ، {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] ، ينادي مناد فيقول: أيضا العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء. فيجتمع الإنسان من الأرض، يجتمع بدنه كما كان إلا أنه ليس فيه روح، حتى إنه لو مر عليه أحد يعرفه في الدنيا لقال: هذا فلان. ما تغير منه شيء.
ثم يؤمر إسرافيل فينفخ في الصور فتتطاير الأرواح؛ لأن الأرواح مجموعة في الصور، تتطاير كل روح إلى جسدها، ثم يحيون ويؤمرون بالمسير إلى المحشر، يقومون من قبورهم ويسيرون إلى المحشر، ثم يجتمعون في المحشر، فيقفون على أقدامهم في ضنك وضيق وحر شديد، وتدنو الشمس من رؤوسهم ويأخذهم العرق والزحام الشديد؛
لأنه يجتمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، فيجتمعون ويعرقون عرقا شديدا، ويختلفون في العرق، فمنهم من يلجمه العرق، ومنهم من يأخذه إلى نصفه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه..... إلى آخره. والوقوف يكون خمسين ألف سنة، شاخصة أبصارهم حافية أقدامهم، حفاة ليس عليهم نعال، عراة ليس عليهم ثياب، غرلا يعني: غير مختونين، ويقفون في هذا المحشر هذا الوقف الطويل يجمع الله سبحانه وتعالى الأولين والآخرين.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن ثلاث نفخات:
النفخة الأولى: نفخة الفزع، في سورة النمل:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] .
النفخة الثانية: نفخة الموت، في سورة الزمر:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] .
النفخة الثالثة: نفخة البعث في سورة الزمر أيضا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] .
قوله: «تدنو منهم الشمس» حتى تكون بمقدار الميل، ولكن المؤمنون يكونون في ظلال، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] ، ما يحسون بها، {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنبياء: 103] ، فالمؤمنون في راحة في هذا اليوم، {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] ، على الكافرين خاصة، {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] ، يعني: الصور، {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9، 10] ، أما المؤمنون فيكون يسيرا عليهم، ويكونون في ظلال باردة.
هذا الحشر أنهم يحشرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، صعيد واحد متساو ليس فيه ارتفاعات وانخفاضات {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 105 - 108] ، يقومون في هذا الصعيد المستوي الذي ليس فيه انخفاضات ولا ارتفاعات.