الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: أسباب القحط وحبس المطر: معصية الله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:
لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلَاّ فشا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم.
ولم يَمْنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا.
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم
عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم.
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) (1).
وهذا الحديث فيه من الفوائد: أن نقص المكيال والميزان سبب للجدب وشدة المؤونة وجور السلاطين، وفيه أن منع الزكاة من الأسباب الموجبة لمنع قطر السماء، وأن نزول الغيث مع وجود المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم (2).
وقد قال الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه: ((بابُ انتقام الرب عز وجل من خلقه بالقحط إذا انتُهِكَتْ محارمُه)) (3).
وقد جاء عن مجاهد – رحمه الله تعالى – أن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض، ذكر ذلك الإمام ابن
(1) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم 4019، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 4/ 540، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 270، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 7، برقم 106.
(2)
نيل الأوطار، للشوكاني، 2/ 649 – 650.
(3)
البخاري، كتاب الاستسقاء، قبل الحديث رقم 1013.
كثير – رحمه الله تعالى – في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (1).
فقوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} قال ابن كثير: ((يعني دواب الأرض .. وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة، والجن، والإنس، وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عُصاة بني آدم. وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة: ((ويلعنهم اللاعنون)) يعني: تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر (2)،وجاء في هذه الآية: أن كاتم العلم يلعنه الله، والملائكة، والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا: وهو كل فصيح، وأعجمي، إما بلسان المقال، أو الحال، أن لو
(1) سورة البقرة، الآية:159.
(2)
الحديث أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب في فضل الفقه على العبادة، برقم 2825، وقال:((هذا حديث حسن غريب صحيح)) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 343.
كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم)) (1).
وقد بيّن الله عز وجل أن الابتعاد عن المعاصي والقيام بالواجبات من أعظم أسباب إنزال البركات، فقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (2). ذكر الله عز وجل أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدَّقَتْه الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا
(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص137، وتفسير البغوي، 1/ 134.
(2)
سورة الأعراف، الآيات: 96 – 99.
تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا،
{فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بالعقوبات والبلايا، ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو أخذهم بجميع ما كسبوا ما ترك عليها من دابة (1). كما قال سبحانه وتعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (2). وكما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (3).وكما قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (4).
وقد أوضح الله عز وجل أن أهل الكتاب لو قاموا بأوامر
(1) تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص298، 238.
(2)
سورة النحل، الآية:61.
(3)
سورة فاطر، الآية:45.
(4)
سورة الروم، الآية:41.
التوراة والإنجيل وابتعدوا عن نواهيهما، لأدرّ الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض (1)، فقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (2).
ولا شك أن الناس قد يحرمون الأرزاق بالذنوب يصيبونها؛ لأن من لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجًا ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، وما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي (3)؛ لمفهوم قول الله تعالى:{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} (4).
(1) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص238.
(2)
سورة المائدة، الآيتان: 65، 66.
(3)
الجواب الكافي، لابن القيم، ص104.
(4)
سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.
ومعلوم أن المعاصي تُزيل النعم وتُحِلُّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب، كما ذُكِرَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:((ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة)) (1)،قال الله عز وجل:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (2)، وقال عز وجل:{ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3)، فلا يغيِّر الله تعالى نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغَيِّرُ ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر غُيِّر عليه جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلام للعبيد.
فإن غيَّر المعصية بالطاعة غيَّر الله عليه العقوبة بالعافية، والذلّ بالعزّ، قال الله تعالى: {إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
(1) الجواب الكافي لابن القيم، ص142.
(2)
سورة الشورى، الآية:30.
(3)
سورة الأنفال، الآية:53.