المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج - عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي - جـ ٣

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الباب الرابع: ردود أهل السنة على الفرق النحرفة في اعتقادها نحو الصحابة

- ‌الفصل الأول: ردود على مطاعن الشيعة في الصحابة

- ‌المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: بداية نشأة التشيع

- ‌المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة

- ‌المبحث الرابع: رد أهل السنة على مطاعن الشيعة الإمامية في الصحابة على سبيل العموم

- ‌المبحث الخامس: الرد على مطاعنهم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث السادس: من مطاعنهم في الفاروق رضي الله عنه

- ‌المبحث السابع: من مطاعنهم في حق ذي النورين عثمان رضي الله عنه

- ‌المبحث الثامن: من مطاعنهم في حق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

- ‌المبحث التاسع: آثار في ذم الرافضة

- ‌الفصل الثاني: ردود أهل السنة على مطاعن الخوارج والنواصب في الصحابة

- ‌المبحث الأول: نشأة الخوارج

- ‌المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج

- ‌المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة

- ‌المبحث الرابع: ذكر أحاديث وآثار تتضمن ذمهم

- ‌المبحث الخامس: الرد على معتقد النواصب في الصحابة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج

‌المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج

لقد تشعبت الخوارج إلى فرق عدة بلغ بها بعض أهل العلم ممن كتب في الملل والنحل إلى عشرين فرقة1، وعند النظر في هذه الفرق من خلال الكتب التي ألفت في الفرق يتضح أن الخلاف والنزاع بينها لم يكن في أمور مهمة تؤدي إلى تكوين جماعات مستقلة، بل إن معظم نزاعهم كان يحصل في كثير من أحوالهم حول أمور فرعية، ومن ذلك العدد الكثير الذي ذكر في تعداد فرقهم، نذكر هنا أهم فرقهم المتمثلة في المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والصفرية، والإباضية، وما عداها من الفرق فهي متفرعة منها وداخلة فيها.

المحكمة الأولى:

يقصد بالمحكمة الأولى أولئك الذين خرجوا على الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الذين أعلنوا شعار "لا حكم إلا لله" والتفوا حوله وقد اختلف في أول من نادى بهذا الشعار منهم، فقيل: إنه عروة بن حدير2 أخو مرداس الخارجي، وقيل إن أول من نادى به يزيد بن عاصم المحاربي وقيل: إنه رجل من بني يشكر، كان مع علي رضي الله عنه بصفين، ولما

1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/72، التبصير في الدين ص/45.

2ـ هو: عروة بن عمرة بن حدير التميمي، من رجال النهروان، وسيفه أول ما سل من سيوف أباة التحكيم، وذلك أنه عاتب الأشعث بن قيس على رضاه بالتحكيم بين علي ومعاوية، ولم يعبأ به الأشعث فشهر سيفه وضربه، فأصاب عجز بغلته وحضر حرب النهروان، وعاش إلى زمن معاوية وقتله زياد بن أبيه سنة ثمان وخمسين، انظر ترجمته في الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/517-518، الكامل للمبرد 2/128، 165، الأعلام 5/16-17.

ص: 1143

اتفق الفريقان على التحكيم ركب وحمل على أصحاب علي، وقتل منهم واحداً، ثم حمل على أصحاب معاوية، وقتل منهم واحداً، ثم نادى بين العسكرين أنه بريء من علي ومعاوية، وأنه خرج من حكمهم، فقتله رجل من همدان، ثم إن جماعة ممن كانوا مع علي رضي الله عنه في حرب صفين استمعوا منه ذلك الكلام واستقرت في قلوبهم تلك الشبهة، ورجعوا مع علي إلى الكوفة، ثم فارقوه ورجعوا إلى حروراء"1، ولما استقروا في حروراء كانوا يعاملون من يخالفهم من المسلمين في رأيهم أبشع معاملة وأشد قسوة.

قال أبو الحسين الملطي واصفاً ما بلغوا إليه من ظلم وإجرام: "فأما الفرقة الأولى من الخوارج، فهم المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا يزالون يقتلون حتى يقتلوا وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع حتى يقتل أو يقتل، فكان الناس منهم على وجل وفتنة"2.

ومن أبشع جرائمهم وأفظعها قتلهم عبد الله بن خباب بن الأرت، فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن هلال عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب ذعراً يجر رداءه، فقالوا: لم ترع، قال: والله لقد رعتموني، قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثاً يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه، قال: نعم، سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول، قال أيوب: ولا أعلمه، قال: ولا تكن عبد لله القاتل، قالوا: أأنت سمعت هذا

1ـ التبصير في الدين ص/45-46، وانظر مقالات الإسلاميين 1/207-209، الفرق بين الفرق ص/74-75، تاريخ الأمم والملوك 5/72 وما بعدها، الكامل في التاريخ 3/326 وما بعدها، مروج الذهب للمسعودي 3/125.

2ـ التنبيه والرد على أهواء والبدع ص/51.

ص: 1144

من أبيك يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قال: فقدموه على ضفة النهر فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل ما امذقر1 وبقروا أم ولده عما في بطنها"2.

وكان الذي تولى قتله منهم رجل يقال له: مسعر بن فدكي3.

وذكر عبد القاهر أن رجلاً منهم شد عليه يقال له: "مسمع" فجرى دمه فوق ماء النهر كالشراك إلى الجانب الآخر، ثم إنهم دخلوا منزله وكان في القرية التي قتلوه على بابها، فقتلوا ولده وجاريته أم ولده، ثم عسكروا بنهروان4.

وقد بلغ علياً رضي الله عنه نبأ قتلهم عبد الله بن خباب وقتلهم الكثير من الأطفال والنساء، وقد كان رضي الله عنه متأهباً للعودة إلى صفين لمقاتلة أهل الشام، فرأى أن العودة لمقاتلة هؤلاء المفسدين أولى فكان في ذلك خيرة له ولأهل الشام فرجع إلى النهروان، "فقاتلهم مقاتلة شديدة وكان عددهم اثنى عشر ألفاً فما انفلت منهم إلا أقل من عشرة، وما قتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، فانهزم اثنان منهم إلى عمان، واثنان إلى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى تل موزن5.

وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم6، وقد انمحت بدعهم في بعض هذه الأماكن نهائياً، وبعضها باقية فيها إلى اليوم.

1ـ معناه أنه مر فيه كالطريقة الواحدة لم يختلط به ولذلك شبهه بالشراك الأحمر وهو سيور النعل. أهـ النهاية في غريب الحديث 4/212.

2ـ المسند 5/110.

3ـ مقالات الإسلاميين 1/210.

4ـ الفرق بين الفرق ص/77.

5ـ بلد قديم بين رأس عين وسروج وهو مبني بحجارة عظيمة سود، قريب من حران ـ فتحه عياض بن غنم سنة 17هـ. معجم البلدان 2/45، وانظر مراصد الأطلاع للبغدادي 1/273.

6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/117، وانظر الفرق بين الفرق ص/80-81، التبصير في الدين ص/49.

ص: 1145

الأزارقة:

هم أتباع رجل منهم يسمى بأبي راشد نافع بن الأزرق الحنفي ولم يكن للخوارج قوم أكثر منهم عدداً وأشد منهم شوكة، ولهم اعتقادات فارقوا بها "المحكمة الأولى" وسائر فرق الخوارج فهم يعتقدون أن من خالفهم من هذه الأمة فهو مشرك بينما المحكمة يقولون: إن مخالفهم كافر ولا يسمونه مشركاً.

ومما اختصوا به أيضاً: أنهم يسمون من لم يهاجر إلى ديارهم من موافقيهم مشركاً، وإن كان موافقاً لهم في مذهبهم، وكان من عاداتهم فيمن هاجر إليهم أن يمتحنوه بأن يسلموا إليه أسيراً من أسراء مخالفيهم وأطفالهم ويأمروه بقتله، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم، وإن لم يقتله، قالوا: هذا منافق ومشرك، وقتلوه، ويزعمون أيضاً: أن أطفال مخالفيهم مشركون، ويزعمون أنهم يخلدون في النار1.

وبالإضافة إلى هذه المعتقدات الشاذة والآراء المنحرفة، فقد نادى الأزارقة ببعض الآراء التي تنم عن جهلهم بالشرع وعدم فقههم في الدين، من ذلك:

إسقاطهم حد الرجم عن الزاني المحصن بحجة أنه لم يرد في القرآن نص عليه2 كما أسقطوا أيضاً: حد القذف عمن قذف المحصن من الرجال مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء3، تمسكاً أيضاً: ـ في زعمهم ـ بما ورد في القرآن وذهبوا أيضاً إلى أن يد السارق تقطع في القليل والكثير من غير اعتبار لنصاب الشيء والمسروق، وأن القطع يكون من المنكب كما أوجبوا على الحائض الصلاة والصوم في حال حيضها4، كما أنهم حرموا قتل النصارى واليهود

1ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/168-174، الفرق بين الفرق ص/82-83، التبصير في الدين ص/49-50.

2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121.

3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121، وانظر مقالات الإسلاميين 1/174، الفرق بين الفرق ص/84.

4ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/189.

ص: 1146

وأباحوا قتل المسلمين، وهذه الآراء واضح فيها الجهل وعدم العلم والفهم للقرآن، وعدم الإلمام بالسنة، ويصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم:"يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"1، وقد اشتدت شوكة الأزارقة وصارت لهم قوة حتى أخذوا في مقاتلة غيرهم حتى تغلبوا على بلاد الأهواز وأرض فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير حين بعث عاملاً له على البصرة، فأخرج سرية لقتالهم وكان عدد هذه السرية ألف مقاتل، فقتلهم الخوارج، ثم بعث إليهم بثلاثة آلاف من المقاتلة فظفر بهم الخوارج أيضاً، فبعث عبد الله بن الزبير من مكة كتاباً وجعل قتالهم إلى المهلب بن أبي صفرة2 حتى جمع عسكراً عظيماً وهزم نافع بن الأزرق وقتل في هذه الهزيمة وبايعت الأزارقة بعده رجلاً آخر منهم فهزمه المهلب أيضاً، وقتل في هذه الهزيمة فبايعوا بعده قطري بن الفجاءة التميمي، وسموه بأمير الموت، واستمر المهلب أيضاً في مقاتلتهم حتى انحازوا إلى سابور من بلاد فارس وجعلوها دار هجرتهم3 وقد بلغت المدة التي قاتلهم فيها المهلب تسع عشرة سنة، بعضها في زمان ابن الزبير، وبعضها في زمان عبد الملك بن مروان، "ولما ولي الحجاج بن يوسف العراق أقر المهلب على قتالهم، فاستمر المهلب بن أبي صفرة في مقاتلتهم حتى وقع الخلاف بين قطري بن الفجاءة وأتباعه، فواصل المهلب مقاتلة قطري، فكان كلما سار قطري إلى ناحية من النواحي تبعه المهلب حتى هزمه إلى الري، ثم اتجه لمقاتلة جماعة أخرى منهم بقيادة رجل منهم يسمى عبد ربه الصغير4 حتى كفى شغله وقتله، وبعث الحجاج جيشاً عظيماً إلى

1ـ الحديث صحيح مسلم 2/740.

2ـ هو أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق الأزدي العتكي أمير، شديد البطش بأهل البدع، جواد ولد سنة سبع، وتوفي سنة ثلاث وثمانين هجرية. انظر ترجمته في الإصابة 3/509-510، وفيات الأعيان 5/350-359، الأعلام 8/260.

3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/613-621، الفرق بين الفرق ص/85-86، الكامل في التاريخ 4/194-200، البداية والنهاية 8/348، التبصير في الدين ص/50-51.

4ـ كان عبد ربه الصغير معلم كتاب وهو من موالي قيس بن ثعلبة وأول ظهوره أن الخوارج ذهبوا إلى =

ص: 1147

الري فقاتل قطري بن الفجاءة فانهزم إلى طبرستان ثم هرب في جملة من أتباعه إلى قومس عبيدة بن هلال اليشكري فتبعته جنود الحجاج حتى قتلته وقطع الله دابر الأزارقة بقتل قطري فلم تجتمع لهم قوة بعد ذلك مثل ما كانت لهم من قبل"1.

النجدات:

هؤلاء هم أتباع نجدة بن عامر الحنفي الذي يقال: إنه كان باليمامة حيث تخلف عن نافع بن الأزرق عند رجوعهم من مكة، وبينما هو في طريقه ليلحق بمعسكر نافع بن الأزرق التقى به من أخبره بما أحدثه نافع من الآراء التي منها "استباحة قتل أطفال مخالفيه، وحكمه على القعدة بالشرك"2 وهنا قيل: إنه رجع إلى اليمامة، لما سمع بما أحدثه نافع وأعلن انفصاله عنه، وتبرأ منه وبويع له بالإمامة وأصبح أميراً على طائفة من الخوارج عرفوا بالنجدات3، وصار لنجدة وأتباعه نفوذ واسع في كثير من البلدان شمل البحرين وشواطيء الخليج وامتد إلى عمان وبعض أجزاء اليمن4.

وقد أنكر نجدة على الأزارقة إكفارهم للقعدة منهم ممن لم يهاجروا إليهم، وحكم على نافع ومن قال بإمامته بالكفر5، ويقال: إنه وجه كتاباً إلى نافع

= قطري بن الفجاءة يشكون من رجل كان قطري يقدمه عليهم، فلم يشكهم منه، فقال القوم لقطري: فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير، وانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم وجلهم من الوالي والعجم. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/403 مقالات الإسلاميين 1/171-172.

1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 6/202 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/374 وما بعدها، مروج الذهب للمسعودي 3/114 وما بعدها، الفرق بين الفرق ص/85-86، التبصير في الدين ص/50-51.

2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121.

3ـ مقالات الإسلاميين 1/174، الفرق بين الفرق ص/87، الملل والنحل للشهرستاني 1/123.

4ـ انظر الفرق بين الفرق ص/90، الكامل في التاريخ 4/201 وما بعدها.

5ـ انظر الفرق بين الفرق ص/87.

ص: 1148

ابن الأزرق أخذ عليه فيه تكفيره للقعدة مع أن الله عذرهم بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 1، وأنكر عليه أيضاً: استباحته قتل الأطفال لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، ولقوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2.

وتبودلت الكتب بين نجدة ونافع، ولكن لم يقنع أحدهما الآخر3 ومن الآراء التي عارض بها نجدة آراء نافع إجازته "التقية" واحتج بقوله تعالى:{إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 4، وبقوله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 5، ومن ثم أجاز القعود، ولكن الجهاد إذا أمكن فهو أفضل لقوله تعالى:{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 6.

وذهب النجدات إلى أن الدين أمران:

أحدهما: معرفة الله تعالى ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام وتحريم دماء المسلمين7 ـ والإقرار بما جاء من عند الله جملة فهذا واجب على الجميع والجهل به لا يعذر فيه.

والثاني: ما سوى ذلك فالناس معذورون فيه، إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام، وتدين النجدات بمبدأ العذر بالجهل في أحكام الفروع حتى سموا "بالعاذرية"8، والذي دعاهم إلى ذلك أن جماعة منهم على رأسهم ابن

1ـ سورة التوبة آية/91.

2ـ سورة الزمر آية/7.

3ـ انظر الكامل للمبرد 2/209-212، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/137-139.

4ـ سورة آل عمران آية/28.

5ـ سورة غافر آية/28.

6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/125 والآية رقم 95 من سورة النساء.

7ـ المقصود بالمسلمين عندهم الموافقون لهم في مذهبهم.

8ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/124، وانظر الفرق بين الفرق ص/89.

ص: 1149

نجدة نفسه بعث بهم إلى أهل القطيف فأصابوا غنائم وسبايا ـ على حد زعمهم ـ فأباحوا لأنفسهم نكاح السبايا قبل إخراج الخمس منها، وقالوا: إن خرجت من نصيبنا فبها، وإلا دفعنا من أموالنا مقابلها، ولما بلغ الأمر نجدة وأصحابه اختلفوا، فبعضهم اعتذر لمن قاموا به والبعض الآخر أنكره، وكان نجدة مع الذين عذروا هؤلاء لجهلهم بحكم الله"1، هكذا صار الجهل بالحكم عند طائفة من النجدات عذراً.

وقد اختلف النجدات مع زعيمهم نجدة بن عامر الحنفي، ونقموا عليه عدة أمور من بينها تعطيله حد الخمر، وعدم عدله في قسم الفيء وتفريقه الأموال بين الأغنياء من أتباعه وحرمانه ذوي الحاجة منهم، ومكاتبته عبد الملك بن مروان، ويقال: إنه لما أحدث هذه الأحداث وعذر أتباعه بالجهالات استتابه أكثر أتباعه وطلبوا منه أن يعلن توبته في المسجد، ففعل ذلك فندمت طائفة منهم على استتابته، وانضموا إلى العاذرين، وقالوا: إنه الإمام وله حق الاجتهاد ولا يجوز استتابته، وطلبوا منه أن يتوب من توبته، فاختلف أصحابه أيضاً: فكفرته طائفة لخلعه نفسه وكان من أشدهم عليه أبو فديك2 الذي يقال: إنه وثب على نجدة فقتله، وبويع له بالإمامة، فأنكر أصحاب نجدة تصرف أبي فديك فتبرؤوا منه وتولوا نجدة وكتب أبو فديك إلى عطية بن الأسود الحنفي3 يخبره بما اكتشفه من ضلال نجدة وقتله إياه، وأنه أحق بالخلافة منه، فكتب عطية إلى أبي فديك وطلب منه أن يأخذ له البيعة ممن قبله فأبى ذلك أبو فديك فبريء كل واحد منهما من صاحبه، وصارت الدار لأبي فديك وتبعه بعض النجدات

1ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/175، الفرق بين الفرق ص/89، الملل والنحل للشهرستاني 1/123.

2ـ اسمه عبد الله بن ثور، زعيم فرقة الفدكية من الخوارج، انظر مقالات الإسلاميين 1/182، الفرق بين الفرق ص/88.

3ـ زعيم فرقة العطوية من الخوارج، انظر مقالات الإسلاميين 1/176، الفرق بين الفرق ص/88، وانظر اللباب في تهذيب الأنساب 2/347، التبصير في الدين ص/52.

ص: 1150

وظل البعض على الولاء لنجدة فصارت النجدات ثلاث فرق: النجدية، والعطوية، والفديكية1، وكان هذا الخلاف بين النجدات من أعظم العوامل في تدمير هذه الفرقة حيث اضمحل أمرها وتلاشى أثرها.

الصفرية:

لقد اختلف العلماء فيمن تنتسب إليه هذه الفرقة، هل سموا بذلك نسبة إلى الصفرة إشارة إلى صفرة وجوههم من أثر ما تكلفوه من السهر والعبادة والزهد أم سموا بهذه التسمية نسبة إلى رجل معين كما نسبت الأزارقة والنجدات والإباضية، والذين ذهبوا إلى هذا الرأي الأخير اختلفوا في الشخص الذي نسبت إليه هل هو عبد الله بن صفار التميمي، أم زياد بن الأصفر، أم المهلب بن أبي صفرة، ولعل أصوب هذه الأقوال أن هذه الفرقة تنتسب إلى عبد الله بن صفار التميمي2، الذي كان مع نافع بن الأزرق في بداية أمره، ثم انفصل عنه عندما حصل الخلاف والانشقاق بين قادة الخوارج3، والصفرية كانت أقل شذوذاً وأقل غلوا من الأزارقة إذ أنهم خالفوهم في رأيهم تجاه القعدة ومرتكب الكبيرة فلم يكفروا القعدة كما ذهب الأزارقة ما داموا موافقين لهم في مذهبهم ولم يكفروا مرتكب الكبيرة على الإطلاق كما هو مذهب الأزارقة بل فرقوا بين الذنوب التي فيها حد مقرر كالزنا والسرقة والقذف والقتل العمد، فهذه في رأيهم لا يتجاوز بمرتكبها الاسم الذي سماه الله بها زان، وسارق، وقاذف، وقاتل عمد، وليس صاحبه كافراً ولا مشركاً، وكل ذنب ليس فيه حد كترك الصلاة والصوم فهو

1ـ انظر في شأن النجدات مقالات الإسلاميين 1/174-176، الفرق بين الفرق ص/87-90، الملل والنحل للشهرستاني 1/122-125، التبصير في الدين ص/52-53.

2ـ انظر الخلاف في شأن هذه النسبة، لسان العرب 4/464-465، وانظر الصحاح للجوهري 2/715، القاموس 2/73، اللباب في تهذيب الأنساب 2/244.

3ـ انظر كيف بدأ الخلاف بين رؤساء الخوارج، تاريخ الأمم والملوك 5/566-568، الكامل في التاريخ 4/165-168.

ص: 1151

كفر وصاحبه كافر1، ولا يرى الصفرية أن دار مخالفيهم دار حرب، كما لم يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم، ولا يقولون بخلودهم في النار ولم يجيزوا سبي الذرية والنساء ولهم آراء تفردوا بها في الشرك والكفر والبراءة.

فالشرك عندهم شركان: شرك هو طاعة الشيطان، وشرك هو عبادة الأوثان، والكفر كفران: كفر بإنكار النعم، وكفر بإنكار الربوبية، والبراءة براءتان، براءة من أهل الحدود سنة، وبراءة أن أهل الجحود فريضة2.

ولم يسقط الصفرية عقوبة الرجم كما فعل الأزارقة، وأجازوا التقية كالنجدات ولكن في القول دون العمل3. ويذكر عن بعضهم تزويج المسلمات4 من كفار قومهم5 في دار التقية دون دار العلانية6.

وقد تولى الصفرية المحكمة الأولى كعبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير وأتباعهما وقالوا بإمامة أبي بلال مرداس الخارجي الذي خرج أيام يزيد ابن معاوية ناحية البصرة وقتلته جيوش عبيد الله بن زياد ورثاه عمران بن حطان الذي كان شاعراً ناكساً وأصبح إماماً للصفرية بعد أبي بلال بقوله:

أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه

ما الناس بعدك يا مرداس بالناس7

وقد قام الصفرية بثورات عديدة ناحية الشمال الأفريقي في عهد الأمويين ففي عهد هشام بن عبد الملك "71 – 125هـ" خرج رجل منهم يسمى ميسرة المضفري بنواحي طنجة8 واستطاع حمل البربر على الخروج عن طاعة

1ـ الفرق بين الفرق ص/91، وانظر الملل والنحل للشهرستاني 1/137.

2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/137.

3ـ المصدر السابق.

4ـ يقصدون الخارجيات.

5ـ يقصدون بكفار قومهم بقية المسلمين.

6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/137.

7ـ انظر الفرق بين الفرق ص/91-93.

8ـ طنجة: بلدة على ساحل بحر المغرب مقابل الجزيرة الخضراء وهي مدينة قديمة بناؤها بالحجارة قائمة =

ص: 1152

الخليفة الأموي واستطاع إخضاع سائر بلاد المغرب الأقصى جنوب طنجة حتى وصل إلى السوس1، وبويع له بالخلافة وخاطبه البربر بأمير المؤمنين، ثم اتهم بممالأة العرب وخلع من الإمارة، وبويع مكانه خالد بن حميد الزناتي ولكن جيوش الخلافة تمكنت من إخماد حركة الصفرية سنة ثلاث وعشرين ومائة هجرية2، كما شهد العصر العباسي أيضاً: بعض الثورات الخارجية للصفرية، ومن ضمنها: ثورتهم بناحية "مكناسة" في المغرب الأقصى بقيادة عيسى بن أبي يزيد الذي تجمع حوله الصفرية من بني مدرار واختطوا لأنفسهم مدينة سجلماسة3 سنة أربعين ومائة هجرية واقتطعوها لأنفسهم من ولاية القيروان، وظل أبو يزيد أميراً نحواً من خمسة عشر عاماً ثم بويع من بعده لأبي القاسم بن سمكوا المكناسي الصفري الذي يقال: إنه كان يدين بالولاية للخليفة العباسي4، وكانت هناك ولاية خارجية صفرية تحت زعامة رجل يدعى أبو قرة الصنهاجي، الذي استطاع محاصرة القيروان والاستيلاء عليها5.

الإباضية:

تنتسب الإباضية إلى عبد الله بن إباض بن تيم اللات بن ثعلبة التميمي من بني مرة بن عبيد رهط الأحنف بن قيس6 وقد اختلف أهل العلم في الوقت

= على البحر. معجم البلدان 4/43.

1ـ السوس: بلد بالمغرب كان الروم تسميها قمونية، وقيل: إنها مدينتها طنجة. انظر معجم البلدان 3/281.

2ـ انظر كتاب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 1/52-93، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/97.

3ـ سجلماسة: مدينة في جنوبي المغرب في طرف بلاد السودان بينها وبين فاس عشرة أيام تلقاء الجنوب. انظر معجم البلدان 3/192.

4ـ انظر البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 1/156، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/111-112.

5ـ الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/116.

6ـ انظر ترجمة ابن إباض في الأعلام للزركلي 4/184-186

ص: 1153

الذي خرج فيه عبد الله، هذا فقد قرر العلامة ابن جرير الطبري إلى أنه كان مع نافع بن الأزرق، وأنه انفصل عنه وكان هذا في سنة أربع وستين هجرية1.

وذهب الشهرستاني: إلى أن ابن إباض ظهر في زمن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية2.

والإباضية يذهبون إلى ما قرره ابن جرير الطبري ويقولون: إن ابن إباض ظهر في أيام معاوية وعاش إلى زمن عبد الملك بن مروان وكان في أول أمره مع نافع بن الأزرق ولكن اختلف معه وفارقه ورد عليه3.

قال محمد بن سعيد الأزدي في صدد ذكره لابن إباض "نشأ في زمان معاوية بن أبي سفيان، وعاش في زمان عبد الملك بن مروان، وكتب إليه السير المشهورة والنصائح المعروفة المذكورة"4.

ورغم ارتباط الإباضية بعبد الله بن إباض إلا أنهم يعتبرون المؤسس الحقيقي الأول لفرقة الإباضية هو جابر بن زيد5 إذ أنه كان الإمام الأكبر وفقيههم ومفتيهم وهو الشخص الذي ظهر به فقه الإباضية بينما كان ابن إباض المسئول عن الدعوة والدعاة في شتى الأقطار6، وإذا كان جابر بن زيد بهذه المنزلة

1ـ تاريخ الأمم والملوك 5/566-567.

2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/134.

3ـ انظر العقود الفضية في أصول الإباضية، ص/121-122.

4ـ الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان لأبي سعيد محمد بن سعيد الأزدي القلهماني ص/294.

5ـ هو جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي ثم الجوفي البصري مشهور بكنيته وهو تابعي فقيه من أهل البصرة أصله من عمان صحب ابن عباس وكان من بحور العلم، نفاه الحجاج إلى عمان، ولد سنة إحدى وعشرين ومات سنة ثلاث وتسعين هجرية. انظر ترجمته في حلية الأولياء 3/85-90، تذكرة الحفاظ 1/72، البداية والنهاية 9/104، تهذيب التهذيب 2/38.

6ـ انظر الأصول التاريخية للفرقة الإباضية، عوض محمد خليفات، ص/29، عمان في فجر الإسلام، سيدة إسماعيل كاشف، ص/55 وما بعدها.

ص: 1154

العلمية فلماذا نسبت الفرقة إلى ابن إباض ولم تنسب إليه؟ للإجابة على هذا السؤال ذهب أحد الإباضية المعاصرين إلى أنه لا يدري السبب في عدم نسبة المذهب إلى جابر مع أنه أفقه وأعلم أهل زمانه، وقد قيل: إن ابن إباض يصدر في كل شؤونه عن فتواه ولا يبت في أمر من الأمور إلا بمشورته ورضاه1، بينما ذهب كاتب إباضي آخر في تفسير ذلك إلى أن نسبة المذهب إلى ابن إباض نسبة عرضية، كان سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسب المذهب الإباضي إليه، ولم يستعمل الإباضية في تارخهم المبكر هذه النسبة فكانوا يستعلمون عبارة "جماعة المسلمين" أو "أهل الدعوة" وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة "الإباضية كان في آخر القرن الثالث الهجري"2.

وللإباضية آراء تميزوا بها من بين فرق الخوارج، فهم يقولون:"إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال،وما سواه حرام، وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة ويقولون إن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وأجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم، وأجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر النعمة لا كفر الملة، وتوقفوا في أطفال المشركين وجوزوا تعذيبهم على سبيل الانتقام وأجازوا أن يدخلوا الجنة تفضيلاً، واختلفوا في النفاق: أيسمى شركاً أم لا، قالوا: إن المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا موحدين إلا أنهم ارتكبوا الكبائر فكفروا بالكبيرة لا بالشرك"3.

وأول بقعة نبتت عليها نابتة الإباضية البصرة، ثم انتشروا في شمال أفريقيا،

1ـ انظر مختصر تاريخ الإباضية لأبي ربيع سليمان الباروني ص/24.

2ـ أجوبة ابن فرحون ص/9، هامش 1، النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية، ص/15.

3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/134-135، وانظر الفرق بين الفرق ص/103-104، التبصير في الدين ص/58

ص: 1155

وفي الجزيرة، واستطاعوا أن يكونوا لهم دولة في عمان استقلوا بها عن الدولة العباسية في عهد أبي العباس السفاح "132 – 136هـ" وامتد نفوذها إلى جزيرة زنجبار ولا تزال مباديء الإباضية وأفكارهم هي السائدة في هذه الأماكن كما أقام الإباضية لهم دويلات في ليبيا والجزائر واستمروا في ليبيا مدة ثلاثة أعوام فقط من عام 140 – 144 هـ، وفي جبل نفوسة ثم في منطقة تاهرت، اكتسب الإباضية ثقة البربر، وتمكن عبد الرحمن بن رستم أحد الذين تعلموا على يد أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة من إقامة دولة بني رستم والتي استمرت قرابة المائة والخمسين عاماً من عام "144 – 296هـ"، وكانت عاصمتها تاهرت مركزاً مهماً للدراسات وفقاً للمذهب الإباضي واستمرت ـ دولة بني رستم ـ حتى سقطت على يد الدولة "العبيدية الشيعية"1 والإباضية هي إحدى فرق الخوارج التي لها وجود إلى الوقت الحاضر، ووجودهم الآن يتمثل في دولة عمان بأكملها، "وجنوب الجزائر ـ وادي ميزاب، وجنوب تونس، وشمال ليبيا ـ جبل نفوس"2، فهذه الفرق المتقدم التعريف بها تعد أكبر فرق الخوارج الكبار.

قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وأصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة والإباضية والصفرية والنجدية، وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية"3.

1ـ انظر مختصر تاريخ الإباضية ص/27-44، النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية ص/19-20، دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص/17، وقد ذكر ياقوت الحموي نبذة عن عبد الرحمن بن رستم وعن تجمع الإباضية حوله. انظر معجم البلدان 2/9.

2ـ انظر الإباضية بين الفرق الإسلامية ص/79-80، العقود الفضية ص/237-251، دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص/17.

3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.

ص: 1156