الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: من مطاعنهم في حق ذي النورين عثمان رضي الله عنه
لقد نقم الشيعة الرافضة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بما لم ينقم به على أحد مثله واعتبروا ما نقموا به عليه مظالم ومناكير صدرت منه وأخذوا ينتقصونه بها اقتداء منهم بأوباش القبائل وأهل الفتنة الذين قادهم عبد الله بن سبأ اليهودي زمن خلافة عثمان رضي الله عنه حيث زين لهم الطعن في الولاة والخروج على الأئمة حتى وصلت بهم الجرأة البغيضة إلى أن اجتمعوا من الأمصار المختلفة وتوجهوا إلى المدينة وأدى خروجهم وتجمعهم إلى أن قتلوا ذا النورين رضي الله عنه وأرضاه ظلماً وعدواناً1.
فمن مطاعنهم عليه رضي الله عنه: ادعاؤهم عليه أنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مراراً فلم يرجع2.
والرد على هذا التخرص:
يقال لهم: لو نظرتم في كتب التواريخ والسير نظر العلماء المتبصرين لوجدتم أن الولاة الذين ولاهم علي رضي الله عنه خانوه وعصوه أكثر من خيانة عمال عثمان لعثمان رضي الله عنه، بل بعضهم ترك علياً وذهب إلى معاوية وقد ولى علي زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولي محمد بن أبي بكر وأمثاله هؤلاء لا يستريب من له أدنى عقل وعلم أن معاوية
1ـ انظر تهذيب تاريخ دمشق 7/431.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي: 1/62-63.
ابن أبي سفيان كان خيراً من هؤلاء كلهم، ومما يتعجب منه أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يعلمون أن علياً كان أبلغ فيه من عثمان، وهو زعمهم أن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومما هو معلوم أن علياً ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابني العباس فولى عبيد بن عباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف، وقيل: ثمامة ابن العباس، وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره، ثم إن الإمامية يدعون أن علياً نص على أولاده في الخلافة وولده على ولده الآخر، وهلم جرا، ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكراً فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم
…
ويقال لهم أيضاً: "إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في غرة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضاً: خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذجح وعلى صنعاء اليمن فلم يزل حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل عثمان بن سعيد على تيماء وخيبر وقرى عرينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين، فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم..فعثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر
عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل، وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا علياً على اليمن وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن رواحة1.
وأما بيان بطلان قولهم: حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، فيقال لهم: ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتاً حين الولاية، ولا على أن المولي علم ذلك، وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد، وكان يعزل من يراه مستحقاً للعزل، ويقيم الحد على من يراه مستحقاً لإقامة الحد عليه.
وأما قولهم: إنه قسم المال بين أقاربه، فهذا غايته أن يكون من موارد الاجتهاد، فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين: وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء، ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل: إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل: إن هذا مما تأوله عثمان، ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل، فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام على قول من يقول ذلك، وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي رضي الله عنه ولى أقاربه"2.
1ـ منهاج السنة 3/173-176.
2ـ منهاج السنة 3/187-189، المنتقى للذهبي ص/390-392.
وبهذا الرد تبين بطلان طعن الرافضة على عثمان بتوليته بني أمية إذ أنه كان متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في استعمالهم، وأيضاً: أبو الحسن لما تولى الخلافة كان أبلغ من عثمان في تولية أقاربه وكما أنه لا يلحق علياً رضي الله عنه طعن بسبب ما حصل من عماله كذلك عثمان رضي الله عنه وإلا فما الفرق؟
ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه: "أنه استعلم الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران"1.
والرد على طعنهم بهذه القضية"
يقال لهم: إن عثمان رضي الله عنه طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب، وقال لعلي: قم فاضربه، فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين، ثم قال: أمسك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي2، فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب3.
قال أبو بكر بن العربي مبيناً بطلان طعن الرافضة على عثمان بتولية الوليد بن عقبة: "وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس على فساد النيات أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات، فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به، قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه والولاية اجتهاد، وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة"4.
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/62-63، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/30، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/189.
2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 3/1331-1332.
3ـ منهاج السنة 3/188.
4ـ العواصم من القواصم ص/85-88.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين أنهم يقولون إنه استعمل سعيد بن العاس1 على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها2.
والرد عليهم:
يقال لهم: "مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب إخراجه فإن أهل الكوفة كانوا يقومون على كل وال، فقد قاموا قبله على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله، وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة وغيرهما، وإذا قدر أنه أذنب فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه، وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك"3.
ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح4 مصر حتى تظلم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على
1ـ هو: سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي القرشي صحابي من الأمراء الولاة الفاتحين ربى في حجر عمر بن الخطاب وولاه عثمان الكوفة وهو شاب، فلما بلغها خطب في أهلها فنسبهم إلى الشقاق والخلاف فشكوه إلى عثمان فاستدعاه إلى المدينة فأقام فيها إلى كانت الثورة عليه فدافع سعيد عنه وقاتل دونه إلى أن قتل عثمان فخرج إلى مكة فأقام إلى أن ولي معاوية الخلافة، فعهد إليه بولاية المدينة فتولاها إلى أن مات وهو فاتح طبرستان، وأحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، اعتزل فتنة الجمل وصفين ولد سنة ثلاث وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 5/30-35، الإصابة في تمييز الصحابة 2/45-46، الأعلام 3/149.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
3ـ منهاج السنة 3/188، وانظر المنتقى للذهبي ص/372.
4ـ هو: عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري من بني عامر بن لؤي من قريش فاتح إفريقية وفارس بني عامر من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة وهو من أهلها وكان من كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، وولي مصر سنة 25هـ، بعد عمرو ابن العاص، فاستمر نحو 12 عاماً زحف خلالها إلى إفريقية بجيش فيه الحسن والحسين بن علي وعبد الله بن عباس وعقبة بن نافع، ولحق بهم عبد الله بن الزبير فافتتح ما بين طرابلس الغرب إلى طنجة ودانت له إفريقية كلها، وتوفي سنة سبع وثلاثين هجرية، انظر ترجمته في أسد الغابة 3/173 =
ولايته سراً خلاف ما كتب إليه جهراً وأمر بقتل محمد بن أبي بكر1.
والرد على هذا الإفك:
أنه من الكذب على ذي النورين، وقد حلف أنه لم يكتب شيئاً من ذلك2 وهو الصادق البار بلا يمين، وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع، فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجباً فذا من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعاً فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل.
وأما قولهم أنه أمر بقتل محمد بن أبي بكر، فهذ من الكذب المعلوم على عثمان، وكل ذي علم بحال عثمان وانصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر، ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل احداً من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم، دفعاً عن نفسه فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم
…
بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله، وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد، وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد، وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا، ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة
= البداية والنهاية 7/340، الإصابة 2/308-309، الأعلام 4/220-221.
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/60-61.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/356.
عند الناس1.
فمروان له منزلة عظيمة عند الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أئمة الدين.
قال أبو بكر بن العربي: "مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه2، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين3، وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته، وأم الفقهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم"4.
وما دام مروان بن الحكم تبوأ هذه المكانة، فيستبعد أن يكون زور كتاباً على عثمان رضي الله عنه إلى ابن أبي سرح ليقتل البغاة ومحمد بن أبي بكر وقد رد عثمان رضي الله عنه بنفسه على البغاة فيما نسبوه إليه من أنه كتب إلى واليه بمصر يأمره بقتلهم وقتل محمد بن أبي بكر، فلما رجع البغاة من طريقهم وكانوا قد اقتنعوا ببيان عثمان لهم فيما ادعوه عليه مما يعتقدونه مظالم ومناكير دخلوا عليه: "فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت ـ ثم قال ـ: وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وقد ينقش الخاتم على الخاتم5، ولا يستبعد أن تزور الكتب في إثارة البغي على الخليفة عثمان
1ـ منهاج السنة 3/188-189، وانظر المنتقى ص/392.
2ـ انظر الإصابة لابن حجر 3/455.
3ـ وفي مقدمة من روى عنه من كبار التابعين زين العابدين علي بن الحسين السبط نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 2/123، ونص ابن حجر على كثير ممن روى عنه من التابعين، انظر الإصابة 3/455.
4ـ العواصم من القواصم ص/89-90.
5ـ تاريخ الأمم والملوك 4/356، وانظر العواصم من القواصم ص/109-110.
رضي الله عنه كان من أسلحة البغاة استعملوه من كل وجه وفي جميع الأحوال، فقد كذبوا أنهم تلقوا رسائل من الصحابة أرسلوها إلى الآفاق للقيام بالثورة على عثمان.
قال الحافظ ابن كثير: "وروى بن جرير من طريق محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر ـ أبو الأعور السلمي ـ على جمل لعثمان، وذكر ابن جرير من هذا الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه ـ ثم قال مبيناً حكمه على مثل هاتين الروايتين: "وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير ـ إلى الخوارج كتباً مزورة عليهم أنكروها وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضاً"1.
فإذا كان أولئك البغاة المفسدون زوروا رسائل باسم الصحابة جميعاً فلا يشك عاقل أنهم من وراء تزوير الكتاب على عثمان وعلى مروان.
قال محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي2: "وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه، وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابه مصلحة في تجديد الفتنة". وبهذا الرد يبطل تعلق الرافضة بالطعن على عثمان بالكتاب المزعوم الذي يقولون إنه وجد مع راكب أو مع غلامه إلى ابن أبي سرح عامله بمصر.
ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه: "زعمهم أنه ولى معاوية
1ـ البداية والنهاية 7/192.
2ـ العواصم من القواصم ص/109.
فأحدث من الفتن ما أحدث"1.
ويرد على هذا الزعم: "أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولايته عثمان وزاده عثمان في الولاية، وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه
…
وإنما ظهر الإحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان، ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد من الشر من كثير منهم، ومعاوية كان خيراً من الأشتر النخعي، ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيدا لله بن عمر، ومن أبي الأعور السلمي، ومن بشر بن أرطاة وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما"2.
قال أبو بكر بن العربي راداً على طعن الرافضة بتوليته معاوية حيث قال: "وأما معاوية فعمر ولاه وجمع له الشامات كلها، وأقره عثمان بل إنما ولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتلعق عثمان بعمر وأقره، فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ولن يأتي أحد مثلها ابداً بعدها"3.
ومما طعنوا به على ذي النورين رضي الله عنه: أنه ولى عبد الله بن عامر4 البصرة ففعل من المناكير..............
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة ص/63.
2ـ منهاج السنة 3/189، والمنتقى للذهبي ص/393.
3ـ العواصم من القواصم ص/80-81.
4ـ هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة الأموي أبو عبد الرحمن أمير فاتح ولي البصرة في أيام عثمان سنة 29هـ، وافتتح بلداناً كثيرة من بلاد فارس أيام إمارته على البصرة، وقتل عثمان وهو ما زال والياً عليها، وشهد وقعة الجمل مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وولاه معاوية البصرة بعد اجتماع الناس على خلافته ثم صرفه عنها فأقام بالمدينة، وكانت ولادة عبد الله هذا سنة أربع وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 5/44-49، الكامل لابن الأثير =
ما فعل"1.
والجواب على هذا:
"أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر وإذا فعل منكراً فذنبه عليه، فمن قال: إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله"2؟.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما عبد الله بن عامر بن كريز فولاه ـ كما قال ـ لأنه كريم العمات والخالات"3.
ومما نقموا به على عثمان رضي الله عنه: زعمهم أنه ولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتن بين الأمة ما حدث4.
ويرد على هذا الزور:
يقال لهم: "إن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان، وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها، فلم يكن آمراً لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمرهم بإبعادهم وعزلهم، فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك، ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أموراً أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه، وأنه لا يعطي احداً من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم، ولم يبق لهم طلب.
= 3/526، تهذيب التهذيب 5/272-274، الأعلام للزركلي 4/228.
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189.
2ـ منهاج السنة 3/189-190.
3ـ العواصم من القواصم ص/83-84.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/31.
ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة: "مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه"1.
ومن مطاعنهم في حق عثمان رضي الله عنه تقولهم عليه: "إنه كان يؤثر اهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار"2.
والرد على هذا:
يقال لهم: أولاً أين النقل الثابت بهذا نعم كان يعطي أقاربه عطاءاً كثيراً، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان محسناً إلى جميع المسلمين، وأما هذا الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت.
ثم يقال لهم ثانياً: هذا من الكذب البين، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألفه أكثر من عثمان، ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن علي مائة ألف أو ثلاثمائة ألف، وذكروا أنه لم يعط أحداً قدر هذا قط.
ثم يقال لهم: ثالثاً: كان له تأويلان في إعطائه أهل بيته، وكلاهما مذهب طائفة من الفقهاء.
أحدهما: أنه ما أطعم الله لنبي طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده، وهذا مذهب طائفة من الفقهاء، حيث قالوا: إن ذوي القربى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده، وقالوا: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان، فإن بني عبد شمس من أكبر
1ـ منهاج السنة 3/190، وانظر قول عائشة في تاريخ خليفة بن خياط ص/176.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/49، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/32، حق اليقين لعبد الله شبر 1/189-190.
قبائل قريش، ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم، والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله، فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال، مما جعله الله لذوي القربى، استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولي قربى الإمام وذلك أن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. هذا أحد التأويلين.
والتأويل الثاني: أنه كان يعمل في المال، وقد قال الله تعالى:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} 1، والعامل على الصدقة الغني له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين2، فلا وجهة لطعن الرافضة على عثمان بأنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال الكثيرة، فإنه واضح البطلان بل ثبت عنه رضي الله عنه أن عطاءه لهم كان من ماله الخاص3.
ومما نقمت به الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه عمد إلى الصحف فألف منها هذا المصحف الذي في أيدي الناس وأحرق المصاحف الباقية ويزعمون أن هذا منكر واستخفاف بالدين ومحادة لرب العالمين مع أن ابن مسعود قد رووا في ترجيح قراءته أخباراً كثيرة مع أن هذا الفعل لو كان حسناً لفعله من قبله4.
يقال لهم: "إن جمع عثمان للقرآن الكريم يعد من حسناته العظمى ومناقبه الكبرى، وإن كان وجد الصحف كاملة لكنه أظهرها ورد الناس إليها وقطع مادة الخلاف فيها، وما ذلك إلا نفوذ لوعد الله بحفظ القرآن الكريم على يديه، وقد بدأ بجمع القرآن وحفظه في الصحف من قبله أخواه الصديق والفاروق رضي الله
1ـ سورة التوبة آية/60.
2ـ منهاج السنة 3/190-191.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347-348، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/262-263.
4ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/52-53، حق اليقين 1/191.
عنهما، وذلك عندما استحر القتل يوم اليمامة بحفظة القرآن من الصحابة، فقد أمر الصديق زيد بن ثابت بجمع القرآن فتتبعه من العسب1 واللخاف2 وصدور الرجال حتى أنه وجد خاتمة سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، ولم يجدها مع أحد سواه وذلك من قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف بعد ذلك عند الصديق حتى قبضه الله، ثم عند الفاروق حياته ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر3 حتى قدم حذيفة بن اليمان على ذي النورين وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق4.
قال ابن شهاب: "وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: "فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها..فالتمسنا فوجدناها مع خزيمة الأنصاري {مِنَ
1ـ العسب: جمع عسيب: أي: جريدة النخل وهي السعفة التي لا ينبت عليها الخوص. النهاية في غريب الحديث 3/234.
2ـ اللخاف، جمع لخفة، وهي حجارة بيض رقاق كانوا يكتبون عليها إذا تعذر الورق. النهاية في غريب الحديث 4/244.
3ـ انظر صحيح البخاري 3/225.
4ـ انظر حديث حذيفة هذا في صحيح البخاري من حديث أنس 3/225-226.
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فألحقناها في سورتها في المصحف"1.
وأما ما روي أنه حرقها أو خرقها ـ وكلاهما جائز ـ إذا كان في بقائها فساد أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما ينسخ منه، أو على غير نظمه فقد سلم في ذلك الصحابة كلهم2.
وقد روي عن ابن مسعود أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3، فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه لما في ذلك من المصلحة وجمع الكلمة وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين4.
هذا هو الموقف الحق الذي وقفه ابن مسعود عندما جمع ذو النورين القرآن الكريم، فقد كان رضي الله عنه مطيعاً لإمامه الراشد موافقاً له غير مخالف، ولكن الشيعة لما عميت بصائرهم وهم قوم لا عقول لهم حيث يجعلون المناقب مثالب، وإلا فجمع عثمان للقرآن من أعظم مناقبه رضي الله عنه، وقد بذل بهذا العمل جهداً عظيماً في خدمة الدين والعناية بالقرآن، قد كانت كما تقدم مما تشرف بها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر وأتمها ذو النورين بجمعه للقرآن وتثبيته وتوحيد رسمه، وبهذا كان للخلفاء الثلاثة أعظم منة على المسلمين وبها حقق الله وعده في قوله عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5.
1ـ انظر حديث ابن شهاب هذا في المصدر السابق 3/226.
2ـ العواصم من القواصم ص/66-71.
3ـ سورة آل عمران آية/161.
4ـ البداية والنهاية 7/237.
5ـ سورة الحجر آية/9.
وقد زجر الإمام علي رضي الله عنه الناس الذين يعيبون على عثمان أنه حرق المصاحف المخالفة لما جمعه وبين أن عثمان لو لم يفعل ذلك لفعله، فقد قال رضي الله عنه:"أيها الناس إياكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولو وليت مثل ما ولى لفعلت مثل الذي فعل"1.
وقد تولى رضي الله عنه الخلافة بعد الثلاثة، فأمضى عملهم وأقر مصحف ذي النورين برسمه وتلاوته، في جميع أمصار ولايته وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به الخلفاء الثلاثة هو أعظم حسناتهم، رضي الله عنهم أجمعين، فلا مسوغ للرافضة بالطعن على عثمان بسبب جمعه القرآن وتوحيده تلاوته ورسمه، إذ ذلك لا يدعو إلى الطعن عليه وإنما يعد هذا طعناً أهل الحمق والخذلان، وأما أهل العلم والإيمان فإنهم يعدون ذلك من مناقبه العظمى وخصاله الكبرى رضي الله عنه وأرضاه.
ومن مطاعنهم عليه رضي الله عنه أنهم: "يزعمون أن عبد الله بن مسعود كان يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات"2.
والرد على هذا:
أنه من الكذب البين على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة قال ابن مسعود:"أمرنا خير من بقي ولم نأله"3.
1ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 7/236.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/51-52.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/63، وانظر المستدرك 3/97، والرد على الرافضة لأبي نعيم، ص/307، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/154.
ويروى أنه قال: "ولينا أعلاناً ذا فوق ولم نأل"1، وكان عثمان في السنة الأولى من ولايته لا ينقمون منه شيئاً، ولما كانت السنة الآخرة نقموا منه أشياء كان معذوراً فيها، ومن جملة ذلك أمر ابن مسعود فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف لما فوض عثمان كتابته إلى زيد دونه وأمر أصحابه أن يغسلوا مصاحفهم وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك الصديق والفاروق لجمع المصحف في الصحف، فندب عثمان من ندبه الشيخان وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة فإن جبريل عليه السلام عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين2
…
فكان ذو النورين في هذا على حق كما يعلم وكما يعلم سائر الصحابة مكانة ابن مسعود وعلمه وصدق إيمانه، وكان أيضاً: على حق في أمره بغسل المصاحف الأخرى كلها ومنها مصحف عبد الله بن مسعود لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان هو من أجل أعمال عثمان بإجماع الصحابة الكرام، ولذلك كانوا معه دون ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً.
وأما زعمهم: أنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات، "فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لما ولي أقر ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلاً"3.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور"4. فلا وجهة للرافضة بالطعن على عثمان بقصة ابن مسعود هذه فإنه لم
1ـ منهاج السنة 3/191، ومعنى قول ابن مسعود "ولم نأل": أي: لم نقصر في اختيار الأفضل.
2ـ منهاج السنة 3/191.
3ـ المصدر السابق 3/192.
4ـ العواصم من القواصم ص/63.
يضربه عثمان ولم يمنعه عطاءه، وإنما كان يعرف له قدره ومكانته، كما كان ابن مسعود شديد الالتزام بطاعة إمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة، لكن المبتدعة من أهل الرفض "غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة، فكيف يفسق بها أولئك1 رضي الله عنهم أجمعين.
ومن مطاعنهم على ذي النورين رضي الله عنه: أنهم يقولون: إنه ضرب عمار بن ياسر حتى صار به فتقاً، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "عمار جلدة ما بين عيني"
…
وكان عمار يطعن عليه2.
والرد على هذه القصة:
أنها إفك واضح ولو حصل له ما ذكر ما عاش إلى أن قتل شهيداً في موقعة صفين3.
وقد ذكر ابن جرير الطبري: عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب4، وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده، وكم فعل الفاروق مثل ذلك بأمثال عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين5.
ولما بث السبئيون الإشاعات حول عمال عثمان وصاروا يرسلون الكتب
1ـ منهاج السنة 3/191.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/53-54، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/38-42.
4ـ المصدر السابق 4/399.
5ـ المصدر السابق 4/212.
من كل مصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة أشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالاً ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال تناسى عثمان ما كان من عمار وأرسله إلى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها فأبطأ عمار في مصر، والتف حوله السبئيون ليستميلوه إليهم فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر، وجيء بعمار إلى المدينة مكرماً وعاتبه ذو النورين لما قدم عليه، فقال له: على ما رواه الحافظ ابن عساكر: "يا أبا اليقظان قذفت أبي أبي لهب أن قذفك
…
وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه، اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي أخرج عني يا عمار، فخرج، فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك، وإذا لقي من يأمنه أقر بذلك وأظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه"1.
وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "عمار جلدة ما بين عيني" لا يعرف له إسناد2.
وزعمهم أنه كان يطعن على عثمان فعلى تقدير أنه حصل منه فليس جعل ذلك قدحاً في عثمان بأولى من جعله قدحاً في عمار، وإذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيما صدر منه يثبته الله على حسناته ويغفر له خطأه، وإن كان صدر من أحدهما ذنب فقد علمنا أن كلاً منهما ولي الله وأنه من أهل الجنة وأنه لا يدخل النار فذنب كل منهما لا يعذبه الله عليه في الدار الآخرة.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بياناً شافعاً ما يجب على المسلم التزامه فيما جرى من كلام بين الصحابة لبعضهم بعضاً، حيث قال رحمه الله: "وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه، هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن
1ـ تهذيب التهذيب دمشق 7/432.
2ـ منهاج السنة 3/194.
غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة، فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله، لهذا أوصوا1 بالإمساك عما شجر بينهم لأنا لا نسأل عن ذلك
…
لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل، وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه ـ أي في عمار ـ نقل أن عماراً قال:"لقد كفر عثمان كفرة صلعاء" فأنكر الحسن بن علي على ذلك عليه، وكذلك علي، وقال له يا عمار: أتكفر برب آمن به عثمان؟.
قال شيخ الإسلام: وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي الله ويكون مخطئاً في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك منافق تجادل عن المنافقين"2، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة:"دعني يا رسول أضرب عنق هذا المنافق" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 3، فعمر أفضل من عمار، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة، فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال، مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمر قال ذلك، ثم قال شيخ الإسلام: وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن
1ـ الضمير يعود إلى سلف الأمة وأئمتها.
2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 4/3124.
3ـ انظر المصدر السابق 4/1941-1942.
مسعود أو عماراً فهذا لا يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين، وإن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين، قال: هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع1 فإن عثمان أدب هؤلاء فإما أن يكون عثمان مصيباً في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك ويكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه أو كفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك، وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقاً، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة فإنه أفضل منهم، وأحق بالمغفرة والرحمة، وقد يكون الإمام مجتهداً في العقوبة مثاباً عليها وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به، بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين، وقد كان محتسباً في شهادته معتقداً أنه يثاب على ذلك، وعمر أيضاً: محتسب في إقامة الحد عليه مثاب على ذلك، فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا الباب2، فلا طريق للشيعة للطعن على عثمان بزعمهم أنه ضرب عماراً إذ أنهم يذكرون قصصاً غير ثابتة وحتى لو ثبت ذلك فللأئمة أن يؤدبوا رعيتهم إذا رأوا ذلك واجباً لهم، فقد اقتص النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه وأقاد3، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أدبا رعيتهما باللطم والدرة وأقادا من نفسيهما4، وأما عثمان رضي الله عنه فنقم عليه ما لم ينقم على أحد منهم"5.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه: أنهم يقولون إن
1ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/317.
2ـ منهاج السنة 3/192-193.
3ـ انظر مصنف عبد الرزاق 9/466، وانظر الرد على الرافضة لأبي نعيم ص/315.
4ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/316-317.
5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/315.
النبي صلى الله عليه وسلم طرد الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية1.
والرد على طعنهم بهذه القصة:
يقال لهم: إن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفي رجل ومروان ابنه كان صغيراً إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز، إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل، فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها
…
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً
…
وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه2 فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك. ونحن نعلم أن ذنبه دون دنب3 عبد لله بن سعد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت
1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50-51، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين 1/189، والآية رقم 22 من سورة المجادلة.
2ـ انظر ما جاء في شأن ابن ابن أبي السرح، الإصابة 2/308-309.
3ـ انظر ما جاء في قصة نفيه. أسد الغابة 2/37، سير أعلام النبلاء 2/107-108، الإصابة 1/344-345.
مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثرون الكذب فيما يروونه، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان، والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته1.
قال أبو محمد بن حزم مبيناً بطلان ما احتج به الرافضة على عثمان بقصة الحكم: "ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة"أهـ2.
وقال أبو بكر بن العربي مبيناً جواب أهل العلم على من طعن على عثمان برده الحكم: "وقال علماؤنا في جوابه قد كان أذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ـ أي عثمان ـ لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه ولا لينتقض حكمه3، وبرد أهل العلم تبين فساد وبطلان زعم الرافضة على عثمان بأنه خالف ما يقتضيه الشرع برده الحكم بعد نفيه.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: إنه
1ـ منهاج السنة 3/195-197.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/154.
3ـ العواصم من القواصم ص/77، وانظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير، ص/131-134.
ضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزن مولى علي وكان قد أسلم على يد علي رضي الله عنه، ويزعمون أن علياً طلب من عثمان لما ولي الخلافة تسليمه عبيد الله بن عمر ليقيم عليه الحد فامتنع من ذلك1.
والرد على طعنهم بهذه القضية:
يقال لهم: "دعواكم أنه كان مولى لعلي: هذا كذب لم يكن مولى لعلي وإنما أسره المسلمون فمن عليه عمر فأعتقه وأسلم ولا سعي لعلي في رقه ولا في عتقه، ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل وكان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر، وقد قال الفاروق لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي مخاطباً ابن عباس كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثرا العلوج2 بالمدينة، فقال: إن شئت أن نقتلهم، فقال: كذبت، أبعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم3 فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبيد الله بن عمر جواز قتل الهرمزان، فلما قتله وبويع عثمان استشار الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة بعدم قتله وقالوا له: قتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم4 فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، ولو قدر أنه معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل، كما أن
1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/58-59، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، مقدمة مرآة العقول 1/48.
2ـ العلوج جمع علج وهو الرجل من كفار العجم وغيرهم، النهاية في غريب الحديث 3/286.
3ـ صحيح البخاري 2/298.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك في قصة مشاورة عثمان المهاجرين والأنصار في شأن عبيد الله بن عمر: 4/239.
أسامة بن زيد لما قتل الرجل بعد ما قال لا إله إلا الله اعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولاً1 لكن الذي قتله أسامة كان مباحاً قبل القتل فشك في العاصم، وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولاً يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص، وأيضاً فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون بدمه وإنما وليه ولي الأمر وله القتل أو العفو أو الدية، فعفا عثمان وترك الدية لآل عمر، وإذا حقن عثمان دمه فلا يباح بحال2.
وأما دعواهم أن عثمان امتنع عن قتل عبيد الله بن عمر، فهذا كذب وزور على عثمان رضي الله عنه، وقول بالباطل وأن أحداً لم يطلب من عثمان ذلك لا علي ولا غيره.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن ذلك باطل، فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون والأمر في أوله وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه3، وكان قتل عبيد الله له، وعثمان لم يل بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقاً لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله، وأيضاً: فإن أحداً لم يقم بطلبه وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح"4.
"ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان لا حرمة له وهو إمام المسلمين
1ـ انظر حديث أسامة في صحيح مسلم 1/96-98.
2ـ منهاج السنة 3/199-202.
3ـ انظر ثبوت تآمر الهرمزان مع أبي لؤلؤة المجوسي وجفينة النصراني على قتل عمر. تاريخ الطبري 4/240.
4ـ العواصم من القواصم ص/107-108.
المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبيين"1.
فطعن الرافضة على عثمان بقصة عبيد الله بن عمر مع الهرمزان غير مستقيم ولا يقبل ولا له وجه يقويه إذ "من أعان على قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجباً ولكن قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه"2.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه: "أنهم يكذبون عليه بأنه نفى أبا ذر من المدينة، وأخرجه منها إلى الربذة"3.
والرد على طعنهم عليه بهذه القصة:
أنه رضي الله عنه لم يفعل ما اختلقوه في هذه القصة، وإنما أبو ذر هو الذي اختار أن يعتزل في الربذة، فوافقه عثمان رضي الله عنه على ذلك وأكرمه وجهزه بما فيه راحته.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل، كان أبو ذر زاهداً وكان يقرع عمال عثمان ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم وهو غير لازم.
قال ابن عمر5 وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز فوقع
1ـ منهاج السنة 3/202.
2ـ منهاج السنة 3/202.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/55-57، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
4ـ سورة التوبة آية/34.
5ـ انظر صحيح البخاري 2/244.
بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام1، فخرج إلى المدينة فاجتمع الناس فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان:"لو اعتزلت" معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها2 ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً وترك جلة فضلاء وكل على خير وبركة وفضل وحال أبي ذر أفضل ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على طعن الرافضة على عثمان بقصة أبي ذر، قال:"فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أبا ذر كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة واحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 4، وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال: يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا"5.
ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالاً جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب6 ووافق عثمان فضربه
1ـ انظر تاريخ الطبري 4/283.
2ـ لقد أحسن القول فيها أبو سليمان الخطابي في كتاب العزلة فليرجع إليه.
3ـ العواصم من القواصم ص/73-75.
4ـ سورة التوبة آية/34.
5ـ انظر لفظ الحديث في صحيح البخاري 3/56، صحيح مسلم 2/687-688.
6ـ هو كعب الأحبار كما في تاريخ الطبري 4/284.
أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك.
وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة"1 فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجاً إليها أم لا.
وقال جمهور الصحابة: الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه، وقد قسم الله تعالى المواريث في القرآن، ولا يكون الميزان إلا لمن خلف مالاً وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذهمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب، إنما قال:"ما أحب أن يمضي علي ثالثة وعندي منه شيء" فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه، وكذا قوله "المكثرون هم المقلون" دليل على أن من كثر ماله، قلت حسناته يوم القيامة، إذا لم يكثر الإخراج منه، وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويماً تاماً فلا يعتدي لا الأغنياء ولا الفقراء، فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع، وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب، ولم يكن لعثمان
1ـ انظر صحيح البخاري 2/244، صحيح مسلم 2/673-675.
مع أبي ذر غرض من الأغراض"1.
فلو تفهم الشيعة الرافضة قصة أبي ذر من أساسها وبدايتها لعلموا أن أبا ذر هو الذي اختار سكنى الربذة، وأن عثمان لم يأمره بالخروج من المدينة، ولا نفاه إلى الربذة كما يزعمون، ومما يؤيد هذا ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا، قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل2.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: "وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره"3.
وروى ابن جرير من حديث طويل عن يزيد الفقعسي4 وفيه أن أبا ذر قال لعثمان: فتأذن لي في الخروج، فإن المدينة ليست لي بدار؟ فقال: أو تستبدل بها إلا شراً منها، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً، قال: فانفذ لما أمرك به، قال: فخرج حتى نزل الربذة فخط بها مسجداً وأقطعه عثمان صرمة5 من الإبل وأعطاه مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى
1ـ منهاج السنة 3/198.
2ـ صحيح البخاري 2/244.
3ـ فتح الباري 3/274.
4ـ لم أعثر له على ترجمة.
5ـ الصرمة من الإبل ما بين العشرين والثلاثين. النهاية في غريب الحديث 3/27.
لا ترتد أعرابياً ففعل"1.
وقال الإمام الذهبي: "وأما أبو ذر فثبت عن عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: "والله ما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها"2.
وقال الحسن البصري: "معاذ الله أن يكون أخرجه عثمان"3.
وقال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: "خرج أبو ذر إلى الربذة من قبل نفسه"4.
ففي ما تقدم كفاية في البرهان على كذب الرافضة على عثمان رضي الله عنه من أنه نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن أبا ذر خرج من المدينة إلى الربذة باختياره وأنه استأذن عثمان في ذلك، فأذن له وأكرمه عثمان وجهزه بما يحتاج إليه حيث أقطعه صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه وأمره بتعاهد المدينة ففعل رضي الله عنه وعن عثمان وعن سائر الصحابة الكرام.
ومما نقموا به على عثمان رضي الله عنه: " أنه أخرج أبا الدرداء من بلاد الشام"5.
والرد على هذا:
أنه وقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهداً فاضلاً قاضيا ـ في دمشق6 ـ فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزل عن القضاء، فتوجه إلى المدينة، وهذه كلها مصالح لا تقدح في
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284.
2ـ انظر الحديث في تاريخ الطبري 4/284.
3ـ المنتقى ص/396.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284.
5ـ ذكر هذا ابن العربي في العواصم من القواصم ص/62.
6ـ انظر الإصابة 3/46.
الدين ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من كل نقص وعيب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سبباً فهو كله باطل"1، فلا حجة للرافضة في طعنهم على عثمان رضي الله عنه بقصة أبي الدرداء، فإنه رضي الله عنه أراد أن يحمل الناس على التزام سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنهم لا طاقة لهم عليها وهذا اجتهاد منه وهو مأجور عليه، ولقد حاول معاوية أن يسير على طريقة عمر رضي الله عنه فسار على ذلك عامين، ثم لم يستطع بعد.
فقد نقل الحافظ ابن كثير عن محمد بن سعد أنه قال: حدثنا عارم حدثنا حماد بن يزيد عن معمر عن الزهري: أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم أنه بعد عن ذلك"2. فأبو الدرداء رضي الله عنه أراد أن يحمل قوماً على السير على طريقة عمر وهم غير مطيقين لذلك فعزل من ولاية القضاء لمصلحة أدركها عثمان رضي الله عنه وعزله لا يقدح في الدين ولا يؤثر في مكانته ولا مكانة أحد من المسلمين.
ومن الأمور التي نقمتها الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون: "إنه منع المراعي من الجبال والأودية وحماها"3.
والرد على هذا الهراء:
أن الحمى لم يكن ذو النورين ابتدأه، فقد كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد كان الرئيس منهم إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عال فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه"4، فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
1ـ العواصم من القواصم ص/77.
2ـ البداية والنهاية 8/142.
3ـ كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191.
4ـ فتح الباري 5/44.
واختص الحمى ببهائم الصدقة المرصدة للجهاد والمصالح العامة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا حمى إلا لله ولرسوله"1، وورد أنه صلى الله عليه وسلم حمى مكاناً يسمى "النقيع"2، ومما هو معلوم أن الحال استمر في خلافة الصديق على ما كان عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن الصديق لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في عهده صلى الله عليه وسلم على الرغم أن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل، وفي زمن الفاروق اتسع الحمى فشمل "الشرف"3 و"الربذة" وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنياً، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية عمر لعامله هذا على الحمى، بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما"4، وكما اتسع عمر رضي الله عنه في الحمى عما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع دولة الإسلام، وازدياد الفتوح.
قال العلامة ابن العربي في صدد رده على الطاعنين عليه بمسألة الحمى، قال:"وأما الحمى فكان قديماً فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الراعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت لزيادة الحاجة"أ. هـ5.
فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال، ومضى عليه الشيخان يجوز مثله لبيت المال في زمن ذي النورين، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الإسلامي، ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن
1ـ صحيح البخاري 2/53.
2ـ المصدر السابق 2/53، والنقيع في المدينة على عشرين فرسخا منها انظر: معجم البلدان 5/299، فتح الباري 5/45.
3ـ قال ياقوت: وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن فما كان مشرفاً فهو الشريف وما كان مغرباً فهو الشرف. معجم البلدان 3/236.
4ـ انظر صحيح البخاري 2/180.
5ـ العواصم من القواصم ص/72-73.
نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما منعوا ولا نحوا منها أحداً، وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيراً وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل من يعرف ذلك من الصحابة أكذلك؟، قالوا: اللهم نعم"1.
ومما نقمته الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون "إنه أبطل سنة القصر في الصلوات أثناء السفر، وقالوا إنه "مخالف للسنة ولسيرة من تقدمه"2.
والرد على طعنهم عليه بهذه المسألة:
يقال لهم: إن تركه القصر كان اجتهاداً منه رضي الله عنه، إذ بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر في الصلاة، حتى كانوا يفعلون ذلك في منازلهم فرأى رضي الله عنه أن السنة قد تؤدي إلى إسقاط الفريضة، فترك القصر خشية أن يتذرع الناس بذلك، وكان هذا في منى في موسم الحج سنة تسع وعشرين، وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا: في العام الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف: وقد اتخذ بمكة أهلاً ـ أي: أنه صار في حكم المقيم لا المسافر ـ فرأيت أن أصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس، ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عنده، فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك، فقال ابن مسعود:"الخلاف شر قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً"، فقال عبد الرحمن بن عوف: "قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347.
2ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/63.
بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول يعني: نصلي معه أربعاً"1.
ثم أيضاً يقال لهم: إن جماعة من العلماء قالوا: "إن المسافر مخير بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة"2.
فقد روي عن جماعة منهم إتمام الصلاة في السفر، منهم عائشة، فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت:"الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر".
قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟، قال: تأولت ما تأول عثمان"3.
وروى الإمام أحمد بسنده عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم معاوية حاجاً قدمنا معه مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة، قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك، قال: فقالا له ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة، قال: فقال لهما ويحكما وهل كان غير ما صنعت قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قالا: فابن عمك قد كان أتمها، وإن خلافك إياه له عيب، قال: فخرج معاوية إلى العصر، فصلاها بنا أربعاً"4.
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/268.
2ـ انظر العواصم من القواصم ص/79-80.
3ـ صحيح البخاري 1/192.
4ـ المسند 4/94.
وكما هو ظاهر هذا الحديث أن معاوية رضي الله عنه كان يرى أن القصر رخصة وأن المسافر مخير بين القصر والإتمام، ولذلك صلى العصر أربعاً.
فلا وجه للرافضة يسوغ لهم الطعن على عثمان بإتمامه ما صلاه من الرباعية أثناء سفره للحج سنة 29، إذ كان ذلك اجتهاداً منه حيث بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر، وعمدوا إلى فعل ذلك في منازلهم فأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن سنة القصر ربما أدت إلى إسقاط الفريضة فتركها سداً للذريعة وهو مأجور على هذا الاجتهاد أصاب أم أخطأ.
ومما طعن به الرافضة على عثمان رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه انهزم يوم حنين وفر يوم أحد وتغيب عن بدر وبيعة الرضوان"1.
والرد على طعنهم عليه بهذا:
يقال لهم: "أما طعنكم عليه بيوم حنين، فإنه لم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقي ممن مضى في الصحيح، وإنما هي أقوال، منها أنه ما بقي معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم، فناهيك بهذا الاختلاف وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة وقد عفا الله عنه ورسوله فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون"2، وأما طعنهم عليه بقولهم إنه فرّ يوم أحد فيجاب عنه أيضاً:، بأن الله ـ جل وعلا ـ عفا عنه وغفر له.
وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه".
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان
1ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/34، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
2ـ العواصم من القواصم ص/103-104.
إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده، فقال:"هذه لعثمان"1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على الرافضي: "يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه على ابنته صلى الله عليه وسلم، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يد نفسه، وكانت البيعة بسببه، فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل مكة بلغه أنهم قتلوه، فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت، فكان عثمان شريكاً في البيعة، مختصاً بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فامتنع من ذلك، وقال: حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه، وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة، فهم يحمونه، وأما التولي يوم أحد فقد عفا الله عن جميع المتولين فيه فدخل في العفو من هو دون عثمان، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته"2، فلا وجه لطعن الشيعة الرافضة على عثمان بما حصل يوم حنين، إذ أنه لم يرد تفصيل لمن بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم، بل حصل في ذلك خلاف بين أهل العلم، وما حصل من أنه فر يوم أحد فقد عفا الله عنه وغفر له، هو وغيره ممن حصل منه ذلك، وغيابه عن بدر إنما كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث خلفه لتمريض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت زوجة لعثمان حينذاك ولم يفته خير هذه الغزوة، فقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بأجره وسهمه فيها فكان كمن حضرها، وبيعة الحديبية التي ينقم الرافضة على عثمان تغيبه عنها إنما كانت بسبب عثمان وانتصاراً له، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قتلوه، وقد كان لعثمان الشرف العظيم
1ـ هذا ما رد به ابن عمر على أحد المصريين الطاعنين على عثمان بما ذكر. انظر صحيح البخاري 2/297.
2ـ منهاج السنة 3/206-207.
في هذه البيعة ذلك أن يد الرسول صلى الله عليه وسلم نابت عن يده في عقد البيعة عنه وجميع الصحابة بايعوا بأيدي أنفسهم إلا عثمان، فإن أشرف يد في الوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته، ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بيده يوم الحديبية لكفاه.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أحدث أذاناً يوم الجمعة زائداً على أذان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بدعة محرمة حتى صار سنة يعمل به بعده إلى اليوم"1.
والرد على هذا الهراء:
أن علياً رضي الله عنه كان أحد الموافقين على هذا الأذان في حياة عثمان وبعد قتله، ولهذا لما صار خليفة للمسلمين لم يأمر بإزالته كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره، ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقالتهم، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه، فإن زعموا أن الناس كانوا لا يوافقونه على إزالتها يقال لهم: فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وأكابر الصحابة لو أنكروا ذلك لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر ذلك، ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان"2.
ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن كل الصحابة تبرؤوا من عثمان فكانوا بين قاتل له وراض بقتله، ويزعمون أيضاً: أن
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/192.
2ـ انظر منهاج السنة 3/204.
عليّاً سكت عن قتل عثمان، ولم ينه عنه وسكوته دال على رضاه بقتله، ويزعمون أيضاً: أنهم تركوه ملقى بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن"1.
والرد على هذا:
أنه كذب صريح وبهتان فضيح لا يخفى على الصبيان، فضلاً عن ذوي العرفان، وما نشب القتال في موقعتي الجمل وصفين بين الصحابة وسقط فيهما الآلاف منهم إلا من أجل إقامة القصاص على قتلة عثمان.
والثابت في كتب التواريخ أن الصحابة كلهم لم يألوا جهداً في دفع البلوى عنه حتى استأذنوه في قتال المحاصرين له فلم يرض لهم بذلك وعزم عليهم أن لا يراق فيه محجم من دم.
فقد روى خليفة بن خياط بإسناده إلى زيد بن ثابت أنه قال لعثمان: هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، فقال:"لا حاجة لي في ذلك كفوا"2.
وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: "إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم، فأذن لنا، فقال: "أذكر الله رجلاً أهراق في دمه، أو قال: دماً".
وروى بإسناده إلى عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال:"أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي غناء من كف يده وسلاحه".
وروى بإسناده إلى محمد بن سيرين، قال: انطلق الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاكي السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان:
1ـ انظر حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/189، 192، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33.
2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/173.
"أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم".
وبإسناده أيضاً: إلى محمد بن سيرين قال: قال سليط بن سليط: "نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها".
وروى بإسناده إلى أبي هريرة قال: "قلت لعثمان: اليوم طاب الضرب معك"، قال:"أعزم عليك لتخرجن"1.
وروى ابن سعد وغيره إلى زهدم الجرمي، قال: خطب ابن عباس رضي الله عنه، فقال:"لو أن الناس لم يطلبوا بدم عثمان لرجموا بالحجارة من السماء"2.
فهذه الآثار فيها تكذيب للشيعة الرافضة، فيما يزعمون من أن الصحابة كلهم تبرؤوا من عثمان، وكانوا راضين بقتله، ولذلك لم ينصروه ولم ينكروا على محاصريه ولم يستعدوا لمدافعتهم ومقاتلتهم، وكما هو واضح من هذه الآثار أنهم أنكروا وبذلوا أنفسهم للدفاع عن عثمان ومقاتلتهم، ولكن أولئك المحاصرين له لم يظهروا قتله وإنما كانوا يظهرون المعيبة عليه ومع ذلك فلم يكن لهم أن يستبدوا برأي في أمرهم إلا بأمر من خليفتهم وأميرهم عثمان رضي الله عنه، وكان يمنعهم من ذلك ويعزم عليهم أن لا يسفك قليل من الدم بسببه3.
قال العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم بالمتواتر أن عثمان رضي الله عنه كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروي أنه قال
1ـ انظر هذه الآثار الخمسة في تاريخ خليفة بن خياط ص/173-174.
2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/80، الإمامة والرد على الرافضة ص/333.
3ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/331.
لمماليكه: "من كف يده فهو حر"، وقيل له: تذهب إلى مكة، فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين"1.
وأما زعمهم: أن الصحابة كانوا بين قاتل له وراض بقتله، فهذا كذب قبيح لم يقله أو يعتقده إلا إنسان من الرافضة أو ابتلي بمعلم منهم فالذين قتلوا عثمان لم يكن بينهم أحد من الصحابة ولله الحمد وإنما قتلته كانوا من أوباش القبائل ومن أهل الإفساد والفتن تأثروا بضلالات ابن سبأ اليهودي فقد روى خليفة بن خياط بسنده، فقال: حدثنا عبد الأعلى بن الهيثم قال: حدثني أبي، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟، قال: لا، كانوا أعلاجاً من أهل مصر"2.
قال أبو بكر بن العربي: "إن أحداً من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً بلدين أو أكثر من ذلك ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة"3.
قلت: لأنه رضي الله عنه اختار أخف الشرين وآثر أن يقتل هو خشية أن تتسع دائرة الفتنة ويعظم سفك دماء المسلمين، ومع ذلك لم يحسن مبغضوا الصحابة جزاءه وإنما رموه بمفتريات كثيرة كان محجوباً فيها بغير حجة، وهنا يقال: للشيعة الرافضة بعد هذه الأخبار المتقدمة: أين تبرؤ الصحابة من عثمان ومن منهم كان بين قاتل له وراض بقتله ألا تستحيون من الرجم بالغيب كذباً وزوراً وبهتاناً.
1ـ منهاج السنة 3/202-203.
2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/176.
3ـ العواصم من القواصم ص/136-137.
ويرد على زعمهم "أن علياً كان راضياً بقتل عثمان، وسكوته دل على رضاه بقتله".
يقال لهم: حاشا وكلا إن علياً صدر منه هذا أو كان هذا موقفه عندما قتل وأن هذا الموقف الذي يذكره الشيعة الرافضة عنه إنما هو من إفكهم واختلاقهم عليه إذ الثابت عنه لعن قتلة عثمان، وبلغ به الحزن مبلغه عندما بلغه قتله وتبرأ من دمه، فلقد ذكر ابن جرير الطبري: أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الجمل: "أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم وضج أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجة؟، فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم فأقبل يدعو ويقول: "اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم"1.
وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى قيس بن عباد قال: شهدت علياً رضي الله عنه يوم الجمل يقول كذا: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وأرادوني على البيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد "فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس إلي فسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي"2.
وذكر الحافظ ابن كثير عن الربيع بن بدر عن سيار بن سلامة عن أبي العالية أن علياً دخل على عثمان فوقع عليه وجعل ييكي حتى ظنوا أنه سيلحق به".
وقال: وقال الثوري وغيره عن طاووس عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/513.
2ـ المستدرك 3/103.
عثمان: "والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت"1.
فهذه الآثار الثابتة عن علي فيها بطلان ما ادعته الرافضة من أن علياً رضي الله عنه كان راضياً بقتل عثمان، وأن قولهم هذا كذب وزور، فقد تواترت الأخبار عن علي بخلافه.
قال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث والله الحمد والمنة، وثبت عنه أيضاً: من غير وجه أنه قال: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .2
وثبت عنه أيضاً من غير وجه أنه قال: كان عثمان من الذين {اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} 3.
وفي رواية أنه قال: "كان عثمان رضي الله عنه خيرنا وأوصلنا للرحم وأشدنا حباً وأحسننا طهوراً وأتقانا للرب عز وجل"4.
فهذا موقف علي رضي الله عنه من ذي النورين رضي الله عنه ومكانته عنده، فإن موقفه منه كان موقفاً شريفاً كريماً، لم تهتد الشيعة الرافضة لمعرفته، ولذلك يطعنون في علي بما يظنونه مدحاً وما ذلك إلا لفرط جهلهم وعدم معرفتهم بما كان عليه السلف الصالح من الاحترام والإجلال لبعضهم بعضاً.
1ـ البداية والنهاية 7/212.
2ـ سورة الحجر آية: 47.
3ـ من الآية رقم 93 من سورة المائدة.
4ـ البداية والنهاية 7/212.
وأما زعمهم أن عثمان رضي الله عنه "ترك ملقي بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن".
فهذا أيضاً: زور وبهتان، فقد قال الزبير بن بكار: "بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء1 يعني من نفس اليوم، وذلك سنة خمس وثلاثين2، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، وهو المظنون بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، فإنه لا يدخل في عقل أي إنسان سلم من داء الرفض أنهم يتركون إمامهم ملقى دون دفن ثلاثة أيام مهما كانت قوة أولئك الفجرة الذين جاؤوا لحصاره وقتله، فالصحابة كما وصفهم ربهم لا يخافون في الله لومة لائم، وما ذكر من الأقوال غير هذا فإنه لا يؤمن أنها من دس الشيعة الرافضة، الذي يقصدون منه التشنيع والطعن على خيار الأمة وحسبنا من مطاعن الشيعة على ذي النورين ما تقدم ذكره ولهم مطاعن فيه غير هذه المطاعن3 وكلها أباطيل وأكاذيب مفتراة من جنس ما تقدم في هذا المبحث، ومما يجدر التنبيه عليه أن مطاعنهم على الخصوص ليست قاصرة على الخلفاء الثلاثة بل اختلقوا مطاعن خاصة بكل واحد من العشرة4 المبشرين بالجنة حتى علي رضي الله عنه، ينسبون إليه قصصاً يظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة عيب فيه، وتنقص له من حيث لا يشعرون5، وقد اقتصرت على رد مطاعنهم في
1ـ ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة: 2/459.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك: 4/415، الكامل في التاريخ 3/179، البداية والنهاية: 7/186، وما بعدها.
3ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: 3/30 – 40، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 1/49-63، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة: 3/173، حق اليقين: 1/189-195.
4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 2/60 وما بعدها.
5ـ من القصص التي يذكرونها ويظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة طعن فيه وقذف له بالكذب والأساطير المفتراة ما حكاه نعمة الله الجزائري في ذكره سبب تحريم عم المتعة حسب زعمه حيث قال:
الخلفاء الثلاثة في هذه المباحث المتقدمة لأن الثلاثة يعتبرون صدر الأمة المحمدية وهم وعلي الذين أمرنا باتباع سننهم والاقتداء بآثارهم، وقد تبين مما تقدم أن مطاعنهم في الخلفاء الثلاثة كلها أكاذيب مفتراة لم يستقم لهم منها شيء وكلها منشؤها يرجع إلى أمرين اثنين: إما نقص العلم وإما نقص الدين 1 لا شيء غيرها أعاذنا الله من الخذلان.
1ـ انظر: منهاج السنة 3/141.