الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثالث
الباب الرابع: ردود أهل السنة على الفرق النحرفة في اعتقادها نحو الصحابة
الفصل الأول: ردود على مطاعن الشيعة في الصحابة
المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحا
…
المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحاً
الشيعة في اللغة:
قال الجوهري رحمه الله: شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه كما يقال: والاه من الولي
…
وتشيع الرجل أي: ادعى دعوى الشيعة وتشايع القوم من الشيعة وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع وقوله تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} 1 أي: بأمثالهم من الشيع الماضية"أ. هـ2.
وقال العلامة ابن الجوزي: "الشيع: جمع شيعة وهي الطائفة المجتمعة على أمر، ويقال: هؤلاء شيعة فلان: أي: أتباعه"أ. هـ3.
وجاء في لسان العرب: الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره وجمعها شيع وأشياع، جمع الجمع ويقال: شايعه كمال يقال: والاه ـ إلى أن قال ـ: "وأصل الشيعة الفرقة من الناس ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلّب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته جميعاً4
1ـ سورة سبأ آية/54.
2ـ الصحاح 3/1240، مختار الصحاح للرازي ص/353، وانظر المفردات في غريب القرآن للراغب ص/271.
3ـ نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر ص/376.
4ـ كل مسلم يجب عليه تولي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم ومحبتهم، وقد كان القسط الأكبر والحظ الأوفر من هذا لأهل السنة والجماعة أما دعوى الشيعة في أنهم هم الذين اختصوا بموالاتهم دعوى بلا برهان ولكن يقال: إنهم اختصوا بالغلو المذموم نحوهم وبمعاداة من يحبهم أهل البيت وأهل البيت يحبون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكنون أي عداوة لأحد منهم رضي الله عنهم جميعاً.
حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنه منهم وفي مذهب الشيعة كذا أي: عندهم وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة"1.
وجاء في القاموس: "شيعة الرجل بالكسر أتباعه والفرقة على حده، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً خاصاً لهم والجمع أشياع وشيع كعنب"2.
وجاء في المصباح المنير3: "والشيعة الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت "الشيعة" نبزاً لجماعة مخصوصة والجمع "شيع" مثل سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع "وشيعت رمضان بست من شوال أتبعته بها"أ. هـ
فالشيعة: من حيث مدلولها اللغوي تعني: القوم والصحب والأتباع والأعوان وقد ورد هذا المعنى في بعض آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 4، وقوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ} 5، فلفظ الشيعة في الآية الأولى تعني القوم، وفي الثانية: تشير إلى الأتباع الذين يوافقون على الرأي والمنهج ويشاركون فيهما.
تعريف الشيعة اصطلاحاً:
كلمة "شيعة" اتخذت معنى اصطلاحياً مستقلاً حيث أطلقت على جماعة اعتقدوا أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي ترجع إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها
1ـ لسان العرب 8/188-189.
2ـ القاموس 3/49.
3ـ 1/329.
4ـ سورة القصص آية/15.
5ـ سورة الصافات آية/83.
بتعيينهم، بل إنها ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه أن يعين الإمام للأمة"1.
فقد قال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للشيعة: "وإنما قيل لهم الشيعة: لأنهم شايعوا علياً رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال أبو محمد بن حزم الظاهري مبيناً حد الشيعي: "ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي"3.
وقال الشهرستاني معرفاً للشيعة: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا: بإمامته وخلافته نصاً ووصية إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده"أ. هـ4
وقال عبد الرحمن بن خلدون: "اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في
1ـ انظر مقدمة ابن خلدون ص/196-197.
2ـ مقالات الإسلاميين 1/65.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/146.
طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة"1.
وقال الجرجاني: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه: قالوا: إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده"أ. هـ2
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله معرفاً التشيع بقوله: "والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب والتصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو"3.
فهذه ستة تعاريف من أهل العلم لبيان المقصود بالشيعة وهي تتقارب في مدلولها، فقد أوضحوا فيها أن الشيعة طائفة من الناس يعتقدون أفضلية علي رضي الله عنه على سائر الصحابة وأحقيته هو وبنوه بالإمامة وأنها لا تخرج عنهم "إلا في حال التقية إذا خافوا بطش ظالم"4 كما يزعمون.
تعريف الرافضة:
الرفض لغة: الترك وقد رفضه يرفضه رفضاً ورفضاً والشيء رفيض ومرفوض والروافض: جند تركوا قائدهم وانصرفوا والرافضة فرقة من الشيعة.
قال الأصمعي: "سموا بذلك لتركهم زيد بن علي رضي الله عنه"5.
وجاء في المصباح المنير: "رفضته "رفضاً" من باب ضرب وفي لغة من
1ـ مقدمة ابن خلدون ص/196-197.
2ـ كتاب التعريفات للجرجاني ص/129.
3ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459.
4ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/146.
5ـ الصحاح للجوهري 3/1078، لسان العرب 7/157.
باب "قتل" تركته والرافضة فرقة من شيعة الكوفة سموا بذلك لأنهم "رفضوا" أي: تركوا: زيد بن علي عليه السلام حين نهاهم عن الطعن في الصحابة"1.
فالرفض في اللغة معناه الترك والتخلي عن الشيء.
وأما في الاصطلاح:
فالرفض يطلق على "قوم من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي".
قال الأصمعي: "كانوا بايعوه ثم قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل معك، فأبى، وقال: كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما، فرفضوه وارفضوا عنه فسموا رافضة، وقالوا: الروافض ولم يقولوا الرفاض لأنهم عنوا الجماعة"2.
قال عبد الله بن أحمد رحمه الله: قلت لأبي: "من الرافضي؟ قال: الذي يشتم ويسب أبا بكر وعمر"3.
فالرافضة اصطلاحاً قوم من الشيعة ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً والبراءة من الشيخين خصوصاً.
سبب تسميتهم بهذا الاسم:
قال الرازي: إنما سموا بالروافض لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب خرج على هشام بن عبد الملك فطعن عسكره على أبي بكر فمنعهم من ذلك، فرفضوه، ولم يبق معه إلا مائتا فارس، فقال لهم ـ أي زيد بن علي ـ رفضتموني، قالوا: نعم، فبقي عليهم هذا الاسم"4.
1ـ المصباح 1/232.
2ـ لسان العرب 7/157.
3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/165، السنة للخلال ص/492.
4ـ اعتقادات فرق المسلمين ص/52.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الخلفاء الراشدون الأربعة" ابتلوا بمعادات بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم، فأبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف، ولهذا قيل للإمام أحمد: من الرافضي؟ قال: الذي يسب أبا بكر وعمر، وبهذا سميت الرافضة فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل: إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر"أ. هـ1
وقال أيضاً رحمه الله: "ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه قوم، فقال لهم: رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه"2.
وقال الحافظ ابن كثير في صدد بيانه ما حدث سنة ثنتين وعشرين ومائة: "فيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان سبب ذلك: أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك، فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره ـ وهو بالحيرة يومئذ ـ خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك ـ يرحمك الله ـ في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذاً بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر ولكن القوم استأثروا علينا به
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435.
2ـ منهاج السنة 1/8.
ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً قد ولوا فعدلوا وعملوا بالكتاب والسنة، قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذاً؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يؤمئذ"1.
وقال صاحب روضات الجنات: "فالروافض هم أولئك الذين رفضوا من أهل الكوفة صحبة زيد بن علي رضي الله عنه حين منعهم من الطعن في الخلفاء الراشدين الذين سبقوا علياً رضي الله عنهم جميعاً وتبرأوا منه حيث لم يتبرأ منهم"2.
ومما تقدم تبين أن سبب تسميتهم بالرافضة أنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي حين نهاهم عن الطعن في الصحابة وذلك أنهم لما عرفوا أنه يتولى الشيخين ولا يبرأ منهما رفضوه فاستعمل هذا اللقب في كل من غلا في هذا المذهب وأجاز الطعن في الصحابة وقد أطلق عليهم هذا الاسم سنة اثنتين وعشرين ومائة هجرية" 3.
1 ـ البداية والنهاية 9/370-371.
2 ـ روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات لميرزا محمد الباقر 1/324.
3 ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 7/180-181، الكامل لابن الأثير 5/242-243، البداية والنهاية 9/370-371.
المبحث الثاني: بداية نشأة التشيع
لقد قرر المحققون من أهل العلم بالتاريخ والمقالات أن أول من زرع فكرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام بغية الكيد له ولأهله بنشر العقائد الفاسدة وزعزعة العقيدة الإسلامية الصافية من قلوب الناس وقد ظهر ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ ـ أيام الخليفة الثالث ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه حيث تظاهر بالإسلام وأخذ في التنقل في البلدان، فقد اتجه من المدينة إلى البصرة، ثم إلى الكوفة ثم إلى مصر وأخذ ينفث سمومه وينشر أفكاره الخبيثة، وقد نشط ببث فكرتين أساسيتين لمخططه اليهودي:
الأولى: دعوته إلى اعتقاد رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: "عجباً ممن يزعم أن عيسى سيرجع ويكذب بأن محمداً سيرجع وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1.
الثانية: دعوته إلى اعتقاد "أن لكل نبي وصياً وعلي وصي لمحمدن ومحمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ووثب على حق وصيه وتناول أمر الأمة".
وقد استجاب له والتف حوله لفيف من الفاسدين والحاقدين وألفوا جماعة من ضعاف النفوس ويتسترون باسم الدين ويدعون إلى المطالبة بإسناد الأمر إلى علي رضي الله عنه نظراً إلى اعتقادهم الفاسد أنه خاتم أوصياء محمد وأخذ ابن سبأ يأمر أتباعه الذين استجابوا له بتحريك هذا الأمر والبدء بالطعن على الأمراء
1ـ سورة القصص آية/85.
والتظاهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاستمالة الناس إلى دعوتهم وكان لابن سبأ تأثير في سامعيه، فكان الذين يجتمعون إليه يتأثرون به ويقبلون قوله ويستعظمونه، وما زال هذا اليهودي الماكر المتظاهر بالإسلام ينشط هو وجماعته ضد الخليفة الثالث رضي الله عنه، وأمرائه، حتى أوسعوا الأرض إذاعة وكانوا يكتبون الكتب التي تنسب إليهم العيوب الكثيرة وتدس عليهم الدسائس، ويرسلونها إلى وجوه الناس في الأمصار إعدادً للفتنة الكبرى المدبرة في رأس عبد الله بن سبأ الخبيث حتى بلغ أهل المدينة طائفة من رسائلهم، فجاؤوا إلى عثمان رضي الله عنه يسألونه: هل أتاه من الأمصار مثل ما أتاهم؟ فقال لهم: والله ما جاءني إلا السلامة فأخبروه الخبر، فقال لهم: أنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي، فأشاروا عليه أن يرسل أشخاصاً ممن يثق فيهم إلى الأمصار ليخبروا أهلها بأنهم لم ينكروا شيئاً من عثمان لا أعلامهم ولا عوامهم، ففعل ذلك عثمان ثم كتب إلى أهل الأمصار كتاباً عاماً يذكر فيه ما بلغه من الإذاعات والطعن على الأمراء ويقول: إنه تولى أمر المؤمنين ليقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه ولى عماله على ذلك، وأنه مستعد لسماع كل شكوى منهم ومن عماله وإنصاف صاحبها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ويدعو من له شكوى إلى موافاته في موسم الحج ثم اتضح أن الشكاوى التي كانت على عمال عثمان كانت محض اختلاق ودسائس شيطانية من مخططات ابن سبأ وأتباعه ثم ابتدعوا فكرة إرسال الكتب المزورة إلى من يريدون تحريضه على عثمان وولاته بأسماء طائفة من كبار الصحابة، ثم الكتب المزورة باسم الخليفة نفسه، ثم انتهت دسائس ابن سبأ الخبيث إلى إشعال فتنة كبرى انطلقت جذواتها الثلاث من البصرة والكوفة ومصر وهي الأمصار الثلاثة التي كان من نتائجها المشئومة قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه بغير حق ظلماً وعدواناً"1.
1ـ انظر تاريخ ابن جرير الطبري 4/340 وما بعدهان تاريخ ابن عساكر 3/1-8، الكامل في التاريخ 3/154-181، البداية والنهاية 7/190-210، ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور
وإلى ذكر أقوال علماء التاريخ والمقالات فيما قرروه في كيفية بداية نشأة التشيع وأن زارعه الأول صاحب الحقد العظيم على الإسلام وأهله عبد الله بن سبأ اليهودي.
فقد روى ابن جرير بإسناده إلى يزيد الفقعسي قال: "كان عبد الله بن سبأ يهودياً فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز، ثم البصرة ثم الكوفة، ثم الشأم، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشأم، فأخرجوه حتى أتى مصر فاغتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: "لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1 فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم: إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصيا، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة! ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون
= سعدي القرشي ص/29، وما بعدها، عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام، ص/38-52.
1ـ سورة القصص آية/85.
ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء إلا أهل المدينة، فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس ـ واجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان ـ فقالوا يا أمير المؤمنين أياتيك عن الناس الذي يأتينا؟، قال: لا والله ما جاءني إلا السلامة، قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بالذي أسقطوه إليهم، قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي، قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق فيهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشأم وفرق رجالاً سواهم فرجعوا جميعاً قبل عمار، فقالوا: أيها الناس ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعلام المسلمين إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم"1.
وقال عبد القاهر البغدادي: "وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً
…
فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً رضي الله عنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خير الأوصياء كما أن محمداً خير الأنبياء
…
إلى أن قال: "وقال المحققون من أهل السنة: إن ابن السوداء كان على هوى دين اليهود، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه السلام"2.
وقال الشهرستاني في شأن ابن سبأ: "زعموا أنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي الله عنه، وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه
1ـ تاريخ الطبري 4/340-341، تاريخ ابن عساكر 34/1-3، الكامل في التاريخ 3/154-155.
2ـ الفرق بين الفرق ص/235.
ومنه انشعبت أصناف الغلاة"أ. هـ1.
وقال الحافظ ابن عساكر: "عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة، كان يهودياً وأظهر الإسلام، وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر وقد دخل دمشق لذلك في زمن عثمان بن عفان"أ. هـ2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أنه أول من أحدث الرفض والغلو المذموم حيث قال: "وأصل الرفض" من المنافقين الزنادقة فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه وادعى العصمة له ولهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق وحب بني هاشم إيمان وبغضهم نفاق"أ. هـ3.
كما ذكر رحمه الله أن بين ابن سبأ وبولص النصراني الذي أفسد دين النصرانية شبهاً واضحاً، حيث قال:"وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهودياً في إفساد دين النصارى"4.
وقال رحمه الله في موضع آخر في سياق ذكره للرافضة: "وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر أهل العلم ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقاً زنديقاً أراد فساد دين الإسلام
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
2ـ تاريخ دمشق 34/1.
3ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435.
4ـ المصدر السابق 28/483.
وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع "بولص" بالنصارى، لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضغف النصارى وعقلهم، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علماً وعملاً، فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغلو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم، وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على الحق، ولكن يضل من يتبعه على ضلاله"أ. هـ1، فقد بين رحمه الله أن منشأ الرفض كان من وضع الزنديق ابن سبأ اليهودي وأن هذا الشخص تظاهر بالإسلام نفاقاً وأنه كان له هدف أشد من تأسيس الرفض وهو إفساد دين الإسلام كما فعل "بولص" اليهودي بدين النصرانية، ولكن الله رد كيده في نحره وكشف خبثه لأنصار دينه.
وقال المقريزي مبيناً كيفية بدء التشيع: "وكان ابتداع التشيع في الإسلام أن رجلاً من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلم فقيل له عبد الله بن سبأ وعرف بابن السوداء وصار يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله ـ ثم ذكر نبذاً من كيده للإسلام ـ ومنها أنه قال: "لكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب وصي محمد صلى الله عليه وسلم"أ. هـ2.
فالنصوص المتقدم ذكرها كلها فيها بيان واضح أن ابن سبأ كان يبيت للإسلام الشر وأنه كان له خبيئة سوء وإنما كان يتستر بالتشيع لأهل البيت ليصل إلى مقصوده الخبيث ولكن الله لا يهدي كيد الخائنين، فقد كشف الله عواره
1ـ منهاج السنة 3/261.
2ـ خطط المقريزي 2/334.
وفضح غرضه السيء للناس ولوضوح خبثه وشدة حقده على الإسلام والمسلمين لم يذكره أحد من أهل العلم والإيمان بخير، وإنما وصفوه بأنه أول من سن لأهل الخذلان النيل من أبي بكر وعمر ووصفوه بالخبث والكذب وأنه ضال مضل.
فقد ذكر الحافظ ابن حجر من طريق أبي إسحاق الفزاري أن سويد بن غفلة دخل على علي في إمارته، فقال: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر يرون انك تضمر لهما مثل ذلك منهم عبد الله بن سبأ وكان عبد الله أول من أظهر ذلك فقال علي: ما لي ولهذا الخبيث الأسود، ثم قال: معاذ الله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلى عبد الله بن سبأ فسيره إلى المدائن، وقال: لا يساكنني في بلدة أبداً، ثم نهض إلى المنبر حتى اجتمع الناس ـ ثم أثنى على الشيخين ثناء طويلاً وقال في آخره:"ألا ولا يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري"1.
بل قد روى ابن عساكر أن علياً رضي الله عنه لما بلغه انتقاص ابن سبأ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هم بقلته، فقد روى بإسناده إلى سماك بن حرب قال: بلغ علياً أن ابن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر، فدعا به ودعا بالسيف ـ أو قال فهم بقلته، فكلم فيه، فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه، قال: فسيره إلى المدائن"2.
وروى بإسناده إلى أبي الجلاس3 قال: سمعت علياً يقول لعبد الله السبئي: "ويلك والله ما أفضي إلي بشيء كتمه أحداً من الناس وقد سمعته يقول: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذاباً وإنك لأحدهم"4.
1ـ لسان الميزان 3/290، وانظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/100-101.
2ـ تاريخ دمشق لابن عساكر 34/7.
3ـ أبو الجلاس: هكذا معروف بكنيته ـ سمع علياً وعنه الحارث بن عبد الرحمن الهمذاني. انظر المقتنى في سرد الكنى: 1/150، التهذيب 12/63.
4ـ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 34/6.
فعلي رضي الله عنه مقدم أهل البيت الذي زعم عبد الله بن سبأ أنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم قد حكم على ابن سبأ بأنه خبيث وهم بقتله ولما تراجع عن قتله نفاه إلى المدائن، وبين بطلان دسائسه على الإسلام بأنه أحد الدجالين الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم سيكونون بين يدي الساعة.
وأخرج ابن عساكر أيضاً: بإسناده إلى عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: "أول من كذب عبد الله بن سبأ"1.
وقال الحافظ الذهبي في شأن ابن سبأ: "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ضال مضل أحسب أن علياً حرقه بالنارن وزعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي فنفاه علي بعد ما هم به"أ. هـ2.
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد روايات في ذمه: "وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ وليست له رواية ولله الحمد وله أتباع يقال لهم السبائية معتقدون إلهية علي بن أبي طالب وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته"أ. هـ3.
والحاصل مما تقدم تقريره عن أهل العلم أن ابن سبأ هو أول من زرع فكرة التشيع والقول بالرجعة والوصية وتلقفها منه من قلت بضاعته من العلم والهدى الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فالآراء التي يعتنقها الشيعة الرافضة ويتدينون بها لم تكن معروفة لدى الرعيل الأول من هذه الأمة وإنما هي من اختلاق عبد الله بن سبأ اليهودي الذي رام بها إضلال الناس وإفساد دين الإسلام وفتن بضلالاته الشيعة الرافضة وفتنت قلوبهم بالحقد على خيار الأمة، وتعبدوا بلعنهم وحكموا بردتهم، وهذا خذلان أيما خذلان لما فيه من تكذيب الله عز وجل من شهادته لهم في كتابه الكريم بالإيمان وكمال اليقين
1ـ المصدر السابق 34/4.
2ـ ميزان الاعتدال 2/426.
3ـ لسان الميزان 3/290.
وإخباره برضاه عنهم وأنهم جميعاً من أصحاب الجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وما فتن به الرافضة من تنقصهم للشيخين وقولهم بتقديم علي رضي الله عنه على الشيخين وطعنهم في عثمان لم يكن معروفاً عند شيعة علي رضي الله عنه وإنما ابتلي به المتأخرون من الشيعة الرافضة الذين سلكوا مسلك ابن سبأ في عقائده الفاسدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولم تكن الشيعة التي كانت مع علي يظهر منها تنقص لأبي بكر وعمر ولا فيها من يقدم علياً على أبي بكر وعمر ولا كان سب عثمان شائعاً فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر"1.
وختاماً لهذا المبحث تبين من كلام علماء التاريخ وأصحاب المقالات أن ابن سبأ شخص خبيث ظهر في آخر زمن خلافة ذي النورين بعقائد وأفكار زائغة ليلفت المسلمين عن دينهم، ولحق به من غوغاء الناس ما تكونت لهم طائفة السبائية 2.
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/436.
2 ـ لزيادة معرفة حقيقة ابن سبأ ومعرفة أباطيله يراجع كتاب "ابن سبأ حقيقة لا خيال" للدكتور سعدي الهاشمي، وكذا كتاب "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام" لسليمان بن حمد العودة.
المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة
لقد ذكر العلماء الذين صنفوا مؤلفات خاصة بالفرق أن الشيعة الرافضية فرق كثيرة ومتشعبة، والذي أذكره منهم في هذا المبحث هم أهم فرقهم التي تعتبر أمهات فرقهم، وهي الشيعة الغالية، والشيعة الكيسانية، والزيدية والشيعة الاثنى عشرية، وما ذكر من الفرق غيرها فإنها تكون متشعبة منها وإلى بيان تلك الفرق:
1-
الشيعة الغالية:
ينتمي إلى الشيعة فرق متعددة أصيب بعضها بالتطرف والغلو المذموم حيث رفعت الخليفة الرابع علياً رضي الله عنه وذريته إلى مرتبة الألوهية أو النبوة وجعلت منزلة "علي" أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ومرتبته، والبعض الآخر منهم لم يصل إلى هذا المستوى المتدني من الغلو والانحراف الذي لا يقبله من له أدنى عقل وبصيرة، ولقد حاول الشيعة إنكار نسبة فرق الشيعة الغالية إليهم1، ولكن ما استطاعوا إذ كل من كتب في الفرق تجدهم جميعاً يثبتون العلاقة القوية بين الفرق الغالية وبين عموم الشيعة، وعلى سبيل الفرض أنه لم يكن للغلاة صلة بالتشيع، فإنهم ولا شك قد اتخذوا التشيع ستاراً، ومن حب أهل بيت النبوة وسيلة لبث أفكارهم المنحرفة وعقائدهم الباطلة، ومن هنا أصبح التشيع ملجأ
1ـ انظر الشيعة في الميزان "محمد جواد مغنية" ص/291-294، قال سعد القمي وهو من الإمامية بعد ذكره لفرق الغلاة: "فهذه فرق أهل الغلو ممن انتحل التشيع وإلى الخرمدينية، والمزدكية، والزنديقية، والدهرية مرجعهم جميعاً لعنهم الله وكلهم متفقون على نفي الربوبية عن الله الجليل الخالق تبارك وتعالى عما يصفون علوا كبيراً وإثباتها في بدن مخلوق.... المقالات والفرق، ص/64.
ومأوى لكل من رام هدم الإسلام لعداوة أو حقد عليه في نفسه، من أجل هذا رأيت أنه لا بد من الإشارة إلى الغلاة المنتسبين إلى التشيع.
وقد ذكر أهل العلم الذين ألفوا في الفرق ومقالاتهم العديد من فرق الشيعة الغالية، التي بالغت بالغلو في حق الأئمة "كالسبئية والغرابية والبيانية والمغيرية، والهشامية، والخطابية، والعلبائية، والنصيرية" والإسماعلية من فرق الشيعة الغالية، وإنما أذكر هذه الفرق فقط مع الإشارة إلى بيان غلوهم في الأئمة كنماذج فقط وإلا فهم كثر.
وقد عرف الشهرستاني الغلاة من الشيعة فقال: "هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية وحكموا فيهم بأحكام الإلهية فربما شبهوا واحداً من الأئمة بالإله، وربما شبهوا الإله بالخلق وهم على طرفي الغلو والتقصير، وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق، فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة"1.
هذا هو تعريف الغلاة من الشيعة ومن أين استمدوا أسس معتقدهم في الأئمة الذين يزعمون نسبتهم إليهم، وأن ذلك سرى إلى أذهانهم من فرق الضلال من الأمم الماضية فضلوا بذلك عن سواء السبيل، ويتضح ضلالهم أكثر بالإشارة إلى ذكر غلوهم في الأئمة.
فالسبئية:
أتباع عبد الله بن سبأ: يزعمون أن علياً لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وذكروا عنه أنه قال لعليّ
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/173.
عليه السلام: أنت أنت1"يعني أنت الإله فنفاه إلى المدائن"2.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله بعد ذكره للفرقة الخامسة عشرة من فرق الشيعة الغالية: "يزعمون أن الله عز وجل وكل الأمور وفوضها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها، وأن الله ـ سبحانه ـ لم يخلق من ذلك شيئاً ويقول ذلك كثير منهم في علي ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم الأعلام والمعجزات ويوحي إليهم، ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة به: إن علياً رضوان الله عليه فيها وفيهم يقول بعض الشعراء:
برئت من الخوارج لست منهم
…
من الغزال3 منهم وابن باب4
ومن قوم إذا ذكروا علياً
…
يردون السلام على السحاب5
الغرابية:
وأما الغرابية: فهم "قوم زعموا أن الله عز وجل التي أرسل جبريل عليه السلام إلى علي فغلط في طريقه فذهب إلى محمد، لأنه كان يشبهه، وقالوا: كان أشبه به من الغراب بالغراب والذباب بالذباب6 "من أجل هذا سموا غرابية7، ومن الغرابية فرق تسمى الذمية "زعموا أن علياً هو الله وشتموا محمداً صلى الله عليه وسلم وزعموا أن علياً بعثه لينبيء عنه فادعى الأمر لنفسه8.
1ـ مقالات الإسلاميين 1/86، وانظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 34/1-8.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
3ـ الغزال: لقب لقبوا به واصل بن عطاء أحد شيوخ المعتزلة، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة، انظر ترجمته في وفيات الأعيان 6/7-11.
4ـ ابن باب: المقصود به عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان، انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 3/460-462.
5ـ مقالات الإسلاميين 1/88.
6ـ انظر في شأن هذه الفرقة الفرق بين الفرق ص/250، التبصير في الدين ص/128-129.
7ـ التبصير في الدين ص/128.
8ـ الفرق بين الفرق ص/251، التبصير في الدين للإسفراييني ص/129
البيانية:
أتباع بيان بن سمعان التميمي الذي كان يقول بإمامة محمد بن الحنفية وكان الكثير من أتباعه يقولون إنه كان نبياً وإنه نسخ بعض شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هو المراد بقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} 1 وقوم من أتباعه قالوا: إنه كان إلهاً، وقالوا: إن روح الإله قد حل فيه، وأنه يحل في الأنبياء والأئمة وينتقل من واحد إلى واحد آخر، وقالوا: إن روح الإله قد انتقل عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى بيان وكان يدعي لنفسه الإلهية على معنى الحلول، وكان يدعي أنه يعرف اسم الله الأعظم وأنه يدعو به الزهرة فتجيبه، ولما وصل خبره إلى خالد بن عبد الله القسري صلبه وكفى الله شره"2.
المغيرية:
أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي، ادعى أن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسين في: محمد النفس الزكية بن عبد الله الحسن بن الحسن الخارج بالمدينة وزعم أنه حي لم يمت، وكان المغيرة مولى لخالد بن عبد الله القسري وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد، وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه واستحل المحارم وغلا في حق علي رضي الله عنه غلواً لا يعتقده عاقل
…
وقد قال المغيرة بإمامة أبي جعفر محمد بن علي، ثم غلا فيه، وقال بإلهيته فتبرأ منه الباقر ولعنه"3.
الهشامية:
أصحاب الهشامين: هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه وهشام بن سالم الجواليقي، الذي نسج على منواله في التشبيه
…
وقد غلا هشام بن الحكم
1ـ سورة آل عمران آية/138.
2ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين ص/124، وانظر مقالات الإسلاميين 1/66-67، الفرق بين الفرق ص/236-238، الملل والنحل للشهرستاني 1/152-153، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص/57
3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/176-177، وانظر مقالات الإسلاميين 1/69-74، الفرق بين الفرق ص/238-242
في حق علي رضي الله عنه حتى قال: إنه إله واجب الطاعة"1.
الخطابية:
أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه وأمر أصحابه بالبراءة منه، وشدد القول في ذلك وبالغ في التبري منه واللعن عليه فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه، زعم أبو الخطاب أن الأئمة أنبياء ثم آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد وإلهية آبائه وهم أبناء الله وأحباؤه والإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمامة، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار، وزعم أن جعفراً هو الإله وليس هو المحسوس الذي يرونه ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها، ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة وافترقت الخطابية بعده فرقاً"2.
العلبائية:
أصحاب العلباء بن ذارع الدوسي، وقال قوم: هو الأسدي وكان يفضل علياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث محمداً، يعني علياً، وسماه إلهاً وكان يقول بذم محمد صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه، ويسمون هذه الفرقة الذميمة.
ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً ويقدمون علياً في أحكام الإلهية ويسمونهم العينية، ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً، ويقدمون محمداً في الإلهية ويسمونهم الميمية، ومنهم من قال: بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء، محمد، وعلي وفاطمة، والحسن والحسين، وقالوا: خمستهم شيء واحد والروح حالة
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/184-185.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/179-184، وانظر مقالات الإسلاميين 1/76-82.
فيهم بالسوية لا فضل لواحد منهم على الآخر"1.
النصيرية:
من جملة غلاة الشيعة النصيرية أتباع محمد بن نصير النمري، "ولهم جماعة ينصرون مذهبهم ويذبون عن أصحاب مقالاتهم وبينهم خلاف في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من أهل البيت، قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل، أما في جانب الخير فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص والتصور بصورة أعرابي والتمثل بصورة البشر، وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشر بصورته وظهور الحسن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه، فكذلك نقول: إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص ولما لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شخص أفضل من علي رضي الله عنه وبعده أولاده المخصوصون وهم خير البرية، فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم ويقولون: إنما أثبتنا هذا الاختصاص لعلي رضي الله عنه دون غيره، لأنه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى"2، إلى غير ذلك من الحجج الباطلة التي تعد من تزيين الشيطان وتسويله، وهذه الفرقة وسائر أصناف القرامطة الباطنية عرفت كلها في التاريخ بشدة عداوتها للإسلام وأهله ومناصرتها لأعداء الإسلام وكراهية انتصار المسلمين على أعدائهم من التتار والنصارى، كما اشتهرت بالإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلامه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن مواضعه، ويكفينا نحوهم ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه رحمه الله عرف حقيقتهم وما كانوا عليه من سوء الحال، فقد سئل رحمه الله عن النصيرية، فأجاب بقوله: "الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المتسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/175-176.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/188-189.
أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والإفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة، ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها يدعون أنها علم الباطن وليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله وتعالى ورسوله عن مواضعه
…
ـ إلى أن قال ـ "ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى ـ والعياذ بالله تعالى ـ النصارى على ثغور المسلمين
…
فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حيئنذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين الشهيد1 وصلاح الدين2 وأتباعهما وفتحوا
1ـ هو محمود بن زنكي الملقب بالملك العادل ملك الشام وديار الجزيرة ومصر وهو أعدل ملوك زمانه وأجلهم وأفضلهم، كان من المماليك جده من موالي السلجوقيين، ولد في حلب سنة 511 وتوفي سنة 569 كان من المداوميين للجهاد وكان يباشره بنفسه، كان موفقاً في حروبه مع الصلبيين أيام زحفهم على بلاد الشام "انظر ترجمته في وفيات الأعيان، لابن خلكان" 5/184-189، سير أعلام النبلاء 20/531-539، شذرات الذهب 4/228-231.
2ـ هو: يوسف بن أيوب بن شاذي أبو المظفر صلاح الدين الأيوبي الملقب بالملك الناصر، من أشهر ملوك الإسلام، وهو من أصل كردي ولد بتكريت سنة 532هـ سيرته مشهورة طبقت الآفاق لما له من الأيادي البيض في نصرة الإسلام وأهله، منها تخليص بيت المقدس وبلاد فلسطين والساحل الشامي من براثن الصليبيين فقد كان موفقاً في حروبه لهم فقد هزمهم شر هزيمة في حطين وغيرها من الوقائع، توفي رحمه الله سنة 589هـ. =
السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضاً: أرض مصر، فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد
…
ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم
…
ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون "الملاحدة" وتارة يسمون "القرامطة" وتارة يسمون "الباطنية"، وتارة يسمون "الإسماعلية" وتارة يسمون "الخرَّمية"، وتارة يسمون "المحمرة".
وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم.. ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل الكفار من أهل الكتاب
…
وأيضاً: فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك
…
ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه عن أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله ورسوله
…
والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى"1.
فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بكلامه هذا حقيقة "النصيرية" وسائر أصناف الباطنية الإسماعلية وكشف معاملتهم للمسلمين وموقفهم المشين من الإسلام عبر تاريخهم الأسود، كما بين الموقف الذي يجب
= انظر ترجمته في وفيات الأعيان 7/139-218، الكامل لابن الأثير 11/415 وما بعدها، سير أعلام النبلاء 21/278-291.
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/149-159.
على المسلم أن يقفه كل بحسب ما يمكنه من تعريف الناس أخبارهم وإفشاء أسرارهم ليعرف الناس حقيقة حالهم.
الشيعة الإسماعلية:
بعد موت الإمام جعفر بن محمد الصادق افترقت الشيعة إلى فرقتين:
فرقة: ساقت الإمامة إلى ابنه موسى الكاظم وهؤلاء هم الشيعة الاثنا عشرية.
وفرقة: نفت عن الإمامة، وقالت: إن الإمام بعد جعفر هو ابنه إسماعيل، وهذه الفرقة عرفت بالشيعة الإسماعلية.
قال عبد القاهر البغدادي في شأن الإسماعلية: "وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل"1.
وقال الشهرستاني: "الإسماعلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنى عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر قالوا: ولم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه بواحدة من النساء، ولا تسرى بجارية كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها"2.
فالإسماعلية إحدى فرق الشيعة، وهي تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ولهم ألقاب كثيرة عرفوا بها غير لقب "الإسماعيلية".
فأشهر ألقابهم الباطنية: وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً.
ويطلق عليهم: القرامطة والمزدكية، وقد عرفوا بهذين اللقبين في بلاد العراق.
1ـ الفرق بين الفرق ص/62.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/191.
ويطلق عليهم في خراسان: التعليمية والملحدة وهم لا يحبون أن يعرفوا بهذه الأسماء، وإنما يقولون: نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم"1.
وكما تقدم قريباً أن الشيعة أصيبوا بالفرقة والاختلاف بعد موت جعفر الصادق وهذه صفة ليست غريبة عليهم، وإنما هي صفة ملازمة لهم.
قال أبو عبد الله الملقب بالمفيد مبيناً اختلافهم بعد الصادق: "فلما مات الصادق عليه السلام سنة 148هـ انتقل فريق منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر عليه السلام بعد أبيه عليه السلام، وافترق الباقون فريقين:
فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنهم أن الإمامة كانت في أبيه، وأن الابن أحق بمقام الإمامة من الأخ.
وفريق: ثبتوا على حياة إسماعيل وهم اليوم شذاذ لا يعرف منهم أحد يوميء إليه.
وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الإمامة بعد إسماعيل في ولده إلى آخر الزمان"2.
والإسماعيلية لا يقولون بإمامة موسى بن جعفر، وإنما يقولون:"إن موسى الكاظم لم يجعله الصادق "ع" إماماً إلا سترا على ولي الأمر "محمد بن إسماعيل" ليكتم أمره على الأضداد
…
وذلك أنه لما اشتدت المحنة وعظمت التقية في أيام جعفر بن محمد صلوات الله عليه كتم اسم الإمام من ولده تقية عليه، فلم يطلع عليه في حياة جعفر بن محمد ولا بعد وفاته إلا أوثق الثقات من شيعته"3.
وقد ذكر محمد حسن الأعظمي في كتابه "الحقائق الخفية عن الشيعة
1ـ انظر المصدر السابق 1/192. وانظر كتاب فضائح الباطنية للغزالي ص/11-15.
2ـ الإرشاد للمفيد ص/554.
3ـ الحركات الباطنية في الإسلام لمصطفى غالب ص/77.
الفاطمية والاثنى عشرية" أن الإسماعيلية فرقتان، هما:
1-
المستعلية 2- والنزارية
ثم عرف كل فرقة منهما، فقال:
والمستعلية: هي التي يطلق عليها اسم البوهرة وهو لفظ "كوجراتي" معناه بالعربية التجار وهم منتشرون في الهند والباكستان واليمن وحضرموت وعدن وغيرها.
والنزراية: تشتهر باسم "الأغاخانية" ويعتقدون أن زعيمهم الديني من نسل نزار بن المستنصر الفاطمي، ويطلق عليه الإمام الحاضر وهو الآن الامير كريم "أغاخان"، الذي دفن جده محمد شاه أغاخان في مدينة أسوان بمصر.
وأما البوهرة: فيعتقدون أن إمامهم الحادي والعشرين "الطيب" ابن الآمر المستعلي بن المستنصر الفاطمي قد استتر وبدأ هو سلسلة الدعاة المطلقين وقد ظهر منهم ثلاثة وعشرون في اليمن، ثم ثلاث وعشرون في الهند، ويقال: إن السادس والأربعين محمد بدر الدين الداعي المطلق عبد علي سيف الدين قتل بالسم على يد منافسه عبد القادر نجم الدين"1.
والإسماعيلية على اختلاف فرقها ونحلها تدين بعقائد فاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والإمامة ولهم فيها تخليط وتخبيط مصدرهم في هذه العقائد الفاسدة الفلسفات اليونانية، وكل عقائدهم الباطلة يقصدون منها إبطال الإسلام وهدم أركانه.
وقد نبه الشهرستاني من قبل إلى تأثر الباطنية بالفلسفة اليونانية حيث قال: "إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج"2.
1ـ الحقائق الخفية عن الشيعة الفاطمية والاثنى عشرية، ص/17.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/193.
كما قرر الغزالي أيضاً: "أن آراء الباطنية في الإلهيات مسترقة من الثنوية والمجوس في القول بإلهين ومن كلام الفلاسفة في المبدأ الأول وأن مذاهبهم في النبوات مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير وأن مذهبهم في المعاد موافق لآراء الثنوية والفلاسفة في الباطن وللروافض والشيعة في الظاهر"1.
وتمسك الإسماعيلية بمبادئ الفلاسفة أدى بهم إلى تجريد الباري ـ جل وعلا ـ من كل صفة كمال اتصف بها حيث يقولون: "إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك تشبيه فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق بل هو إله المتقابلين، وخالق المتخاصمين والحاكم بين المتضادين، ونقلوا في هذا نصاً عن محمد بن علي الباقر أنه قال: "لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر، فهو عالم.
والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة
…
قالوا: ولذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته"2.
ومن أجل هذا وصف الإسماعيلية بأنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن جميع الصفات ومقصودهم من هذا هو إنكار وجود الخالق.
قال الغزالي: إن الإسماعيلية يتطلعون في الجملة لنفي الصانع، فإنهم لو قالوا: إنه معدوم لم يقبل منهم، بل منعوا الناس من تسميته موجوداً وهو عين النفي مع تغيير العبارة لكنهم تحذقوا فسموا هذا النفي تنزيهاً وسموا مناقضه تشبيهاً
1ـ فضائح الباطنية ص/40-42، 46.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/193. وانظر فضائح الباطنية للغزالي ص/39.
حتى تميل القلوب إلى قبوله"1.
ومعتقدهم في الإمامة كمعتقد الاثنى عشرية فهم يقولون بإمامة آل البيت وأن سلسلة الأئمة عندهم بعد جعفر الصادق هم إسماعيل وسلالته من بعده وذهبوا إلى القول بعصمة هؤلاء الأئمة، وأن الإمامة لا تثبت إلا بالنص كما ذهب الاثنى عشرية إلى ذلك في أئمتهم، ولا يختلفون عنهم في تعظيم أمر الإمامة وتقديس منزلتها، فهي عندهم العمود الأساسي الذي تدور عليه كل عقائد الإسماعيلية.
وفي هذا يقول مصطفى غالب: "ولا تزال الإمامة المحور الذي تدور عليه كل العقائد الإسماعيلية لأن الإمامة ركن أساس جميع أركان الدين، فدعائم الدين هي الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والولاية هي أفضل هذه الدعائم"2.
وقال أيضاً: في بيان معتقدهم في النص على الإمام وأنه لا اختيار للبشر في نصبه: "ومن أصول ومرتكزات العقيدة الإسماعيلية ضرورة وجود الإمام المنصوص عليه من نسل علي بن أبي طالب والنص من الإمام يجب أن يكون من الإمام الذي سبقه بحيث تتسلسل الإمامة في الأعقاب"3.
والإسماعيلية لم يصدقوا بموت إسماعيل في حياة أبيه جعفر، بل يزعمون أن الإخبار بموته في ذلك الوقت الغرض منه التمويه والتعمية على ولاة الأمر من العباسيين.
قال مصطفى غالب: "إن قصة وفاة إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه إنما كانت قصة أراد بها الإمام جعفر الصادق "ع" التمويه والتعمية على الخليفة العباسي
…
ثم شوهد إسماعيل "ع" بعد ذلك في البصرة وفي غيرها من البلاد
1ـ فضائح الباطنية ص/39.
2ـ تاريخ الدعوة الإسماعيلية/49-50، الإمامة وقائم القيامة ص/145.
3ـ تاريخ الدعوة الإسماعيلية ص/50.
فارس وعلى ذلك فالإمامة لم تسقط عن إسماعيل بالموت قبل وفاة أبيه لأنه مات بعد أبيه"1.
ومنهم من قال: "إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى على هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال حياة أخيه، وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع قهقرى والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة"2.
ولم يختلفوا في تعظيمهم لأئمتهم على تعظيم الاثنى عشرية لأئمتهم من حيث الإطراء والغلو المذموم فهم شركاؤهم في هذا المقام، حيث يعتقدون أنه "لا يعترض على شيء مما صدر عن الإمام من أوامر ونواه وأقوال وأفعال إذ أنه يتمتع بالعصمة التي منحه إياها الله فامتاز بها عن بقية المخلوقات"3.
وادعاء الشيعة الإمامية والإسماعيلة وجوب العصمة للأئمة ما هو إلا نوع أن هذيانهم وكذبهم وافترائهم "لم يرد به دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس الصحيح ولا من العقل السليم، قاتلهم الله أنى يؤفكون"4.
إذ أنه لا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فبطلان دعوى وجوب العصمة ظاهر. ونقتصر على ذكر هذه الفرق التسع من فرق الشيعة الغالية إذ ليس المراد استقصاء الغلاة، وإنما ذكرنا هذه الفرق مع الإشارة إلى غلوهم الفاسد في الأئمة ليتضح للقاريء ضلالهم ونبذهم للإسلام وراء ظهورهم وليتبين أن غلاة الشيعة اتخذوا من حب آل البيت والتشيع لهم ذريعة لبث آرائهم
1ـ الحركات الباطنية ص/77.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/191.
3ـ إثبات الإمامة للنسابوري ص/51 وانظر فضائل الباطنية للغزالي ص/142 وما بعدها.
4ـ الرد على الرافضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص/28 وانظر ص/34.
الباطلة وهدم الإسلام ونقضه عروة عروة، ومن جهة أخرى جعلوا من التشيع مدخلاً لإحياء عقائد الديانات الوثنية، كالقول بالتناسخ وانتقال أرواح الأئمة من إمام إلى إمام، والزعم بحلول الله تعالى في أرواح البشر وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن في وسع أهل البيت إلا أن تبرأوا من هؤلاء الغلاة ولعنوهم على الملأ وفضحوا أكاذيبهم كما فعل جعفر الصادق مع الخطابية، وقد ذكر الشهرستاني أن جعفر الصادق "قد تبرأ عما كان ينسبه إليه بعض الغلاة وبريء منهم ولعنهم وبريء من خصائص مذاهب الرافضة، وحماقاتهم من القول بالغيبة والرجعة والبداء والتناسخ والحلول والتشبيه، لكن الشيعة بعده افترقوا وانتحل كل واحد منهم مذهباً وأراد أن يروجه على أصحابه فنسبه إليه وربطه به، وجعفر بريء من ذلك ومن الاعتزال والقدر أيضاً"1، كما أشار إلى الغلاة على مختلف أصنافهم كلهم متفقون على القول بالتناسخ والحلول ثم ذكر أن التناسخ "كان مقالة لفرقة في كل ملة تلقوها من المجوس المزدكية والهند البرهمية ومن الفلاسفة الصابئة"2.
2-
الكيسانية:
ذكر العلماء الذين ألفوا في الفرق ومقالاتهم أن فرقة الكيسانية تنسب إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي3 وسميت من اجل ذلك بالمختارية، وسميت أيضاً: بالكيسانية لأن المختار كان يقال له: كيسان، أو أن كيسان الذي تنسب إليه كان مولى لعلي بن أبي طالب، أو كان تلميذاً لمحمد بن الحنفية وأن المختار تلقى
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/166.
2ـ المصدر السابق 1/175.
3ـ هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو الثقفي الذي يخرج يطلب بثأر الحسين بن علي وهو الذي جهز الجيش لحرب عبيد الله بن زياد بقيادة إبراهيم بن الأشتر النخعي، وقتل المختار سنة 67هـ في موقعة عظيمة دارت بينه وبين مصعب ابن الزبير. انظر العبر 1/74، ميزان الاعتدال 4/80، لسان الميزان 6/7-8، سير أعلام النبلاء 3/538-544.
مقالته من كيسان هذا ومن هنا أطلق على هذه الفرقة اسم الكيسانية.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وإنما سموا "كيسانية" لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى "محمد بن الحنفية" كان يقال له "كيسان"، ويقال: إنه مولى لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه"1.
وقال عبد القاهر البغدادي في ذكره للكيسانية: "هؤلاء أتباع المختار ابن أبي عبيد الثقفي، الذي قام بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وقتل أكثر الذين قتلوا حسيناً بكربلاء، وكان المختار يقال له كيسان، وقيل: إنه أخذ مقالته عن مولى لعلي رضي الله عنه، كان اسمه كيسان"2.
وقال أبو المظفر الإسفراييني: "وأما الكيسانية فهم أتباع مختار بن أبي عبيد الثقفي الذي كان قام يطلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وكان يقتل من يظفر به ممن كان قاتله بكربلاء"3.
وأما الشهرستاني: فقد نسب هذه الفرقة إلى كيسان مولى أمير المؤمنين وذكر أنها فرق ومن ضمنها المختارية، فقد قال:"الكيسانية: أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقيل: تلميذ للسيد محمد بن الحنفية، يعقتدون فيه اعتقاداً فوق حده ودرجته من إحاطته بالعلوم كلها واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها، من علم التأويل والباطن، وعلم الآفاق والأنفس"4.
كما أنه قرر أن "المختار بن أبي عبيد الثقفي كان خارجياً ثم صار زبيرياً ثم
1ـ مقالات الإسلاميين 1/91.
2ـ الفرق بين الفرق ص/38.
3ـ التبصير في الدين ص/30.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147، وانظر في شأن فرقة الكيسانية مروج الذهب للمسعودي 3/70-89.
صار شيعياً وكيسانياً، قال: بإمامة محمد بن الحنفية بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما، وقيل: لا بل بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يدعو الناس إليه وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته ويذكر علوماً مزخرفة بترهات ينوطها به"1.
وتقرير الشهرستاني هذا يؤدي إلى اضطراب وغموض حول حركة المختار ابن أبي عبيد وحقيقة الكيسانية ولكن الظاهر أن الحركة التي قام بها المختار كانت حركة شيعية غرضها أخذ الثأر من قتلة الحسين بن علي من جهة وتحقيق أطماع وتطلعات قائدها المختار من جهة أخرى، أما الكيسانية فهي حركة غالية منحرفة اتخذت من التشيع لآل البيت ستاراً نفذت بواسطته بتعاليمها الفاسدة وآرائها المنحرفة، وقد تولد عن الكيسانية الكثير من الحركات الباطنية، وأما المختار فقد نشأ في بيت مسلم بعيد عن هذه الانحرافات، فوالده أبو عبيد بن مسعود، كان ممن أسلموا مع قبيلة ثقيف، ثم انتقل من الطائف موطنه وحيث ولد المختار إلى المدينة وصار أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الفاروق رضي الله عنه تولى قيادة المسلمين في فتوحات العراق، واستشهد هو وابنه جبر في موقعة الجسر الشهيرة على نهر الفرات"2، وقد ولد المختار في السنة الأولى من الهجرة وانتقل مع والده إلى بلاد العراق لقتال الفرس وبعد استشهاد والده دخل تحت كفالة عمه سعيد بن مسعود، الذي كان والياً لعلي رضي الله عنه على الكوفة وقد وصف المختار بن أبي عبيد بأنه كان على درجة عالية من الذكاء والدهاء والفطنة3، وقد استغل هذا الذكاء وهذه الفطنة في محاولة للوصول إلى الحصول على مكانة عند الناس فاتخذ من حب آل البيت والولاء لهم وسيلة ينفذ منها إلى ما يهدف إليه من الولاية وحب الرياسة، واستطاع أن يجمع حوله كثيراً من
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147-148.
2ـ انظر تاريخ الطبري 3/454 وما بعدها، لسان الميزان لابن حجر 6/7.
3ـ انظر كتاب المختار الثقفي مراءة العصر الأموي، علي حسن الخربوطلي ص/40.
الأتباع والأنصار ممن ينتمون للشيعة، وتمكن من الاستيلاء على الكوفة وعقدت له البيعة فيها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطلب بدماء أهل البيت وأول ما بدأ به بعد البيعة أن تتبع قتلة الحسين بن علي وهدم دورهم وأخذ الثأر منهم وقد أكسبه هذا الفعل مكانة عند الشيعة وحببه إليهم، وقد ذكر الشهرستاني أن المختار انتظم له ما انتظم بأمرين:
أحدهما: انتسابه إلى محمد بن الحنفية علماً ودعوة.
الثاني: قيامه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما واشتغاله ليلاً ونهاراً بقتال الظلمة الذين اجتمعوا على قتل الحسين1.
وهذه تعتبر مرحلة أولى للمختار بن أبي عبيد الثقفي، فقد أظهر نفسه أنه شيعي، ينتقم لقتلى آل البيت، ويدعو إلى إمامة محمد بن الحنفية وقد ذكر الشهرستاني أنه انتقل من هذه المرحلة وصار كيسانياً ونسب إليه القول بالبداء، حيث زعم أن الله سبحانه وتعالى يغير ما يشاء تبعاً لتغير علمه وأنه يأمر بالشيء ثم يبدو له فيأمر بغيره، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً.
قال الشهرستاني: وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام "محمد بن الحنفية"، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلاً على دعواه، وإن لم يوفقه قال:"قد بدا لربكم"2. وكان يستدل على ذلك بقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 3.
وقد ذكر البغدادي أن هذا التغير في آراء المختار حدث له بعد أن تم له
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/148.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/149.
3ـ سورة الرعد آية/39.
الاستيلاء على الكوفة والجزيرة والعراقين إلى حدود أرمينية تكهن بعد ذلك وسجع بأسجاع الكهنة، وكان يدعي نزول الوحي عليه1 والذي يظهر أن المختار في آخر أمره تأثر ببعض غلاة الشيعة.
قال البغدادي: "إن الذي زين له ذلك جماعات من الشيعة الغلاة وقالوا له: أنت حجة هذا الزمان، وحملوه على دعوى النبوة فادعاها ولكن لم يصرح بهذا إلا لخاصته"2، وبدعواه نزول الوحي عليه حكم عليه بأنه ضال مضل.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب لا ينبغي أن يروى عنه شيئاً، لأنه ضال مضل، كان زعم أن جبرائيل عليه السلام ينزل عليه وهو شر من الحجاج أو مثله"أ. هـ3.
ومما تجدر الإشارة إليه أن العلماء أجمعوا على أن المراد بالكذاب في الحديث الذي رواه مسلم4 من حديث ابن عمر: أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، أنه المختار ابن أبي عبيد.
فقد قال النووي رحمه الله تعالى مبيناً قول أسماء بنت أبي بكر للحجاج: "أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً5 فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه"، قال:"وقولها في الكذاب فرأيناه تعني به المختار بن أبي عبيد، كان شديد الكذب ومن أقبحه، ادعى ان جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه، واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف والله أعلم"6.
1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/46.
2ـ الفرق بين الفرق ص/47.
3ـ ميزان الاعتدال 4/80.
4ـ صحيح مسلم 4/1971-1972.
5ـ المبير: المهلك. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/100، وانظر تحفة الأحوذي 6/467.
6ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/100.
وقد هلك المختار بن أبي عبيد عام "67هـ" على يد مصعب بن الزبير1 ولم تنته آراؤه الفاسدة بهلاكه، بل قام أتباعه من الكيسانية بنشرها فيما بعد فقد اجتمع رأيهم على القول بإمامة محمد بن الحنفية واختلفوا في رجعته على قولين:
فبعضهم: زعم أنه مات وسيرجع.
ومنهم من ذهب إلى أنه لم يمت بل هو حي بجبل رضوى، وعنده عينان تجريان بماء وعسل وعن يمينه أسد وعن يساره نمر يحفظانه من أعدائه إلى وقت خروجه وهو المهدي المنتظر الذي سيعود فيملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً، وإلى هذا يشير شاعرهم كثير عزة فيقول:
ألا إن الأئمة من قريش
…
علي والثلاثة من بنيه
فسبط سبط إيمان وبر
…
وسبط لا يذوق الموت حتى
تغيب لا يرى فيهم زماناً
…
ولاة الحق أربعة سواء
هم الأسباط2 ليس بهم خفاء
…
وسبط غيبته كربلاء
يقود الخيل يقدمها اللواء
…
برضوى عند عسل وماء3
[وقد مات ابن الحنفية بالمدينة سنة إحدى وثمانين هجرية، فقد روى ابن سعد بإسناده إلى زيد بن السائب، قال: سألت أبا هاشم عبد الله بن محمد الحنفية: أين دفن أبوك؟، فقال: بالبقيع، قلت: أي سنة؟ قال: سنة إحدى وثمانين في أولها وهو يومئذ ابن خمس وستين سنة لا يستكملها4.
1ـ انظر تاريخ الطبري 6/93 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/267، وما بعدها، البداية والنهاية 8/308 وما بعدها.
2ـ الأسباط: جمع سبط، قيل هم الأولاد خاصة، وقيل: أولاد الأولاد، وقيل: أولاد البنات، النهاية 2/334.
3ـ الفرق بين الفرق للبغدادي ص/41، الملل والنحل للشهرستاني 1/150.
4ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 5/16.
ففي هذا بيان لفساد من يعتقد من الكيسانية رجوع محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى، فقد مات بالمدينة، ودفن بالبقيع، والذي أم المصلين في صلاة الجنازة عليه أبان بن عثمان، لأنه كان الوالي يومئذ على المدينة لعبد الملك بن مروان1.
واختلفت الكيسانية أيضاً: فيمن يتولى الأمر بعد ابن الحنفية، حتى صار كل اختلاف مذهباً، وافترقوا عدة فرق2 ويجمعها شيئان:
أحدهما: قولهم بإمامة محمد بن الحنفية، وإليه كان يدعو المختار بن أبي عبيد.
والثاني: قولهم بجواز البداء على الله عز وجل ولهذه البدعة قال بتكفيرهم كل من لا يجيز البداء على الله3.
والكيسانية كانت مصدراً لكثير أن الآراء الفاسدة التي كان الهدف منها إبطال الشريعة الإسلامية والدعوة إلى الكفر والزندقة.
قال الشهرستاني: "وأجمع الكيسانية على القول بأن الدين طاعة رجل، وحملهم هذا على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك على رجال، فحمل بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة، وحمل بعضهم على القول بالتناسخ والحلول والرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد معتقد أنه لا يموت، ولا يجوز أن يموت حتى يرجع ومن معتقد حقيقة الإمامة إلى غيره، ثم متحسر عليه متحير فيه، ومن مدع حكم الإمامة وليس من الشجرة، وكلهم حيارى متقطعون، ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له، فلا دين له
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 5/16.
2ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/151.
3ـ الفرق بين الفرق ص/38-39.
نعوذ بالله من الحيرة والحور بعد الكور، رب اهدنا سواء السبيل1.
3-
الزيدية:
هم المنتسبون إلى زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خرج زيد في خلافة هشام بن عبد الملك لأمور أنكرها، فقتل بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة وكان مولده بالمدينة سنة ثمانين2، وكان رحمه الله تعالى تقياً زاهداً فاضلاً وأحد العلماء الصلحاء، تلقى العلم في المدينة والبصرة والعراق، وبلغ درجة عالية في العلم والفقه3.
قال أبو الحسن الأشعري: "وإنما سموا "زيدية" لتمسكهم بقول زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"4.
وقال الشهرستاني: "الزيدية أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما"5.
فالزيدية إحدى فرق الشيعة وهي تنتسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد افترقت الزيدية فرقاً عدة لكل فرقة منها منهج ووجهة، وأصول هذه الفرق ثلاث، وهي: الجارودية، والسليمانية، والصالحية، وإليك نبذة عن كل واحدة من هذا الفرق الثلاث ليتضح معتقدها
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147.
2ـ انظر تهذيب التهذيب 3/419، تقريب التهذيب 1/276.
3ـ انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 5/325-326، سير أعلام النبلاء 5/389-391، وفيات الأعيان 5/122.
4ـ مقالات الإسلاميين 1/136.
5ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/154-155.
في خيار هذه الأمة الذين هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أولاً: الجارودية:
هم: "أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي المتوفى ما بين خمسين وستين بعد المائة"1 والذين اتبعوه في أفكاره وآرائه سموا جارودية لأنهم أخذوا بأقواله، وهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على "علي بن أبي طالب" بالوصف لا بالتسمية، فكان هو الإمام من بعده، وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم "الحسن" من بعد علي هو الإمام، ثم "الحسين" هو الإمام من بعد الحسن، وافترقت الجارودية فرقتين ـ في النص على الإمام الذي يكون بعد علي ـ فرقة: زعمت أن علياً نص على إمامة "الحسن" وأن الحسن نص على "الحسين" ثم هي شورى في ولد الحسن وولد الحسين فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالماً فاضلاً فهو الإمام.
وفرقة: زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على "الحسن" بعد علي وعلى "الحسين" بعد الحسن، ليقوم واحد بعد واحد.
وافترقت الجارودية أيضاً في رجعته أئمتهم ثلاث فرق:
فزعمت فرقة أن "محمد بن عبد الله بن الحسن"2 لم يمت وأنه يخرج ويغلب.
وفرقة خرى: زعمت أن "محمد بن القاسم"3 صاحب الطالقان لم
1ـ انظر تهذيب التهذيب 3/387.
2ـ هو: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية، قال عنه أبو الحسن الأشعري: "خرج بالمدينة وبويع له في الآفاق بعث إليه أبو جعفر المنصور بعيسى بن موسى وحميد بن قحطبة فحارب محمد حتى قتل. المقالات 1/154، وكان قتله سنة خمس وأربعين ومائة. راجع تهذيب التهذيب 9/252.
3ـ هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، انظر ما جاء في شأن محمد هذا تاريخ الطبري 9/7-8، الكامل لابن الأثير 6/442-443.
??
يمت وأنه يخرج ويغلب.
وفرقة قالت مثل ذلك في "يحيى بن عمر" صاحب الكوفة1.
ثانياً: السليمانية أو الجريرية:
هم: أتباع سليمان بن جرير الزيدي، وهذه الفرقة تعتقد:"أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر ـ وذكر ـ عن سليمان بن جرير أنه كان يزعم أن بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقان عليها اسم الفسق من قبل التأويل وأن الأمة قد تركت الأصلح في بيعتهم إياهما"2.
وقد تجرأ سليمان بن جرير على الخليفة الثالث: عثمان رضي الله عنه حيث زعم "أنه كفر بسبب ما نقم عليه من الأحداث"3، كما تجرأ أيضاً: على القول بكفر "عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي الله عنه"4.
ثالثاً: الصالحية أو البترية:
هم أتباع الحسن بن صالح بن حي5 وكثير...........
1ـ مقالات الإسلاميين 1/141-142.
2ـ المصدر السابق 1/143.
3ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/143، الفرق بين الفرق ص/33، الملل والنحل للشهرستاني 1/160.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/160.
5ـ قال الحافظ: "الحسن بن صالح بن حي وهو حيان بن شفي الهمداني ثقة، فقيه، عابد، رمي بالتشيع من السابعة، مات سنة تسعة وتسعين وكان مولده سنة مائة. التقريب 1/167، وقال عبد القاهر البغدادي: وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في مسنده الصحيح، ولم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري حديثه في الصحيح، ولكنه قال: في كتاب التاريخ الكبير. الحسن بن صالح بن حي الكوفي سمع سماك بن حرب، ومات سنة سبع وستين ومائة وهو من ثور
النواء1، وإنما سموا "بترية" لأن "كثيراً" كان يلقب بالأبتر يزعمون أن علياً أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن علياً ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وفي قتلته ولا يقدمون عليه بإكفار"2.
قال الرازي: "والصالحية أصحاب الحسن بن علي بن حي الفقيه كان يثبت إمامة أبي بكر وعمر ويفضل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة إلا أنه توقف في عثمان وقال: إذا سمعنا ما ورد في حقه من الفضائل اعتقدنا إيمانه، وإذا رأينا أحداثه التي نقمت عليه وجب الحكم بفسقه، فتحيرنا في أمره وفوضنا إلى الله تعالى"أهـ3.
وقد اعتبر الشهرستاني: الصالحية أو البترية فرقتين مستقلتين حيث قال: "الصالحية أصحاب الحسن بن صالح بن حي، والبترية: أصحاب كثير النواء الأبتر وهما متفقتان في المذهب وقولهم في الإمامة كقول السليمانية إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان، أهو مؤمن أم كافر؟، قالوا: إذا سمعنا الأخبار الواردة في حقه وكونه من العشرة المبشرين الجنة، قلنا: يجب أن نحكم بصحة إسلامه وإيمانه وكونه من أهل الجنة، وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها من استهتاره بتربية بني أمية وبني مروان واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة قلنا يجب أن نحكم بكفره فتحيرنا في أمره، وتوقفنا في حاله ووكلناه إلى أحكم الحاكمين"4.
= همدان وكنيته أبو عبد الله. الفرق بين الفرق ص/34، وقال أبو المظفر الإسفراييني: وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في المسند الصحيح لما أنه لم يعرف منه هذه الخصال فأجراه على ظاهره" أهـ. التبصير في الدين ص/29.
1ـ هو كثير بن إسماعيل، أو ابن نافع النواء بالتشديد أبو إسماعيل التميمي الكوفي ضعيف، من السادسة تقريب التهذيب 2/131.
2ـ مقالات الإسلاميين 1/144.
3ـ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، ص/361.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/161.
فالصالحية أو البترية قولهم كقول سليمان بن جرير غير أنهم توقفوا في عثمان ولم يقدموا على ذمه ولا على مدحه، وهؤلاء ـ كما يقول البغدادي ـ "أحسن حالاً عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير"1.
وأبخس معتقد لفرقة الزيدية في الصحابة هو ما تعتقده الجارودية من كفر الشيخين2، وكذا ما تعتقده السليمانية من كفر عثمان بسبب ما نقم عليه من الأحداث على حسب زعمهم3 واعتقادهم كفر "عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بحجة إقدامهم على قتال علي رضي الله عنه"4.
وهذا المعتقد لفرقتي الجارودية والسليمانية في أولئك الأخيار باطل من وجهين:
الوجه الأول: أنه معاندة منهم للرب ـ جل وعلا ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث شهد الله لجميع الصحابة في غير ما آية من كتابه العزيز بحقيقة الإيمان ورسوخه في قلوبهم، كما أخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه وأنه وعدهم جميعاً بالحسنى، وأولئك النفر الذين تكفرهم الجارودية والسليمانية من الزيدية في مقدمة من شرفهم الله بالثناء عليهم بتحقيق الإيمان، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يعتقد كفرهم أو يطعن فيهم بعد ذلك إلا معارض لله ولرسوله ومكذب لما أخبر الله ورسوله بما لهم من المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة.
الوجه الثاني: لو تدبرت الجارودية والسليمانية ما اعتمدنا عليه في تكفير من تقدم ذكره من الصحابة لاستحيوا من ذكر ذلك، فالأحداث التي يزعمون أن عثمان كفر بها معظمها أكاذيب افتراها الخارجون عليه، وما صح منها كان
1ـ الفرق بين الفرق ص/33-34.
2ـ الفرق بين الفرق ص/34.
3ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/143.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/160.
مجتهداً فيها، وقد بينت فساد ما نقموا به على عثمان في مبحث مستقل من هذه الرسالة1 بما يشفي قلب كل من سلم من داء الرفض، وأما تكفيرهم عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بحجة أنهم خرجوا لمقاتلة علي، فهي حجة أوهى من بيت العنكبوت، وكذب عليهم، إذ أنهم لم يخرجوا لقتاله رضي الله عنه، ولا أعلنوا عدم طاعته ولا بايعوا بالخلافة غيره، وإنما خرجوا إلى البصرة لقصد الإصلاح وطلب إقامة الحد على قتلة عثمان "ولم يقصد علي رضي الله عنه قتالهم، بل أجابهم إلى ما طلبوا من إقامة الحد على أولئك الأشرار قتلة عثمان، ولما علم أولئك الفسقة أن الدائرة راجعة عليهم سعوا جادين في إنشاب القتال بين الفريقين فحمل كل فريق منهم دفعاً عن نفسه دون قصد منهم للقتال"2، وكذا اقتتالهم في صفين كان عن اجتهاد وتأويل، إذ أن معاوية:"لم يدع الخلافة ولم يبايع له فيها حين قاتل علياً ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك، وكان هو يقر بذلك لمن يسأله، وما كان يرى هو وأصحابه أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، بل لما رأى علي رضي الله تعالى عنه وأصحابه أنه يجب على معاوية وأصحابه طاعته ومبايعته إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة، وقال معاوية وأصحابه: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي وهم غالبون لهم شوكة"3.
فالفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم يجب أن يكون حظ العاقل منها حسن الظن بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والسكوت عن الكلام فيهم إلا بخير والترضي عنهم جميعاً وموالاتهم ومحبتهم والجزم أنهم دائرون في اجتهاداتهم
1ـ انظر ص/1050-1092 هذه الرسالة.
2ـ انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/85.
3ـ سؤال في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/32-33.
بين الأجر والأجرين، ولو سلك الجارودية والسليمانية من الزيدية هذا المسلك لما وقعوا في الاعتقاد الباطل فيمن تقدم ذكره من الصحابة ولما تنكبوا طريقة زيد بن علي في خيار الأمة، ومن شؤم معتقدهم السيء في أولئك الصفوة كان فتنة لهم حيث كفر بعضهم بعضاً، فقد قال عبد القاهر البغدادي:"هؤلاء البترية، والسليمانية من الزيدية كلهم يكفرون الجارودية من الزيدية، لإقرار الجارودية على تكفير أبي بكر وعمر، والجارودية يكفرون السليمانية والبترية لتركهما تكفير أبي بكر وعمر"1.
فهذه الفرق الثلاث المتقدم ذكرها تعتبر أهم فرق الشيعة الزيدية، وقد ذكر العلماء أن الزيدية افترقت إلى أكثر من ثلاث فرق.
فقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري أن الزيدية ست فرق2.
وذكر المسعودي في كتابه "مروج الذهب" أن جماعة من مصنفي كتب المقالات والآراء والديانات من آراء الشيعة وغيرهم كأبي عيسى محمد بن هارون الوراق وغيره أن الزيدية كانت في عصرهم ثمان فرق"3 وعدها بأسمائها.
ولا تأثير لاختلاف العلماء في العدد، فمن اقتصر على الأصول منها ذكر أصولها الثلاث، ومن ذكر الأصول منها والفروع ذكر أنها أكثر من ثلاث فرق، والزيدية على اختلاف فرقهم ونحلهم يجتمعون على القول بأن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو علي رضي الله عنه.
قال الرازي: "فالذي يجمعهم أن الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنص الخفي ثم الحسين، ثم كل فاطمي مستحق لشرائط الإمامة ودعا الخلق إلى نفسه شاهراً لسيفه على الظلمة"أهـ4.
1ـ الفرق بين الفرق ص/34.
2ـ مقالات الإسلاميين 1/140.
3ـ مروج الذهب 3/192، وانظر الغنية لطالبي معفرة طريق الحق للجيلاني 1/89.
4ـ المحصل ص/360.
وهذا الاعتقاد لم تكن تعرفه الزيدية الذين كانوا مع زيد بن علي حين خروجه وإنما كانوا يتولون الشيخين أبا بكر وعمر وكانوا يتبرءون ممن يبرأ منهما ولكن هذا الاعتقاد وما أصيبت به فرقة الزيدية التي حدثت بعد زيد بن علي رضي الله عنه من بغض للصحابة، ومن التحامل عليهم والقدح فيهم كل ذلك اكتسبوه وجاء إليهم من طريق الرافضة الذين رفضوا زيد بن علي حين خرج على هشام بن عبد الملك وخذلوه لما علموا وسمعوا أنه يتولى صديق الأمة وعمر الفاروق رضي الله عنهما، هنا أعلنوا مخالفته وخذلانه، وهو الذي أطلق عليهم اسم "الرافضة" ذلك أن زيداً رحمه الله لما رأى الخروج على هشام بن عبد الملك سنة اثنتين وعشرين ومائة بايعه على الإمامة "خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم علي والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك على العراقين، فلما استمر القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفي قالوا له: إنا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب، فقال زيد: إني لا أقول فيهما إلا خيراً، وإنما خرجت على بني أمية الذين قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة، ثم رموا بيت الله بحجر المنجنيق والنار1، ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم: رفضتموني ومن يؤمئذ سموا الرافضة"2.
وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى عيسى بن يونس3 أنه سئل عن الزيدية والرافضة، فقال: أما الرافضة فأول ما ترفضت جاءت إلى زيد بن
1ـ كان ذلك في أيام عبد الله بن مروان، إذ أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي لحرب عبد الله بن الزبير في مكة فقذف الكعبة بالمنجنيق وقتل ابن الزبير وصلبه. انظر تاريخ الأمم والملوك 6/187، الكامل 4/350-351، البداية والنهاية 8/353.
2ـ الفرق بين الفرق ص/35-36.
3ـ هو: عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أخو إسرائيل، كوفي نزل الشام، مرابط، ثقة، مأمون، من الثالثة، مات سنة سبع وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين. التقريب 2/103، تهذيب التهذيب 8/237.
علي حيث خرج، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك، فقال: بل أتولاهما وأبرأ ممن يبرأ منهما، قالوا: فإذن نرفضك فسميت الرافضة، وأما الزيدية فقالوا: نتولاهما ونبرأ ممن يتبرأ منهما، فخرجوا معه فسموا الزيدية1.
فالشيعة الزيدية الذين ينتسبون إلى زيد بن علي معتقدهم في الصحابة مشتمل على صواب وخطأ، والصواب فيه أنهم يتولون الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقولون: بتعديلهما، والخطأ فيه أنهم يقولون: إن علياً رضي الله عنه أفضل الصحابة، ويقولون بتقديمه على الشيخين مع أن علياً رضي الله عنه صرح للأمة جمعاء أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق2، بل وتوعد رضي الله عنه من جيء به إليه وهو يقول بتفضيله عليهما أن يحده حد المفتري3، ولم يخالفه أحد ممن كان معه على هذا المعتقد، فقد كان المتقدمون من الشيعة الذين كانوا معه يقدمون عليه أبا بكر وعمر ويعتقدون ذلك كما كان يعتقده هو رضي الله عنه"4.
وقال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر أن الزيدية هم الذين تابعوا زيد بن علي، قال:"وفي مذهبهم حق وهو تعدليهم الشيخين، وباطل وهو: اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدماً عليهما بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة"5.
قلت: ليت الزيدية اقتصروا على ما ذكره الحافظ ابن كثير، وإنما تجاوزوا ذلك حيث ابتلوا بالتحامل على طائفة من فضلاء الصحابة كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي موسى الأشعري،
1ـ تهذيب تاريخ دمشق 16/21-22، فوات الوفيات 2/36.
2ـ انظر صحيح البخاري 2/291.
3ـ انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/101.
4ـ انظر منهاج السنة 1/171، وانظر مجموع الفتاوى 13/34.
5ـ البداية والنهاية 9/371.
وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وذلك لأنهم تنكبوا طريقة زيد بن علي في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رحمه الله أحد أئمة أهل السنة والجماعة، وكان يتولى جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبرأ ممن لم يتولهم ولم يعرف لهم قدرهم ويحفظ لهم مكانتهم، وبسبب ذلك رفضته جماعة ممن كانوا معه في زمنه لما علموا أن عقيدته في الصحابة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، نقضوا ما عاهدوه عليه فلم ينصروه بل تركوه وشهدوا عليه وعلى من اتبعه على رأيه من الزيدية بالكفر والفسق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بيانه أن زيداً رحمه الله كان من أهل السنة والجماعة "فليست ذرية فاطمة كلهم محرمين على النار، بل منهم البر والفاجر والرافضة تشهد على كثير منهم بالكفر والفسق، وهم أهل السنة منهم الموالون لأبي بكر وعمر كزيد بن علي بن الحسين بن علي وأمثاله من ذرية فاطمة رضي الله عنها، فإن الرافضة رفضوا زيد بن علي ومن والاه وشهدوا عليه بالكفر والفسق"1.
فالرفض لم يظهر إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى، لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة "فسموا" رافضة واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم واتبعه آخرون فسموا زيدية نسبة إليه2.
وإلى ذكر طائفة من أقوال الإمام زيد بن علي في الخلفاء الراشدين لنبين أنه أحد أهل السنة والجماعة، وليعلم من فرط في حق الصحابة ممن انتسب إليه أنه مجانب لطريقته وأن عليه أن يراجع ما كان عليه زيد رحمه الله ليتدارك ما وقع فيه من الزلل.
فأقول: قد أخطأ من نسب إلى زيد رحمه الله أنه كان يرى أن علياً
1ـ منهاج السنة 2/126، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/172.
2ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/490.
رضي الله عنه أفضل من الشيخين، وأنه كان يجوز إمامتها على أساس القول بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل1، بل الثابت عنه أنه كان يعتقد أنهما الأفضل وأنهما كانا يستحقان الإمامة بذلك الفضل.
فقد روى الحافظ ابن عساكر عن آدم بن عبد الله الخثعمي وكان من أصحاب زيد، قال: سألت زيداً عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} من هؤلاء؟ قال: أبو بكر وعمر، ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن لم أوالهما.
وذكر عن كثير الكوفي، أنه قال: سألت زيداً عن أبي بكر وعمر فقال: "تولهما"، فقلت له: كيف تقول فيمن تبرأ منهما؟ قال: "ابرأ منه حتى تموت"2.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "وروى هاشم بن البريد عن زيد بن علي قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إمام الشاكرين، ثم تلا {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3 ثم قال: "البراءة من أبي بكر هي البراءة من علي"4.
ومن هذه النصوص عن زيد رحمه الله تعالى يتبين أنه كان يعرف للشيخين قدرهما ومالهما من المنزلة العظيمة، إذ لا شك أن السبق في الإسلام والقرب من الباري جل وعلا ـ وشكره من أعلا مراتب الفضل للشيخين رضي الله عنهما.
وقد صرح زيد رحمه الله أنه متبع لأهل بيته الذين كانوا قبله فيما يعتقدونه نحو الشيخين من إثبات الأفضلية لهما وأحقية إمامتهما.
1ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/155، مقالات الإسلاميين 1/137.
2ـ تهذيب تاريخ دمشق 6/21، فوات الوفيات 2/36.
3ـ سورة آل عمران آية/144.
4ـ سير أعلام النبلاء 5/390.
فقد ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "أنه عندما حصل الطعن في زمنه من الرافضة على أبي بكر وعمر منعهم من ذلك، وقال لهم: "ما سمعت أحداً من أهل بيتي يذكرهما إلا بخير"1.
وقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين2.
ومن هذا يتبين أنه يبعد جداً أن زيداً رحمه الله يقول: إنه متبع لأهل بيته ويخالف جده علياً رضي الله عنه، الذي يعتبر مقدم أهل البيت في هذا القول، بل إن متقدمي الشيعة كانوا لا يختلفون في تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يخالفوا علياً في تصريحه بأفضلية الشيخين.
قال شريك بن عبد الله: "إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، فقيل له: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: كل الشيعة كانوا على هذا، وهذا الذي قاله على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال"3.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان"4.
فإذا كانت الشيعة الأوائل تقول هذا وتعتقده فمن باب أولى أن يقول به زيد إذ هو أحد أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون أفضلية الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الخلافة.
1ـ تاريخ الأمم والملوك 7/180.
2ـ صحيح البخاري 2/291.
3ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/34.
4ـ منهاج السنة 1/171، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/35-36.
وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي إجماع الصحابة والتابعين على أفضلية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على سائر الصحابة حيث قال: "لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتقديمهما على جميع الصحابة"1.
وقد أيد هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله بعد ذكره له: "وما علمت من نقل عنه في ذلك نزاع من أهل الفتيا إلا ما نقل عن الحسن بن صالح بن حي أنه كان يفضل علياً، وقيل: إن هذا كذب عليه، ولو صح هذا عنه لم يقدح فيما نقله الشافعي رضي الله عنه من الإجماع، فالحسن بن صالح بن حي لم يكن من الصحابة ولا التابعين2.
أما زيد بن علي رحمه الله تعالى فهو أحد التابعين، وبذلك يكون رأيه هو رأيهم، وهو أن الشيخين أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن زيد أنه خرق هذا الإجماع أو خالفه، بل لم ينقل عن أحد من أهل البيت رضوان الله عليهم مخالفة الإجماع.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما، أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر، وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة"أهـ3.
وزيد بن علي رحمه الله تعالى واحد من علماء أهل بيت النبوة الذين يعتقدون صحة هذا الإجماع ويقولون به، إذ هو من أبناء الحسين بن علي ومن فضلاء التابعين رحمة الله عليهم أجمعين.
1ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 4/77.
2ـ ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة 4/77.
3ـ المصدر السابق 4/105.
فالذي يتضح مما تقدم ذكره أن الإمام زيد بن علي كان يرى أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ولم يقل إن علياً أفضل الصحابة رضي الله عنهم، وإنما كان مقتفياً ما كان عليه أهل بيته وفي مقدمتهم أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أعلن للأمة المحمدية أن أفضل الناس بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم الصديق، ثم الفاروق، وعلى هذا المعتقد تتابع علماء أهل البيت قاطبة، ولم يشذ أحد منهم عن هذه العقيدة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن موقف زيد بن علي من الخليفة الثالث ذي النورين عثمان لم يختلف عن موقفه من أبي بكر وعمر، وإنما كان موالياً لعثمان مترضياً عليه، رافضاً للبراءة منه، بل كان يقرنه بأبي بكر وعمر وعلي، ولم يكن متوقفاً فيه كما يرى ذلك بعض المتأخرين1.
فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى زيد رحمه الله أنه قال: "البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان"2.
وروى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي، قال: أتيته ـ أي زيد ـ وهو في بارق حي من أحياء الكوفة، فقلت له: أنتم سادتنا، وأنتم ولاة أمورنا فما تقول في أبي بكر وعمر؟، فقال: تولهما، وكان يقول: البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي، والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان، وفي رواية: البراءة من أبي بكر وعمر البراءة من علي، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر"3.
وقال محمود شكري الألوسي في صدد ذكره للقاء زيد بن علي بمن أراد
1ـ ذكر هذا أبو زهرة في كتابه "الإمام زيد" ص/189، ولم يذكر له سلفاً في هذا القول.
2ـ تاريخ بغداد 2/89.
3ـ تهذيب تاريخ دمشق 6/21.
قتالهم "فلما جد الأمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من الخلفاء الثلاثة، فتركوه في أيدي الأعداء ودخلوا به الكوفة واستشهد وعاد رزء الحسين وكنا بواحد فصرنا باثنين"أهـ1.
وبما رواه الخطيب البغدادي وابن عساكر وما قاله الألوسي تبين أن الإمام زيد بن علي لم يختلف موقفه في عثمان عن موقفه من أبي بكر وعمر، فقد كان رحمه الله مثبتاً فضل الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل علي رضي الله عنه وكان موالياً ومنكراً غاية الإنكار على من حاول الإزراء بهم والحط من قدرهم وأنه كان يرتبهم في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة.
وبعد أن حصل التمييز بين رأي زيد رحمه الله وبين رأي المنتسبين إليه من الفرق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتضح لنا أن موقف زيد بن علي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو موقف أهل السنة والجماعة ومعتقدهم، ولم يخرج عنه قيد أنملة، وقد تبرأ رحمه الله من كل من لم يوال الخلفاء الثلاثة وأوصى غيره بأن يتبرأ ممن يتبرأ من الشيخين حتى الموت كما تقدم قريباً في جوابه على سؤال كثير الكوفي في ذلك وبناء على ما ثبت عنه في ذلك فإنه بريء كل البراءة من الجارودية المعتقدين كفر وضلال الناس بناء على حجتهم التي هي أوهى من بيت العنكبوت، وهي دعواهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على علي بالوصف لا بالتسمية وتركوا الاقتداء به، إذ هو الإمام من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الاعتقاد زيد بريء منه وأعلن البراءة من معتقديه قبل وجودهم، كما هو بريء رحمه الله من السليمانية الذين يعتقدون كفر عثمان بسبب ما نقم عليه وكفر أم المؤمنين عائشة والزبير وطلحة بحجة أنهم أقدموا على قتال علي.
وكذا هو بريء من فرقة الصالحية الذين يعتقدون بأن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الأولى بالإمامة بعده، ويقولون إنهم
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/63.
متوقفون في عثمان وفي قاتليه الظلمة، فزيد بن علي رضي الله عنه بريء من معتقدات الفرق المتقدم ذكرها في الصحابة، وأن معتقداتهم الخاطئة في الصحابة اكتسبوها من الرافضة الذين هم من أشد الناس عداوة لزيد بن علي رحمه الله تعالى ورضي عنه، فالذين يخالفون زيداً في عقيدته في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ويدعون أنهم زيدية هؤلاء ليس لهم مما كان عليه زيد إلا مجرد النسبة، وإنما يقال لهم زيدية لكونهم قالوا:"بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي في وقته وإمامة ابنه يحيى بن زيد في وقته"1.
ولم يتبرأ زيد بن علي رحمه الله تعالى ممن خالف عقيدته في الصحابة وحده فحسب، بل إن من المنتسبين إليه حقيقة تبرأ من كل أحد ادعى أنه زيدي، وخالف معتقد زيد في الصحابة، ونذكر من ذلك كلام أحد كبار أئمة الزيدية في اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة2، فقد ذكر يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه "الرياض المستطابة" أنه وقف على كلام للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في كتاب له اسمه "جواب المسائل التهامية" قال:"فإنه رضي الله عنه أثنى عليهم على الإجمال وعدد مزاياهم على غيرهم" ثم قال: "فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده فرضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيراً ثم قال: فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة ولم نكتم سواه تقية، ومن هو دوننا مكاناً وقدرة يسب ويلعن ويذم ويطعن ونحن إلى الله ـ سبحانه ـ من فعله براء، وهذا ما يفضي به علم آبائنا منا إلى علي كرم الله وجهه.. إلى قوله: "وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة
1ـ التبصير في الدين للإسفراييني ص/29، وانظر الفرق بين الفرق ص/34-35.
2ـ هو عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة أحد أئمة الزيدية في اليمن ومن علمائهم وشعرائهم، بويع له سنة ثلاث وتسعيين وخمسمائة، واستولى على صنعاء والزمار، وكانت وفاته سنة أربعة عشر وستمائة هجرية. انظر ترجمته في كتاب بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام، ص/43، الأعلام للزركلي 4/213.
رضي الله عنهم والبراء منهم، فيبرأ من محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم، وأنشد:
وإن كنت لا أرمي وترمي كنانتي
…
تصب جائحات النبل كشحي ومنكبي1
ففي كلام هذا الإمام بيان واضح أن من كان صادقاً في انتسابه إلى مذهب زيد أنه يترضى على الصحابة عموماً، ويواليهم جميعاً ولا يتوقف في أحد منهم وأن من لم يكن على هذا فهو خارج عن مذهب زيد رحمه الله تعالى، ومجانب لطريقة أهل البيت جميعاً وأن من سل لسانه بالسب لخيار الأمة وتبرأ منهم فقد بريء من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه أن الإمام زيد بن علي رحمه الله تعالى لم يكن يرى حصر الإمامة في أولاد فاطمة، ولم يكن خروجه على هشام بن عبد الملك من أجل المطالبة بحق أهل البيت في الإمامة كما تعتقده الرافضة، وإنما كان خروجه من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان أيضاً رحمه الله متأولاً في خروجه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن زيد بن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة"أهـ2، وأهم قاعدة لدى الرافضة هي حصر الإمامة في أهل البيت.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً الدافع لخروج الإمام زيد على هشام بن عبد الملك: "خرج متأولاً وقتل شهيداً وليته لم يخرج"أهـ3.
ومما يجدر التنبيه عليه أيضاً: أن الإمام زيد بن علي لم يكن منكراً على
1ـ الرياض المستطابة ص/300.
2ـ منهاج السنة 3/227.
3ـ سير أعلام النبلاء 5/391.
الشيعة الإمامية معتقدهم السيء في الصحابة فحسب، بل كان منكراً لجميع معتقداتهم المنكرة من القول بالعصمة والمهدية والرجعة والتقية للإمام ونسبة العلم اللدني إليه1.
ولا يلتفت إلى ما رواه الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى زيد بن علي أنه كان يقول: "المعصومون منا خمسة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين"2، فعند الرجوع إلى سند هذه الرواية اتضح عدم صحة سندها إلى زيد بن علي رحمه الله تعالى، حيث إن فيها محمد بن عمر الجعابي3 وهاشم بن البريد4 وهما شيعيان، ومما هو معلوم ومقرر عند علماء مصطلح الحديث أن الثقة صاحب البدعة مقبول الحديث "إلا إن روى ما يقوي بدعته، فيرد على المختار"5، ورواية هذين هنا من هذا القبيل فترد.
فزيد رحمه الله أحد أهل السنة والجماعة وأهل السنة لا يعتقدون ولا يقولون بعصمة أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار زيد للمعتقدات التي ابتلي بها الشيعة الإمامية أثبته الزيدية والإمامية معاً.
قال الدهلوي: "وكان زيد بن علي منكراً لجميع معتقدات الإمامية كما روى الزيدية والإمامية معاً إنكاره"6.
4-
الشيعة الاثنا عشرية:
تعتبر الشيعة الاثنا عشرية أكثر فرق الشيعة انتشاراً في هذا الزمن ويليهم في هذا الزيدية، ثم الإسماعيلية، فالنصيرية.
1ـ انظر كتاب الإمام زيد المفترى عليه ص/231-239.
2ـ تهذيب تاريخ دمشق الكبير 6/22.
3ـ قال عنه الخطيب البغدادي: "كان كثير الغرائب ومذهبه في التشيع معروف"أهـ تاريخ بغداد 3/26.
4ـ قال عنه الإمام أحمد: "ثقة وفيه تشيع قليل". وقال عنه العجلي: "كوفي ثقة إلا أنه يترفض". تهذيب التهذيب 10/17.
5ـ نزهة النظر ص/51.
6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/198.
وللشيعة الاثنا عشرية أسماء كثيرة تميزوا بها بين الناس، ومن تلك الأسماء أنه يطلق عليهم اسم:"الإمامية" لكونهم يقولون بوجوب الإمامة بالنص الظاهر والتعيين الصادق.
قال الشهرستاني: الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه الصلاة والسلام نصاً ظاهراً وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين، قالوا: وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة، فإنه إنما بعث لرفع الخلاف وتقرير الوفاق، فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً، يرى كل واحد منهم رأياً ويسلك كل واحد منهم طريقاً لا يوافقه في ذلك غيره، بل يجب أن يعين شخصاً هو المرجوع إليه، وينص على واحد هو الموثوق به والمعول عليه1.
ويطلق عليهم: "الجعفرية" لادعائهم أن مذهبهم هو مذهب جعفر الصادق، ومن أسمائهم التي عرفوا بها اسم "الرافضة"، وهم يكرهون إطلاق هذا الاسم عليهم.
قال صاحب كتاب "أعيان الشيعة" إن هذا الاسم: "لقب ينبز به من يقدم علياً عليه السلام في الخلافة، وأكثر ما يستعمل للتشفي والانتقام"2.
لكن ذكر الكليني رواية في كتابه "الكافي" ما يدل على أنهم راضون بهذا اللقب، ويفترون على الله أنه خلع عليهم هذا الاسم:
قال الكليني: عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/162، وانظر دعوة الشيعة في التنصيص بالإمامة على علي وغيره من الأئمة الاثنى عشر. الطرائف في معرفة مذهب الطوائف 1/172-178، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/1-40، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/141-144.
2ـ أعيان الشيعة لمحسن الأمين 1/20.
سليمان عن أبيه، قال: كنت عند أبي عبد الله "ع" إذ دخل عليه أبو بصير وقد خفره1 النفس، فلما أخذ مجلسه قال أبو عبد الله عليه السلام يا أبا محمد ما هذا النفس العالي؟، قال: جعلت فداك يا ابن رسول الله كبر سني ودق عظمي واقترب أجلي مع أنني لست أدري ما أرد عليه من أمر آخرتي، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد وإنك لتقول هذا؟ قال: جعلت فداك وكيف لا أقول هذا؟ فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الله تعالى يكرم الشباب منكم ويستحي من الكهول، قال: قلت: جعلت فدائك فكيف يكرم الشباب ويستحي من الكهول؟، فقال: يكرم الله الشباب أن يعذبهم ويستحي من الكهول أن يحاسبهم، قال: قلت: جعلت فداك هذا لنا خاصة أم لأهل التوحيد؟ قال: فقال: لا والله إلا لكم خاصة دون العالم، قال: قلت: جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزاً انكسرت له ظهورنا، وماتت له أفئدتنا واستحلت له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قال: قلت نعم، قال لا والله ما هم سموكم، ولكن الله سماكم به، أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل رفضوا فرعون وقومه لما استبان لهم ضلالهم فلحقوا بموسى عليه السلام لما استبان لهم هداه فسموا في عسكر موسى الرافضة لأنهم رفضوا فرعون، وكانوا أشد أهل ذلك العسكر عبادة، وأشدهم حباً لموسى وهارون وذريتهما عليهما السلام، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن اثبت لهم هذا الاسم في التوراة، فإني قد سميتهم به ونحلتهم إياه، فأثبت موسى عليه السلام الاسم لهم، ثم ذخر الله عز وجل لكم هذا الاسم حتى نحلكموه يا أبا محمد رفضوا الخير ورفضتم الشر2.
هذا غاية في الوقاحة وغاية في عدم المبالاة بالافتراء على الله وعلى خلقه
1ـ كذا في الكافي، ولعلها "حفزه".
2ـ فروع الكافي 8/28، حديث رقم 6 من كتاب الروضة.
وقد تقدم معنا أن الذي سماهم بهذا الاسم هو الإمام زيد بن علي رحمه الله تعالى لما اختبروه في عقيدته في الشيخين فأخبرهم أنه يتولاهما ويبرأ ممن يتبرأ منهما عند ذلك رفضوه، ورفضوا خلافة الشيخين رضي الله عنهما فسماهم "الرافضة".
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وإنما سموا الرافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر"أهـ1.
ومن الأسماء التي اشتهروا بها اسم "الاثنى عشرية" لقولهم واعتقادهم بإمامة اثنى عشر إماماً وهم على هذا الترتيب عندهم:
1-
أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "23 ق. هـ ـ 40هـ"
2-
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "3 – 50هـ"
3-
الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "4- 61هـ "
4-
علي زين العابدين بن الحسين بن علي "38 – 95هـ"
5-
محمد الباقر بن علي "57 – 114هـ"
6-
جعفر الصادق بن محمد "83 – 148هـ "
7-
موسى الكاظم بن جعفر. "128 – 183هـ"
8-
علي بن موسى الرضا. "148 – 203هـ"
9-
أبو جعفر محمد بن علي الجواد "195 – 220هـ"
10-
أبو الحسن علي بن محمد "الهادي""212 – 254هـ"
11-
أبو محمد الحسن بن علي "العسكري""232 – 260هـ"
12-
أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدي""256 – 000"2.
هؤلاء هم الأئمة الاثنى عشر عند الشيعة الإمامية وللشيعة في هؤلاء الأئمة
1ـ مقالات الإسلاميين 1/89.
2ـ انظر كتاب الإرشاد للمفيد، وانظر عقائد الإمامية لمحمد رضا المصفر ص/62-63، الأنوار الوضية في العقائد الرضوية ص/44-47، وانظر كتاب عيون المعجزات لحسين عبد الوهاب، ص/18-146.
وأنه لا يخفى عليهم الشيء1، "باب أن الله لم يعلِّم نبيه علماً إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم"2، "باب أن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امريء بما له وعليه"3، "باب أن الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده"4، "باب في أن الأئمة إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يسألون البينة"5، "باب أنه ليس شيء من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل6.
ثانياً: قول المجلسي الذي يعد من كبار علمائهم، فقد قال:"وبالجملة لا بد لنا من الإذعان بعدم كونهم ـ أي الأئمة ـ أنبياء وأنهم أفضل وأشرف من جميع الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأولياء ولا نعرف سبباً لعدم اتصافهم بالنبوة إلا رعاية جلالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ولا تصل عقولنا إلى فرق بين النبوة والإمامة"7.
ومن هنا يزعمون أن عصمة الأئمة فوق عصمة الأنبياء، لأنهم أعلا درجة منهم"8.
ثالثاً: قول زعيم الشيعة في هذا العصر، ومرجعهم الأعلى وآيتهم العظمى وهو الخميني، فقد قال في كتابه الحكومة الإسلامية الذي هو عبارة عن دروس فقهية ألقاها على طلاب علوم الدين في النجف، قال: "فإن للإمام مقاماً محموداً
1ـ الأصول من الكافي 1/260.
2ـ الأصول من الكافي 1/263.
3ـ الأصول من الكافي 1/264.
4ـ الأصول من الكافي 1/276.
5ـ الأصول من الكافي 1/397.
6ـ الأصول من الكافي 1/399.
7ـ مرآة العقول للمجلسي 2/289، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/209.
8ـ انظر مجمع النورين وملتقى البحرين لأبي الحسن النجفي ص/17.
ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ـ إلى أن قال ـ وقد ورد عنهم أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء عليها السلام لا بمعنى أنها خليفة أو حاكمة أو قاضية، فهذه المنزلة شيء آخر وراء الولاية والخلافة والإمرة، وحين نقول: إن فاطمة "ع" لم تكن قاضية أو حاكمة أو خليفة، فليس يعني ذلك تجردها عن تلك المنزلة المقربة كما لا يعني ذلك أنها امرأة عادية من أمثال ما عندنا"أهـ1.
هذه ثلاثة نماذج تبين ما وصل إليه الرافضة من الغلو الممقوت في الأئمة الاثنى عشر، فقد غلوا فيهم بما يباين المعقول، ويخالف المنقول ويناقض الأصول، والأئمة الذين قالوا فيهم ما تقدم ذكره وما لم يذكر هنا هم منه براء، وهم بريئون أيضاً ممن تقوله لهم، أو عليهم، فأهل البيت رضوان الله عليهم ما ورد لهم من الفضل محفوظ في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منزلتهم التي يستحقونها، علم ذلك أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة وتنكب ذلك من أشرب قلبه بالغلو واطمأن إلى الروايات المختلقة المكذوبة من الشيعة الرافضة، فلم يعرفوا لهم مكانتهم، ولم ينزلوهم منزلتهم، بل نسبوا إليهم ما يشينهم.
ولم يعرف ما لهؤلاء الأئمة من الحق والكريم وإنزالهم منزلتهم التي يستحقونها إلا أهل السنة والجماعة، فقد قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً عقيدة أهل الحق فيهم: "فمولانا الإمام علي: من الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه، نحبه أشد الحب ولا ندعي عصمته ولا عصمة أبي بكر الصديق، وابناه الحسن والحسين: فسبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدا شباب أهل الجنة،
1ـ الحكومة الإسلامية ص/52-53.
لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك.
وزين العابدين كبير القدر من سادة العلماء العاملين يصلح للإمامة.
وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر سيد إمام فقيه يصلح للخلافة.
وكذلك ولده جعفر الصادق: كبير الشأن من أئمة العلم، كان أولى بالأمر من أبي جعفر.
وكان ولده موسى: كبير القدر، جيد العلم، أولى بالخلافة من هارون وله نظراء في الشرف والفضل.
وابنه علي بن موسى الرضا: كبير الشأن له علم وبيان ووقع في النفوس صيره المأمون ولي عهده لجلالته، فتوفي سنة ثلاث ومائتين.
وابنه محمد الجواد: من سادة قومه، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه.
وكذلك ولده الملقب بالهادي: شريف جليل.
وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله تعالى 1.
وأما عن الإمام الثاني عشر، فقال فيه:"ومحمد هذا هو الذي يزعمون أنه الخلف الحجة وأنه صاحب الزمان، وأنه صاحب الزمان، وأنه صاحب السرداب بسامراء وأنه حي لا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، فوددنا ذلك ـ والله ـ وهم في انتظاره من أربع مئة وسبعين سنة 2 ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحال على مستحيل؟ والإنصاف عزيز فنعوذ بالله من الجهل والهوى"3.
وبعد التعريف بأهم فرق الشيعة كما تقدم نقول إن الشيعة الإمامية طعنوا على الصحابة الكرام بمطاعن قبيحة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين كما سنرى ذلك في المباحث الآتية:-
1ـ سير أعلام النبلاء 13/120-121.
2 ـ المراد زمان الذهبي المتوفى سنة 748هـ.
3 ـ سير أعلام النبلاء 13/120.
المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة
…
معتقدات كلها غلو وإطراء اختلقوها لهم من عند أنفسهم ومن معتقداتهم فيهم أنهم معصومون "من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمداً وسهواً، كما يجب أن يكونوا معصومين من السهو والخطأ والنسيان لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي"1، ثم لم يقتصروا على هذا المعتقد فيهم بل تجاوزوه ووصفوهم بصفات تجاوزوا فيها الحدود، ويكفينا منها هنا على سبيل المثال كلام ثلاثة أشخاص منهم:
أولهم: الكليني مؤلف كتاب الكافي، وهو أعظم كتاب عندهم إذ هو بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة، فقد عقد في هذا الكتاب المسمى "أصول الكافي" عدة أبواب أورد فيها أحاديث من أحاديثهم كلها تضمنت غلوهم الممقوت في أولئك الأئمة، ونكتفي بذكر طائفة من تلك الأبواب للعلم بمدى ما وصل إليه الرافضة من السقوط بسبب الغلو الذي كان سبباً في هلاك الماضين من الأمم، وتلك الأبواب هي:
"باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه"2، "باب أن الأئمة هم أركان الأرض"3، "باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف أدلتها"4، "باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة"5، "باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل"6، "باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم"7، "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون
1ـ عقائد الإمامية لمحمد رضا المصفر ص/51.
2ـ الأصول من الكافي 1/192.
3ـ الأصول من الكافي 1/196.
4ـ الأصول من الكافي 1/227.
5ـ الأصول من الكافي 1/228.
6ـ الأصول من الكافي 1/255.
7ـ الأصول من الكافي 1/258.