المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة - عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي - جـ ٣

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الباب الرابع: ردود أهل السنة على الفرق النحرفة في اعتقادها نحو الصحابة

- ‌الفصل الأول: ردود على مطاعن الشيعة في الصحابة

- ‌المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: بداية نشأة التشيع

- ‌المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة

- ‌المبحث الرابع: رد أهل السنة على مطاعن الشيعة الإمامية في الصحابة على سبيل العموم

- ‌المبحث الخامس: الرد على مطاعنهم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث السادس: من مطاعنهم في الفاروق رضي الله عنه

- ‌المبحث السابع: من مطاعنهم في حق ذي النورين عثمان رضي الله عنه

- ‌المبحث الثامن: من مطاعنهم في حق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

- ‌المبحث التاسع: آثار في ذم الرافضة

- ‌الفصل الثاني: ردود أهل السنة على مطاعن الخوارج والنواصب في الصحابة

- ‌المبحث الأول: نشأة الخوارج

- ‌المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج

- ‌المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة

- ‌المبحث الرابع: ذكر أحاديث وآثار تتضمن ذمهم

- ‌المبحث الخامس: الرد على معتقد النواصب في الصحابة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة

‌المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة

لقد امتاز الخوارج عن الشيعة الرافضة بإثباتهم إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية، لا شك في صحتها ولا ريب عندهم في شرعيتها، وأن إمامتهما كانت برضى المؤمنين ورغبتهم، وأنهما سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيرا ولم يبدلا حتى توفاهما الله تعالى على ما يرضيه من العمل الصالح والنصح للرعية وهذا الاعتقاد منهم حق وصدق، فلقد كانا رضي الله عنهما كذلك ولا يشك في هذا إلا من فتن بمعتقد الرافضة، وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، وكانوا موفقين فيه لكنهم هلكوا فيمن بعدهما حيث قادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فلقد حملهم على إنكار إمامة عثمان رضي الله عنه في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها، كما أنكروا إمامة علي أيضاً بعد التحكيم بل أدى بهم سوء معتقدهم إلى تكفيرهما وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عباس وأصحاب الجمل وصفين وقد وجه الخوارج إلى هؤلاء الأخيار من الصحابة طعناً عاماً يشملهم جميعاً ووجهوا إلى بعضهم طعناً على وجه الخصوص، فطعنهم فيهم على وجه عام أنهم يعتقدون فيهم أنهم كفروا وقد دون أهل العلم هذا المعتقد السيء عنهم في كتبهم.

فقد قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان في وقت الأحداث التي نقم عليه

ص: 1157

من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري1.

وقال المسعودي: "الذي يجمع الخوارج إكفارهم عثمان وعلياً، والخروج على الإمام الجائر وتكفير مرتكب الكبائر والبراءة من الحكمين أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري وعمرو بن العاص السهمي، وحكمهما، والبراءة ممن صوب حكمهما أو رضي به وإكفار معاوية وناصريه ومقلديه ومحبيه، فهذا ما اتفقت عليه الخوارج من الشراة والحرورية"2.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج فخرجوا وكفروا علياً ومعاوية ومن والاهما فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب"3.

وقال الشهرستاني بعد تعداده لكبائر فرق الخوارج: "ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة"4.

وقال في المحكمة الأولى: "وطعنوا في عثمان رضي الله عنه للأحداث التي عدوها عليه وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين"5.

وقال في الأزارقة بعد أن ذكر أنهم يعتقدون كفر علي رضي الله عنه قال: "وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة وزادوا عليه تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في

1ـ مقالات الإسلاميين 1/204.

2ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/125.

3ـ مجموع الفتاوى 19/89.

4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/115.

5ـ المصدر السابق 1/117.

ص: 1158

النار1.

وهذا المعتقد واضح البطلان بمجرد سماعه، واعتقاده ضلال وغواية وترك للحق جانباً، والخوارج استهواهم الشيطان بمعتقدهم هذا فكانوا له تبعاً فاعتقادهم كفر من تقدم ذكرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل لأمور عدة:

الأمر الأول: أن الله تعالى أخبر بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم أفضل أمته.

فقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2.

فقد نوه سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بأنهم خير أمة أخرجت للناس وذلك لقيامهم الكامل بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما ذلك إلا لما بلغوا إليه من كمال الإيمان وقوة اليقين ولأنهم حققوا صفات الخيرية المنوه عنها في هذه الآية، فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة3.

وقال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث"4.

"وإنما كان قرنه خير الناس لأنهم آمنوا به حين كفر الناس وصدقوه حين كذبوه ونصروه حين خذلوه وجاهدوا وآووا"5.

1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121.

2ـ سورة آل عمران آية/110.

3ـ المستدرك 2/294، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وأورده السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2/293.

4ـ صحيح مسلم 4/1965، من حديث عائشة رضي الله عنها.

5ـ فيض القدير للمناوي 3/478.

ص: 1159

وأفراد الصحابة الذين يعتقد الخوارج المارقون كفرهم هم من الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفي مقدمة من يتناوله هذا الثناء العالي الرفيع فهم من أهل الهجرة ومن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين كفر به الناس وهم من الذين جاهدوا معه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فالآية والحديث فيهما شهادة الله ورسوله للصحابة عموماً بأنهم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: شهادة الله لهم بالإيمان الحقيقي الثابت في مواضع كثيرة من كتابه العزيز.

قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 1 فكلمة {وَالَّذِينَ آمَنُوا} في هذه الآية أول ما ينطلق هذا اللفظ على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، إذ أنهم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب بلا نزاع، لأنهم أول من خوطبوا به.

وقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2.

ففي هذه الآية تذكير الله تعالى لنبيه بما أنعم عليه من تأييده له بالمؤمنين الذين هم المهاجرون والأنصار.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} 3 ولفظ المؤمنين في هذه الآية أول الداخلين فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هم المقصودون بالخطاب حال النزول قبل سائر المؤمنين والصحابة الذين كفرهم الخوارج هم من الذين أيد الله بهم نبيه وأمره بتحريضهم على القتال، ولكن لما

1ـ سورة آل عمران آية/68.

2ـ سورة الأنفال آية/62.

3ـ سورة الأنفال آية/65.

ص: 1160

زاغ الخوارج عن الحق والهدى في شان الصحابة أزاغ الله قلوبهم فلم يهتدوا إلى شهادة العليم الخبير بحقيقة الإيمان للصحابة الذين كفروهم أو تبرؤوا منهم.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1.

وهذه الآية تضمنت شهادة الله تعالى للمهاجرين والأنصار بأنهم أهل الإيمان حقاً، وفي الآية إشارة إلى ما يدل على حقيقة إيمانهم حيث إنهم هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله ـ لله عز وجل وجاهدوا بأموالهم حيث صرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين وباشروا القتال بأنفسهم واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

وعندما يتدبر المسلم نصوص القرآن الكريم التفصيلية يجد شهادة الله تعالى فيه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان في مختلف المواقع والمواقف التي تفيد في مجموعها ما تفيده النصوص العامة من الشهادة لمجموعهم بالإيمان وتفيد بدلالتها أيضاً: أن تكفير الخوارج لطائفة منهم هو عين الضلال، وعين المعاندة للأخبار القرآنية الإلهية، قال تعالى منوهاً بشأن أهل بدر:

{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} 2.

وقال عنهم في موضع آخر:

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ

1ـ سورة الأنفال آية/74.

2ـ سورة آل عمران آية/124-125.

ص: 1161

إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1.

وقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2.

وقال فيمن شهدوا أحداً:

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3.

وقال فيمن شهدوا صلح الحديبية وانقادوا لحكم الله ورسوله:

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} 4.

فهذه الآيات فيها شهادة الله تعالى بالإيمان لأهل بدر وأهل أحد وأهل الحديبية، وفيهم معظم من يعتقد الخوارج أنهم كفروا، فلقد هلك الخوارج بنص هذه الآيات بحكمهم على طائفة من خيار الأمة بالكفر إذ أن ـ الباري جل وعلا ـ شهد لهم بحقيقة الإيمان والخوارج يكذبون الله في شهادته لهم بالإيمان ويسنبون إليه الجهل، إذ أنه يبعد أن يشهد الله تعالى بالإيمان لقوم وهو يعلم أنه سيكفرون.

الأمر الثالث: أن الرب تبارك وتعالى أخبر في محكم كتابه العزيز أنه رضي

1ـ سورة الأنفال آية/11-12.

2ـ سورة الأنفال آية/17.

3ـ سورة آل عمران آية/121-122.

4ـ سورة الفتح آية/4-5.

ص: 1162

عن الصحابة ورضوا عنه وأنه وعدهم بالخلود في الجنات والفوز العظيم.

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1.

ففي هذه الآية صرح تعالى أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهو دليل قرآني صريح في أن من يعتقد كفرهم فهو ضال مخالف لله جل وعلا حيث كفر من رضي الله عنه ولا شك أن تكفير من رضي الله عنه مضادة له ـ جل وعلا ـ وتمرد وطغيان، وهذه صفة الرافضة والخوارج المارقة.

وقال تعالى مبيناً فوزهم برحمته ورضوانه والنعيم المقيم في جناته: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} 2.

فمن يجرؤ بعد هذا أن ينسبهم إلى الكفر، اللهم إلا من كان له نصيب وافر من الخذلان، وصار عبداً للشيطان بإخراجه نفسه من عبودية الرحمن. وقال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3.

وفي هذه الآية أعلن الله رضاه عن جيش الإيمان الذين حضروا الحديبية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين كان منهم علي وطلحة والزبير، وعثمان رضي الله عنه كان في مكة رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع له النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يده بدلاً عن يده فكانت خيراً له من يده وما أحسن ما رد به عبد القاهر

1ـ سورة التوبة آية/100.

2ـ سورة التوبة آية/20-21.

3ـ سورة الفتح آية/18.

ص: 1163

البغدادي على فرقة الخازمية1 من الخوارج وهو رد صارم على كل من كفر طلحة والزبير وعلياً وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، فقد قال رحمه الله: "إن الخازمية خالفوا أكثر الخوارج في الولاية والعداوة وقالوا: إنهما صفتان لله تعالى وأن الله عز وجل إنما يتولى العبد الصالح على ما هو صائر إليه من الإيمان وإن كان في أكثر عمره كافراً ويرى منه ما يصير إليه من الكفر في آخر عمره وإن كان في أكثر عمره مؤمناً وإن الله تعالى لم يزل محباً لأوليائه ومبغضاً لأعدائه وهذا القول منهم موافق لقول أهل السنة في الموافاة غير أن أهل السنة ألزموا الخازمية على قولها بالموافاة أن يكون علي وطلحة والزبير وعثمان من أهل الجنة لأنهم أهل بيعة الرضوان الذي قال الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وقالوا لهم إذا كان الرضا من الله تعالى عن العبد إنما يكون عن علمه أنه يموت على الإيمان وجب أن يكون المبايعون تحت الشجرة على هذه الصفة وكان علي وطلحة والزبير منهم، وكان عثمان يومئذ أسيراً، فبايع له النبي عليه السلام وجعل يده بدلاً عن يده وصح بهذا بطلان قول من أكفر هؤلاء الأربعة2.

فإخبار الله تعالى بأنه رضي عن الصحابة ورضوا عنه، وإخباره بأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وتبشيره لهم برحمته وضوانه وأن لهم النعيم المقيم في الجنات من أعظم الأدلة الدالة على بطلان تكفير الخوارج لهم وأنهم أهل جهل وضلالة وأنهم باعتقادهم هذا سلكوا سبيل الشيطان وتركوا سبيل الرحمن إذ يبعد أن يعلن الله رضاه على قوم ويقضي لهم بالخلود في الجنة وقد سبق في علمه أنهم سيكفرون ما يعتقد هذا إلا من أصيب بالزيغ والخذلان ومكذب بآيات القرآن.

1ـ الخازمية أتباع رجل يدعى خازم بن علي، انظر ما جاء في شأن فرقة الخازمية، مقالات الإسلاميين 1/179، التبصير في الدين ص/55، الفرق بين الفرق ص/94-95، الملل والنحل للشهرستاني 1/131.

2ـ الفرق بين الفرق ص/94-95.

ص: 1164

الأمر الرابع: أن الكفر بعيد الوقوع من قوم أخبر الله جل وعلا أنه بغّض إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين.

قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2.

فعند التأمل لهاتين الآيتين نجد في الآية الأولى أن الله تعالى أخبر بأن الكفر بعيد الوقوع من جيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم حيث رباهم الله تربية فريدة لأنه أهّلهم لحمل أمانة دين الإسلام حيث يقومون بتبليغ دعوة خاتم المرسلين إلى من بعدهم من الأمة المحمدية، وقد فعلوا ذلك وقاموا به أتم قيام.

وأما الآية الثانية: فقد أخبر تعالى فيها أنه جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة، فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدين، كما نطقت بذلك الآية الكريمة.

فكيف يكفر أولئك الخيرة على زعم الرافضة والخوارج المارقة وعليهم تتلى آيات الله وفيهم رسوله؟، بل كيف يكفرون وقد كره الله إليهم الكفر وجعلهم راشدين؟، فلقد زاغ الخوارج الجهلاء بزعمهم كفر عثمان وعلي وطلحة والزبير وابن عباس وعائشة وعمرو بن العاص وابي موسى الأشعري ومعاوية وأصحاب الجمل وصفين من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وليس هناك من تفسير لتكفيرهم هؤلاء الأخيار إلا التكذيب بالقرآن الذي أخبرنا الله فيه أنه وعد جميع الصحابة بالحسنى، حيث قال جل وعلا: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ

1ـ سورة آل عمران آية/101.

2ـ سورة الحجرات آية/7.

ص: 1165

وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1، وبهذه الأمور الأربعة المتقدم ذكرها والتي استفدناها من آيات القرآن الكريم التي سقناها تبين بطلان تكفير الخوارج لمن قدمنا ذكرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ولبعض فرق الخوارج مطاعن خاصة طعنوا بها على عثمان وعلي وأم المؤمنين رضي الله عنها.

فأما مطاعنهم على وجه الخصوص في ذي النورين عثمان، فقد ذكر العلامة ابن جرير الطبري أن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي كان يحدث أصحاب صالح بن مسرح التميمي2 أن قصص صالح عنده وكان ممن يرى رأيهم فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم ففعل وقد كان من ضمن الكتاب قوله:"وولي المسلمين من بعده3 عثمان فاستأثر بالفيء وعطل الحدود وجار في الحكم واستذل المؤمن وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه فبريء الله منه ورسوله وصالح المؤمنين"4.

هذا الطعن في ذي النورين صادر من رجل يعد زعيماً لفرقة الصفرية من الخوارج وهذا الطعن ما هو إلا اختلاق فعثمان رضي الله عنه لم يستأثر بفيء ولم يعطل حداً من حدود الله، بل أقام حدود الله، بل أقام حدود الله مدة خلافته كما أمر الله حتى توفاه ربه وسار في الأمة بسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم والخليفتين قبله، ولم يخرج رضي الله

1ـ سورة الحديد آية/10.

2ـ هو صالح بن مسرح التميمي أحد زعماء الصفرية، وأول من خرج فيهم كان كثير العبادة وكان يقيم في أرض دارا والموصل والجزيرة وله أصحاب يقرأ لهم القرآن ويعظمهم فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم فأجابوه، ووفد عليه شبيب بن يزيد فكان قائد جيشه ونشبت الوقائع بينه وبين أمير الجزيرة "محمد بن مروان" فقتل صالح بالقرب من الموصل، قتله الحارث بن عميرة الهمداني سنة 76 هجرية. انظر ترجمته في تاريخ الطبري 6/216 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/393 وما بعدها، الأعلام للزركلي 3/283.

3ـ أي: بعد عمر.

4ـ تاريخ الأمم والملوك 6/217.

ص: 1166

عنه في حكمه قيد أنملة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حكم الأمة بالعدل ولم يخف في الله لومة لائم، ولم يستذل مؤمناً ولم يعزز مجرماً كا تفوه بهذا هذا الخارجي الكذاب، وإنما كانت خلافته عزاً للمؤمنين وذلاً للكافرين، ولما أحس أهل الباطل من الفسقة الضالين الذين هم سلف هذا الخارجي لطاعن على عثمان بما ذكر لما أحسوا أنهم مقموعون ولنشر باطلهم غير مستعطيعين تحزبوا أحزاباً وخرجوا من مصر والكوفة والبصرة تحت راية الشيطان حتى انتهوا إلى المدينة، وأظهروا للناس أنهم يريدون الشكاية على عثمان من بعض المظالم حسب زعمهم، فأظهروا ما لا يبطنون، ثم غدروا حتى بلغ بهم الشر إلى أن قتلوا عثمان ظلماً وعدواناً، فهؤلاء هم البغاة الظالمون المفسدون، الذين يسميهم صالح بن مسرح بالمسلمين الذين ساروا إلى عثمان وقتلوه قتلهم الله، وأما قوله: بريء الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، فهذا من جرأته على الكذب على ـ الرب جل وعلا ـ الذي زجر عليه بقوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 1، فلا أظلم ممن يفتري على الله فيقال لهذا المفترى: متى بريء الله ورسوله من عثمان؟، ومتى بريء منه صالح المؤمنين؟.

وعثمان كان من السابقين الأولين إلى الإسلام الذين جاء مدحهم والثناء عليهم بذلك في القرآن الكريم، وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وهو من الذين جاهدوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في غزواته بغية إعلاء كلمة الله وكان على غاية من الكرم والإحسان زوجه المصطفى عليه الصلاة والسلام بثنتين من بناته، فكان له صهر مكرم محمود وأعظم من هذا كله، شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالجنة وهي حي يمشي على الأرض ولم يحضر بدراً بسبب تمريضه زوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألحقه الله عز وجل بالبدريين في أجره وسهمه، فكان معدوداً فيهم، ولما ولي الخلافة كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة اعتز بها المسلم وذل بها

1ـ سورة العنكبوت آية/68.

ص: 1167

الفاجر المنافق، وكانت له سيرة في الإسلام هادية لم يتسبب في سفك دم، جاءت فيه آثار صحاح ن الملائكة تستحي منه، وأنه ومن اتبعه على الحق وقد حظي رضي الله عنه بموالاة صالح المؤمنين ومحبتهم له إلى قيام الساعة لم يبرؤوا منه كما زعم هذا الخارجي، ولم يبرأ منه أو يذمه إلا من سفه نفسه، وكل من ابتلي بذم الصحابة أو تنصهم إنما ذلك لهوانه على الله وهذه حال الرافضة والخوارج المارقة.

وأما طعنهم في علي رضي الله عنه على الخصوص فإن المحكمة الأولى لما انفصلوا عن جماعة المسلمين وانحازوا إلى حروراء انتحلوا أموراً نقموا عليه بها، وخطؤوه من أجلها، ولما علم رضي الله عنه أنهم بعد انحيازهم عنه ينقمون عليه أشياء تلطف معهم، وحاول أن يقنعهم بالرجوع إلى الصواب، فبعث إليهم ابن عباس رضي الله عنه لمناظرته، ولما انتهى إليهم ابن عباس سألهم عن الأسباب التي دفعت بهم إلى مفارقة معسكر الخليفة ردوا عليه بأنهم نقموا عليه ثلاثة أمور هي:

الأول: أنه بقبوله "التحكيم" قد حكم الرجال في أمر الله الذي يقول عنه تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} 1، فأخطأ بهذا وكان ينبغي أن يستمر في مقاتلة أهل الشام حتى يظهر أمر الله.

الأمر الثاني: أنه قاتل أصحاب "الجمل" وقتلهم وفي نفس الوقت لم يسبهم ولم يأخذ غنائمهم، بل إنه نهى عن قتل مدبرهم والإجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم وقالوا: "إنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر، فإن كان هؤلاء مؤمنين لم يحل قتالهم، وإن كانوا كفاراً أبيحت دماؤهم وأموالهم.

الأمر الثالث: أنه بقبوله "التحكيم" قد محا نفسه من إمرة المؤمنين وفي رأيهم الفاسد أنه إن لم يكن أميراً للمؤمنين فإنه أمير الكافرين وقد بين لهم ابن

1ـ سورة يوسف آية/67.

ص: 1168

عباس خطأهم في هذه الآراء، وأنهم لم يستنبطوا بهذه الأمور إلا الباطل وليس الحق.

وقد روى ابن عباس نص حديثه ومحاورته الخوارج بنفسه، فقد جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: "لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك، قال: دعوهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم قال: فدخلت عليهم وهم قائلون فإذا هم مسهمة1 وجوههم من السهر، وقد أثر السجود في جباهم كأن أيديهم ثفن2 الإبل عليهم قمص مرحضة فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس، وما هذه الحلة عليك؟، قال: قلت: ما تعيبون مني فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من ثياب اليمنية، قال: ثم قرأت هذه الآية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 3، فقالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، قال بعضهم لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 4، فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قال: قلت ماذا نقمتم عليه؟، قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هن؟، قالوا: حكم الرجال في أمر الله، وقال الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} ، قال: فقلت هذه واحدة، وماذا أيضاً، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم،

1ـ مسهمة: يقال لونه يسهم: إذا تغير عن حاله لعارض. النهاية في غريب الحديث 2/229.

2ـ جمع ثفنة بكسر الفاء ما ولي الأرض من كل ذات أربع إذا بركت كالركبتين وغيرهما أي: غلظت جلود أكفهم لطول السجود، النهاية في غريب الحديث 1/215-216.

3ـ سورة الأعراف آية/32.

4ـ سورة الزخرف آية/58.

ص: 1169

ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم، قال قلت: وماذا أيضاً؟، قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين؟، قال: قلت أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟، قال: قلت: أما حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وقال في المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 2 فصير الله ذلك إلى حكم الرجال فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب ثمن ربع درهم وفي بضع امرأة قالوا: بلى، هذا أفضل، قال: أخرجت من هذه؟، قالوا: نعم، قال: فأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة؟، فإن قلتم نسبها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا، فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين أخرجت من هذه؟، قالوا: بلى، قال: وأما قولكم محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: وما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو"، قال فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين"3.

1ـ سورة المائدة آية/95.

2ـ سورة النساء آية/35.

3ـ روى حديث ابن عباس هذا مع الخوارج عبد الرزاق في المصنف 10/157-160، وأخرج أحمد بعضه. انظر المسند 1/86، ورواه بكامله ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" 2/126-128، وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص/91-93، وأورده الهيثمي في مجمع =

ص: 1170

فلقد حجهم في هذه المناظرة بما لا مدفع فيه من الحجة، فقد بين لهم خطأهم في آرائهم التي استنبطوها حسب أهوائهم، وجعلوها مطاعن على علي رضي الله عنه، فقد بين لهم ن الله شرع التحكيم في أمور هي أهون من حقن دماء المسلمين كحالة الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما، كما أمر تعالى ن يحكم في الصيد بجزاء {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1، فمن أنكر التحكيم مطلقاً فقد خالف كتاب الله، ثم ذكر لهم ن التحكيم في أمر أميرين لأجل حقن دماء المسلمين اولى من التحكيم في أمر الزوجين والتحكيم لأجل الصيد.

أما بالنسبة لطعنهم عليه بعدم سبيه أهل الجمل فقد بين لهم أنه كان من ضمن القوم المقاتلين في معركة "الجمل" أم المؤمنين عائشة، فهل يسبي الخوارج أمهم أم ينكرون أنها أمهم؟، فإن قالوا: إنها ليست بأمهم خرجوا من الإسلام وإن قالوا: إنهم يسبونها، ويستحلون منها ما يستحلون من غيرها فإنهم يخرجون أيضاً: من الإسلام، فهم مترددون بهذا بين ضلالتين، لأن الله تعالى قال:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2.

وقد بين الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى منشأ غلط الخوارج في هذه المسألة حيث قال: "وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمناً لم يبح قتاله بحال، وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة حيث ظنوا أن من قاتل علياً كافر فإن هذا خلاف القرآن، قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 3.

فأخبر سبحانه أنهم مؤمنون مقتتلون، وأمر إن بغت إحداهما

= الزوائد 6/239-241، وقال عقبه:"رواه الطبراني وأحمد بعضه ورجالهما رجال الصحيح".

1ـ سورة المائدة آية/95.

2ـ سورة الأحزاب آية/6.

3ـ سورة الحجرات آية/9-10.

ص: 1171

على الأخرى أن تقاتل التي تبغي فإنه لم يكن أمر بقتال أحدهما ابتداء، ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالإصلاح بينهما بالعدل، وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فدل القرآن على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي، وأنه يأمر بقتال الباغية، حيث أمر الله به1.

وأما المشكلة الثالثة وهي قولهم إن علياً محا عن نفسه أمير المؤمنين فقد رد عليهم ابن عباس رضي الله عنهما بأنه ليس في هذا شيء يؤخذ على "عليّ" إذ أن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو أفضل من "علي" محا عن نفسه صفة الرسالة التي هي منزلة أفضل من منزلة إمرة المؤمنين وذلك حين قال لعلي: في صلح الحديبية: "اكتب لهم كتاباً" فكتب علي: "هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله" فقال المشركون: والله لو نعلم انك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنك لتعلم أني رسول الله، امح يا علي واكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله"، فوالله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه.

بهذه الحجة الواضحة القوية استطاع ابن عباس2 أن يرد طائفة كبيرة

1ـ مجموع الفتاوى 19/89-90.

2ـ وقد عزا بعض أهل العلم هذه المناظرة مع الخوارج إلى علي نفسه. انظر الفرق بين الفرق ص/78-79، البداية والنهاية 7/305، ولعل علياً رضي الله عنه هو الذي قرر أصول هذه الأجوبة أولاً، ثم أرسل ابن عباس بها ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه تحدثني عن هؤلاء القوم الذي قتلهم علي رضي الله عنه. قال: وما لي لا أصدقك، قالت: تحدثني عن قصتهم، قال: فإن علياً رضي الله عنه لما كاتب معاوية وحكم الحكمان خرج عليه ثمانية آلاف من الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه، فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى "اسم سماك الله تعالى به" ثم انطلقت فحكمت في دين الله فلا حكم إلا لله تعالى، فلما أن بلغ علياً رضي الله عنه ما عتبوا عليه وفارقوه عليه فأمر مؤذناً فأذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده، ويقول: أيها =

ص: 1172

من الخوارج إلى الحق والصواب.

ومن المطاعن الخاصة التي طعنوا بها على علي رضي الله عنه أن نافع بن الأزرق بعد أن أكفر علياً افترى على الله وقال: إن الله أنزل في شأن علي {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} 1، وصوّب عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، وقال: "إن الله تعالى أنزل في شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} 2.

وقد شارك نافع بن الأزرق في هذا الإفك والافتراء على الله "حفص بن أبي المقدام" زعيم الحفصية من الإباضية3.

والرد على هذا الزور:

يقال لهذين الخارجيين اللذين حرما فقه كتاب الله: "إن الله تعالى أنزل القرآن مفرقاً على رسوله صلى الله عليه وسلم حسب الحوادث، فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

= المصحف حدث الناس، فناداه الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين: ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟. قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال كيف نكتب؟ فقال: اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فاكتب محمد رسول الله"، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب "هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً" ي قول الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} ، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس رضي الله عنه

الحديث. المسند 1/86، ورواه أبو يعلى في مسنده 1/367-370، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 7/306-307، وقال: تفرد به أحمد وإسناده صحيح، واختاره الضياء في المختارة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/235-237، وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

1ـ سورة البقرة آية/204.

2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/120، والآية رقم 207 من سورة البقرة.

3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.

ص: 1173

يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية نزلت في الأخنس بن شريق، وهو حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأظهر له الإسلام، وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: "إنما جئت أريد الإسلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله تعالى فيه:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} 1.

وقيل: "إنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم"2.

وأما الآية الثانية، وهي:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ، فإنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي، حيث تبعه نفر من قريش لما خرج مهاجراً إلى الله ورسوله، فقالوا له: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا فبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع"، فنزل قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 3.

وبهذا تبين ن سبب نزول هاتين الآيتين ليس كما افتراه نافع بن الأزرق وحفص بن أبي المقدام زعيم الحفصية من الإباضية في أنهما نزلتا في علي رضي الله

1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/312، أسباب النزول للنيسابوري ص/39، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص/40.

2ـ هذا القول مروي عن ابن عباس. انظر جامع البيان للطبري 2/313، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/436.

3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/228، وانظر أسباب النزول للنيسابوري ص/39، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص/40.

ص: 1174

عنه، وفي المخذول عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، وليس هناك من دافع لنافع بن الأزرق وحفص بن أبي المقدام لتأويلهما الآيتين بما تقدم ذكره إلا اتباع الهوى والبغض الذي امتلأ به قلوب الخوارج لعلي رضي الله عنه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم أنه "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق"1، فالخوارج الذين يبغضون علياً لهم النصيب الأكبر من هذا الوعيد الذي يتعرض له من أبغض رابع الخلفاء الراشدين.

ومن المطاعن التي طعن بها الخوارج على علي رضي الله عنه على وجه الخصوص ما زعمه حفص بن أبي المقدام من أن قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} 2 فقد زعم هذا الأفاك الأثيم أن علياً هو الحيران الذي ذكره الله في هذه الآية، وأن أصحابه الذين يدعونه إلى الهدى أهل النهروان3.

والرد على هذا الإباضي الذي كان زعيم الحفصية من الإباضية.

أن تأويله الآية بهذا محض افتراء على الله وتقول عليه سبحانه بغير علم، فالآية الكريمة لم تنزل في أحد على وجه خاص، وإنما الآية كما قال إمام المفسرين بن جرير الطبري: مثل ضربه الله لجميع العباد إن هم كفروا بعد الإيمان، فقد قال رحمه الله في معنى الآية: "مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام4، فالآية مثل ضربه الله للذي لا يستجيب لهدي الله وهو

1ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 1/86 من حديث علي نفسه.

2ـ سورة الأنعام آية/71.

3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.

4ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 7/236، وانظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 3/296.

ص: 1175

الرجل الذي أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه وهذا الوصف موجود في الخوارج المارقة الذين يتركون التأويل الحق لآيات الكتاب ويتعمدون إلى تأويلها بالباطل كما فعلوا في الآيات السابقة حيث افتروا على الله وأولوها على حسب أهوائهم، وبما يتفق مع بغضهم فكذبوا على الله وقالوا: إنها في علي رضي الله عنه البار الراشد الذي حفظت لنا السنة المطهرة الكثير من مناقبه الشريفة التي أعلاها وأجلها أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وهو أحد الأشخاص الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة بأعيانهم وقد تربى على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيت النبوة وشهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، فكيف يأتي بعد هذا أناس شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين مروق السهم من الرمية، ويضادون شهادته صلى الله عليه وسلم بالجنة لطائفة من أصحابه، ثم يأتون ويقولون: إنهم كفار وإنهم يخلدون في النار بناء على شبه قذف بها الشيطان في قلوبهم فثبتت فيها فضلوا بها عن سواء السبيل وسلكوا طريق الضالين الغاوين.

وأما طعن الخوارج على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإن الشبيبية من الخوارج الذين هم أتباع شبيب بن يزيد الخارجي أنكروا عليها خروجها إلى البصرة، ويزعمون أنها كفرت بمخالفتها قوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1.

والرد على طعن الشبيبية هذا:

يقال لهم: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تخرج إلى البصرة لما قذفه الشيطان في قلوبكم من الشر وحملتم خروجها عليه، وإنما كان خروجها لقصد الإصلاح، رجاء ن يرجع الناس إلى أمهم فيرعوا حرمة نبيهم ورجت المثوبة واغتنمت الفرصة وخرجت رضي الله عنها حتى بلغت الأقضية مقاديرها،

1ـ سورة الأحزاب آية/33.

ص: 1176

ثم إن فرقة الشبيبية من الخوارج لم ينكروا على غزالة أم شبيب الخارجي ومن خرج معها من النساء الخارجيات لمقاتلة جيوش الحجاج بن يوسف الثقفي1 ولم يكفروهن بذلك ولم يتلوا عليهن الآية التي يستدلون بها على أن عائشة رضي الله عنها أخطأت في خروجها إلى البصرة، فإن زعموا أن أولئك النسوة معهن محارم من أزواج وبنين وإخوة يرد عليهم بأن أم المؤمنين كان معها أخوها محمد بن أبي بكر وابن أختها عبد الله بن الزبير، وهي أم المؤمنين بنص القرآن الكريم، حيث قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2، ولكنهم قوم حرموا الفقه في الدين فلم يهتدوا لما أراده الله من الأوامر الشرعية.

ولقد رد عبد القاهر البغدادي على طعن الشبيبية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بخروجها إلى البصرة، حيث قال: "يقال لهم أنكرتم على أم المؤمنين عائشة خروجها إلى البصرة، مع جندها الذي كل واحد منهم محرم لها لأنها أم جميع المؤمنين في القرآن وزعمتم أنها كفرت بذلك وتلوت عليها قول الله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فهلا تلوتم هذه الآية على غزالة أم شبيب، وهلا قلتم بكفرها وكفر من خرجن معها من نساء الخوارج إلى قتال جيوش الحجاج، فإن أجزتم لهن ذلك لأنه كان معهن أزواجهن أو بنوهن أو إخوتهن، فقد كان مع عائشة أخوها عبد الرحمن وابن أختها عبد الله بن الزبير وكل واحد منهم محرم لها وجميع المسلمين بنوها وكل واحد محرم لها، فهل أجزتم لها ذلك على أن من أجاز منكم إمامة غزالة فإمامتها لائقة به وبدينه والحمد لله على العصمة من البدعة3.

فلقد وقف الخوارج من خيار الصحابة الذين تقدم ذكرهم موقفاً سيئاً

1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/112-113، في شأن مقاتلة نساء الخوارج للحجاج.

2ـ سورة الأحزاب آية/6.

3ـ الفرق بين الفرق ص/113.

ص: 1177

مشيناً حيث إنه موقف ممن شهد الله لهم بالإيمان وأخبر أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه وأن لهم النعيم المقيم، وأنهم أصحاب الفوز العظيم، كما أخبر تعالى أنه وعدهم جميعاً بالحسنى وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من جاء بعدهم لا يدركهم في فضلهم ولو أنفق مثل أحد ذهباً ما يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه فلا يكفرهم بعد هذا أو يقدح فيهم إلا إنسان معاند لله مكذب له فيما أخبر به عنهم بما ذكر، وهذه صفة من سفه نفسه وأنزلها منزلة الأخسرين أعمالاً..

نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغواية بعد الهداية.

ص: 1178