الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: الرد على مطاعنهم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه
لم تكتف الشيعة الرافضة بالطعن في الصحابة الكرام على سبيل العموم بل انقادوا للشيطان بزمام حيث حملهم على أن وجهوا مطاعن في الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، كل واحد منهم على حده.
ومطاعنهم على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كثيرة، وإليك في هذا المبحث طائفة من مطاعنهم في حق الصديق:
فمن مطاعنهم في حق أبي بكر رضي الله عنه أنهم يطعنون عليه بقوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1.
ووجه طعنهم على الصديق بهذه الآية أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه معه لئلا يظهر أمره حذراً منه وأن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى فيها: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فإنه يدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضاه بمساوته النبى صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره، ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رزيلة"2.
والرد على هذا الهذيان أن وضوح بطلانه أعظم من وضوح الشمس في وسط
1ـ سورة التوبة آية/40.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/239، وانظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 2/22-26. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/407-410، وانظر الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائي 9/222-224.
النهار، فقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فهذا باطل من وجوه عدة:
أولاً: أنه قد علم بدلالة القرآن أن الصديق رضي الله عنه كان موالياً ومحباً للرسول صلى الله عليه وسلم لا معادياً له.
ثانياً: علم بالتواتر المعنوي أنه كان محباً للرسول مؤمناً به مختصاً به أعظم مما علم من سخاء حاتم وشجاة عنترة، لكن الرافضة قوم بهت حتى أن بعضهم جحدوا أن يكون الصديق والفاروق دفنا في الحجرة النبوية.
ثالثاً: إن قولهم هذا في أبي بكر يدل على فرط جهلهم وخاصة بما حصل وقت الهجرة فإن الرسول اختفى هو وأبو بكر في الغار وأرسل المشركون الطلب من الغد في كل فج وجعلوا الدية فيه وفي أبي بكر لمن أتى بواحد منهما، فهذا دليل أنهم كانوا يعلمون أن أبا بكر كان موالياً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ومعادياً لهم ولو كان مبطناً لهم على زعم الرافضة لما بذلوا فيه الدية.
رابعاً: واما زعمهم أن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فقولهم هذا ينقض تخرصهم أنه استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فإنه إذا كان عدوه وكان مبطناً لأعدائه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو، فإن المشركين جاءوا إلى الغار ومشوا فوقه"1.
"فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم: نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته، عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك"2. ويقال أيضاً: لهؤلاء المفترين إن
1ـ انظر منهاج السنة 4/256-260، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/554-556.
2ـ التفسير الكبير للرازي 16/68.
دعواهم أن الآية دلت على نقص الصديق أن النقص نوعان:
نقص ينافي إيمانه، ونقص عمن هو أكمل منه فإن أرادوا الأول فهو باطل لأن الله تعالى قال مخاطباً نبيه:{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 1 وقال مخاطباً المؤمنين جميعاً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} 2، فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان، وإن أرادوا بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة، ولكن ليس في هذا ما يدل على أن علياً أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائماً وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقيناً وصبراً، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقيناً وطمأنينة، وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه، هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، حتى إنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان حتى ارتد الأعراب واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيماناً وأعظمهم يقيناً كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه:"من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} الآية"3.
1ـ سورة النحل آية/127.
2ـ سورة آل عمران آية/139.
3ـ منهاج السنة 4/261، والآية رقم 144 من سورة آل عمران.
خامساً: أما دعواهم أن حزنه دل على خوره فهذا كله من الكذب الواضح وضوح الشمس لأنه لا يوجد في الآية ما يدل على هذا من وجهين:
أحدهما: أن النهي عن شيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع لئلا يقع فيما بعد، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 1، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم
…
فقوله تعالى: {لا تحزن} لا يدل على أن الصديق قد حزن، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن، فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن فكان حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل ويذهب الإسلام، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم2 عن ذلك فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك"3.
رضي الله عنه وأرضاه.
سادساً: وأما افتراؤهم بأن حزنه دل على قلة صبره وعدم يقينه بالله فهذا باطل ولا يدل على انعدام الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك4 وكذلك زعمهم أنه يدل على عدم يقينه بالله كذب وبهت، فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلاً على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم وقال: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا
1ـ سورة الأحزاب آية/1
2ـ انظر فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/62-63.
3ـ منهاج السنة 4/262-263.
4ـ دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
ألا تسعمون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم".. الحديث. صحيح البخاري 1/226-227، من حديث ابن عمر.
ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون" 1، وكذا قولهم أنه يدل على عدم رضاه بقضاء الله وقدره هو باطل أيضاً لما هو معلوم من حاله رضي الله عنه بقوة الإيمان وكونه أكمل الخلق إيماناً بعد الأنبياء والرسل.
سابعاً: وأما هذيانهم أن الحزن إن كان طاعة استحال النهي عنه وإن كان معصية، فلا يدل على الفضيلة يجاب على هذا "أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية2 فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقاً وقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن الله معنا وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم"3.
فكل ما يسوقه الرافضة من الكلام على آية الغار محاولين بذلك الطعن على أبي بكر هو كلام باطل غير مقبول والآية على رغم أنوف الرافضة اشتملت على فضل الصديق وما وصل إليه من الكمال الإيماني والصدق اليقيني كما دلت دلالة واضحة أنه صحب الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة مودة وموالاة.
ومن مطاعنهم في حق الصديق: زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذه لأداء سورة براءة ثم أنفذ علياً وأمره برده وأن يتولى هو ذلك ـ ثم يقولون ـ ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح للإمامة المتضمنة لاداء الأحكام إلى جميع
1ـ صحيح البخاري 1/226، من حديث أنس بن مالك.
2ـ سورة التوبة آية/40.
3ـ منهاج السنة 4/264.
الأمة"1.
والرد على هذا أنه افتراء محض ورد للمتواتر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع وما رده ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج، وكان علي من جملة رعيته إذ ذاك يصلي خلفه ويسير بسيره، وهذا مما لم يختلف فيه اثنان، ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد فبعث علياً ببراءة2.
قال أبو محمد بن حزم في صدد ذكره لفضائل أبي بكر رضي الله عنه: "واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ ببراءة من أبي بكر، وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقراءتها عليهم، قال: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر، لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه، ولا يقفون إلا بوقوفه، ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك، وسورة براءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره فيها أمر الغار وخروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه، وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله التوفيق"3.
وقال العلامة ابن القيم مبيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، ومبيناً أقوال العلماء في حكمة إردافه الصديق بعلي رضي الله عنهما، قال رحمه الله: "وولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره علياً يقرأ على
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، وانظر تفسير فرات الكوفي ص/54، الميزان في تفسير القرآن 9/162، حق اليقين 1/177.
2ـ انظر منهاج السنة 4/221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/539.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/146.
الناس سورة "براءة".
فقيل: لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج.
وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يحل العقود ويعقدها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته.
وقيل: أردفه به عوناً له، ومساعداً، ولهذا قال له الصديق أمير أم مأمور، قال: بل مأمور1، وأما أعداء الله الرافضة فيقولون: عزله بعلي وليس هذا ببدع من بهتهم، وافترائهم"أهـ2.
ولقد صدق رحمه الله أن الرافضة ليسوا ببدع في البهت والافتراء، فذلك متأصل فيهم منذ أن نبتت نابتتهم زمن الإمام زيد بن علي رحمه الله وأما زعمهم أن الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة فهو زعم باطل "فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة، وإذا خفي منه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك كما سألهم عن ميراث الجد فأخبره من أخبره منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السدس، ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصاً"3، فلا مطعن على الصديق رضي الله عنه ببعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلفه في السنة التاسعة من الهجرة إلى الموسم بل إن ذلك يفيد المبالغة في إعلان فضل الصديق لأن السورة اشتملت على الثناء الإلهي الكريم على صديق رسوله ورفيقه في الغار، فكان من المناسب أن يكون إعلان هذا
1ـ رواه النسائي في سننه 5/247-248، سنن الدارمي 2/66-67 ولفظه:"أمير أم رسول، قال: بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ب"براءة" أقرؤها على الناس في مواقف الحج".
2ـ زاد المعاد 1/126.
3ـ منهاج السنة 4/222.
الثناء في الحج الأكبر في أيام الموسم بلسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي هذا نكسة واضحة لكل رافضي إلى يوم القيامة.
ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم يزعمون عدم حصول الإجماع على خلافته ويقولون بمنع الإجماع ويتعللون بأن جماعة "من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص، حتى أن أباه أنكر ذلك وقال: من استخلف على الناس فقالوا ابنك فقال: وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس، قالوا: اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا ابنك أكبر سناً ـ ثم يقولون ـ وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم فأنكر عمر عليه ورد السبايا أيام خلافته"1.
والرد على زعمهم هذا:
أن من له أدنى علم وخبرة عندما يسمع هذا الكلام يقطع بأن قائله من أجهل الناس، ومن أجرأ الناس على البهتان، فالرافضة أهل جهل وعمى، وأهل جرأة على الكذب، فبنو هاشم لم يمت منهم أحد إلا وقد بايع الصديق وأما الذين ينصون عليهم بأسمائهم من الصحابة وأنه تخلفوا عن بيعة أبي بكر فهو كذب عليهم إذ بيعتهم للصديق ثم الفاروق أشهر من أن تنكر وأسامة بن زيد لم يسر بجيشه لمحاربة الروم حتى بايع أبا بكر، وما تذكره الشيعة الرافضة من أن أبا قحافة أنكر استخلاف ابنه أبي بكر فهو باطل ولم يكن ابنه أسن الصحابة، وإنما كان أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، والعباس أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين2 لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما قبض نبي الله صلى الله عليه وسلم ارتجت مكة فسمع
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/227.
2ـ انظر منهاج السنة 4/230-231، المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544-545.
أبو قحافة، فقال: ما للناس؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أمر جلل فمن ولي بعده، قالوا: ابنك، قال: وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟، قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع"1، وأما زعمهم أن بني حنيفة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم، فيجاب على هذا البهتان بأن: "من أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف والحنفية أم محمد بن الحنفية سرية علي كانت من بني حنيفة وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبى نساءهم ويطأ من ذلك السبي وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا: لا نؤديها إليك، بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤدوها إليه وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون: إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلمهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع من أدائها جملة لا من قال: أنا أؤديها بنفسي ـ ولو عدت الرافضة ـ "من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى لكان ذلك من جنس ـ عدهم ـ "لبني حنيفة بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس، فإن أولئك كفار أصليون وهؤلاء مرتدون، وأولئك يقرون بالجزية، وأولئك لهم كتاب أو شبهة كتاب وهؤلاء اتبعوا مفترياً كذاباً
…
وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب التي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام، وهذا أمر قد خلص إلى العذارى في خدورهن، بل قد أفرد الإخباريون لقتال
1ـ رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/184، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/247.
أهل الردة كتباً سموها كتب الردة والفتوح كسيف بن عمر والواقدي وغيرهما يذكر فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون"1.
وأما زعمهم: "أن عمر أنكر قتال أهل الردة ورد عليهم سباياهم فهذا من أعظم الكذب والافتراء على عمر بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولاً شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة"2.
وأما قولهم إن عمر رضي الله عنه أنكر على الصديق سبي مانعي الزكاة ورد السبايا أيام خلافته، فيقال لهم: هذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين، فإن مانعي الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما هو ثابت في الصحيحين3
…
لكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما، فإنه قد يكون عمر كان موافقاً على جواز سبيهم،لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين، فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين وطلبوا رد ذلك إليهم4، وأهل الردة قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم، فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز"5.
1ـ منهاج السنة 4/228، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544.
2ـ المصدر السابق 4/229، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544.
3ـ انظر صحيح البخاري 4/196، صحيح مسلم 1/51-52.
4ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/488-491.
5ـ منهاج السنة 3/231-232.
فإمامة الصديق من الأمور التي أجمعت عليها الأمة وما يردده الرافضة من الهذيان حول عدم الإجماع عليها لا يلتفت إليه ولا يعتد به.
ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم طعنوا عليه بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1.
ووجه طعنهم بهذه الآية أنهم يقولون: "أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والكافر ظالم لقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2، قالوا: ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفاراً يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم"3.
ويرد على هذا الافتراء من وجوه:
أحدها: أن الكفر الذي يعقبه الإيمان لم يبق على صاحبه منه ذم، فإن الإسلام يجب ما قبله وهذا معلوم بالاضطرار من الدين.
ثانياً: ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، وإلا لزم أن يكون أفضل من الصحابة، فقد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول الذي بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل بلا شك ممن ولد على الإسلام، ولهذا قال أكثر العلماء أنه يجوز على الله أن يبعث نبياً ممن آمن بالأنبياء ولهذا قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} 4، وقد قال شعيب:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} 5.
ثالثاً: يقال لهم: قبل أن يبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد مؤمناً
1ـ سورة البقرة آية/124.
2ـ سورة البقرة آية/254.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/218، الميزان في تفسير القرآن 1/278-279.
4ـ سورة العنكبوت آية/26.
5ـ سورة الأعراف آية/89.
من قريش لا صغير ولا كبير، وإذا قيل عن رجالهم أنهم كانوا يعبدون الأصنام فصبيانهم كذلك، فإن قالوا: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ، يقال لهم: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ، فالرجل يثبت له حكم الإيمان بعد الكفر وهو بالغ، والصبي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والطفل بين أبويه الكافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا بالإجماع، فإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء: بخلاف البالغ، فإنه يصير مسلماً باتفاق فكان إسلام الثلاثة مخرجاً لهم من الكفر بإجماع المسلمين.
رابعاً: أن أسماء الذم الواردة في القرآن كالكفر والظلم والفسق لا تتناول إلا من كان مقيماً على ذلك، وأما من صار مؤمناً بعد الكفر وعادلاً بعد الظلم براً بعد الفجور، فهذا تتناوله أسماء المدح دون أسماء الذم باتفاق المسلمين، فمن أسلم بعد كفره واتقى وآمن لم يجز أن يسمى ظالماً، فقوله تعالى:{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: ينال العادل دون الظالم، فإذا قدر أن شخصاً كان ظالماً ثم تاب، وصار عادلاً تناوله العهد وصار ممدوحاً بآيات المدح والثناء كقوله تعالى:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 1، وقوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} 2.
خامساً: إن من قال إن المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع المسلمين، فكيف يقال: عن أفضل الخلق إيماناً إنهم كفار لأجل ما تقدم3.
ومما طعن به الرافضة على أبي بكر رضي الله عنه: قول عمر رضي الله عنه: "كانت بعية أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، وكونها فلتة يدل على أنها لم تقع عن رأي صحيح ثم سأل وقاية
1ـ سورة الانفطار آية/13، المطففين آية/22.
2ـ سورة الدخان آية/51.
3ـ انظر منهاج السنة 4/218-219، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/536-537.
شرها، ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها، وكان ذلك يوجب الطعن فيه"1.
والرد على هذا، "أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحن عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها:"ثم إنه قد بلغني أن قائلاً منكم يقول: "والله لو مات عمر بايعت فلاناً" فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغره أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث"2.
ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها، ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعيناً لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه، كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه، وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالإجماع"3.
ومن مطاعنهم التي ألصقوها بالصديق رضي الله عنه زعمهم أنه قال: "أقيلوني فلست بخيركم، ولو كان لم يجز له طلب الإقالة"4.
والرد على هذا من وجهين:
الوجه الأول: يطالبون بصحة هذا إذ ليس كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح.
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/216. الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/302.
2ـ صحيح البخاري 4/179-180، المسند 1/55، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
3ـ منهاج السنة 4/216-217.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/294، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402-403.
الوجه الثاني: لو صح هذا القول عن الصديق لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة، فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول، وقد يقال وهذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها، وهذا يناقض ما يقوله الرافضة أنه كان طالباً للرياسة راغباً في الولاية1.
ومما طعنوا به على أبي بكر رضي الله عنه: زعمهم أنه تسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه2.
والرد على هذيانهم هذا:
أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنف كل رافضي وجد على وجه الأرض إلى يوم القيامة، ولو سمى نفسه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدق في ذلك ولقبله منه كل مسلم عرف قدره ومنزلته في هذه الأمة، ولكنه رضي الله عنه لم يسم نفسه بهذا الاسم وإنما سماه به من أطلق الله عليهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس3، ومن أخبر الله عنهم أنهم صادقون بقوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4.
فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم5.
1ـ منهاج السنة 4/219.
2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/4-5، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/175، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/299.
3ـ انظر المستدرك 3/79-80.
4ـ سورة الحشر آية/8.
5ـ منهاج السنة 1/135.
وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه، يجاب على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم ينص عليه بالاسم إلا أنه أرشد الأمة استخلافه بأمور عديدة من أقوال وأفعال وهمّ عليه الصلاة والسلام أن يكتب بذلك عهداً لكنه علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك ذلك، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكنه دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين، وفهموا ذلك.
هنا حصل المقصود1 ولا حاجة للنص عليه بعينه اكتفاء بذلك فلا وجه لطعن الشيعة على أبي بكر بهذا وطعنهم عليه بهذا يعد من فضول الكلام.
ومما طعنوا به على أبي بكر: أنهم يقولون: "لما استتب له الأمر قطع لنفسه أجرة من بيت مال الصدقة كل يوم ثلاثة دارهم، وهذا من أظهر الحرام فاكل الحرام تعمداً وخلافاً على الله، وعلى رسوله الله، مصراً عليه غير نادم فيه ولا تائب عنه إلى أن مات بغير خلاف فيه وذلك أن أبواب أموال الشريعة معلومة كل باب منها مفروض من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم لقوم بأعيانهم لا يحل لأحد أن يأكل منه حبة واحدة حتى يصير ذلك في أيديهم"2.
والرد على هذا الافتراء:
أنه لا يصدر إلا ممن قل حياؤه وخبثت سيرته وسريرته، وبلغ في الجهل ذروته، فالصديق رضي الله عنه لم يفرض لنفسه ولا درهما واحداً من بيت مال المسلمين، وإنما خيار الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين فرضوا له شيئاً يسيراً من بيت مال المسلمين حتى يتفرغ لأمور المسلمين.
فقد أخرج ابن سعد بإسناده إلى عطاء بن السائب، قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن
1ـ المصدر السابق 1/139.
2ـ كتاب الاستغاثة 1/17.
الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟، قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟، قال: فمن أين أطعم عيالي
…
"1.
وهنا اتفق الصحابة وفي مقدمتهم عمر الفاروق وأمين هذه الأمة أبو عبيدة على تخصيص مبلغ معين للصديق، ليتفرغ لشئون الخلافة، وأقره جميعهم ولم يوجد من أنكر هذا فلو كان هذا حراماً، فقد كان أبو الحسن رضي الله عنه أحد من أقروه وقدروه2، فلا وجهة صحيحة للرافضة للطعن على أبي بكر، بأنه هو الذي فرض لنفسه كل يوم ثلاثة دراهم.
ومما طعنوا به على الصديق: أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جهزوا جيش أسامة وكرر الأمر وكان فيهم أبو بكر وعمر وعثمان ولم ينفذ أمير المؤمنين لأنه أراد منعهم من الوثب على الخلافة بعده فلم يقبلوا منه"3.
والرد على هذا أنه باطل من وجوه:
الأول: أنهم يطالبون بصحة النقل إذ هذا من الأخبار التي ليس لها سند معروف، ولم يصححه أحد من علماء النقل والاحتجاج بالمنقول لا يسوغ إلا بعد العلم بصحته وثبوته وإلا فيمكن أن يقول كل واحد ما شاء.
الثاني: أن هذا كذب باتفاق علماء النقل، فلم يكن في جيش أسامة أبو بكر ولا عثمان، وإنما قد قيل إنه كان عمر وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات وصلى أبو بكر رضي الله عنه الصبح يوم موته، وقد كشف سجف الحجرة فرآهم صفوفاً خلف أبي بكر فسر
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184.
2ـ انظر المصدر السابق 3/184-185، تاريخ الأمم والملوك 3/432.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20-23، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/296-299، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/220، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/178.
بذلك1، فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة.
الثالث: لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم تولية علي لكان هؤلاء أعجز من أن يدفعوا أمره ولكان جماهير الأمة أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أن يدعوا أحداً يتوثب على من نص الرسول صلى الله عليه وسلم لهم عليه.
الرابع: لو أراد توليته لكان أمره بالصلاة بالمسلمين أيام مرضه، ولما كان يدع أبا بكر يصلي بهم2 وبهذه الوجوه يبطل طعن الرافضة على الصديق بهذا فقد أنفذ رضي الله عنه جيش أسامة حيث الوجهة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم وزعمهم بأنه كان أحد أفراد هذا الجيش وتخلف وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتخلف كذب محض، وتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم يقل به.
ومن مطاعنهم على أبي بكر رضي الله عنه أنه لم يعط فاطمة رضي الله عنها من تركه أبيها صلى الله عليه وسلم، حتى قالت: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك، وأنا لا أرث أبي؟، واحتج أبو بكر على عدم توريثها بما رواه هو فقط من قوله صلى الله عليه وسلم:"نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث"، مع أن هذا الخبر مخالف لصريح قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 3 فإنه عام للنبي وغيره ومخالف أيضاً لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 4، وقوله تعالى:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 5.
والرد على هذا:
1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/235، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
2ـ انظر منهاج السنة 4/220-221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/538-539، التحفة الاثنى عشرية ص/240-241.
3ـ سورة النساء آية/11.
4ـ سورة النمل آية/16.
5ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم أحمد بن علي الكوفي 1/9-15، الصراط المستقيم في مستحقي التقديم للعاملي 2/282-284، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 1/247 وما بعدها. حق اليقين 1/178-179.
أن الصديق رضي الله عنه لم يمنع فاطمة رضي الله عنها من الإرث لأجل عداوة أو بعض لها والدليل على هذا عدم توريثه أمهات المؤمنين حتى ابنته، والحامل له على هذا تمام التزامه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ما روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن فاطمة عليها السلام والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال" الحديث1 وهذا أمر كان معروفاً بين أزواجه المطهرات.
فقد روى البخاري بإسناده إلى عروة بن الزبير أنه قال: سمعت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة" يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن" الحديث2، فهذه إحدى الزوجات الوارثات للنبي صلى الله عليه وسلم قد روت ما قاله أبو بكر، ولو أن باقي أمهات المؤمنين لم يتذكرن ما ذكرتهن به عائشة لأنكرن قولها، ومعنى هذا أنه أمر كان مقرراً عندهن ومعروفاً لديهن وزعم الشيعة أن الصديق رضي الله عنه تفرد برواية هذا الحديث زعم باطل، فقد "وافقه على رواية هذا الحديث: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين ـ ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك"3.
وأما دعواهم أن
1ـ صحيح البخاري 3/17.
2ـ صحيح البخاري 3/17.
3ـ البداية والنهاية 5/322.
الحديث مخالف لآية المواريث وغيرها "فجهل عظيم لأن الخطاب في "يوصيكم" لما عدا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبر مبين لتعيين الخطاب لا مخصص، بل لو كان مخصصاً للآية فأي ضرر فيه؟، فقد خصص من الآية الولد الكافر والرقيق والقاتل.
فالرافضة إذا دخلوا في مسألة لم يدخلوها بفهم وعلم، وإنما يدخلونها بجهل وعدم فهم ومنها مسألة الميراث هذه.
قال العلامة ابن كثير: "وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر رضي الله عنه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 1 الآية، وحيث قال تعالى إخباراً عن زكريا أنه قال:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 2 واستدلالهم بهذا باطل من وجوه:-
أحدها: أن قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} إنما يعني بذلك في الملك والنبوة، أي: جعلناه قائماً بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده وليس المراد بهذا وراثة المال لأن داود ـ كما ذكره كثير من المفسرين ـ كان له أولاد كثيرون يقال مائة فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم، لو كان المراد وراثة المال؟ إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك ولهذا قال تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} .
وأما قصة زكريا، فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده
1ـ سورة النمل آية/16.
2ـ سورة مريم آية/5-6.
أحقر من أن يسأل الله ولداً ليرثه في ماله كيف؟، وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده كما رواه البخاري1 ولم يكن ليدخر فوق قوته حتى يسأل الله ولداً يرث عنه ماله ـ أن لو كان له مال ـ وإنما سأل ولداً صالحاً يرثه في النبوة والقيامم بمصالح بني إسرائيل وحملهم على السداد.
الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها
…
فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون وليس الأمر كذلك ـ لكان ما رواه ـ الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ مبيناً لتخصيصه بهذا الحكم دون سواه.
الوجه الثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء واعترف بصحته العلماء سواء كان من خصائصه أم لا، فإنه قال:"لا نورث ما تركنا صدقة"، أن يكون خبراً عن حكمه، أو حكم سائر الأنبياء معه وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز حمله ماله كله صدقة والاحتمال الأول أظهر، وهو الذي سلكه الجمهور، وقد يقوى المعنى الثاني ـ بما رواه ـ مالك وغيره ـ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقتسم ورثتي ديناراً ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" 2، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث:"ما تركناه صدقة" بالنصب ـ جعل ـ ما ـ نافية فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله لا نورث ـ؟ وبهذه الرواية "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة"؟
…
والمقصود أنه يجب العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى، فإنه مخصص لعموم آية
1ـ لم أقف عليه في البخاري، وإنما هو في صحيح مسلم 4/1847.
2ـ الموطأ 2/993، صحيح البخاري 2/188.
الميراث ومخرج له عليه السلام منها إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام"1.
فلا سبيل للرافضة، للطعن على أبي بكر بقضية توريث فاطمة رضي الله عنها مما أفاء الله على رسوله من مال فدك والنضير وخيبر حيث:"إنه لما كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يرى أن فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلي ما كان يليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته"2، وهذا هو الحكم المصحوب بالصواب والسداد، وهو الحكم الذي ارتضته فاطمة رضي الله عنها وسلمت به عندما اعتذر لها الصديق بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها صلى الله عليه وسلم في هذه القضية، فقالت له: "فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم"3، وهذا هو الصواب والمظنون بها وما يليق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها رضي الله عنها.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الحكمة في عدم توريث الأنبياء كغيرهم من الناس، فقال:"والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة"4.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه أن أئمة أهل البيت اعترفوا بصحة ما حكم به أبو بكر فيما أفاء الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وأيدوه على ذلك، فهذا علي رضي الله عنه "قد تولى الخلافة بعد ذي النورين عثمان" وصار فدك وغيرها تحت
1ـ البداية والنهاية 5/325-327.
2ـ رواه الإمام أحمد في مسنده 1/10.
3ـ المصدر السابق 1/4.
4ـ منهاج السنة 2/157-158.
حكمه ولم يعط منها شيئاً لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس، فلو كان ذلك ظلماً وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال وأمره أهون بكثير1.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن الحافظ البيهقي روى بإسناده إلى فضيل بن مرزوق، قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك2.
فالرافضة لو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره، كما قبلت ذلك منه سيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها وغيرها من أهل البيت، ولكن الرافضة طائفة لها النصيب الأوفر من الخذلان يتشبثون بالمتشابه ويعدلون عن الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار.
ومن مطاعنهم على أبي بكر رضي الله عنه أنهم يقولون: إنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه عندما قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة ويزعمون أن عمر أنكر هذا على أبي بكر3.
والرد على هذا الزعم:
أنه من أظهر الأدلة على جهل الرافضة بما حكته كتب التواريخ فخالد بن الوليد لم يقتل مالك بن نويرة إلا بعد أن أظهر له أنه ارتد عن الإسلام هو وأهله،
1ـ منهاج السنة 3/231.
2ـ البداية والنهاية 5/325.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي 1/6، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/279، مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول لمرتضى العسكري 1/44، حق اليقين 1/179-180.
فقد أعلنوا سرورهم وضربوا بالدفوف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم1، بل إن مالك بن نويرة قال في حضور خالد عندما كان يؤنبه على متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة، وقال له:"ألم تعلم أنها قرينة الصلاة، فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال له خالد: أهو صاحبنا وليس بصاحبك"2، فهذا التعبير مشعر بالكفر والردة بل ثبت أن مالكاً لما سمع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم رد صدقات قومه عليهم، وقال: قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل"3.
وذكر أبو سليمان الخطابي أن المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على صنفين:
صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر.
والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام
…
إلى أن قال: وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم"4.
فلما بلغ الصديق حال مالك هذا لم يوجب على خالد القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما، فكيف يريد الرافضة بعد هذا من أبي بكر أن يقيد خالداً في رجل علم ارتداده، وبان كفره.
1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/238.
2ـ البداية والنهاية 6/363، وانظر تاريخ الأمم والملوك 3/280.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/239.
4ـ معالم السنن 2/3.
وأما زعمهم أن خالداً تزوج امرأة مالك بن نويرة من ليلته ولم تمض عدة الوفاة، فهذا لم يثبت في كتاب معتبر، بل الثابت في الروايات المعتبرة عند ابن جرير وابن كثير أن خالداً لم يتسر بهذه السبية إلا بعد انقضاء عدتها1.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على ابن المطهر الحلي: "وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله، فهذا مما لم يعرف ثبوته"2.
وأما قولهم: "إن عمر رضي الله عنه أنكر على أبي بكر عدم أخذ القود من خالد لمالك بن نويرة يقال لهم: "غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالداً، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند أهل السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل هذا عيباً لأبي بكر ـ ولا يجعله عيباً له ـ إلا من هو من أقل الناس علماً وديناً وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد"3، ومما يعتذر به للفاروق رضي الله عنه أنه تأثر بما بلغهم من أن سرية خالد لما أذنوا للصلاة سمعوا أذاناً وإقامة صلاة من جهة مالك وأصحابه4 لكن ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع شدة محبته له محبة تضرب بها الأمثال وفيه قال:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
…
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً
…
يطول اجتماع لم نبت ليلة معاً5
ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق6.
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363.
2ـ منهاج السنة 3/130.
3ـ المصدر السابق 3/129-130.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363.
5ـ انظر أبياته في الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/35، البداية والنهاية 6/363.
6ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/241-242.
فلا مسوغ للرافضة للطعن على الصديق بقصة خالد مع مالك بن نويرة إذ كان قتله خالد على ارتداده.
ومما طعن به الرافضة على أبي بكر: أنهم يقولون: "إنه أول من سمى المسلمين كفاراً، وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة، وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجدت كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن قتالهم كان عسفاً1.
قال الخطابي رحمه الله بعد أن ذكر هذيانهم هذا: "وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقعية في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافاً منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفاراً، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي دراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمد الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي، فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد منهم كفاراً وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه فقد ارتد عنه وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم
1ـ انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433-434.
الذين كان ارتدادهم حقاً، وأما قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وما ادعوه من كون الخطاب خاصاً لرسول الله فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه:-
خطاب عام كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية2 وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 3.
وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين به من غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} 4 وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 5 وكقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 6 ونحو ذلك من خطاب المواجهة، فكل ذلك غير مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم بل تشاركه فيه الأمة فكذا قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فعلى القائم بعده صلى الله عليه وسلم بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذهم منهم، وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله تعالى والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم ـ إلى أن قال ـ فأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع، ويستحب للإمام وعامل الصدقة أن يدعو للمصدق
1ـ سورة التوبة آية/103.
2ـ سورة المائدة آية/6.
3ـ سورة البقرة آية/183.
4ـ سورة الإسراء آية/79.
5ـ سورة الإسراء آية/78.
6ـ سورة النحل آية/98.
بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن يستجيب الله ذلك ولا يخيب مسألته"أهـ1.
فطعن الرافضة على الصديق بمقاتلته مانعي الزكاة باطل وساقط ليس عليه ذم بسبب ذلك، وإنما يمدح على ذلك بل ويعد ذلك من مناقبه إذ ذلك "أدل دليل على شجاعته رضي الله عنه وتقدمه في الشجابة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم الله تعالى بها على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنبط رضي الله عنه من العلم بدقيق نظره ورصانة فكره ما لم يشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيره مما أكرمه الله تعالى به أجمع أهل الحق على أنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في معرفة رجحانه أشياء مشهورة في الأصول وغيرها"2 ولكن الرافضة قوم يجهلون هذا وغيره من فضائله رضي الله عنه وأرضاه وبسبب ما أصيبوا به من عمى البصيرة يقلبون المناقب مثالب.
ومما طعنوا به على الصديق رضي الله عنه أنه قال عند موته: "ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا: منا أمير ومنكم أمير بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش"3.
والرد على هذا:
أما زعمهم أنه رضي الله عنه قال: ليتني سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق، فهذا من الكذب الواضح لأن المسألة كانت واضحة عنده وعند الصحابة لكثرة النصوص الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على بطلان هذا النقل، ولو قدر صحته ففيه فضيلة لأبي بكر لأنه لم يكن يعرف النص
1ـ معالم السنن للخطابي 1/5-8، شرح النووي على صحيح مسلم 1/203-205.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 1/211-212.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/301.
واجتهد فوافق اجتهاده النص ثم من اجتهاده وورعه تمنى أنه يكون معه نص بعينه على الاجتهاد فهذا يدل على كمال علمه حيث وافق اجتهاده النص ويدل على ورعه حيث خاف أن يكون مخالفاً للنص فأي قدح في هذا.
وأما قولهم: إنه شك في صحة بيعة نفسه هذا مما يرمونه به كذباً وزوراً لم يصدر عن أي طائفة سوى الرافضة1.
ومن مطاعنهم على أبي بكر رضي الله عنه: "أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول أبا بكر وولى عليه"2.
والرد على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الزعم باطل حيث ولاه ولاية لم يشركه فيها أحد وهي ولاية الحج، وقد ولاه غير ذلك.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وخالد بن الوليد فعلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصاً عن هؤلاء.
ال وجه الثالث: أن عدم ولايته لا يدل على نقصه، بل قد يترك ولايته لأن عنده أنفع له منه في تلك الولاية وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية، فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له يقول كثيراً دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر3 فلا وجه للرافضة للطعن على أبي بكر بعدم تولية النبي صلى الله عليه وسلم إياه إذ الثابت خلاف ما تقولوه.
وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد تعداد مطاعن الرافضة في
1ـ انظر منهاج السنة 4/219-220، والمنتقى للذهبي ص/538.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، حق اليقين 1/177.
3ـ منهاج السنة 4/221، والحديث رواه البخاري في صحيحه 2/294.
حق الصديق، قال:"ومنها أن النبي لم يؤمر أبا بكر قط أمراً مما يتعلق بالدين، فلم يكن حرياً بالإمامة".
والجواب: أن هذا كذب محض تشهد على ذلك السير والتواريخ، فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضاً في غزوة بني فزارة، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضاً، ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، وتأميره أيضاً بالصلاة قبيل الوفاة إلى غير ذلك مما يطول
…
ويجاب أيضاً على تقدير التسليم بأن عدم ذلك ليس لعدم اللياقة بل لكونه وزيراً ومشيراً على ما هي العادة"أهـ1.
ومن مطاعنهم على أبي بكر رضي الله عنه: ما ذكره صاحب كتاب "الاستغاثة"،فقد قال فيه: "ومن بدعه أنه لما أراد أن يجمع ما تهيأ من القرآن صرخ مناديه في المدينة من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به، ثم قال: لا نقبل من أحد منه شيئاً إلا بشاهدي عدل، وإنما أراد هذا الحال لئلا يقبلوا ما ألفه أمير المؤمنين عليه السلام إذ كان ألف في ذلك الوقت جميع القرآن بتمامه وكماله من ابتدائه إلى خاتمته على نسق تنزيله، فلم يقبل ذلك، قالوا: لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل
…
الخ"2.
والرد على هذا الكذب والزور:
يقال لهم: إما أن تقروا وتعترفوا بأن هذا القرآن الموجود بين الدفتين والذي هو في أيدي المسلمين يتعبدون الله به مطابق للقرآن الذي تزعمون أن علياً رضي الله عنه قام بجمعه في زمن الصحابة وحينئذ يكون طعنكم على الصديق بهذا في غير محله، ويكون من اللغو الذي لا فائدة فيه.
وإما أن تقولوا إنه مخالف للقرآن الذي جمعه على حسب قولكم وحينئذ
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/240-241.
2ـ الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20.
عليكم أن تثبتوا هذه المخالة بإبرازكم مصحف علي إذ طعنكم هذا تضمن أن علياً جمع قرآنا يختلف عن القرآن الموجود بأيدي المسلمين لكنهم يعلمون أنهم كاذبون في تقولهم هذا وهو بريء رضي الله عنه مما ينسبونه إليه، فلم يكن له قرآن غير هذا القرآن الموجود بأيدي المسلمين والذي قام بجمعه إخوانه الخلفاء الثلاثة قبله، وبه تعبد الله تعالى في محياه حتى أتاه اليقين وقرآنه هو قرآنهم لا غيره، وقد أعلن رضي الله عنه رضاه على جمع الصديق لكتاب الله تعالى، وهنأه بعظم الأجر بسبب جمعه للقرآن.
فقد قال رضي الله عنه: أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين1 وبنص هذا الأثر فقد اعتبر علي رضي الله عنه جمع الصديق للقرآن الكريم مفخرة جليلة ومنقبة رفيعة له، رضي الله عنه وأرضاه، أما الشيعة الرافضة لما أصيبوا بالخذلان اعتبروا جمع الصديق للقرآن بدعة طعنوا بها عليه، ومن هنا يعلم كل عاقل أن انتسابهم إلى أهل البيت ليس إلا ادعاءً وتقولاً، فهم في واد وأهل البيت في واد، ولقد أيد أهل السنة والجماعة ما قاله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو جمع الصديق للقرآن واعتبروا ذلك من أعماله الجليلة ومآثره الحميدة، فهم أتباع أهل البيت على الحقيقة.
قال العلامة ابن كثير مشيداً بجمع الصديق للقرآن: "وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق رضي الله عنه فإنه أقامه الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً لا ينبغي لأحد من بعده قاتل الأعداء من مانعي الزكاة والمرتدين والفرس والروم ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القاريء من
1ـ أورده الحافظ ابن كثير في كتابه فضائل القرآن ص/16، وقال عقبه: هذا إسناد جيد، كما أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/12، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص/77، وعزاه لأبي يعلى.
حفظه كله، وكان هذا من سر قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 فجمع الصديق الخير وكف الشرور رضي الله عنه وأرضاه"2.
ومن مطاعن الرافضة على صديق هذه الأمة أنهم يقولون: "إنه عهد بالخلافة إلى عمر، ولم يترك الأمر شورى للمسلمين في اختيار الخليفة"3.
والرد على هذا الهراء:
يقال لهم: إن أبا بكر رضي الله عنه لم يعهد بالأمر من بعده للفاروق رضي الله عنه إلا لما يعلم من فضله ولما فيه من النصح والقوة على ما يقلده، فلما وجد فيه ذلك منذ أسلم لم يكن ليسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله أن يعدل بالخلافة من بعده إلى غيره، وقد استقر عند الصديق رضي الله عنه أن الصحابة جميعاً يعرفون منه ما عرفه ولا يشكل عليهم من أمره شيء هنا عهد بالأمر من بعده لعمر رضي الله عنه، فرضي المسلمون به إماماً لهم ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولعارضوه في ذلك، بل كان مستقراً عندهم أنه الخليفة من بعده لأنه أفضل الناس بعد أبي بكر وعهد الصديق له بالخلافة إنما كان بمثابة الدليل لهم على أنه أفضلهم وأكملهم فتبعوه على ذلك مستسملين له راضين به4 رضي الله عنهم أجمعين".
وأما طعنهم عليه بأنه لم يترك الأمر شورى للمسلمين، فيقال لهم: أيها الغافلون: "إنما الشورى عند الاشتباه، وأما عند الاتضاح والبيان فلا معنى للشورى ـ ألا ترونهم ـ رضوا به وسلموه وهم متوافرون"5.
1ـ سورة الحجر آية/9.
2ـ فضائل القرآن لابن كثير ص/16.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/22، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/304، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402.
4ـ انظر الرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/274.
5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/278.
وتسليمهم هذا لم يكن لرغبة أو رهبة، وإنما لما "ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تفخيمه وجلالة ما ذكر من مناقبه في كمال علمه، وتمام قوته وصائب إلهامه وفراسته، وما قرن بشأنه من السكينة وغير ذلك من ورعه وخوفه وزهده ورأفته بالمؤمنين وغلظته وفظاظته على المنافقين والكافرين وأخذه بالحزم والحياطة وحسن الرعاية والسياسة وبسطه العدل ولم يكن يأخذه في الله لومة لائم"1 لهذه الصفات الحميدة كان أهلاً لأن تناط به الخلافة والنظر في شئون الأمة بعد الصديق رضي الله عنه.
وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد الرد على طعن الشيعة الرافضة على أبي بكر أنه استخلف، وأنه باستخلافه خالف النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه قال:"ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بالاستخلاف والإشارة إذ ذاك كالعبارة وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثوا عهد بالإسلام، وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات وفي كل زمان رجال ولكل مقام مقال، وأيضاً عدم استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بعلمه بالوحي بخلافة الصديق، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة ونعم ما عمل، فقد فتح الفاروق البلاد ورفع قدر ذوي الرشاد، وأباد الكفار وأعان الأبرار"2 فليس للرافضة أي وجه يدعمون به ما ذهبوا إليه من الطعن على أبي بكر بسبب أنه استخلف وليس لهم دافع على ذلك إلا ما تحبيش به قلوبهم من الغل على خيار الصحابة.
1 ـ المصدر السابق ص/278.
2 ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/242.