الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: من مطاعنهم في الفاروق رضي الله عنه
…
المبحث السادس: من مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه
لقد تناول الشيعة الرافضة ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمطاعن خاصة ألصقوها به.
فمنها وهو عمدة مطاعنهم: أنهم طعنوا عليه بما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمربن الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده"، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا".
قال عبيد الله1: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"2.
وبلفظ آخر: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال:"ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً"، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟، أهجر؟. استفهموه فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني، فالذي أنا فيه
1ـ هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني ثقة فقيه ثبت من الثالثة مات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثمان وقيل غير ذلك. التقريب 1/535.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، صحيح مسلم مع شرح النووي 11/95، المسند 1/325، 336. وانظر حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/181-182.
خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها"1.
لقد زعمت الشيعة الرافضة أنه يستفاد من هذا الحديث الطعن على عمر رضي الله عنه من وجوه:-
الأول: أنه رد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله كلها وحي لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 2 ورد الوحي كفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3.
والجواب على هذا الوجه يقال لهم: "على فرض تسليم أن هذا القول صدر من عمر وحده، فإنه لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم وإنما قصد راحته ورفع الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في حال شدة المرض، إذ كل محب لا يرضى أن يتعب محبوبه ولا سيما في المرض، مع عدم كون ذلك الأمر ضرورياً، ولم يخاطب بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بل خاطب الحاضرين تأدباً وأثبت الاستغناء عن ذلك بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 4 وقد نزلت هذه الآية قبل هذه الواقعة بثلاثة أشهر، وقد انسد باب النسخ والتبديل والزيادة والنقصان في الدين فيمتنع إحداث شيء".
ويرد عليهم أيضاً: بأنه لو كان قول عمر رضي الله عنه: "حسبنا كتاب الله" رداً للوحي ولقول الرسول للزم مثل ذلك في حق علي رضي الله
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، شرح النووي على صحيح مسلم 11/89-94.
2ـ سورة النجم آية/3، 4.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/248، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/5، والآية رقم 44 المائدة.
4ـ سورة المائدة آية/3.
عنه، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى علي، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: ألا تصليان؟، فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حيث قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول:{وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1 "فقد رد على قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت القرائن الحالية دالة على صدقه واستقامته لم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم"2.
وروى البخاري أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تصالح مع قريش في الحديبية، كتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بينهم كتاباً فكتب:"محمد رسول الله"، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله لو كنت رسولاً لم نقاتلك، فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده"3، فامتناع علي إنما كان لكمال إيمانه، ولا يقال: إنه رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفه، فإذا كان هذا يقال في حق علي فلأن يقال في حق الفاروق من باب أولى كيف وقد "اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 4 وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 5، فعلم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة وأردا الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه"6.
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/10.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/249.
3ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/303.
4ـ سورة الأنعام آية/38.
5ـ سورة المائدة آية/3.
6ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90.
وأما زعمهم "أن أقوال الرسول كلها وحي فمردود لأن أقواله صلى الله عليه وسلم لو كانت كلها وحياً فلم قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1، وقال تعالى:{وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} 2 وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} 3، وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر:{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4وأيضاً يلزمهم أن علياً رضي الله عنه قد رد الوحي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتهجد ومحو اللفظ في كتابة صلح الحديبية مع قريش مع أنهم لا يقولون بذلك.
الوجه الثاني: من وجوه الطعن التي انتزعوها من الحديث على عمر رضي الله عنه أنه قال: "أهجر" مع أن الأنبياء معصومون من هذه الأمور فأقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال والأوقات كلها معتبرة وحقيقة بالاتباع5.
والرد عليهم أن يقال لهم:
"من أين يثبت أن قائل هذا القول عمر؟، مع أنه قد وقع في أكثر الروايات "قالوا بصيغة الجمع" استفهموه على طريق الإنكار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بالهذيان البتة، وكانوا يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم ما خط قط بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} 6 ولذا قالوا: فاسألوه، وتحقيق ذلك أن الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهوم وهو على قسمين:-
1ـ سورة التوبة آية/43.
2ـ سورة النساء آية/105.
3ـ سورة النساء آية/107.
4ـ سورة الأنفال آية/68.
5ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 2/433-434.
6ـ سورة العنكبوت آية/48.
قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبيين الكلام لبحة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم.
والقسم الآخر: جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة، في الأكثر.
وهذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية، ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء، فجوزه بعضهم قياساً على النوم، ومنعه آخرون، فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول يعني أنا نرى هذا الكلام خلاف عادته صلى الله عليه وسلم، فلعلنا لم نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته فلا إشكال"1.
الوجه الثالث: من وجوه الطعن التي استنبطوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه، أنهم قالوا: "إنه رفع الصوت وتنازع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 2.
والرد على هذا، يقال لهم:
من أين ثبت أن عمر أول من رفع الصوت؟، وعلى تقديره فرفع صوته إنما كان على صوت غيره من الحاضرين لا عل صوت النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه في الآية، والأول جائز، والآية تدل عليه حيث قال:{كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في إحدى الروايات:"قوموا عني" من قبيل قلة الصبر العارضة
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، والآية رقم 2 من سورة الحجرات.
للمريض، فإنه يضيق صدره إذا وقعت منازعه في حضوره وما يصدر من المريض في حق أحد لا يكون محلاً للطعن عليه مع أن الخطاب كان الجميع الحاضرين المجوزين والمانعين"1.
الوجه الرابع: من أوجه الطعن التي انتزعوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أتلف حق الأمة إذ لو كتب الكتاب المذكور لحفظت الأمة من الضلالة ولم ترهم في كل واد يهيمون ووبال جميع ذلك على عمر"2.
والرد على هذا الوجه:
يقال لهم: "إنما يتحقق الإتلاف لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة ومنعه عمر، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية تدل على عدم الحدوث، بل لم يكن الكتاب إلا لتأكيد ما بلغه"3. ولو كان الكتاب لأمر ديني ضروري لم يتركه لاختلافهم، فإنه قد عاش بعد ذلك أياماً وحصل منه وصايا، فدل عدم كتابة الكتاب في هذه الأيام على أن الذي أراد كتابته إنما هو تأكيد لا تأسيس.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا"4.
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250-251.
2ـ المصدر السابق ص/251، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/3-7، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/181-182.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/251.
4ـ فتح الباري 1/209
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى المقصود من الكتاب الذي كان قد عزم على كتابته لهم، فقال:"وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين1 عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعى لي أباك وأخاك حتى اكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء
…
والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد شك بشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان كلامه المعروف الذي يجب قبوله ولذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات2، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال:"ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر".
وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد، ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل إن
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/205، صحيح مسلم 4/1857، واللفظ له.
2ـ انظر شدة دهشة الفاروق بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 2/266-272، تاريخ الأمم والملوك 3/200-201، الكامل 2/323-324.
الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى، وأيضاً: فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله"1.
فقد تبين بما تقدم ذكره بطلان ما طعن به الرافضة على عمر رضي الله عنه من أجل الكتاب الذي أراد أن يكتبه صلى الله عليه وسلم في مرض موته وأنه ما قصد منعه ولا رد أمره صلى الله عليه وسلم، وإنما قصد رضي الله عنه: "التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 2.
كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث
…
وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال:"وارأساه"، ثم ترك الكتاب، وقال:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 3، ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة"4.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه بلغ به الجهل إلى حيث لم يعلم بأن كل نفس ذائقة الموت، وأنه يجوز الموت على
1ـ منهاج السنة 3/135-136.
2ـ سورة المائدة آية/67.
3ـ سبق تخريجه قريباً.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90-91.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما مات حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم فقال له أبو بكر رضي الله عنه أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، وقوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 2، قال عمر: فلما سمعت ذلك أيقنت بوفاته، وسقطت إلى الأرض، وعلمت أنه قد مات، وفي رواية أنه قال عند سماع الآية: كأني لم أسمعها"3.
والرد على هذا:
إنما حصل للفاروق عند وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما هو "من شدة دهشته بموت الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال محبته له صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشيء، وكثيراً ما يحصل الذهول بسبب تفاقم المصائب وتراكم الشدائد لأن النسيان والذهول من اللوازم البشرية، والنسيان حاصل حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد حصل لموسى عليه السلام وهو نبي معصوم من أولي العزم من الرسل أن نسي معاهدته لذلك العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علماً على عدم السؤال ثلاث مرات كما حكى الله لنا ذلك عنهما في سورة الكهف4، وكما أخبرنا في حق آدم بقوله تعالى:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} 5، فأي ذنب للفاروق بدهشته من ذلك الأمر العظيم وهو وفاة سيد الأولين والآخرين، وأي طعن عليه بسبب ما حصل له من فقد محبوبه صلى الله عليه وسلم فالخسارة كل الخسارة لمن جعل عقله لعبة للشيطان يستجيب له في كل ما يملي له به6.
1ـ سورة الزمر آية/30.
2ـ سورة آل عمران آية/144.
3ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/182-183، الطرائف 2/451-454.
4ـ من الآية 65-82.
5ـ سورة طه آية/115.
6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/252.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن فاطمة رضي الله عنها وعظت أبا بكر في قضية فدك، فكتب لها كتاباً بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر بن الخطاب فمزق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة"1.
والرد على هذا الهراء:
أنه من الكذب الذي لا يشك فيه عالم ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث ولا يعرف له إسناد والصديق لم يحصل منه أنه كتب فدكاً لأحد لا لفاطمة ولا لغيرها، ولا دعت على عمر، وما فعله أبو لؤلؤة المجوسي فهو كرامة في حق عمر رضي الله عنه وهو أعظم من فعل ابن ملجم بعلي رضي الله عنه، ومن فعل قتلة الحسين رضي الله عنه، فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وشهادته أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين، ثم إن قتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد وفاة فاطمة بمدة خلافة الصديق والفاروق إلا ستة أشهر فمن أين يعلم أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله:"يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعتنا به" وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد2 ـ ثم أيضاً ـ "إن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يقدمهم في العطاء على كل الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى أنه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك، قال: لا، ابدؤا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا عمر حيث وضعه الله3، فبدأ ببني
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/137.
2ـ صحيح البخاري 3/48-49، صحيح مسلم 3/1428، المسند 4/48.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/210.
هاشم وضم إليهم بني المطلب فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول صلى الله عليه وسلم وعترته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة؟ 1، لا يعتقد هذا إلا من أعمى الله قلبه واتبع هواه.
ومن مطاعنهم على الفاروق رضي الله عنه: أنهم يطعنون عليه بقولهم: "إنه ابتدع التروايح في شهر رمضان، ويكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة"، ويقولون: إن عمر اعترف بأنها بدعة"2.
ويرد على هذا الزور:
أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثاً ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال:"أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك"3.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة4 فيقول: "من قام رمضان إيماناً
1ـ منهاج السنة 3/137.
2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/34-36، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/26، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/454، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/224، حق اليقين لعبد الله شبر 1/186.
3ـ صحيح البخاري 1/342، صحيح مسلم 1/524.
4ـ معناه: لم يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم وإنما أمرهم أمر ندب وترغيب.
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر على ذلك"1.
وخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال:"خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان في المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر، نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ، وكان الناس يقومون أوله"2.
فهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه الفاروق بدعة لأن ما فعل ابتداء يسمى بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله، فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة، وإلا فلو عمل الإنسان فعلاً محرماً يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة.
ويقال لهم أيضاً إن عمل الفاروق هذا: "لو كان قبيحاً منهياً عنه لكان علي رضي الله عنه أبطله لما صار أمير المؤمنين، وهو بالكوفة، فلما كان جارياً في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك، بل روى عن علي أنه قال: "نور الله على عمر في قبره كما نور علينا مساجدنا"3.
وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن علياً دعا القرآن في رمضان فأمر رجلاً
1ـ صحيح مسلم 1/523، وقوله: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ من قول ابن شهاب. انظر صحيح البخاري 1/342.
2ـ صحيح البخاري 1/342.
3ـ ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص/137، وعزاه لابن عساكر.
منهم يصلي بالناس عشرين ركعة، وكان علي يوتر بهم1.
وعن عرفجة الثقفي قال: "كان علي الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماماً، قال عرفجة: "فكنت أنا إمام النساء"2 رواهما البيهقي في سننه"3.
ومن هذا يتضح أن الفاروق رضي الله عنه لم يأت ببدعة، وإنما أحيا سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها، ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة، فيعجزوا عن القيام بها، ولما رأى الفاروق أنه علة المنع قد زالت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أحيا سنة قيام رمضان حيث جمع الناس على إمام واحد رضي الله عنه وأرضاه.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه حرم المتعتين متعة الحج ومتعة النساء مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه صلى الله عليه وسلم فنسخ حكم الله تعالى وحرم ما أحله4.
والرد على هذا الافتراء:
يقال لهم: أما متعة الحج وهي تأدية الإنسان أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته لم يحرمها الفاروق كما يزعمون ولم يمنعها قط، وما يذكرون من رواية التحريم عنه فهي افتراء صريح عليه وإنما كان يرى رضي الله عنه إفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القران أو في سفر واحد وهو التمتع.
1ـ السنن الكبرى للبيهقي 2/496.
2ـ المصدر السابق 2/494.
3ـ منهاج السنة 4/224.
4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/36-37، مقدمة مرآة العقول 1/220-221، ص/273، وما بعدها، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/183، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/153-154، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/457-463. الشيعة والتصحيح ص/109.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً الغرض الذي من أجله أرشد الفاروق رضي الله عنه الناس من أنهم يأتون بالعمرة في غير أشهر الحج حيث قال: "وإنما كان مراد عمر رضي الله عنه أن يأمر بما هو أفضل، وكان الناس لسهولة المتعة تركوا العمرة في غير أشهر الحج، فأراد أن لا يعري البيت طول السنة، فإذا أفردوا الحج اعتمروا في سائر السنة"1.
فهذه هو الذي اختاره عمر للناس، فظن من غلط ممن لا فهم له أنه نهى عن متعة الحج، وهذا هو شأن الرافضة لما حرموا الفهم والعلم غيروا ما قصده عمر في مسألة متعة الحج، وزعموا أنه منع متعة الحج وهو بريء من هذا.
وأما زعمهم أنه حرم متعة النساء، فهذا أيضاً محض افتراء عليه رضي الله عنه وأرضاه، وأن حرمة متعة النساء ثابتة بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من أهل السنة.
فأما دلالة الكتاب فمن ذلك أن الله تعالى حصر أسباب حل الوطء في شيئين هما: النكاح الصحيح، وملك اليمين2 لأن الاختصاص التام الحاصل بين المرء وزوجته لا يتحقق إلا بهذين العقدين ليحفظ الولد ويعلم الإرث، قال تعالى في سياق ذكره لصفات عبادة المؤمنين:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، وأعقب هذا في موضعين من كتابه بقوله:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3، وفي هذا النص القرآني يتضح أن امرأة المتعة ليست بزوجة وإلا لتحققت لوازم الزوجية فيها من إرث وعدة وطلاق ونفقة وكسوة وغير ذلك، وليست هي أيضاً بملك يمين، وإلا لجاز بيعها وهبتها وإعتاقها.
1ـ منهاج السنة 2/155.
2ـ أما الرافضة فعندهم أسباب حل المرأة أربعة كما يقول ذلك ابن البابوية في كتاب الاعتقاد، وهي النكاح، وملك اليمين، والمتعة، والتحليل، نقلاً عن التحفة الاثنى عشرية، ص/228.
3ـ سورة المؤمنون آية/5-7. سورة لمعارج آية/29-30.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن الله قصر سبب حل الوطء في أمرين اثنين حيث قال: "والله تعالى إنما أباح الزواج وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، والمستمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين فتكون حراماً بنص القرآن أما كونها ليست مملوكة فظاهر، وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها، فإن من لوازم النكاح كونه سبباً للتوارث، وثبوت عدة الوفاة فيه والطلاق الثلاث وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول وغير ذلك من اللوازم"أهـ1.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2، فلو كانت المتعة جائزة لم يأمر بالاستعفاف في هذه الآية الكريمة، فدلت على تحريمها، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 فلو جازت المتعة لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر في ترك نكاحهن متحققاً4، فدل هذا على تحريم نكاح المتعة.
وأما دعوى الشيعة أن قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 5 دليل على المتعة6 فغلط محض وزعمهم أن طائفة من السلف
1ـ منهاج السنة 2/157.
2ـ سورة النور آية/33.
3ـ سورة النساء آية/25.
4ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/228.
5ـ من الآية رقم 24 من سورة النساء.
6ـ انظر تفسير القمي 1/136.
قرأوا الآية هكذا: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى" فهو غلط أيضاً، إذ ليس هذا من القراءة المتواترة وعلى تقدير ثبوت ذلك فتكون قراءة منسوخة بما جاء من النصوص في تحريم نكاح المتعة.
قال العلامة ابن تيمية: "فإن قيل ففي قراءة طائفة من السلف فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، قيل أولاً: ليست هذه القراءة متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام، لكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك: الثاني: أن يقال: إن كان هذا الحرف نزل فلا ريب أنه ليس ثابتاً من القراءة المشهورة، فيكون منسوخاً ويكون لما كانت المتعة مباحة، فلما حرمت نسخ هذا الحرف، أو يكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيهاً على الإيتاء في النكاح المطلق وغاية ما يقال إنهما قراءتان وكلاهما حق والأمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل واجب، إذا كان ذلك حلالاً وإنما يكون ذلك إذا كان الاستمتاع إلى أجل مسمى حلالاً، وهذا كان في أول الإسلام، فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل مسمى حلال فإنه لم يقل وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمى بل قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع سواء كان حلالاً أم وطء شبهة ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق والمتمتع إذا اعتقد حل المتعة وفعلها فعليه المهر، وأما الاستمتاع المحرم فلم تتناوله الآية، فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها لكان زناً ولا مهر فيه، وإن كانت مستكرهة ففيه نزاع مشهور"1.
ثم يقال أيضاً: إن الله تعالى بين قبل الآية التي يستدلون بها على جواز المتعة المحرمات بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، ثم قال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ،
1ـ منهاج السنة 2/155-156.
أي: غير المحرمات المذكورة، ولكن بشرط أن تبتغوا بأموالكم من المهور والنفقات، فبطل بهذا الشرط تحليل الفروج وإعارتها، فإنها منفعة محصنة بلا حرج، ثم قال:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} 1 يعني: في حال كونكم مخصصين أزواجكم بأنفسكم ومحافظين لهن لكي لا يرتبطن بالأجانب ولا تقصدوا بهن محض قضاء شهوتكم وصب مائكم واستبراء أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد لأن الاحتياط والاختصاص لا يكون مقصوداً في المتعة أصلاً، ثم فرع على النكاح قوله:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، يعني إذا قررتم الصداق في النكاح فإن تمتعتم به منهن بالدخول والوطء يلزمكم تمام المهر وإلا فنصفه، فقطع هذه الآية عما قبلها وحملها على الاستئناف باطل صريح باعتبار العربية لأن الفاء تأبى القطع والابتداء، بل تجعل ما بعدها مربوطاً بما قبلها
…
وسياق قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} 2الآية أيضاً: في باب النكاح يعني إن لم يستطع منكم أحد أن يؤدي مهر الحرائر ونفقتهن فلينكح الإماء المسلمات، فحمل العبارة المتوسطة على المتعة بقطع الكلام من السياق والسياق تحريف صريح لكلام الله تعالى، بل إن تأمل عاقل في سياق هذه الآية يجد حرمة المتعة صريحة لأن الله أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء في عدم الاستطاعة بطول الحرائر، فلو كان أجل المتعة في الكلام السابق لما قال بعده:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} لأن المتعة في صورة عدم الاستطاعة بنكاح الحرة ليست قاصرة على قضاء حاجة الجماع ـ ثم ـ أي ضرورة كانت داعية إلى تحليل نكاح الإماء بهذا التقييد والتشديد وإلزام الشروط والقيود وبالجملة إن هذه الآيات ـ المتقدم ذكرها ـ صريحة الدلالة على تحريم المتعة، وقد تبين عدم دلالة الآية التي استدل بها الشيعة على مدعاهم بل على خلافة"3.
1ـ سورة النساء آية/23-24.
2ـ سورة النساء آية/25.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/229-230.
وأما دلالة السنة على تحريم المتعة، فقد جاء فيها التصريح بتحريمها إلى يوم القيامة، فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى الربيع بن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً"1.
وروى أيضاً بإسناده إلى سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وقال:"ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه"2.
قال أبو محمد بن حزم: "ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل وكان حلالاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نسخاً باتاً إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ ونقتصر من الحجة في تحريمها على خبر ثابت ـ وهو ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه: فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب ويقول: "من كان تزوج امرأة إلى أجل فليعطها ما سمي لها ولا يسترجع مما أعطاها شيئاً ويفارقها فإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة".
قال أبو محمد: ما حرم إلى يوم القيامة فقد أمنا نسخه3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد رده على الرافضي: "وأما ما ذكره من نهي عمر عن متعة النساء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم متعة النساء بعد الإحلال هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله
1ـ صحيح مسلم 2/1025.
2ـ صحيح مسلم 2/1027.
3ـ المحلى لابن حزم 11/141، 142.
والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما أباح المتعة: إنك امروء تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر1، رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها أئمة الإسلام في زمنهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ممن اتفق على علمهم وعدلهم وحفظهم ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح يتلقى بالقبول ليس في أهل العلم من طعن فيه، وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرمها غزاة الفتح إلى يوم القيامة2.
وقد تنازع رواة حديث علي رضي الله عنه هل قوله عام خيبر توقيت لتحريم الحمر فقط، أوله ولتحريم المتعة والأول قول ابن عيينة وغيره قالوا: إنما حرمت عام الفتح، ومن قال بالآخر قال: إنها حرمت ثم أحلت وادعت طائفة ثالثة أنها أحلت بعد ذلك ثم حرمت في حجة الوداع والروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل وأنها لما حرمت عام فتح مكة لم تحل بعد ذلك ولم تحرم عام خيبر بل عام خيبر حرمت لحوم الأهلية، وكان ابن عباس يبيح المتعة وأكل لحوم الحمر فأنكر علي بن أبي طالب ذلك عليه، وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر يوم خيبر3، فقرن علي رضي الله عنه بينهما في الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، لأن ابن عباس كان يبيحهما، وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما"4.
1ـ انظر صحيح مسلم 2/1027.
2ـ انظر صحيح مسلم 2/1025.
3ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/166-167.
4ـ منهاج السنة 2/156، وانظر معالم السنن للخطابي 3/191.
فالسنة دلت على تحريم المتعة دلالة صريحة وأنها حرمت إلى يوم القيامة.
وأما الإجماع على تحريم المتعة فقد نقله طائفة من أهل العلم ممن يعتمد على نقلهم.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحاً إلى أجل لا ميراث فيها وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض"1.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "تحريم المتعة كالإجماع بين المسلمين
…
فلم يبق اليوم فيه خلاف بين الأئمة إلا شيئاً ذهب إليه بعض الروافض"2.أهـ
وقال القرطبي: "الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض"3.
فلا طريق للرافضة للطعن على الفاروق بزعمهم أنه هو الذي منع من متعة النساء إذ المنع منها وتحريمها تحريماً قاطعاً كان بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين كافة سلفاً وخلفاً حاشا الرافضة وخلافهم غير معتبر ولا يعتد به، فالفاروق رضي الله عنه لم ينه عن المتعة اجتهاداً وإنما كان نهيه مستمداً من نهي الشارع.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "فنهي عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: ـ وتمامه أن يقال: لعل جابراً ومن نقل عنهم استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي، ومما يستفاد أيضاً: أن عمر لم ينه عنها اجتهاداً وإنما نهى عنها مستنداً إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لما ولي
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 9/181.
2ـ معالم السنن 3/190، وانظر فتح الباري 9/173.
3ـ ذكره عنه الحافظ ابن حجر في الفتح 9
عمر خطب، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها1.
وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"2.
فدعوى الرافضة على الفاروق أنه حرم المتعة دعوى بلا برهان وافتراء واضح ولا حجة لهم على حلها بتعلقهم باستمرار بعض الصحابة على القول بحلها، وإنما كانوا على هذا القول قبل أن يبلغهم النهي فلما بلغهم النهي رجعوا عن هذا القول، وإصرار الرافضة على حلها إنما هو اتباع للهوى، وتنكب عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهم متبعون للهوى في هذه المسألة، ومخالفون لمعتقد أهل البيت فيها إذ أن أهل البيت يعتقدون أنها نسخت وحرمت إلى يوم القيامة، ويعتبرون فعلها عين الزنا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صح عن علي رضي الله عنه أنها نسخت ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: "هي الزنا بعينه"3.
ومما طعنوا به على الخليفة الثاني رضي الله عنه: أنهم يفترون عليه بأنه عطل الحدود ويقولون أنه لم يحد المغيرة بن شعبة حد الزنا ولقن الرابع وهو زياد بن أبيه فتركها وحد الثالث وكيف يجوز له صرف الحد عن مستحقه4.
ويرد على هذا الهذيان:
1ـ فتح الباري 9/172-173.
2ـ فتح الباري 9/173.
3ـ فتح الباري 9/173.
4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/21، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/138. حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/183-184.
بأن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود، والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وأقروه على ذلك وعلي منهم، والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد أعاد أبو بكرة القذف، وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانياً، فقال له علي: إن كنت جالده فأرجم المغيرة1 يعني يكون تكراره بالقول بمنزلة شاهد آخر فيتم النصاب أربعاً فيجب رجمه فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولاً دون الحد الثاني، وإلا كان أنكر حدهم أولاً كما أنكر الثاني
…
وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى أنه أقام على ابنه2 الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سراً في البيت، وكان يضربون علانية، فبعث عمر إلى عمرو يزجره ويتهدده لكونه حابا ابنه، ثم طلبه فضربه مرة ثانية، فقال عبد الرحمن: مالك هذا، فزجر عبد الرحمن، وما روي أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز، وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر ـ ثم أيضاً يقال للرافضة ـ أي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة، وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب"3.
وأما قولهم: أنه لقن الشاهد الرابع كلمة تدرأ الحد وهي أنه قال له: "أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلاً من المسلمين" فهذا كذب وبهتان من
1ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى للذهبي ص/351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
2ـ يكنى بأبي شحمة وهو عبد الرحمن الأوسط انظر قصة عبد الرحمن هذا في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" لأبي عبد الله الجوزقاني 2/193-194، تنزيه الشريعة المرفوعة 2/220.
3ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال من 351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
أهل العدوان، وإنما الثابت في التواريخ المعتبرة أن هذه الكلمة إنما قالها المغيرة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود ولا سيما إذا كان يترتب على الشهادة حكم موجب لهلاكه"1.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه لم يحد قدامة بن مظعون على شربه الخمر لأنه تلا عليه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} الآية2، فقال له علي رضي الله عنه: ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحده، فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى3.
والرد على الهذيان:
أنه من الكذب الواضح على الفاروق رضي الله عنه لأن علم عمر بن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل، فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله، والمعروف من قصة قدامة ما رواه أبو إسحاق الجوزجاني وغيره من حديث ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما يحملك على ذلك، فقال: إن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية
…
وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد، فقال عمر: أجيبوا الرجل، فسكتوا عنه، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عذراً للماضين لمن شربها قبل أن تحرم"4. ثم سأل عمر عن الحد فيها، فقال علي بن
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
2ـ سورة المائدة آية/93.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/148. وانظر الميزان 6/135.
4ـ رواه عبد الرزاق في المصنف 9/240-243، وقصة قدمة أوردها أيضاً ابن العربي في أحكام القرآن 2/659، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 6/297-299.
أبي طالب: إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين جلدة، فجلد عمر ثمانين، ففيه أن علياً أشار بالثمانين وفيه نظر، فإن الذي ثبت في الصحيح1 أن علياً جلد أربعين عند عثمان بن عفان لما جلد الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر وثبت في الصحيح2 أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي، وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين فدل على أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين وروي عن علي أنه قال:"ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات لوديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا"3.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه رعمهم: "أنه غير حكم الله في المنفيين يعني أنه ترك النفي لمن يشرب الخمر"4.
والرد على هذا البهتان:
أن التغيير لحكم الله إنما يكون بما يناقض حكم الله، مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله، والنفي في الخمر كان من باب التعزير يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيه الضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول5 النخل بينما الضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط، وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وصح أن علياً قال: وكل سنة6، وقد قال العلماء: الزيادة على أربعين حد واجب وبه يقول أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن
1ـ انظر صحيح مسلم 3/1331-1332.
2ـ انظر المصدر السابق أيضاً 3/1331.
3ـ منهاج السنة 3/149، المنتقي للذهبي ص/353-354، وانظر الأثر عن علي في صحيح مسلم 3/1332.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139.
5ـ العثكول: العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب. النهاية في غريب الحديث 3/183.
6ـ انظر صحيح مسلم 3/1332.
أحمد، وقال الشافعي: الزائد تعذير وللإمام أن يفعله وأن يتركه بحسب المصلحة وكان الفاروق رضي الله عنه يحلق في الخمر وينفي وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الشارب في الرابعة1، واختلف في نسخه وكان علي يحد أكثر من الأربعين، وثبت عنه أنه قال: ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر، فإنه لو مات لوديته فإنه شيء فعلناه بآرائنا2.
واستدل به على أن الزيادة من باب التعذير الذي يفعل بالاجتهاد3.
وبهذا يبطل طعن الرافضة على عمر رضي الله عنه بأنه غير حكم الله في المنفيين إذ النفي كان في شرب الخمر من باب التعذير الذي يجوز فيه الاجتهاد.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه كان لا يعلم بعض المسائل الشرعية التي هي في زعمهم شرط في الإمامة والخلافة ويذكرون قصصاً اخترعتها عقولهم يستدلون بها على ما يفترون من تلك القصص يقولون: إنه أمر برجم مجنونة شهد عليها بالزنا، فقال له علي: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق" فقال: " لولا علي لهلك عمر"4.
والجواب على هذا:
أولاً: أن قولهم أن عمر رضي الله عنه قال: "لولا علي لهلك عمر" هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث.
ثانياً: أن عمر رضي الله عنه لا يخلو إما أن يكون غير عالم بجنونها وهذا
1ـ انظر سنن الترمذي 2/450، سنن ابن ماجه 2/859، سنن الدارمي 2/175-176، الأم للإمام الشافعي 6/144.
2ـ انظر صحيح مسلم 3/1332.
3ـ منهاج السنة 3/139، المنتقى للذهبي ص/352.
4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/15، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/140، حق اليقين 1/185.
لا يقدح في علمه بالأحكام، أو كان عالماً بذلك ولكنه ذهل عنه، أو اجتهد فله أسوة بغيره وما هو بمعصوم1.
وقد روى الإمام أحمد وغيره قصة هذه المرأة المجنونة عن أبي ظبيان الجنبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى بامرأة قد زنت، فأمر عمر برجمها فانتزعها علي من أيديهم وردهم، فرجعوا إلى عمر رضي الله عنه، فقال: ما ردكم، قالوا: ردنا علي رضي الله عنه، قال: ما فعل هذا علي إلا لشيء قد علمه، فأرسل إلي علي فجاء وهو شبه المغضب، فقال: مالك رددت هؤلاء، قال: أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل" قال: بلى، قال علي رضي الله عنه: فإن هذه مبتلاة بني فلان، فلعله أتاها وهو بها، فقال عمر: لا أدري، قال: وأنا لا أدري فلم يرجمها2.
فمن هذا يتبين أن عمر رضي الله عنه كان يعلم أن المجنونة لا ترجم ولكن لم يكن له علم بجنونها، فلا يطعن عليه بهذا إلا من أصيب بالفتنة في قلبه.
ومن القصص التي يتشدقون بها ويقولون: إنها دلت على أن الفاروق كان قليل المعرفة ببعض المسائل الشرعية، قالوا: إنه أمر برجم حامل، فقال له علي: إن كان لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فأمسك وقال:"لولا علي لهلك عمر"3.
والرد على هذه القصة:
إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن يكون الفاروق رضي الله عنه لم يعلم بحملها فأخبره أبو الحسن بأنها حامل، ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام
1ـ انظر منهاج السنة 3/140، وانظر المنتقى للذهبي ص/353.
2ـ المسند: 1/154-155، وانظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/120.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139، وانظر حق اليقين 1/185.
إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إعلامه بما يغيب عنه من أحوال الناس، ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود، وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية، وإما أن يكون عمر رضي الله عنه قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكَّره علي ذكر ذلك، ولهذا أمسك عن رجمها، ولهذا لو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها، ولم يرجع إلى رأي غيره، وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما قالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟، لعلك إن تردني كما رددت ماعزاً فوالله إني لحبلى، قال:"أما لا فاذهبي حتى تلدي"1.
ولو قدر أنه خفي على عمر علم هذه المسألة حتى عرفه علي بذلك لم يقدح ذلك في علمه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطي الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم، وفي زمنه انتشر الإسلام، وظهر ظهوراً لم يكن قبله مثله وهو دائماً يقضي ويفتي، ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك
…
ثم يقال عمر رضي الله عنه قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بذرية المسلمين أنه كان لا يفرض لصغير حتى يفطم ويقول: يكفيه اللبن فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له، فأصبح فنادى في الناس أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع2 وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن أذاهم فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين3.
ويقال للطاعنين عليه بهذه القضية إن كانت خفيت عليه فقد خفي على أبي الحسن رضي الله عنه من السنة أضعاف هذا وأدى اجتهاده إلى أن قتل يوم
1ـ صحيح مسلم 3/1323، الموطأ 2/821.
2ـ انظر تاريخ عمر لابن الجوزي ص/84-85.
3ـ منهاج السنة 3/139-140، وانظر المنتقى للذهبي ص/352.
الجمل وصفين نحو من تسعين ألفاً1 فهذا أعظم خطئاً من خطأ عمر في قتل ولد زنا ولم يقتله ولله الحمد2.
وبهذا الرد يبطل ما نسبه الرافضة إلى عمر رضي الله عنه من أنه أمر برجم امرأة حامل، فنهاه علي عن ذلك والمشهور أن هذه القصة لم تكن لعلي رضي الله عنه مع عمر، وإنما كانت لمعاذ بن جبل كما روى ذلك ابن أبي شيبة في المصنف أن امرأة غاب عنها زوجها ثم جاء وهي حامل فرفعها إلى عمر فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثنيتان فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر، فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، "لولا معاذ هلك عمر"3.
لكن الرافضة لما كانوا أهل جهل والكذب فيهم أكثر من غيرهم ينسبون الآثار والأخبار إلى غير رواتها.
ومما طعنوا به على الفاروق رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه أرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفاً منه، فقال له الصحابة: نراك مؤدباً ولا شيء عليك، ثم سأل علياً، فأوجب الدية4.
ويرد على هذه القصة: أنها من مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، وكان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث، يشاور عثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه، فلهذا كان من أشد الناس رأياً وكان يرجع تارة إلى رأي هذا، وتارة إلى رأي هذا، وقد أتي بامرأة قد أقرت بالزنا،
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/539.
2ـ المنتقى للذهبي ص/352.
3ـ المصنف 10/88.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/150، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/185.
فاتفقوا على رجمها، وعثمان ساكت، فقال: مالك لا تتكلم، فقال: أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم، فرجع فأسقط الحد لما ذكر له عثمان، ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحاً
…
وإذا كانت لا تعلمه قبيحاً كانت جاهلة بتحريمه والحد إنما يجب على من بلغه التحريم، ولهذا من أتى شيئاً من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ولهذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من أصحابه بعد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود1 وكذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال:"لا إله إلا الله" لأنه ظن جواز قتله لما اعتقد أنه قالها تعوذاً2، وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا صبأنا لما حصل له من التأويل3.
فلا وجهة مستقيمة للرافضة للطعن على عمر بهذه القصة، إذ أنها مسألة مبنية على الخلاف والاجتهاد ومشاورة الفاروق رضي الله عنه للصحابة تزيد من قدره ورفعة شأنه، وذلك من تمام فضله وكمال دينه وعقله رضي الله عنه وأرضاه.
ومما ذكروه من القصص التي يسوقونها للاستدلال بها على عدم إلمام الفاروق بالأحكام الشرعية أنهم يقولون: "تنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم وفزع فيه إلى علي، فاستدعى علي المرأتين ووعظهما فلم ترجعا، فقال: ائتوني بمنشار، فقالت المرأتان: ما تصنع به، فقال: أقده بينكما نصفين، فتأخذ كل واحدة نصفاً، فرضيت واحدة، وقالت الأخرى: ألله ألله يا أبا الحسن إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به فقال علي: الله أكبر هو ابنك دونها، ولو كان ابنها
1ـ انظر صحيح البخاري 1/328.
2ـ صحيح مسلم 1/97.
3ـ منهاج السنة 3/150، وانظر المنتقى للذهبي ص/354، وانظر قصة خالد بن الوليد مع بني جذيمة.فتح الباري 8/56-58.
لرقت عليه فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها، ففرح عمر ودعا لعلي"1.
والرد على هذه القصة:
أنهم لم يذكروا لها إسناداً ولا يعرف صحتها ولا هناك أحد من أهل العلم ذكرها ولو كان لها حقيقة لذكروها، ولا تعرف عن عمر وعلي وإنما هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام.
فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى، قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية"2.
فإن كان بعض الصحابة علي أو غيره سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعها أبو هريرة أو سمعوها من أبي هريرة فهذا غير مستبعد وهذه القصة فيها أن الله تعالى فهَّم سليمان من الحكم ما لم يفهمه داود كما قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} 3، وكان سليمان قد سأل ربه حكماً يوافق حكمه، ومع هذا فلا يحكم بمجرد ذلك بأن سليمان أفضل من داود عليهما السلام"4.
ومن قصصهم التي يذكرونها ويسوقونها الاستدلال على عدم معرفة الفاروق
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/150-151.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/458، صحيح مسلم 3/1344-1345.
3ـ سورة الأنبياء آية/78-79.
4ـ منهاج السنة 3/151، وانظر المنتقى للذهبي ص/355.
لبعض الأحكام والمسائل الشرعية أنهم يزعمون "أنه أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} 1، وقال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 2.
والرد على هذه القصة:
أنه يقال للطاعنين عليه بها: "إن عمر رضي الله عنه كان يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صواباً، وتارة يشير عليه علي وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف، وتارة يشير عليه غيرهم، وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 3، والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولا ادعت شبهة هل ترجم؟.
فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف أنها ترجم، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين.
ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا ترجم وهي الرواية الثانية عن أحمد، قالوا: لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء أو موطوءة بشبهة أو حملت بغير وطء، والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين، فقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في آخر عمره، وقال: "
…
الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف"4، فجعل الحبل دليلاً على ثبوت
1ـ سورة الأحقاف آية/15.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/151، طتاب الطرائف 2/472-473، والآية رقم 233 من سورة البقرة.
3ـ سورة الشورى آية/38.
4ـ صحيح البخاري 4/180، صحيح مسلم 3/1317.
الزنا كالشهود، وهكذا هذه القضية
…
فلما كان معروفاً عند الصحابة أن الحد يقام بالحبل، فلو ولدت المرأة لدون ستة أشهر أقيم عليها الحد، والولادة لستة أشهر نادرة إلى الغاية والأمور النادرة قد لا تخطر بالبال، فأجرى عمر ذلك على الأمر المعتاد المعروف في النساء كما في أقصى الحمل، فإن المعروف من النساء أن المرأة تلد لتسعة أشهر1 "كما وجد في النادر من حملت أربعة سنين ومن حملت سبعة سنين، وفي حد ذلك نزاع بين العلماء"2.
ومن القصص التي يسوقونها ويقولون إنها دلت على أن الفاروق رضي الله عنه كان لا يعرف بعض المسائل الشرعية أنه قال في خطبة له: "من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال"، فقالت امرأة: كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} 3، فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى المخدرات4.
ويرد عليهم أن هذه القصة لا تدل على ما تفهمونه معشر الرافضة وإنما "هي دليل على كمال فضله ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع له وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة، وليس من شرط الأفضل ألا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} 5، وقد قال موسى للخضر:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 6، والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وأشباهه من الصحابة، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريباً من موسى فضلاً عن
1ـ منهاج السنة 3/151-152.
2ـ المنتقى للذهبي ص/355.
3ـ سورة النساء آية/20.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/147، الطرائ
2/471.
5ـ سورة النمل آية/22.
6ـ سورة الكهف آية/66.
أن يكون مثله، بل الأنبياء المتبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم أفضل من الخضر، وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل، فإن الصداق فيه حق لله تعالى، ليس من جنس الثمن والأجرة فإن المال والمنفعة يستباح للإباحة ولا يجوز النكاح بغير صداق لغير النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين"1.
فلا وجهة صحيحة للرافضة توجب لهم الطعن على الفاروق بهذه القصة.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه كان يضطرب في الأحكام ويتقولون عليه بأنه قضى في مسألة الجد بمائة قضية2.
والجواب على هذا الزعم: أن عمر رضي الله عنه أسعد الصحابة المختلفين في الجد بالحق فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين:-
أحدهما: أنه يسقط الإخوة، وهذا قول أبي بكر وأبي موسى وابن عباس وطائفة، ومذهب أبي حنيفة وابن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة وهو الحق فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد، وقد اتفق المسلمون على أن الجد أب والأب أولى من الأعمام، فيجب أن يكون أبو الأب أولى من الإخوة، وأيضاً فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب ـ بمنزلة الجد لكان أولادهم وهم بني الإخوة كذلك ومعلوم أن الابن لما كان أولى من الجد كان ابنه بمنزلته، وأيضاً: فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أباً وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر
1ـ منهاج السنة 3/147، المنتقى للذهبي ص/353.
2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/22، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/152.
القول الثاني: إن الجد يقاسم الإخوة، وهذا قول عثمان وعلي وزيد وابن مسعود، ولكن اختلفوا في التفضيل اختلافاً متبايناً، والجمهور على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد.
فإن كان القول الأول في مسألة الجد هو الصواب فهو قول لعمر، وإن كان الثاني فهو قول لعمر وإنما نفذ قول زيد في الناس لأنه كان قاضي عمر وكان عمر ينفذ قضاءه في الجد لورعه، لأنه كان يرى أن الجد كالأب مثل قول أبي بكر فلما صار جداً تورع وفوض الأمر في ذلك لزيد، وقول القائل: إنه قضى في الجد بمائة قضية، إن صح هذا لم يرد به أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول، فإن هذا غير ممكن، وليس في مسائل الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء أم/أخت/وجد والأقوال فيها ستة1 فعلم أن المراد به إن كان صحيحاً أنه قضى في مائة حادثة من حوادث الجد وهذا مع أنه ممكن لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة، مع أن الأشبه أن هذا كذب، فإن وجود جد وأخوة في الفريضة قليل جداً في الناس، وعمر إنما تولى عشر سنين، وكان قد أمسك عن الكلام في الجد وثبت عنه في الصحيح أنه قال:"ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا"2.
ومن كان متوقفاً لم يحكم فيها بشيء3.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه:- أنهم يطعنون عليه بقولهم: "إنه جعل الأمر شورى بعده، وخالف فيه من تقدمه، فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس، ولا نص على إمام بعده بل تأسف على سالم مولى
1ـ انظر هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، كتاب "العذب الفائض بشرح عمدة الفارض" للشيخ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الفرضي 1/118-119.
2ـ انظر هذا الأثر عن عمر في صحيح مسلم 4/2232.
3ـ منهاج السنة 3/152، وانظر المنتقى للذهبي ص/355-356 وانظر إرث الجد مع الإخوة وحالاته، كتاب "العذب الفائض شرح عمدة الفارض" 1/105-122.
أبي حذيفة، وقال:"لو كان حياً لم يختلجني فيه شك" وأمير المؤمنين علي حاضر وجمع بين الفاضل والمفضول، ومن حق الفاضل التقدم على المفضول، ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتاً كما تقلده حياً ثم تقلده ميتاً بأن جعل الإمامة في ستة ثم ناقض فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضغف والقصور، ثم قال: إن اجتمع أمير وعثمان، فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف لعلمه أن علياً وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد، وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه عثمان وهو ابن عمه ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن وكل ذلك مخالف للدين، وقال لعلي: إن وليتها وليسوا بفاعلين لتركبنهم على المحجة البيضاء، وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها، وقال لعثمان: إن وليتها لتركبن آل بني معيط على رقاب الناس وإن فعلت لتقتلن، وفيه إشارة إلى الأمر بقتله1.
والجواب على هذا الهذيان أنه:
بمجرد أن يقرأه الإنسان أو يسمعه بجد أنه لا يخرج عن قسمين:
إما كذب في النقل، وإما قدح في الحق، فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب، أو غير معلوم الصدق، وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه، بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله له بها عمله، ولكن الرافضة لفرط جهلهم واتباعهم للهوى يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت،
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/158، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/22-24، حق اليقين لعبد الله شبر 1/188، وانظر الاحتجاج للطبرسي 1/134.
أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضاً، فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو علياً أو طلحة أو الزبير أو سعداً أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر وكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له
…
والفاروق رضي الله عنه رأى الأمر في الستة متقارباً فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر، ورأى أنه إذا عين واحداً فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوباً إليه، فترك التعيين خوفاً من الله تعالى، وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة"1.
ولا يقال إنه بجعله الأمر شورى بين الستة قد خالف به من تقدمه كما هو زعم الشيعة الرافضة، لأن الخلاف نوعان:
خلاف تضاد، وخلاف تنوع، فالأول مثل أن يوجب هذا شيئاً ويحرمه الآخر، والنوع الثاني: مثل القراءات التي يجوز كل منها، وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أنزل القرآن على سبعة أحرف" 2، وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان، فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه آخر، فقال لكليهما:"هكذا أنزلت"3، ومن هذا الباب أنواع التشهدات4، ومنه أيضاً جعل عمر رضي الله
1ـ منهاج السنة 3/162-164، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/362-364.
2ـ رواه الترمذي في سننة 4/264، من حديث أبي بن كعب.
3ـ المصدر السابق 4/264، من حديث عمر.
4ـ منهاج السنة 3/159، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/359.
عنه الأمر من بعده إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ولا يعتبر بذلك مخالفاً لمن تقدمه.
وأما ما يروى من ذكر عمر لسالم مولى أبي حذيفة، فقد علم أن الفاروق وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم1، وقد احتج بها المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة، فكيف يظن بعمر أنه كان يولي رجلاً من غير قريش بل من الممكن أنه أراد أن يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولي، ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة، فإنه كان من خيار الصحابة2.
وأما زعمهم أنه جمع بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول، فيقال لهم:
أولاً: هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة، ولم يكن تقدم بعضهم على بعض ظاهراً كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين، ولهذا كانت الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان وتارة يؤخذ برأي علي وتارة برأي عبد الرحمن وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر، ثم يقال لهم:
ثانيا: وإذا كان فيهم فاضل ومفضول فلم يقولون إن علياً هو الفاضل وعثمان وغيره هم المفضولون، وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة، منهم أيوب السختياني وغيره من قدم علياً على عثمان، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان3، وفي لفظ:"ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"4، فهذا إخبار عما كان عليه
1ـ انظر صحيح مسلم 3/1451-1452، المسند 3/129.
2ـ منهاج السنة 3/165، المنتقى ص/368.
3ـ انظر صحيح البخاري 2/289، سنن أبي داود 2/511.
4ـ صحيح البخاري 2/297، سنن أبي داود 2/511.
الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره1، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص، وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم.
قال الإمام أحمد: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان، وسئل عن خلافة النبوة، فقال: كل بيعة كانت بالمدينة وهو كما قال: فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعز ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك، وكلهم بايعوا عثمان بلا رغبة بذلها لهم ولا رهبة، فإنه لم يعط احداً على ولايته لا مالاً ولا ولاية وعبد الرحمن الذي بايعه لم يوله ولم يعطه مالاً وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض مع عبد الرحمن شاور جميع الناس ولم يكن لبني أمية شوكة ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان، مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله عز وجل:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2.
وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقولوا الحق حيثما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، ولم ينكر منهم أحد ولاية عثمان
…
فلولا علم القوم بأن عثمان أحقهم بالولاية لما ولوه وهذا أمر كلما تدبره الخبير ازداد به خبرة وعلماً، ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال، أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال والجهل بالأدلة أو بالنظر يورث الجهل، وأما من كان عالماً بما وقع وبالأدلة وعالماً بطريق النظر والاستدلال فإنه يقطع قطعاً لا يتمار فيه أن عثمان كان أحقهم بالخلافة وأفضل من بقي بعده"3.
1ـ ذكره الحافظ في الفتح 7/16، وعزاه للطبراني.
2ـ سورة المائدة آية/54.
3ـ منهاج السنة 3/165-166.
وأما زعمهم: أنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتاً كما تقلده حياً ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة.
فالرد عليه: "أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم كما نص على ذلك لكن بين عذره المانع له من تعيين واحد منهم وكره أن يتقلد ولاية معين ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة لأنه قد علم أنه لا أحد أحق بالأمر منهم، فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلده هو اختيار الستة والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة وهو تعيين واحد منهم تركه وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه، وليس كراهته لتقلده ميتاً كما تقلده حياً لطعنه في تقلده حياً، فإنه تقلد الأمر حياً باختياره، وبأن تقلده كان خيراً له وللأمة، وإن كان خائفاً من تبعة الحساب، فقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 1.
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب، قال:"لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه" 2، فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة والفرق بين تقلده حياً وميتاً أنه في حياته كان رقيباً على نوابه متعقباً لأفعالهم يأمرهم بالحج كل عام ليحكم بينهم وبين الرعية، فكان ما يفعلونه مما يكرهه يمكنه منعهم منه وتلافيه بخلاف ما بعد الموت، فإنه لا يمكنه لا منعهم مما يكرهه ولا تلافي ذلك فلهذا كره تقلد الأمر ميتاً، وأما تعيين الستة فهو عنده واضح بين لعلمه أنهم أحق الناس بهذا الأمر3.
1ـ سورة المؤمنون آية/60.
2ـ انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/105.
3ـ منهاج السنة 3/167، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/270.
وأما زعمهم أنه ناقض فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور.
فالرد عليه: "أنه ينبغي لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولاً وإذا قال القائل هذا غير معلوم الصحة لم يكن عليه حجة وعهد عمر بالأمر من بعده إلى الستة ثابت في صحيح البخاري1 وغيره ليس فيه شيء من هذا بل يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة، ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم ليس لعمر في ذلك أمر"2.
وأما بيان بطلان افترائهم عليه: أنه قال: إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن لعلمه أن علياً وعثمان لا يجتمعان على أمر وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه عثمان وابن عمه.
فالرد عليه يقال لهم: من "الذي قال إن عمر قال هذا، وإن كان قد قاله فلا يجوز أن يظن به أنه كان قصده ولاية عثمان محاباة له ومنع علي معاداة له، فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ولم ينتطح فيها عنزان كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له، فلو كان عمر عينه لكانوا أعظم متابعة له، وطاعة سواء كانوا كما يقوله المؤمنون أهل دين وخير وعدل أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم أن مقصودهم الظلم والشر، وعمر كان في حال الحياة لا يخاف احداً
…
فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر والأمر في أوله والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صار لعمر أمر فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته، والناس كلهم مطيعوه، وقد تمرنوا على طاعته، فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ولم يحتج إلى هذه
1ـ صحيح البخاري 2/297-299.
2ـ منهاج السنة 3/168، المنتقى ص/370.
الدويرة البعيدة، ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون علي وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي لا من جهة القبيلة ولا من غير جهة القبيلة، وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد1 وهم من قبيلة بني عدي ولا كان يولي من بني عدي أحداً بل ولى رجلاً2 منهم ثم عزله وكان رضي الله عنه باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمر وبلا غرض يحصل من الدنيا، فمن أقصى عشيرته وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه، ثم من مال بني عدي، ثم من مال قريش، ولا يؤخذ من بيت المال شيء ولا من سائر الناس فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما، حتى يقدمه وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه، والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك، فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا، فأي داع يدعوه إلى ذلك لا سيما عند الموت وهو وقت يسلم فيه الكافر ويتوب فيه الفاجر3 ولكن الرافضة قوم لا يفقهون.
وأما زعمهم: أن عمر رضي الله عنه علم أن عبد الرحمن رضي الله عنه لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه، "فهذا كذب بين على عمر وعلى أنسابهم فإن عبد الرحمن ليس أخاً لعثمان، ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلاً بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية، وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلاً منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، الذي قاله له النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي فليكرمن امرؤ
1ـ انظر سنن أبي داود 2/515-516، سنن الترمذي 5/311-312، 315-316.
2ـ هو النعمان بن عدي بن نضلة، انظر قصة عزله في تاريخ عمر، لابن الجوزي، ص/136-137.
3ـ منهاج السنة 3/168-169، وانظر المنتقى للذهبي ص/371.
خاله" 1، ولم يكن أيضاً: بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن"2.
وأما بيان بطلان ما نسبوه إليه من أنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، فيقال لهم أولاً: من ذكر من أهل العلم أن هذا صحيح؟، وأين النقل بهذا؟، وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحداً منهم، ثم يقال لهم: ثانياً: هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة، وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فساداً، ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلاناً وفلاناً فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولي بعدهم أحداً، وأيضاً فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء، والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك، وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك، فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعاً، ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم، ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحداً منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل يولي غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائماً تعرض عليه الولايات فلا يتولى، وما قتله أحد، وما آذاه أحد قط، وما سمع قط أن أحداً امتنع من الولاية فقتل على ذلك"3.
وأما بيان بطلان افترائهم عليه بأنه أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل
1ـ جاء في سنن الترمذي 5/313، بلفظ "هذا خالي فليرني امرؤ خاله".
2ـ منهاج السنة 3/170، وانظر المنتقى للذهبي ص/373.
3ـ منهاج السنة 3/170، وانظر المنتقى للذهبي ص/373.
من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن
…
الخ..المطاعن المذكورة في النص المتقدم، فالجواب عليه يقال لهم:"هذا من الكذب المفترى ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان "1، والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث، وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتله مثل هذا، ولا يجوز قتل مثل هذا ـ وما قالوا أنه أشار إلى قتل عثمان وإلى عدم تولية علي ـ "كذب بين على عمر، فإن قوله لئن فعلت ليقتلنك الناس إخبار عما يفعله الناس ليس فيه أمر لهم بذلك وكذلك قوله لا يولونه إياها إخبار عما سيقع ليس فيه نهي لهم عن الولاية مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر بل هو كذب عليه"2.
وحسبنا هذه المطاعن مما تناول به الرافضة عمر الفاروق رضي الله عنه إذ هذه أهم مطاعنهم عليه، وإلا فمطاعنهم في حق الفاروق كثيرة شحنوا بها كتبهم 3، وهي أكاذيب وأباطيل كلها من جنس ما تقدم ذكره في هذا المبحث، وكلها براهين واضحة دلت على أن الطاعنين على الصحابة أهل اختلاف وافتراء لا يدرون ما يكتبون لا شرعاً ولا عادة نعوذ بالله من الخذلان.
1ـ انظر سنن النسائي 7/92-93.
2 ـ منهاج السنة 3/172-173.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي 1/23-48، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/7-28، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/181-189، كتاب مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 1/220 وما بعدها.
الفصل الثاني: ردود أهل السنة على مطاعن الخوارج والنواصب في الصحابة
المبحث الأول: نشأة الخوارج
…
سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان"1.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى معرفاً لهم: "والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرؤوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم"2.
وقال في تعريف آخر:"أما الخوارج فهم جمع خارجة، أي: طائفة وهو قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين3.
فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم بعد موقعة صفين ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب "الخوارج" ومن تلك الألقاب: الحرورية4، والشراة5، والمارقة، والمحكمة6، وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية"7.
وأما بداية نشأتهم فإنها كانت بعد حصول الاتفاق على التحكيم بين علي ومعاوية سنة سبع وثلاثين، فقد أخرج الطبري من طريق سليمان بن يونس بن يزيد عن الزهري أن أهل الشام نشروا المصاحف حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/114.
2ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459.
3ـ فتح الباري 12/183.
4ـ سموا بهذا الاسم، لنزولهم بحروراء في أول أمرهم.
5ـ سموا شراة لقومهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي: بعناها بالجنة.
6ـ سموا بهذا الاسم: لإنكارهم الحكمين، وقولهم: لا حكم إلا لله.
7ـ مقالات الإسلاميين 1/207.