الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَالَ: "يَا عَائِشَة إِن الله لَا يحب الْفَاحِش الْمُتَفَحِّش.." 1
قَالَ الشَّيْخ الْخطابِيّ: "أصل الْفُحْش زِيَادَة الشَّيْء على مِقْدَاره وَمن هَذَا قَول الْفُقَهَاء "يصلى فِي الثَّوْب الَّذِي أَصَابَهُ الدَّم إِذا لم يكن فَاحِشا" أَي كثيرا مجاوزا للقدر الَّذِي يتعافاه النَّاس فِيمَا بَينهم.
يَقُول صلى الله عليه وسلم: إِن اسْتِقْبَال الْمَرْء صَاحبه بعيوبه إفحاش وَالله لَا يحب الْفُحْش، وَلَكِن الْوَاجِب أَن يتأنى لَهُ، ويرفق بِهِ ويكني فِي القَوْل، ويوري بِهِ وَلَا يُصَرح.
وَفِيه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد ذكره بِالْعَيْبِ الَّذِي عرف بِهِ قبل أَن يدْخل.. وَهَذَا من النَّبِي صلى اللَه علية وَسلم لَا يجْرِي مجْرى الْغَيْبَة، وَإِنَّمَا فِيهِ تَعْرِيف النَّاس أمره، وزجرهم عَن مثل مذْهبه، وَلَعَلَّه تجاهر بِسوء فعاله ومذهبه، وَلَا غيبَة لمجاهر" 2.
1 مُخْتَصر الْمُنْذِرِيّ على سنَن أبي دَاوُد جـ 7/ ص 169ـ170 كتاب الْأَدَب حَدِيث رقم /4624
2 نفس الْمرجع ص 171
من لَيست لَهُ غيبَة:
عَن أبي عبد الله الْجُشَمِي عَن جُنْدُب - وَهُوَ ابْن عبد الله البَجلِيّ رضى الله عَنهُ - قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِي فَأَنَاخَ رَاحِلَته ثمَّ عقلهَا ثمَّ دخل الْمَسْجِد فصلى خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ واله وَسلم، فَلَمَّا سلم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَتَى رَاحِلَته فأطلقها.. ثمَّ ركب ثمَّ نَادَى "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمدا وَلَا تشرك فِي رَحْمَتنَا أحدا"، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أتقولون هُوَ أضلّ أم بعيره؟ ألم تسمعوا إِلَى مَا قَالَ؟ قَالُوا بلَى".
أَبُو عبد اللَه - هَذَا هُوَ عَبَّاس الْجُشَمِي، ذكره النَّسَائِيّ فِي كتاب الكنى وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه نَحوا من حَدِيث أَبى وَلَيْسَ فِيهِ الْفَصْل الْأَخير..
وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أنس بن مَالك.
قَالَ الشَّيْخ ابْن الْقيم رَحمَه الله تَعَالَى: (وَإِدْخَال أبي دَاوُد هَذَا الحَدِيث هُنَا يُرِيد بِهِ أَن ذكر الرجل بِمَا فِيهِ فِي مَوضِع الْحَاجة لَيْسَ بغيبة مثل هَذَا، وَنَظِيره مَا تقدم من حَدِيث عَائِشَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ "ائذنوا لَهُ فبئس أَخُو الْعَشِيرَة" بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ:"بَاب أهل الْفساد والريب" وَذكر فِي الْبَاب عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَظن فلَانا وَفُلَانًا يعرفان من ديننَا شَيْئا".
وَفِي الْبَاب حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس لما خطبهَا مُعَاوِيَة وَأَبُو جهم.
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "أما مُعَاوِيَة: فصعلوك، وَأما أَبُو جهم: فَلَا يضع الْعَصَا عَن عَاتِقه".
وَقَالَت هِنْد للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: "إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح".
وَقَالَ الْأَشْعَث بن قيس للنَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي خَصمه: "إِنَّه امْرُؤ فَاجر".
وَقَالَ الْحَضْرَمِيّ بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي خَصمه: "إِنَّه رجل فَاجر لَا يُبَالِي مَا حلف عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يتورع من شَيْء
…
" رَوَاهُ مُسلم3.
رَأْي الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي الْأَمر بِجرح غير الثقاة من الروَاة.. روى بِسَنَدِهِ عَن مُحَمَّد ابْن الْفضل بن الْعَبَّاس يَقُول: "كُنَّا عِنْد عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم وَهُوَ إِذن يقْرَأ علينا كتاب (الْجرْح وَالتَّعْدِيل) فَدخل عَلَيْهِ يُوسُف بن الْحُسَيْن الرَّازِيّ فَقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا مُحَمَّد مَا هَذَا الَّذِي تقرؤه على النَّاس؟
3 مُخْتَصر الْمُنْذِرِيّ جـ 7/ ص 217 حَدِيث 4717
" قَالَ: "كتاب صنفته فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل"، قَالَ: "وَمَا الْجرْح وَالتَّعْدِيل؟ " قَالَ: "أظهر أَحْوَال أهل الْعلم من كَانَ مِنْهُم ثِقَة أَو غير ثِقَة.." فَقَالَ لَهُ يُوسُف بن الْحُسَيْن: "استحييت لَك يَا أَبَا مُحَمَّد، كم من هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد حطوا رواحلهم فِي الْجنَّة مُنْذُ مائَة ومائتي سنة وَأَنت تذكرهم وتغتابهم على أَدِيم الأَرْض"، فَبكى عبد الرَّحْمَن وَقَالَ: "يَا أَبَا يَعْقُوب لَو سَمِعت هَذِه الْكَلِمَة قبل تصنيفي هَذَا الْكتاب لما صَنعته".
قَالَ الْخَطِيب: وَلَيْسَ الْأَمر على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، لِأَن أهل الْعلم أَجمعُوا على أَن الْخَبَر لَا يجب قبُوله إِلَّا من الْعَاقِل الصدوق الْمَأْمُون على مَا يخبر بِهِ.
وَفِي ذَلِك دَلِيل على جَوَاز الْجرْح إِن لم يكن صَدُوقًا فِي رِوَايَته مَعَ أَن سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد وَردت مصرحة بِتَصْدِيق مَا ذكرنَا.. وبضد قَول من خَالَفنَا.
وروى حَدِيث عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة: "ائذنوا لَهُ فبئس أَخُو الْعَشِيرَة".
قَالَ: فَفِي قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم للرجل: " بئس رجل الْعَشِيرَة"، دَلِيل أَن أَخْبَار الْمخبر بِمَا يكون فِي الرجل من الْعَيْب على مَا يُوجب الْعلم من النَّصِيحَة للسَّائِل لَيْسَ بغيبة. لما أطلقهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا أَرَادَ عليه الصلاة والسلام بِمَا ذكر فِيهِ- والله اعْلَم- أَن بئس للنَّاس الْحَالة المذمومة مِنْهُ، وَهِي الْفُحْش، فيجتنبوها، لَا أَنه أَرَادَ الطعْن عَلَيْهِ والثلب لَهُ.
قَالَ الْخَطِيب: "وَكَذَلِكَ أَئِمَّتنَا فِي الْعلم بِهَذِهِ الصِّنَاعَة، إِنَّمَا أطْلقُوا الْجرْح فِيمَن لَيْسَ بِعدْل، لِئَلَّا يتغطى أمره على من لَا يُخبرهُ فيظنه من أهل الْعَدَالَة فيحتج بِخَبَرِهِ، والإخبار عَن حَقِيقَة الْأَمر إِذا كَانَ على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، لَا يكون غيبَة".
يَقُول أَيْضا: وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس الَّذِي أخبرناه عبد الرَّحْمَن ابْن عبيد الله الْحرفِي بِسَنَدِهِ عَن مَالك بن أنس عَن عبد الله بن يزِيد مولى الْأسود بن سُفْيَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن فَاطِمَة بنت قيس أَن أَبَا عَمْرو بن حَفْص طَلقهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِب بِالشَّام فَأرْسل إِلَيْهَا وَكيله بشعير فتسخطته فَقَالَ والله مَالك علينا من شَيْء فَجَاءَت رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ: "لَيْسَ لَك عَلَيْهِ نَفَقَة"، وأمرها أَن تَعْتَد فِي بَيت أم شريك ثمَّ قَالَ:"إِنَّهَا امْرَأَة يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتدي عِنْد ابْن أم مَكْتُوم فانه رجل أعمى تَضَعِينَ ثِيَابك، فَإِذا حللت فأذيني"، قَالَت:"فَلَمَّا حللت ذكرت لَهُ أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأَبا جهم خطباني فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه وَأما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ انكحي أُسَامَة بن زيد"، قَالَت: "فَكَرِهته" ثمَّ قَالَ: "انكحي أُسَامَة ابْن زيد" فنكحته فَجعل الله فِيهِ خيرا كثيرا واغتبطت بِهِ.
فِي هَذَا الْخَبَر دلَالَة على أَن إجَازَة الْجرْح للضعفاء من جِهَة النَّصِيحَة لتجنب الرِّوَايَة عَنْهُم وليعدل عَن الِاحْتِجَاج بأخبارهم لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر فِي أبي جهم أَنه لَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه، وَأخْبر عَن مُعَاوِيَة أَنه صعلوك لَا مَال لَهُ، عِنْد مشورة استشير فِيهَا لَا تتعدى المستشير كَانَ ذكر الْعُيُوب الكامنة فِي بعض نقلة السّنَن الَّتِي يُؤَدِّي السُّكُوت عَن إظهارها عَنْهُم، وكشفهم عَلَيْهِم إِلَى تَحْرِيم الْحَلَال وَتَحْلِيل الْحَرَام.. وَإِلَى الْفساد فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام أولى بِالْجَوَازِ وأحق بالإظهار.
وَأما الْغَيْبَة الَّتِي نهى الله عَنْهَا بقوله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} 1،وزجر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْهَا بقوله:"يَا معشر من آمن بِلِسَانِهِ وَلم يدْخل الْإِيمَان قلبه لَا تَغْتَابُوا الْمُسلمين وَلَا تتبعوا عَوْرَاتهمْ".
فَنهى عَن ذكر الرجل عُيُوب أَخِيه يقْصد بهَا الْوَضع مِنْهُ والتنقيص لَهُ والازدراء بِهِ، فِيمَا لَا يعود إِلَى حكم النَّصِيحَة، وَإِيجَاب الدّيانَة من التحذير عَن ائتمان الخائن وَقبُول خبر الْفَاسِق، واستماع شَهَادَة الْكَاذِب، وَقد تكون الْكَلِمَة الْوَاحِدَة لَهَا مَعْنيانِ مُخْتَلِفَانِ على حسب اخْتِلَاف حَال قَائِلهَا، فِي بعض الْأَحْوَال يَأْثَم قَائِلهَا وَفِي حَالَة أُخْرَى لَا يَأْثَم..
1 سُورَة الحجرات آيَة (12)