المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لماذا لا نجرح الصحابة - علم الجرح والتعديل

[عبد المنعم السيد نجم]

الفصل: ‌لماذا لا نجرح الصحابة

فِيهَا وَلم يظْهر لَهُم تَرْجِيح أحد الطَّرفَيْنِ فاعتزوا الْفَرِيقَيْنِ وَكَانَ هَذَا الاعتزال هُوَ الْوَاجِب فِي حَقهم لِأَنَّهُ لَا يحل الْإِقْدَام على قتال مُسلم حَتَّى يظْهر أَنه مُسْتَحقّ لذَلِك وَلَو ظهر لهَؤُلَاء رُجْحَان أحد الطَّرفَيْنِ وَأَن الْحق مَعَه لما جَازَ لَهُم التَّأَخُّر عَن نصرته فِي قتال الْبُغَاة عَلَيْهِ فكلهم معذورون رضي الله عنهم..".

وَلِهَذَا اتّفق أهل الْحق وَمن يعْتد بِهِ فِي الْإِجْمَاع على قبُول شهاداتهم ورواياتهم وَكَمَال عدالتهم رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَعَن تَحْرِيم سبهم روى مُسلم بِسَنَدِهِ عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ، قَالَ: رَسُول الله صلى عَلَيْهِ سلم: " لَا تسبوا أَصْحَابِي، لَا تسبوا أَصْحَابِي، فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَن أحدكُم أنْفق مثل أحد ذَهَابًا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه.." وروى بِسَنَدِهِ عَن أبي صَالح عَن أبي سعيد قَالَ: كَانَ بَين خَالِد بن الْوَلِيد وَبَين عبد الرَّحْمَن بن عَوْف شَيْء فَسَبهُ خَالِد فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تسبوا أحدا من أَصْحَابِي فَإِن أحدكُم لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه.." قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَسَب الصَّحَابَة من الْمعاصِي الْكَبَائِر ومذهبنا وَمذهب جُمْهُور أَنه يُعَزّر وَلَا يقتل وَقَالَ الْمَالِكِيَّة يقتل"1 قَالَ الْخطابِيّ: النصيف بِمَعْنى النّصْف كَمَا قَالُوا الثمين بِمَعْنى الثّمن وَالْمعْنَى أَن جهد الْمقل مِنْهُم واليسير من النَّفَقَة الَّذِي أنفقوه فِي سَبِيل الله مَعَ شدَّة الْعَيْش والضيق الَّذِي كَانُوا فِيهِ أوفى عِنْد الله وأزكى من الْكثير الَّذِي يُنْفِقهُ من بعدهمْ"2.

قَالَ القَاضِي عِيَاض: "وَيُؤَيّد هَذَا مَا جَاءَ عَن الْجُمْهُور من تَفْضِيل الصَّحَابَة كلهم على جَمِيع من بعدهمْ، وَسبب تَفْضِيلهمْ نَفَقَتهم أَنَّهَا كَانَت فِي وَقت الضَّرُورَة وضيق الْحَال بِخِلَاف غَيرهم، وَلِأَن إنفاقهم كَانَ فِي نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته، وَذَلِكَ مَعْدُوم بعده وَكَذَلِكَ جهادهم وَسَائِر طاعاتهم وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا..} الْآيَة 3 هَذَا كُله مَعَ مَا كَانَ فِي أنفسهم من الشَّفَقَة والتودد والخشوع والتواضع وإيثار الْجِهَاد فِي الله حق جهاده وفضيلة الصَّحَابَة وَلَو لَحْظَة لَا يوازيها عمل وَلَا تنَال درجتها بِشَيْء والفضائل لَا تُؤْخَذ بِقِيَاس، ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء". وروى الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن أبي زرْعَة يَقُول: "إِذا رَأَيْت الرجل ينتقص أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَاعْلَم أَنه زنديق.. وَذَلِكَ أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عندنَا حق وَالْقُرْآن حق وَإِنَّمَا أُدي إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآن وَالسّنَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ سلم، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الْكتاب وَالسّنة وَالْجرْح بهم أولى وهم زنادقة"4.

1 صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ جـ 16 ص 92

2 مُخْتَصر الْمُزنِيّ مَعَ معالم السّنَن جـ 7 حَدِيث 4493 ص 34

3 الْحَدِيد آيَة 10

4 الْكِفَايَة للخطيب الْبَغْدَادِيّ ص 97

ص: 61

‌لماذا لَا نجرح الصَّحَابَة

!

لأَنهم الَّذين شهدُوا الْوَحْي والتنزيل، وَعرفُوا التَّفْسِير والتأويل، وهم الَّذين اخْتَارَهُمْ الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته، وَإِقَامَة دينه وَإِظْهَار حَقه فرضيهم لَهُ صحابة.

وجعلهم لنا أعلاما وقدوة. فحفظوا عَنهُ مَا بَلغهُمْ عَن الله عز وجل، وَمَا سنّ وَمَا شرع وَحكم وَقضى، وَندب وَأمر وَنهى وحظر وأدب.

فالصحابة رضي الله عنهم هم النَّاس بِكِتَاب الله وَسنة رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسلم وانظروا قَضَاءَهُ وَحكمه فِيمَا اخْتلف النَّاس فِيهِ، وشهدوا أخلاقه وآدابه، وأحواله وتصرفه فِي السّلم وَالْحَرب والمعاهدات، وَأُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، واستقى كل مِنْهُم بِقدر استعداده من ينبوع الْفَيْض الرباني.

ص: 61

وَقد أَشَارَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِك فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ بِسَنَدِهِ عَن ابْن الشهَاب قَالَ: قَالَ حميد بن عبد الرَّحْمَن، سَمِعت مُعَاوِيَة خَطِيبًا يَقُول: سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول: "من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين، وَإِنَّمَا أَنا قَاسم والله يعْطى، وَلنْ تزَال هَذِه الْأمة قَائِمَة على أَمر الله لَا يضرهم من خالفهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله.." وتسابق الصَّحَابَة فِي أَخذ مَا يرد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ووعوه وأتقنوه ففقهوا فِي الدّين وَعَلمُوا أَمر الله وَنَهْيه وَمرَاده- بمعاينة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم مِنْهُ تَفْسِير الْكتاب وتلقفهم مِنْهُ واستنباطهم عَنهُ.

فشرفهم الله بِمَا منّ عَلَيْهِم وَأكْرمهمْ بِهِ من وَضعه إيَّاهُم مَوضِع الْقدْوَة فنفى عَنْهُم الشَّك وَالْكذب والغلط والريبة والغمز، وَسَمَّاهُمْ عدُول الْأمة، فَقَالَ عز وجل فِي كِتَابه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ففسر النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن الله عز ذكره قَوْله:{وَسَطاً} قَالَ: "عدلا.." فَكَانُوا عدُول الْأمة، وأئمة الْهدى وحجج الدّين ونقلة الْكتاب وَالسّنة، وسندهم عَال فَلَيْسَ بَينهم وَبَين الله إِلَّا واسطتان النَّبِي وَجِبْرِيل عليهما السلام.

وَقد قَالَ قَائِل: فَكيف جرحتم من بعد الصَّحَابَة؟ كَمَا ظهر ذَلِك من عناية أَئِمَّة الحَدِيث بِحِفْظ السّنَن على الْمُسلمين وذب الْكَذِب عَن رَسُول رب الْعَالمين، ولولاهم لتغبرت الْأَحْكَام عَن سنتها حَتَّى لَا يعرف أحد صحيحها من سقيمها والملزق بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والموضوع عَلَيْهِ مِمَّا روى عَنهُ الثقاة وَالْأَئِمَّة فِي الدّين، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جرحتم من دون الصَّحَابَة وَأَبَيْتُمْ ذَلِك فِي الصَّحَابَة والسهو قد يَقع مِنْهُم كَمَا وجد فِيمَن بعدهمْ من الْمُحدثين؟ يُقَال لَهُ: إِن الله نزه أقدار أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن ثلب قَادِح، وصان أقدارهم عَن وقيعة متنقص، وجعلهم كَالنُّجُومِ يقْتَدى بهم.

وَقد قَالَ الله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ثمَّ قَالَ: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} فَمن أخبر الله أَنه لَا يخزيه يَوْم الْقِيَامَة فقد شهد لَهُ باتباعه مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا لَا يجوز أَن يجرح بِالْكَذِبِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يَقُول الله:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ثمَّ يَقُول النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "من كذب على مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " فيطلق النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِيجَاب النَّار لمن أخبر الله أَنه لَا يخزيه يَوْم الْقِيَامَة، بل الْخطاب وَقع على من بعد الصَّحَابَة.

وَأما من شهد التَّنْزِيل، وَصَحب الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فالثلب لَهُم غير حَلَال، والقدح فيهم ضد الْإِيمَان والتنقيص لأَحَدهم نفس النِّفَاق، لأَنهم خير النَّاس قرنا بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِحكم من لَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى صلى الله عليه وسلم.

وَأَن من تولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إيداعهم مَا ولاه الله بَيَانه للنَّاس لَا يجرح، لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يودع أَصْحَابه الرسَالَة وَأمرهمْ أَن يبلغ الشَّاهِد الْغَائِب إِلَّا وهم عِنْده صَادِقُونَ جائزوا الشَّهَادَة، وَلَو لم يَكُونُوا كَذَلِك لم يَأْمُرهُم بتبليغ من بعدهمْ مَا شهدُوا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ فِيهِ قدحا فِي الرسَالَة، وَكفى بِمن عدله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم شرفا، وَأَن من بعد الصَّحَابَة لَيْسُوا فِي مرتبهم.

وَالصَّحَابَة ندب الله عز وجل إِلَى التَّمَسُّك بهديهم والجري على منهاجهم، والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فَقَالَ:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} 1.

وَثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد حض على التَّبْلِيغ عَنهُ فِي أَخْبَار كَثِيرَة ووجدناه يُخَاطب أَصْحَابه فِيهَا، مِنْهَا أَن دَعَا لَهُم فَقَالَ:"نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها حَتَّى يبلغهَا غَيره".

وَفِي رِوَايَة زيد بن ثَابت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فحفظه وبلغه غَيره، فَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه"، وَفِي رِوَايَة، "وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ ثَلَاث لَا يضل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم: إخلاص الْعَمَل لله، ومناصحة وُلَاة الْأَمر، وَلُزُوم الْجَمَاعَة فان دعوتهم تحيط من ورائهم" وَغير ذَلِك.

1 سُورَة النِّسَاء آيَة (115)

ص: 62