الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعَدَالَة وأحكامها:
أنشأ الْعلمَاء من سلف الْأمة وَمن تَبِعَهُمْ أمورا أَو شُرُوطًا تعرف بهَا، مِنْهَا مَا رواد الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِفَايَته بِسَنَدِهِ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن عبد الله بن عتبَة ابْن مَسْعُود قَالَ سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول:"إِن أُنَاسًا كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْوَحْي فِي عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِن الْوَحْي قد انْقَطع وَإِنَّمَا آخذكم الْآن بِمَا ظهر من أَعمالكُم فَمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وَلَيْسَ لنا من سَرِيرَته شَيْء الله يحاسبه فِي سَرِيرَته، وَمن أظهر لنا سوءا لم نَأْمَنهُ وَلم نصدقه وَإِن قَالَ إِن سَرِيرَته حَسَنَة.." وَرُوِيَ أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَن الْحُسَيْن بن عَليّ رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "من عَامل النَّاس فَلم يظلمهم وَحَدَّثَهُمْ فَلم يكذبهم وَوَعدهمْ فَلم يخلفهم فَهُوَ مِمَّن كملت مروءته وَظَهَرت عَدَالَته وَوَجَبَت أخوته وَحرمت غيبته".
حد الْعدْل:
حد الْعدْل فِي الْمُسلمين من لم يظْهر بِهِ رِيبَة، أَو للعدل بَين الْمُسلمين أَو الْعدْل فِي الشَّهَادَة الَّذِي لم تظهر مِنْهُ رِيبَة وَسُئِلَ عبد الله بن الْمُبَارك عَن الْعدْل فَقَالَ:"من كَانَ فِيهِ خمس خِصَال: يشْهد الْجَمَاعَة، وَلَا يشرب هَذَا الشَّرَاب، وَلَا تكون فِي دينه خربه، وَلَا يكذب، وَلَا يكون فِي عقله شَيْء".
الْمِقْدَار فِي تحقق الْعَدَالَة:
روى الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن مَالك بن أنس يَقُول سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول سَمِعت سعيد ابْن الْمسيب يَقُول: "لَيْسَ من شرِيف وَلَا عَالم وَلَا ذِي سُلْطَان إِلَّا وَفِيه عيب لابد وَلَكِن من النَّاس من لَا تذكر عيوبه من كَانَ فَضله أَكثر من نَقصه وهب نَقصه لفضله"، وروى بِسَنَدِهِ عَن البويطى يَقُول قَالَ الشَّافِعِي:"لَا أعلم أحدا أعْطى طَاعَة لله حَتَّى لَا يخلطها بِمَعْصِيَة إِلَّا يحي بن زَكَرِيَّا عليه السلام، وَلَا عصى الله فَلم يخلط بِطَاعَتِهِ، فَإِذا الْأَغْلَب الطَّاعَة فَهُوَ الْمعدل، وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب الْمعْصِيَة فَهُوَ المجرح".
وَمعنى آخر يحدد الْعَدَالَة وَيبين الْعدْل: قَالَ الْخَطِيب حَدثنِي أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبيد الله الْمَالِكِي أَنه قَرَأَ على القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب قَالَ: "وَالْعَدَالَة الْمَطْلُوبَة فِي صفة الشَّاهِد والمخبر هِيَ الْعَدَالَة الراجعة إِلَى استقامة دينه وسلامة مذْهبه وسلامته من الْفسق وَمَا يجْرِي مجْرَاه مِمَّا اتّفق على أَنه مُبْطل للعدالة من أَفعَال الْجَوَارِح والقلوب الْمنْهِي عَنْهَا وَالْوَاجِب أَن يُقَال فِي جَمِيع صِفَات الْعَدَالَة أَنَّهَا اتِّبَاع أوَامِر الله تَعَالَى والانتهاء عَن ارْتِكَاب مَا نهى عَنهُ مِمَّا يسْقط الْعَدَالَة.. وَقد علم من ذَلِك أَنه لَا يكَاد يسلم الْمُكَلف من الْبشر من كل ذَنْب وَمن ترك بعض مَا أَمر بِهِ حَتَّى يخرج لله من كل مَا وَجب عَلَيْهِ وَأَن ذَلِك يتَعَذَّر فَيجب لذَلِك أَن يُقَال إِن الْعدْل هُوَ من عرف بأَدَاء فَرَائِضه وَلُزُوم مَا أَمر بِهِ وتوقى مَا نهى عَنهُ وتجنب الْفَوَاحِش المسقطة وتحري الْحق وَالْوَاجِب فِي أَفعاله ومعاملته والتوقي فِي لَفظه مِمَّا يثلم الدّين والمروءة فَمن كَانَت هَذِه حَاله فَهُوَ الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ عدل فِي دينه ومعروف بِالصّدقِ فِي حَدِيثه، وَلَيْسَ يَكْفِيهِ فِي ذَلِك اجْتِنَاب كَبَائِر الذُّنُوب الَّتِي يُسمى فاعلها فَاسِقًا وَزَادُوا على هَذَا بعض الذُّنُوب الَّتِي لَيست من الْكَبَائِر، إِمَّا لِأَنَّهَا متهمة لصَاحِبهَا ومسقطة لَهُ ومانعة من ثقته، وأمانته أَو لغير ذَلِك فَإِن الْعَادة مَوْضُوعَة على أَن من احتملت أَمَانَته سَرقَة بصله وتطفيف حَبَّة احتملت الْكَذِب، وَأخذ الرشاوى على الشَّهَادَة وَوضع الْكَذِب فِي الحَدِيث والاكتساب بِهِ فَيجب أَن تكون هَذِه الذُّنُوب فِي إِسْقَاطهَا للْخَبَر وَالشَّهَادَة بِمَثَابَة مَا اتّفق على أَنه فسق يسْتَحق بِهِ الْعقَاب.." إِلَى أَن قَالَ: "فَهَذِهِ سَبيله فِي أَنه يجب كَون الشَّاهِد والمخبر سليما مِنْهُ.." قَالَ الْخَطِيب: "وَالْوَاجِب عندنَا أَن لَا يرد الْخَبَر وَالشَّهَادَة إِلَّا بعصيان قد اتّفق على رد الْخَبَر وَالشَّهَادَة بِهِ وَمَا يغلب بِهِ ظن الْحَاكِم وَالْعلم أَن مقترفه غير عدل وَلَا مَأْمُون عَلَيْهِ الْكَذِب فِي الشَّهَادَة وَالْخَبَر وَلَو عمل الْعلمَاء والحكام على أَن لَا يقبلُوا خَبرا وَلَا شَهَادَة إِلَّا من مُسلم بَرِيء من كل كذب قل أَو كثر لم يُمكن قبُول شَهَادَة أحد وَلَا خَبره لِأَن الله قد أخبر بِوُقُوع الذُّنُوب من كثير وَلَو لم يرد خبر صَاحب ذَلِك شَهَادَته بِحَال لوَجَبَ أَن يقبل خبر الْكَافِر وَالْفَاسِق وشهادتهما وَذَلِكَ خلاف الْإِجْمَاع فَوَجَبَ القَوْل فِي جَمِيع صفة الْعدْل بِمَا ذكر".
زِيَادَة إِيضَاح:
وَفسّر الْعدْل أَيْضا بِأَن يكون مُسلما بَالغا عَاقِلا فَلَا يقبل كَافِر وَمَجْنُون مطبق بِالْإِجْمَاع وَمن تقطع جُنُونه وَأثر فِي زمن إِفَاقَته وَإِن لم يُؤثر قبل وَلَا صَغِير على الْأَصَح، وَقيل يقبل الْمُمَيز إِن لم يجرب عَلَيْهِ الْكَذِب وَأَن يكون سليما من أَسبَاب الْفسق وخوارم الْمُرُوءَة، والمروءة بِضَم الْمِيم وَالرَّاء على وزن سهولة وَهِي آدَاب نفسانية تحمل مراعاتها على الْوُقُوف عِنْد محَاسِن الْأَخْلَاق وَجَمِيل الْعَادَات ومعرفتها ترجع إِلَى الْعرف.
مَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُحدث وَالشَّاهِد من الصِّفَات وَمَا يفترقان فِيهِ جَاءَ عَن أَبى بكر مُحَمَّد ابْن الطّيب قَالَ: لَا خلاف فِي وجوب قبُول خبر من اجْتمع فِيهِ جَمِيع الصِّفَات الشَّاهِد فِي الْحُقُوق من الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل والضبط والصدق وَالْأَمَانَة وَالْعَدَالَة إِلَى مَا شاكل ذَلِك، وَلَا خلاف أَيْضا فِي وجوب اتِّفَاق الْمخبر وَالشَّاهِد فِي الْعقل والتيقظ فَأَما مَا يفترقان فِيهِ فوجوب كَون الشَّاهِد حرا وَغير وَالِد وَلَا مَوْلُود وَلَا قريب قرَابَة تُؤدِّي إِلَى ظَنّه وَغير صديق ملاطف وَكَونه رجلا إِذا كَانَ فِي بعض الشَّهَادَات وَأَن يكون اثْنَيْنِ فِي بعض الشَّهَادَات وَأَرْبَعَة فِي بَعْضهَا وكل ذَلِك غير مُعْتَبر فِي الْمخبر لأننا نقبل خبر العَبْد وَالْمَرْأَة وَالصديق وَغَيره، وإجمالا: الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة كِلَاهُمَا خبر غير أَن الرِّوَايَة خبر عَام قصد بِهِ تَعْرِيف دَلِيل شَرْعِي وَأما الشَّهَادَة فَهِيَ خبر خَاص قصد بِهِ تَرْتِيب فصل الْقَضَاء عَلَيْهِ وَيشْتَرط عدم الْعَدَاوَة بَين الشَّاهِد والمشهود عَلَيْهِ.
تَنْبِيه:
قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: "فَأَما الحَدِيث الَّذِي أخبرناه القَاضِي أَبُو عمر الْقَاسِم بن جَعْفَر الْهَاشِمِي بِسَنَدِهِ عَن صَالح بن حسان عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تكْتبُوا الْعلم إِلَّا عَمَّن تجوز شَهَادَته.." فَإِن صَالح بن حسان تفرد بروايته وَهُوَ مِمَّن اجْتمع نقاد الحَدِيث على ترك الِاحْتِجَاج بِهِ لسوء حفظه وَقلة ضَبطه، وَكَانَ يروي الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن كَعْب تَارَة مُتَّصِلا، وأخري مُرْسل، وَيَرْفَعهُ تَارَة ويوقفه أُخْرَى.. وسَاق كل طرقه"، ثمَّ قَالَ:"على أَن هَذَا الحَدِيث لَو ثَبت إِسْنَاده وَصَحَّ رَفعه، لَكَانَ مَحْمُولا على أَن المُرَاد بِهِ جَوَاز الْأَمَانَة فِي الْخَبَر بِدَلِيل الْإِجْمَاع على أَن خبر العَبْد الْعدْل مَقْبُول".
روى ابْن حبَان بِسَنَدِهِ عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه قَالَ: قَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى فَقَالَ: "نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا إِلَى من لم يسْمعهَا فَرب حَامِل فقه لَا فقه لَهُ وَفِي رِوَايَة "غير فَقِيه " وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ ثَلَاث لَا يضل عَلَيْهِنَّ قلب الْمُؤمن: إخلاص الْعَمَل والنصيحة لأولى الْأَمر وَلُزُوم الْجَمَاعَة فَإِن دعوتهم تكون من ورائهم" 1 قَالَ أَبُو حَاتِم: "الْوَاجِب على كل من ركب فِيهَا آلَة الْعلم، أَن يرْعَى أوقاته على حفظ السّنَن رَجَاء اللحوق بِمن دَعَا لَهُم النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذْ الله جلّ وَعلا أَمر عباده بِاتِّبَاع سنته وَعند التَّنَازُع الرُّجُوع إِلَى مِلَّته حَيْثُ قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} 2 ثمَّ نفى الْإِيمَان عَمَّن لم يحكمه فِيمَا شجر بَينهم فَقَالَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 وَلم يقل حَتَّى يحكموا فلَانا وَفُلَانًا فِيمَا شجر بَينهم وَلَا قَالَ حرجا مِمَّا قضى فلَان وَفُلَان، فَالْحكم بَين الله عز وجل وَبَين خلقه رَسُوله صلى الله عليه وسلم فَقَط، فَلَا نحب لمن أشعر الْإِيمَان قلبه أَن يقصر فِي حفظ السّنَن بِمَا قدر عَلَيْهِ حَتَّى يكون رُجُوعه عِنْد التَّنَازُع إِلَى قَول من لَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى صلى الله عليه وسلم وَقد تقدم حَدِيث "بلغُوا عني وَلَو آيَة.." وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي تَغْلِيظ الْكَذِب عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرَة كَمَا مر أَيْضا.
1 الْجرْح وَالتَّعْدِيل لِابْنِ أَبى حَاتِم قسم 1ص 10 وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ وَهُوَ حسن.
2 سُورَة النِّسَاء آيَة (59) .
3 سُورَة النِّسَاء آيَة (65) .