الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم علل الحديث ودوره في حفظ السنة النبوية
إعداد: د. وصي الله بن محمد عباس الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
ال
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمما لا شك فيه أن السنة النبوية بجميع أنواعها أصل للدين الحنيف مع كتاب الله عز وجل، وكلاهما وحي من الله عز وجل إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] ، وقد قضى الله سبحانه وأكَّد أن السنة مبينة لكتاب الله، قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: من الآية44] .
ولما كانت وظيفة السنَّة أنها موضحة لكتاب الله؛ وجب أن تكون محفوظة بحفظ الله، محفوفة برعاية الله حتى لا يضيع منها شيء ولا يدخل فيها ما ليس منها، تكفل الله بحفظها وصيانتها، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .
ولماكان المسلمون مأمورين باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: من الآية59] كان لابد أن يحافظوا على ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم.
ومما لا يُختلف فيه: أن الدين هو رأس مال المسلم، وقد عرف المسلم أن الدين لا يُفهم، والهداية لا تحصل، إلا بمعرفة أصول الدين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإجماع والقياس لا يبنيان إلا عليهما.
فلما كانت السنة بهذه المنزلة من العظمة في الشأن؛ كان من الأمور البدهية أن يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحفظها صحابته.
ومعلوم من فطرة البشر أنه كلما رأى الشيء غالياً ومهماً بالغ في حفظه وصيانته. وقد شهد التاريخ الصادق أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه، كانوا أول الدارسين لهذا العلم المبارك على يد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، في أول جامعة متنقلة جمعت بين نُزَّاع القبائل وخلاصة البطون والأفخاذ في دار الأرقم بمكة، ثم انتقلت هذه الجامعة إلى يثرب التي صارت طيبة لطيب الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقرت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه الجامعة تنتقل أينما حل وارتحل معلمها، الذي كان يُلَقَّى العلم والوحي من لدن العليم الحكيم، وكان ينزل به عليه الروح الأمين. نعم كان طلبة السنة النبوية يتنقلون مع نبيهم حتى في طريق ذهابه إلى الخلاء لقضاء حاجته، فيحمل أحدهم الإداوة من الماء، والثاني العَنَزَة، ويتعلمون منه أدب الخلاء.
كان أولئك الطلبة الأبرار ينتقلون مع معلمهم صلى الله عليه وسلم في الغزوات والسفرات والحج والعمرات، فما يلفظ من قول إلا يقع في قلوب أصحابه، فيجدون حلاوته وطلاوته، ويحفظونه حفظاً وعلماً، ويعملون به عملاً، فتعلموا العلم والعمل، يكرمونه إكراماً، ويهابونه إجلالاً، ويحبونه أحب من أنفسهم وآبائهم وأولادهم.
وكان المعلم المبارك صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، يتخولهم بالموعظة والتعليم، يدخل مجامعهم رجالاً ونساءً، فما من أحد صحبه صلى الله عليه وسلم رجلاً كان أو امرأة، صغيراً كان أو كبيراً، إلا ويحفظ عنه على قدره، ويتشرف بدعوته المباركة: “نضَّر
الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع" (1) . فإن كان آلاف الصحابة يتعلمون منه خارج بيوته في وضح النهار وإدباره أعماله وحركاته، فمن أين لنا أن نعلم سننه وأموره ولياليه بعدما تتشرف به جدران حجراته فتستر وجوده الشريف عن أعين الناس بما يأتي به، ويذر في جنح الظلام؟ نعم، هناك أزواجه أمهات المؤمنين الكثيرات ينقلن عنه أموره الخاصة حتى مما يستحيا من ذكره، ولكنه دين الله وأمر الله لتبليغ دينه، فنجدهن ينقلن إلى أبنائهن ما كان يعمله النبي صلى الله عليه وسلم في خلوته معهن.
ثم وراء هذا يحرص أحدهم من محارم أمهات المؤمنين أن يبيت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتعلم كيف كان يقضي صلى الله عليه وسلم ليله في عبادة ربه، ويصعد أحدهم على سطح بيت إحدى أمهات المؤمنين -وهي أخته- لبعض حاجته، فيتفق له أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في الكنيف يقضي حاجته، فيروي في ذلك:"فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستدبراً القبلة مستقبلاً الشام"(2) .
وبذلك يجب أن نؤمن أنه لا يمكن أن تكون كلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ضاعت بل حفظت حفظاً تاماً.
وإن بعضهم كان يعالج الشدة في حفظ السنة، فإذا اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسيانه وتَفَلُّتَ محفوظه، أشكاه صلى الله عليه وسلم بدعوته المباركة.
ثم صار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمين لأصحابهم، فأدوا الأمانة إلى تابعيهم، وتابعوهم إلى تابعيهم، حتى دونت السنة تدويناً في الكتب، وحُفظت عن ظهر القلوب.
(1) صحيح الجامع الصغير (6/29) .
(2)
انظر صحيح البخاري (1/250) ، كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت.
وشهد التاريخ الصادق أن المسلمين في كل عصر ومصر بذلوا كل مستطاعهم لحفظ السنة من كل دخيل يدخل فيها سهواً أوعمداً.
وإن علوم الحديث وقواعده التي قَعَّدوها لمعرفة صحيح حديث رسول الله وضعيفه، تدل على توفيق الله لهم على ما وهبهم من القوة في الإرادة والذكاء والفطنة.
ففي كل عَصْرٍ تحمَّل علماء السنة مسؤوليتهم، فحموا السنة، وألَّفوا فيها تآليف، وحرروا المسائل، وترجموا لآلاف الرواة، وحكموا عليهم بعلم وخبرة وسبْر واستقراء، وأعطوا كل ذي حق حقه من الثقة والضعف.
هذا ومن أهم فنون علم الحديث: فن معرفة العلل، فإنه من أدقها وأطلبها للجهد والكدِّ، فإن هذا العلم لا يحصل إلا بجمع الطرق واستيعاب الرواة المهملين والمشتبهين والمؤتلفين والمختلفين وغيرهم ولا يقوم به إلا أفذاذ وأفراد.
وفي الصفحات الآتية نذكر لمحة عن علل الحديث تحت عنوان "علم علل الحديث ودوره في حفظ السنة النبوية"، نقدمه لندوة عناية المملكة العربية السعودية – أقامها الله وأدامها– بالسنة والسيرة النبوية.
وقد انتظم البحث في هذه المقدمة وبابين وخاتمة.
أما الباب الأول فاشتمل على خمسة فصول:
الفصل الأول: في تعريف العلة.
الفصل الثاني: في أقسام العلة.
الفصل الثالث: في بيان أهمية علل الحديث.
الفصل الرابع: في مواضع العلة في الحديث.
الفصل الخامس: في أسباب العلة في الحديث.
وأما الباب الثاني فاشتمل على أمثلة تطبيقية للعلل في ضوء شروط الصحيح. وفيه فصول:
الفصل الأول: أمثلة للأحاديث التي وقعت العلة فيها في معرفة العدل من غيره.
الفصل الثاني: أمثلة وقعت العلة فيها لأجل ضبط الراوي وعدم ضبطه.
الفصل الثالث: أمثلة وقعت العلة فيها لأجل عدم الاتصال عن طريق خفي.
الفصل الرابع: أمثلة وقعت العلة فيها لأجل الشذوذ.
الفصل الخامس: في تعليل الحديث بعلل عامة.
والخاتمة: وتشمل خلاصة البحث وبعض الاقتراحات.