المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أسباب العلة في الحديث: - علم علل الحديث ودوره في حفظ السنة النبوية

[وصى الله عباس]

الفصل: ‌أسباب العلة في الحديث:

4-

أن يخالف الرواة بإبدال راوٍ براوٍ أو برواة في إسناد واحد، وكذلك إبدال شيء في متن الحديث الواحد مرة بلفظ ومرة بلفظ آخر، فيسمى: مضطرباً.

5-

كذلك يخطئ في الكلمة فيغير سياقها فيسمى: المصحف والمحرف (1) .

وفي هذه الأقسام المردودة من الأحاديث يدخل في باب علل الحديث كل ما فيه خفاء وعدم ظهور، وسيكون الكلام فيما ظهر الخفاء فيه فقط.

(1) ينظر نزهة النظر (ص108، وما بعدها) ففيه خلاصة لما جاء في الكتب المطولة في المصطلح.

ص: 26

‌أسباب العلة في الحديث:

إن أهم أسباب العلة القادحة في الحديث:

1-

الخطأ والنسيان الذي لا يسلم منه أي بشر مع كونه موصوفاً بالضبط التامّ.

ومثل هذا الخطأ يكون نادراً من الثقة، ومع ذلك ليس من المعقول ولا من المشروع أن يصحح خطأهُ، ويستر عليه ولا يُبين، فالمنهج السليم أن يُعيَّن ويُبيَّن للناس حتى لا يتتابعوا في الخطأ.

قال ابن معين: "من لم يخطئ فهو كذاب".

وقال ابن المبارك: "من يسلم من الوهم؟ ".

وقد وهّمت عائشة جماعة من الصحابة في رواياتهم، وقد جمع الزركشي جزءاً في ذلك.

ص: 26

ووهّم سعيد بن المسيب ابن عباس في قوله: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم"(1) .

وهذا شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي أبو بسطام رحمه الله قال فيه عبد الرحمن بن مهدي: "كان سفيان الثوري يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث".

وقال الشافعي: "لولا شعبة ما عُرف الحديث بالعراق، كان يجيء إلى الرجل فيقول: لا تحدث، وإلا استعديت عليك السلطان"، وقال أحمد أيضاً:"شعبة أعلم بحديث الحكم، ولولا شعبة ذهب حديث الحكم ولم يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثاً منه، كان قُسِمَ له من هذا حظ"(2) .

وقال أحمد أيضاً: "كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن (يعني في الرجال) وبصره في الحديث وتثبته وتنقيته للرجال"(3) ، ولكن مع ذلك قد ضبط الأئمة أخطاءً عليه، وسجلوها في أقوالهم ومصنفاتهم.

ومعلوم أنه من أشد الناس على التدليس والمدلسين، ومع ذلك روى عن شيوخ ولم يسمع منهم.

قال الإمام أحمد: "أخطأ شعبة في اسم خالد بن علقمة فقال: مالك بن عُرفُطة، وأخطأ أيضاً في سلَم بن عبد الرحمن، فقال: عبد الله بن يزيد في حديث الشكال في الخيل (4) قلب اسمه.

(1) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/ 159 – 160) .

(2)

تقدمة الجرح والتعديل (ص/12) وما بعده مع أقوال طيبة كثيرة.

(3)

العلل ومعرفة الرجال (2 / 539) النص [3557] .

(4)

أما طريق شعبة عن عبد الله بن يزيد فأخرجه النسائي في باب الخيل (6 / 219) وأحمد في مسنده (2/ 205) والمزي في تهذيب الكمال (2 / 756) وأشار إليه الترمذي في الجهاد (3 / 204) وانظر مسائل ابن هاني (2 / 246) ، ونحوه قول ابن معين في تاريخه النص [3136] وطريق سلم بن

عبد الرحمن أخرجه مسلم في الإمارة (3 / 494) وأحمد (2 / 250 – 467) وأبوداود في الجهاد

(3 / 23) والترمذي في الجهاد (3 / 204) والنسائي في الخيل (6 / 219) كلهم من طريق سفيان عن سلم بن عبد الرحمن عن أبي زرعة عن أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم......، وعند بعضهم زيادة: والشكال أن يكون التحجيل في الفرس في رجله اليمنى وفي يده اليسرى أوفي يده اليمنى ورجله اليسرى.

ص: 27

وأخطأ شعبة: في اسم أبي الثورين فقال: أبو السوَّار، وإنما هو أبو الثورين.

قال عبد الله بن أحمد قلت لأبي من هذا أبو الثورين؟ فقال: رجل من أهل مكة مشهور، اسمه محمد بن عبد الرحمن من قُريْش، قلت لأبي: إن عبد الرحمن ابن مهدي زعم أن شعبة لم يخطئ في كنيته فقال: هو أبو السوار.

قال أبي: عبد الرحمن لا يدري أو كلمه نحوها" (1) .

وقال أحمد أيضاً: "أخطأ شعبة في حديث علي بن زيد عن يوسف بن مهران فقال: يوسف بن ماهك وهو خطأ إنما هو ابن مهران"(2)، ولذلك كانت الرواية من الكتب أصح وأقوى من الرواية بالحفظ قال الخطيب: الاحتياط للمحدث، والأولى به أن يروي من كتابه ليَسْلَم من الوهم والغلط، ويكون جديراً بالبُعد من الزلل.

ثم ذكر بإسناده عن أبي زرعة قال: سمعت أبا نعيم، وذكر عنده حماد بن زيد، وابن عُلية، وأن حماداً أحفظ عن أيوب وابن عُلية كَتَبَ، فقال: ضَمِنتُ لك أن كل من لا يرجع إلى الكتاب لا يؤمن عليه الزلل ثم ذكر بإسناده عن

(1) العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد (1 /516) النص [1210] وينظر تعليق المحقق جزاه الله خيراً.

(2)

العلل ومعرفة الرجال (2/157) النص [1859] وينظر أيضاً في خطئه في النصوص رقم [1903-1932-1935-2284-5490-5695] .

ص: 28

أحمد بن حنبل: ما كان أحدٌ أقل سقطاً من ابن المبارك: كان رجُلاً يحدث من كتاب، ومن حدَّث من كتاب لا يكاد يكون له سقط كبير شيء (1) .

2-

من أسباب وقوع العلل في الحديث: خفة ضبط الراوي.

ونعني بالخفة في الضبط ما يعبّر عن صاحبها بالصدوق أو بـ"لا بأس به" أو "ليس به بأس" أو نحوهما.

وهو الراوي الذي جعل الأئمة حديثه حسناً لذاته، وهو الذي قال ابن حجر في حديثه: فإن خف الضبط أي قلَّ فهو الحسن لذاته (2) .

وما مقدار خفة الضبط؟ لا نجد له ضابطاً في كلام الأئمة إلا ما يذكره الأئمة في ترجمة الراوي بعد سبر مروياته، له أحاديث أنكرت عليه، مثل ما قال ابن عدي في ترجمة إبراهيم بن بشار أبي إسحاق الرمادي.

وإبراهيم بن بشار هذا، لا أعلم أنكر عليه إلا هذا الحديث الذي ذكره البخاري، وباقي حديثه عن ابن عيينة وأبي معاوية وغيرهما من الثقات، وهو مستقيم في غير ذلك عندنا من أهل الصدق (3) .

وقال في ترجمة أزور بن غالب بن تميم البصري بعد ما ذكر له حديثاً: "وهذا الحديث وإن كان موقوفاً على أنس فهو منكر؛ لأنه لا يعرف للصحابة الخوض في القرآن.

والحديثان الآخران اللذان أمْلَيْتُهُمَا قبل هذا لم يروهما عن الأزور غير يحيى ابن سُليَمْ، وهو من حديث سليمان التيمي لا يروى إلا من هذا الطريق،

(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/10) ، مع أقوال أخرى في المسألة.

(2)

نزهة النظر ص (91) .

(3)

الكامل (1 / 265 – 266) .

ص: 29

والأزور بن غالب غير ما ذكرت من رواية يحيى بن سليم عنه أحاديث معدودة يسيرة: غير محفوظة، وأرجو أن لا بأس به" (1) .

فإذا كان الراوي يروي مائة حديث، وأخطأ في حديثين أو ثلاثة؛ لا نطرح باقي مروياته إذا تعينت تلك الروايات التي أخطأ فيها فقد أمِنّا حفظه وضبطه للروايات الأخرى فتكون صحيحة أو حسنة.

ولكن يجب على المحدث أن يضبط تلك الروايات التي حكم الأئمة عليها بالخطأ حتى لا يُصحّح حديثاً خطأ. وهذا لا يحصل لعامة المشتغلين في الحديث، فقد يصحح حديثاً خطأً للراوي لأنه خفي عليه خطؤه.

3-

من أهم أسباب العلة في الحديث: اختلاط الراوي أو تغيره بآخرته، وهذا السبب متعلق بالضبط أيضاً.

والاختلاط:

قال ابن منظور اختلط فلان: أي فَسَدَ عقله، ورجلٌ خَلط بَيّن الخلاطة، أحمق مخالط العقل.

ويقال: خولط الرجل فهو مخالط، واختلط عقله فهو مختلط إذا تغيّر عقله (2) .

والاختلاط في اصطلاح أهل الحديث: هو كون الراوي ثقة حافظاً، ثم يطرأ سوء الحفظ عليه لسبب من الأسباب.

(1) الكامل (1 / 265 – 266) .

(2)

لسان العرب (7/294 – 295) ، انظر نحوه في القاموس (2 / 92) ، ومثله في تاج العروس (5/134) .

ص: 30

قال ابن حجر: "ثم سوء الحفظ إن كان لازماً فهو الشاذ على رأي بعض أهل الحديث.

أو كان سوء الحفظ طارئاً على الراوي: إما لكبره أو لذهاب بصره أو لاحتراق كتبه أو عدمها بأن كان يعتمدها، فرجع إلى حفظه، فساء فهذا هو المختلط" (1) .

والاختلاط في الإنسان أمر كوني قدري لا يلام عليه، ولكن الكلام على روايته، فالمُضْعِفُ لرواية الشيخ: أن يروي شيئاً حين اختلاطه، ولم يتميز من روى عنه قبل الاختلاط ممن روى عنه بعد الاختلاط.

وللاختلاط أسباب وعوارض كما أشار إليه ابن حجر، ولكن لمعرفة وقت الاختلاط ومراحل اختلاط الراوي، طرق مختلفة، وجهود مباركة لأئمتنا، حتى نجد أحدهم يصف بعض المختلطين بأنه بدأ يختلط قليلاً، ولم يختلط، واختلط حتى لا يفهم شيئاً.

فالاختلاط حالة نفسية تطرأ على الإنسان لأسباب وعوارض تؤثر في عقله وحفظه وينظر تفاصيل هذا الفن في الكتب المخصصة له.

فالمختلط له أحوال:

1-

أن يكون الراوي عنه سمع منه قبل الاختلاط، ولم يسمع منه بعد الاختلاط فهذا روايته عنه صحيحة.

قال أحمد بن حنبل: "سمع وكيع من المسعودي بالكوفة قديماً وأبي نعيم أيضاً، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعُهُ جيد"(2) .

(1) نزهة النظر (ص 139) .

(2)

العلل ومعرفة الرجال (1 / 325) النص [575] .

ص: 31

وأورده ابن الكيال، وقال:"وعلى هذا تُقبل روايةُ كل من سمع منه بالكوفة والبصرة وقبل أن يقدم بغداد، كأميّة بن خالد، وبشر بن المفضل، وجعفر بن عون، وخالد بن الحارث، وسفيان الثوري، وأبي قتيبة سلم بن قتيبة، وطَلْق بن غنام، وعبد الله بن رجاء، وعثمان بن عُمر بن فارس: وعمرو ابن مرزوق، وعمرو بن الهيثم، والقاسم بن معن بن عبد الرحمن ومعاذ بن معاذ العنبري، والنضر بن شميل، ويزيد بن زُرَيْع"(1) .

وكذلك أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم القرشي أبو عُبيد الله المصري ابن أخي عبد الله بن وهب المصري، روى عنه مسلم رحمه الله (2) . وذكر الحاكم: أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر (3) .

وكذلك إذا ثبت لدينا أن الراوي عن المختلط روى عنه، ومات قبل اختلاط شيخه المختلط.

وهذا سعيد بن عبد العزيز التنوخي كان فقيهاً مفتي دمشق وعالمها بعد الأوزاعي.

مات سنة (167هـ) ولم يذكر ابن الكيال من سمع منه قبل الاختلاط ومن سمع منه بعد الاختلاط.

قال الدكتور عبد القيوم في تعليقه على الكواكب النيرات: "لم يذكر المؤلف رحمه الله من سمع منه قبل الاختلاط وبعده، وقد بحثت كثيراً فما

(1) الكواكب النيرات (293 – 295) .

(2)

تقريب التهذيب (ص 94) .

(3)

ينظر مقدمة شرح صحيح مسلم (1 / 25) .

ص: 32

وجَدْتُ من أئمة هذا الشأن نصّاً في المطلوب، إلا أن المزي رحمه الله تعالى ذكر شعبة وسفيان الثوري من جملة تلامذته وهما قد تُوفِّيا قبل سعيد بن عبد العزيز لسنواتٍ؛ لأن شعبة توفي في سنة (160هـ) والثوري في سنة (161هـ) وبذلك نستطيع أن نقول: إنهما رَوَيا عنه قبل اختلاطه" (1) .

قلت: هذا استنباط جيد مقبول في محله، ولا يقال: لعل اختلاط سعيد التنوخي استمر أكثر من سبع سنواتٍ أو ست سنوات، لأنه لو كان الأمر كذلك لاشتهر عند الأئمة، ولَنَصُّوا عليه فالظاهر أن سماع شعبة والثوري في حال صحته.

2-

أن يكون الراوي عن المخلط سمع منه بعد اختلاطه.

فهذا تُرد روايته وتضعف بانفراده كسائر مَنْ عُرِفَتْ رواياتهم عن المخلطين حال الاختلاط.

فمنهم سعيد بن أبي عروبة أبو النضر (2) البصري فقد نص الأئمة على من سمع منه قبل الاختلاط ومن سمع منه بعد الاختلاط.

3-

أن يكون الراوي عن المختلط سمع منه قبل الاختلاط وبعده.

فلم تتميز روايته كرواية أبي عوانة: وضاح بن عبد الله اليشكري، قال ابن معين: كان عطاء بن السائب قد اختلط، قال: سَمِعْتُ من عَبيدة ثلاثين حديثاً، فقلت:(عباس الدوري) ليحيى: فما سمع منه جرير وذووه ليس هو صحيح؟ قال: لا. ماروى هو وخالد الطحان -كأنه يُضَعِّفُهم- إلا من سمع منه قديماً.

(1) الكواكب النيرات والتعليق عليه، ترجمة سعيد بن عبد العزيز التنوخي.

(2)

الكواكب النيرات (ص 190) وما بعدها.

ص: 33

قال يحيى: وقد سمع أبو عوانة منه في الصحة وفي الاختلاط جميعاً (1) .

ونُقل عن ابن معين: قوله: لم يسمع عطاء من يعلى بن مُرَّةَ، واختلط وما سمع منه جرير ليس من صحيح حديثه، وسمع منه أبو عوانة في الصحة والاختلاط، فلا يحتج بحديثه (2) .

4-

أن يكون روى الراوي عن المختلط قبل الاختلاط وبعده، ولكنه تميّزت أحاديثه فما ميز من رواياته قبل الاختلاط فهو صحيح، وما لا فهو ضعيف.

5-

أن يكون الراوي عن المختلط سمع منه بعد الاختلاط لكن لم يرو رواياته التي سمع منه في الاختلاط، فهذا كأنه لم يرو عنه مطلقاً.

قال أبو داود: “إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر وسمعت منه تلك الأيام ورميت به” (3)(4) .

6-

أن يكون الراوي المختلط لم يحدث حال اختلاطه فهذا جميع رواياته مقبولة صحيحة.

قال عبد الرحمن بن مهدي: “جرير بن حازم (أبو النضر العتكي الأزدي) اختلط، وكان له أولاد أصحاب حديث، فلما خشوا ذلك منه حجبوه، فلم يسمع منه أحد في اختلاطه شيئاً” (5) . وكإبراهيم بن أبي العباس السامري.

(1) تاريخ ابن معين برواية الدوري رقم (1577)(2 / 403) تحقيق وترتيب د / أحمد نور سيف.

(2)

الكواكب النيرات (ص 323) .

(3)

تاريخ بغداد (6 / 355) .

(4)

كذلك عبدة بن سُليمان قال: إنه سمع سعيد بن أبي عروبة في الاختلاط إلا أنه لم يحدث بما سمع منه في الاختلاط. الكواكب النيرات (ص 196) .

(5)

الجرح والتعديل (2/ 505) .

ص: 34

قال ابن سعد: “اختلط في آخر عمره فحجبه أهله في منزله حتى مات” (1) .

وأورده الذهبي في الميزان ثم قال: “فما ضره الاختلاط، وعامة من يموت يختلط قبل موته، وإنما المضعف للشيخ أن يروي شيئاً زمن اختلاطه” (2) .

7-

أن يكون الراوي المختلط لم يحدث إلا من كتابه فهذا لا يتطرق إليه الضعف مثل عبد الرزاق فقد روى عن مصنفه حال اختلاطه.

قال البخاري: “ما حدث عنه عبد الرزاق من كتابه فهو أصح” (3) .

وقال السخاوي: “وقال الحاكم: قلت للدارقطني أيدخل في الصحيح (يعني حديث عبد الرزاق الصنعاني) قال: إي والله وكأنهم لم يبالوا بتغير عبد الرزاق لكونه إنما حدثه من كتبه لا من حفظه قاله المصنف” (4) .

وهناك قصة طريفة في مسائل البرذعي لأبي زرعة:

قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: قرة بن حبيب تغيّر؟ فقال: نعم، كنا أنكرناه بآخره غير أنه كان لا يحدث إلا من كتاب به ولا يحدث حتى يحضر ابنه، ثم تبسم، فقلت: لم تبسمتَ؟ قال: أتيته ذات يوم وأبو حاتم فقرعنا عليه الباب، واستأذنا عليه، فدنا من الباب ليفتح لنا، فإذا ابنته قد خفّت، وقالت له: يا أبت، إن هؤلاء أصحاب الحديث، ولا آمن أن يُغلِّطوك أو يدخلوا عليك ما ليس من حديثك، فلا تخرج إليهم حتى يجيء أخي يعني علي بن قرة

(1) طبقات ابن سعد (7/346) .

(2)

ميزان الاعتدال (1/39) .

(3)

ميزان الاعتدال (2/610) .

(4)

فتح المغيث (3/341) .

ص: 35

– فقال لها: أنا أحفظ فلا أمكنهم ذاك، فقالت: لست أدعك تخرج فإني لا آمنهم عليك، فما زال قرة يجتهد ويحتج عليها في الخروج وهي تمنعه وتحتج عليه في ترك الخروج إلى أن يجيء علي بن قرة، حتى غلبت عليه ولم تدعه، قال أبو زرعة: فانصرفنا وقعدنا حتى وافى ابنه علي، قال أبو زرعة: فجعلت أعجب من صرامتها وصيانتها أباها (1) .

حكم رواية المختلط:

قال ابن حجر: “والحكم فيه أن ما حدث به قبل الاختلاط إذا تميّز، قُبل، وإذا لم يتميز تُوقف فيه، وكذا من اشتبه الأمر فيه، وإنما يعرف ذلك باعتبار الآخذين عنه” (2) .

يعني: إذا عرف عن طريق تلامذته أن هذا الحديث بعينه أخذ عنه التلميذ قبل الاختلاط يكون مقبولاً صحيحاً.

وإذا عرف أن التلميذ أخذ عنه بعد الاختلاط، توقف فيه ولم يعمل به، وإذا لم يعمل به، صار في حيّز المردود.

وكذلك إذا لم يعرف، هل أخذ منه التلميذ هذا الحديث بعينه قبل الاختلاط أو بعده، توقف فيه حتى يوجد له متابعات وشواهد توافقه، فتقويه وتصححه، وإلا يبقَ متوقفاً فيه غير معمول به.

وهذا هو مقصود من قال: ترد روايته، أو تسقط روايته.

قال ابن الصلاح: “والحكم فيهم (أي المختلطين) ، أن يقبل حديث من

(1) أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي (ص575-576)، تحقيق الدكتور: سعدي الهاشمي.

(2)

نزهة النظر (ص139) .

ص: 36

أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يعرف هل أُخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده” (1) .

وقال السخاوي: “فما روى المتصف بذلك في حال اختلاطه، أو أبهم الأمر فيه وأشكل بحيث لم يعلم أروايته صدرت في حال اتصافه به أو قبله؟ سقط حديثه في الصورتين، بخلاف ما رواه قبل الاختلاط لثقته، هكذا أطلقوه” (2) . وقال نحوه في "فتح الباقي"(3) .

فليس قصدهم رَدَّ رواية المختلط الذي روى عنه تلميذه بعد الاختلاط، أو أشكل أمره هل سمع قبل أو بعد؟ وإنما المقصود: أن حديث المختلط من هذا النوع لا يقبل بانفراده، ويبقى متوقفاً فيه للاعتبار، ليس مردوداً مطلقاً، ولا ساقطاً.

4-

ومن أسباب العلة في الحديث: الاضطراب، وهو داخل في عدم تمام الضبط

وهذه العلة أيضاً من الأسباب الخفية المضعّفة لحديث الراوي، لأنها لا تظهر إلا بجمع الطرق والأسانيد وألفاظ المتون.

والاضطراب: افتعال من ضرب، فأصل الكلمة اضْتَرَب، فأُبدلت التاء طاءً، فصار اضطرب فهو مضطرب.

والاضطراب يأتي بمعنى الاختلاف، يقال: اضطرب الحبل بين القوم إذا اختلفت كلمتهم، واضطرب أمره اختلّ واضطرب تحرك وماج (4) .

(1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص352) .

(2)

فتح المغيث (3/323-333) .

(3)

فتح الباقي المطبوع بحاشية التبصرة والتذكرة (3/264) .

(4)

تهذيب اللغة (12/20) ، ومختار الصحاح (ص379) .

ص: 37

وأما تعريف المضطرب اصطلاحاً:

فقد قال ابن الصلاح: “المضطرب من الحديث، هو الذي تختلف الرواية فيه، فيرويه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجه آخر مخالف له.

وإنما نسميه مضطرباً إذا تساوت الروايتان” (1) .

والاضطراب قد يكون في السند، وقد يكون في المتن، وتارة فيهما.

قال ابن الصلاح: “يقع الاضطراب في متن الحديث، وقد يقع في الإسناد، وقد يكون على شخص واحد، وقد يكون على أكثر من ذلك” (2) .

وحكمه: أنه سبب مُضَعَّفٌ للحديث.

قال ابن الصلاح: “والاضطراب موجب ضعف الحديث لإشعاره بأنه لم يضبط” (3) . وتأتي أمثلته في الباب الثاني إن شاء الله.

5-

ومن أسباب العلة: ما يتعلق بشرط الاتصال: وهو الانقطاع.

فإن كان ظاهراً لا يدخل في تعريف العلة، ولكن إذا كان الانقطاع خفياً وهو: الذي يسمى مرسلاً خفياً فيدخل في صميم تعريف العلة وهو ما إذا كان الانقطاع بين طالب وشيخه الذي سمع منه الكثير، ولازمه، فإذا كان مثل هذا التلميذ روى عن شيخه بواسطة، ثم حذف الواسطة، دخلت العلة هنا، فلا ينتبه لها إلا من له درك وجُهد في جمع الطرق الكثيرة. هذا إذا لم يكن التلميذ معروفاً بالتدليس.

وكذلك إذا كان الراوي أو التلميذ معاصراً، لكنه لم يلق الشيخ وهو في

(1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص84) .

(2)

علوم الحديث (ص85) .

(3)

علوم الحديث (ص85) .

ص: 38

طبقة تلاميذ الشيخ فالانقطاع قد يخفى على الكثير. وكونه منقطعاً في هذه الصورة أمر واضح، إذا ثبت لدى الناس عامة أنه لم يلقه مطلقاً أما إذا كان إمكان السماع حاصلاً ولم نتيقن بسماعه من الشيخ، فإمكان عدم السماع أيضاً حاصل.

ولذا جعل الأئمة شرط البخاري في اشتراط ثبوت اللُّقِيِّ ولو مرة شرطاًًً أشد وأسد وأقوى من شرط مسلم الذي اكتفى بالمعاصرة.

ودع عنك قول من يقول: ليس ذلك شرط البخاري، فالأئمة كادوا أن يجمعوا على حكاية هذا القول ونسبته إلى البخاري وصنيعه في صحيحه يدل عليه كما يدل عليه عمله في تراجم الرواة في تواريخه، فلا يقال: إن الانقطاع علة ظاهرة لا خفية، فلا يكون علة من علل الحديث على اصطلاح القوم، فقد رأيت أنه قد يخفى الانقطاع، فيدخل في تعريف العلة التي هي القادحة الخفية.

وستأتي الأمثلة عليه في الباب الثاني إن شاء الله.

ويدخل في هذه الصورة ما إذا روي الحديث مرسلاً من وجه رواه الثقات الحفاظ، ويسند ويوصل من وجه آخر ظاهره الصحة، ففيه انقطاع خفي تدخل العلة فيه، وتخفى على كثيرين، ولا تظهر هذه العلة إلا للعالم الخبير بعد سبر الطرق المختلفة على الراوي الذي عليه مدار الرواية.

لأن الثقة قد يَهِمُ فيوصل المرسل، فيدخل الحديث في قسم الضعيف للانقطاع بين التابعي وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ففقد شرط الاتصال على التعريف الراجح للمرسل وهو: ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1) .

(1) النكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/546) .

ص: 39

ولا يقال في تعريف المرسل: ما منه الصحابي سقط، لأنه لو تعين لنا أن الصحابي رضي الله عنه هو الساقط، لما ضُعّف المرسل، كأن يظهر من طرق أخرى ذكر التابعي للصحابي في هذه الرواية ذاتها، أو أن يصف التابعي الصحابي بوصف الصحبة كـ"عن صالح بن خوَّات، عمن صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع"(1) ، أو غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يصفه بالصحبة فلا يكون موصولاً، لاحتمال أن يكون المحذوف تابعياً آخر، فيحتمل أن يكون ضعيفاً، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الاحتمال الثاني، يحتمل أن يكون حمل الرواية عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد إما بالتجويز العقلي فإلى ما لا نهاية له، وإما بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وُجِدَ من رواية بعض التابعين عن بعض (2) .

روى الذهبي في "معجم شيوخه" من طريق الإمام أحمد (3) قال حَدَّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة عن منصور عن هلال بن يساف عن الربيع ابن خثيم عن عمرو بن ميمون عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة من الأنصار عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ قل هو الله أحد في ليلة فقد قرأ ثلث القرآن.

ثم قال الذهبي: “هذا حديث صالح الإسناد من الأفراد، ولا نعلم حديثاً بين أحمد بن حنبل وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه تسعة أنفس سواه، وهو مما اجتمع في سنده ستة تابعيون يروي بعضهم عن بعض.

(1) متفق عليه، بلوغ المرام مع السبل (2/59) .

(2)

نزهة النظر (ص110) .

(3)

مسند أحمد (5/ 419) .

ص: 40

وهذا لا نظير له، فإن منصور بن المعتمر معدود في صغار التابعين، وقد أخرجه الترمذي، والنسائي، من طريق زائدة، وحسنه الترمذي مع أنه معلل” (1) .

6-

ومن أهم أسباب العلة: الشذوذ.

والشذوذ لغة: الانفراد، شذ عنه يَشِذُّ ويَشُذُّ شُذوذاً انفرد عن الجمهور ونَدَرَ فهو شاذ (2) .

وأمَّا في اصطلاح أهل الحديث فقد اختلف تعريف الشاذ في كتبهم.

قال الحاكم: “فأَمَّا الشاذ فإنه حديثٌ يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث أصل متابِعٌ لذلك الثقة” (3) .

فيظهر من تعريفه أن الشاذ هو الحديث الذي انفرد به الثقة خالف أم لم يخالف.

ولكن الذي يظهر لي: أن الحاكم أيضاً يشترط المخالفة في الشذوذ وذلك كما يأتي عن الشافعي وذلك لأمرين:

الأول: قوله: "ليس له أصل متابع" فكأنه قال: لم يخالف فلو كان له أصل متابع لما كان مخالفاً.

الثاني: أنه ذكر بعد تعريفه قول الشافعي رحمه الله مستشهداً به، فالذي يظهر أنه يشير إلى شرط المخالفة في الشاذ مثل الشافعي والله أعلم.

وعرفه الخليلي فقال: “إن الشاذ ما ليس له إسناد إلا واحد، يشذُّ بذلك

(1) معجم شيوخ الذهبي (2/ 289) .

(2)

لسان العرب (3/ 494) .

(3)

معرفة علوم الحديث (ص 119) .

ص: 41

شيخ ثقة أو غير ثقة، فما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به ويرد ما شذ به غيره” (1) .

وعرفه الإمام الشافعي بقوله: “ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره هذا ليس بشاذ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس هذا الشاذ من الحديث. ذكره الحاكم بإسناده عنه بعد تعريفه” (2) .

وهذا التعريف الأخير هو الذي اختاره العلماء قديماً وحديثاً وكان العمل في رد ما خالف فيه الثقة لا ما انفرد به غير مخالف.

قال ابن الصلاح: “قلت: أمَّا ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذٌّ غير مقبول، وأما ما حكيناه عن غيره فَيُشْكل بما يتفرد به العدل الحافظ الضابط كحديث:"إنما الأعمال بالنيات" فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث.

وأوضح من ذلك في ذلك: حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر”أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته” تفرد به عبد الله بن دينار.

وحديث مالك عن الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه مغفر" تفرد به مالك عن الزهري، فكل هذه مخرجة في الصحيحين مع أنه ليس له إلا إسناد واحد تفرد به ثقة.

(1) الإرشاد للخليلي (1/ 176) .

(2)

معرفة علوم الحديث (ص 119) ،ونحوه في علوم الحديث لابن الصلاح (ص 68) .

ص: 42

وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة، وقد قال مسلم بن الحجاج:

للزهري نحوٌ من تسعين حرفاً يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد بأسانيد جياد. والله أعلم.

فهذا الذي ذكرنا وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم بل الأمر على تفصيل نبيّنه" (1) .

فالذي اصطلح عليه العلماء هو قول الشافعي رحمه الله في تعريف الشاذ وهو: ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أرجح منه. قال ابن حجر: "فإن خولف أي الراوي بأرجح منه، لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالراجح يقال له: المحفوظ، ومقابله -وهو المرجوح- يقال له: الشاذ"(2) .

والشذوذ يدخل في العلة الخفية لأنه قد لا يظهر لعامة الناس إلا بعد جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف الرواة والاختلاف عليهم من الرواة عنهم.

قال الخطيب البغدادي: "السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط"(3) .

وقال علي بن المديني –رحمه الله: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبيَّن خطؤه"(4) .

(1) علوم الحديث لا بن الصلاح (ص69- 70) .

(2)

نزهة النظر (ص97) .

(3)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 295) .

(4)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 212) .

ص: 43

وقال عبد الله بن المبارك: "إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض"(1) .

وقال ابن معين: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه".

وقال أحمد بن حنبل: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً"(2) .

ولا شك أن جمع الطرق المختلفة وموازنة بعضها ببعض، ثم النظر في النقلة واختلافهم ثم وزن هؤلاء بميزان الترجيح كل هذا من مهمة المحدث الجهبذ لا يستطيع أن يقوم به عامة المحدثين ولذلك نجد أفذاذاً وأفرادًا معدودين قد دخلوا في هذا المضمار وسدد الله أقوالهم ووفقهم لتقعيد قواعد في معرفة الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد فطرية تقبلها العقول السليمة.

كما نجد أن هذا العلم وهو معرفة الخطأ من الصواب في روايات الراوي يحتاج إلى سبر روايات الراوي الواحد، بحيث يقدر الإمام المحدث أن يقول: روى حديثين أو ثلاثة أو عشرة.

ثم عرض روايته على روايات غيره ممن هم أصوب منه، حفظاً ونقلاً ومعرفة موافقة بعضهم لبعض أو مخالفتهم، أعظم وسيلة لمعرفة الخطأ من الصواب.

قال ابن حبان: "سمعت محمد بن إبراهيم بن أبي شيخ الملطي يقول: جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتاب حماد بن سلمة فقال: ما سمعتها من

(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 296) .

(2)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 212) .

ص: 44

أحد؟ قال: نعم حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد بن سلمة فقال: والله لا حدثتك. فقال: إنما هو وهم، وانحدر إلى البصرة واسمع من التبوذكي فقال: شأنك فانحدر إلى البصرة وجاء إلى موسى بن إسماعيل فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب عن أحد؟ قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفساً وأنت الثامن عشر فقال: وماذا تصنع بهذا؟ فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه، وقال واحد منهم بخلافهم، علمت أن الخطأ منه لا من حماد فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه" (1) .

وقال الإمام أحمد: كنت أنا وعلي بن المديني فذكرنا أثبت من يروي عن الزهري فقال: علي: سفيان بن عيينة، وقلت أنا: مالك بن أنس وقلت: مالك أقل خطأ عن الزهري وابن عيينة يخطئ في نحو من عشرين حديثاً عن الزهري في حديث كذا وحديث كذا فذكرت منها ثمانية عشر حديثاً، وقلت هات ما أخطأ فيه مالك، فجاء بحديثين أو ثلاثة، فرجعت فنظرت فيما أخطأ فيه ابن عيينة فإذا هي أكثر من عشرين حديثاً.

وفي كتاب التمييز للإمام مسلم أمثلة كثيرة وفيرة لهذا الجانب.

قال الإمام مسلم: "ذكر الأخبار التي نقلت على الغلط في متونها.

حدثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت حجراً أبا العنبس يقول: حدثني علقمة بن

(1) كتاب المجروحين لابن حبان (1/ 32) .

ص: 45

وائل، عن وائل، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وثنا إسحاق، أنا أبو عامر، ثنا شعبة عن سلمة، سمعت حجراً أبا العنبس يحدث عن وائل بن حجر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث. كلهم عن شعبة، عن سلمة، عن حجر، عن علقمة، عن وائل، إلا إسحاق عن أبي عامر، فإنه لم يذكر علقمة، وذكر الباقون كلهم علقمة.

قال مسلم: أخطأ شعبة في هذه الرواية حين قال: وأخفى صوته (1) .

وسنذكر إن شاء الله رواية من حديث شعبة فيها فأصابه.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، فقالوا: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "ولا الضالين" قال: "آمين". يمد بها صوته" (2) .

ثم ذكر رواية أخرى قال: حدثنا أبو كريب ثنا أسود بن عامر، ثنا شريك، عن سماك، عن علقمة، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بآمين.

وقد روى عن وائل ما يدل على ذلك (3) .

يشير به الإمام مسلم إلى ما أخرجه الدارقطني، فقد روى فيه عبد الجبار ابن وائل عن أبيه وفيه مد بها صوته (4) .

(1) قال الترمذي في سننه 2: 28 كتاب الصلاة باب ماجاء في التأمين وروى شعبة هذا الحديث عن سلمة ابن كهيل عن حجر أبي العنبس عن علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال: آمين وخفض بها صوته.

(2)

التمييز (ص133- 134) وحاشيته.

(3)

التمييز (ص133- 134) وحاشيته.

(4)

سنن الدارقطني (1/324) .

ص: 46

ثم ذكر الإمام مسلم شاهداً مخالفاً لرواية شعبة فقال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، أنهما أخبراه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له"(1) .

(1) التمييز (ص 134) .

ص: 47