الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: تعليل الحديث بعلل عامة
هذا وقد يعلل الحديث بعلل أخرى غير ما ذكرت مأخوذة من شرط الصحيح، فتدخل تلك العلل في اشتراط عدم كونه معللاً في تعريف الصحيح.
كما قال ابن رجب رحمه الله: حُذَّاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك.
وهذا مما لا يعبّر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم كما سبق ذكره في غير موضع.
قلت: وهذا القول ليس على عمومه ولكن له أصل في مواضع كثيرة والشأن فيه للقرائن، فقد تدل قرينةٌ على صدق قول المحدث فيقبل تعليله، وقد لا تدل قرينة فربما يرد تعليله (1) .
ومن أمثلته: أن يروى الحديث بالمعنى، أو يختصر فتدخل العلة في هذا التصرف.
قال الترمذي: فأما من أقام الإسناد وحفظه وغيّر اللفظ فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم يتغيَّر به المعنى.
وقال ابن رجب في شرحه: وإنما يجوز ذلك لمن هو عالم بلغات العرب، بصيراً بالمعاني، عالماً بما يُحيل المعنى، وما لايحيله، نص على ذلك الشافعي.
(1) شرح علل الترمذي (2/756) .
وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيّروا المعنى، مثل ما اختصر بعضهم حديث عائشة في حيضها في الحج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها – وكانت حائضاً -:“انقضي شعر رأسك وامتشطي”، وأدخله في أبواب غسل الحيض (1) .
وقد أنكر أحمد ذلك على من فعله، لأنه يُخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به في الغسل من الحيض عند انقطاعه بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام وهي حائض.
وروى بعضهم حديث: كنا نؤديه على عهد رسول النبي صلى الله عليه وسلم – يريد زكاة الفطر – فصحّف "نؤديه"، فقال:"نورّثه"، ثم فسّره من عنده فقال: يعني: الجدّ، كل هذا تصرف سيئ لا يجوز مثله (2) .
ومن هذا النوع من التعليل: مخالفة الراوي مرويه.
فالأصل فيه أن العبرة بما روى لا بما رأى، لأنه قد ينسى مرويَّه فيخالفه، فيكون من باب من حدث ونسي.
ولكن قد تدل القرائن فتكون مخالفته علة في تصحيح حديثه، قال ابن رجب:
في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه، وقد ضعف الإمام أحمد وأكثر الحفاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا، فمنها: أحاديث أبي هريرة في
(1) نعم، أخرجه البخاري في أبواب الحيض، باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض، وباب نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض.
(2)
شرح علل الترمذي (1/147/149) .
المسح على الخفين ضعفها أحمد ومسلم وغير واحد، وقالوا: أبو هريرة ينكر المسح على الخفين فلا يصح له فيه رواية.
ومنها أحاديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين أيضاً أنكرها أحمد، وقال ابن عُمر أنكر على سعيد المسح على الخفين، فكيف يكون عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه رواية.
ومنها حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: "دعي الصلاة أيام أقرائك".
قال أحمد: كل من روى هذا عن عائشة فقد أخطأ، لأن عائشة تقول:"الأقراء: الأطهار لا الحيض".
وذكر ابن رجب أمثلة أخرى (1) .
والذي يقال: إن مخالفة الراوي لروايته تكون علة إذا دلت قرائن تظهر أنه نسي ولم يتذكر روايته، أو لم يكن حمل الرواية على محامل أخرى غير الظاهر والله أعلم.
هذا وقد مرت الإشارة إلى أن العلة هي سبب خفي قادح في صحة الحديث، ولكن قد يسمي علة كل سبب مضعف للحديث ظاهراً كان أم خفياً، وهذا أمر شائع عند أهل الحديث.
وإظهار العلل الخفية له دور بارز في حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعها ومنعها، فبهذا العمل الجليل تصان السنة من أن يُدخل فيها أحدٌ ما ليس منها، سهواً أو عمداً.
(1) ينظر شرح علل ابن رجب (2/796-801) .