الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
البحث
الحمد لله حمداً كثيراً طيبا مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، ورحمة الله للعالمين محمد بن عبد الله النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. ?
وبعد فلقد بعث الله تعالى رسله صلوات الله عليهم جميعاً - إلى خلقه بدعوة واحدة، أصول الاعتقاد فيها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإليوم الآخر، وشرع لهم شرائع أساسها: الطهارة والعفاف في الأخلاق، والاستقامة والقصد في السلوك، والعدل والنصفة في المعاملات، والنصح للأمة في الولايات: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
…
} (الشورى: 13) .
وبقيام رسل الله بدعوتهم على أكمل وجه وأتمه، وبثباتهم عليها كما أمرهم الله تعالى استجلبوا عداوة الطواغيت، وأثاروا أنصار الشر ممن أضلهم الشيطان، وزين لهم سبيل الغيّ فاتخذوه سبيلا، وهؤلاء هم المجرمون الذين أخبر الله خبرهم في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (الفرقان:31) ولقد دفعت العداوة هؤلاء المجرمين إلى محاولة الإتيان على بنيان دعوة الرسل من القواعد، فانطلق كفار كل أمة في جحود ظاهر- للحق -يكذبون رسولهم، ويتهمونه بشتى التهم.
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور} (فاطر:4)
فكان من نصر الله تعالى لهؤلاء الرسل الكرام أن أيدهم -في مواجهة تكذيب الكفار- بالمعجزات، وهي الآيات الخوارق التي تفحم المعاندين،
وتثبت المؤمنين، ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن تكون معجزات الأنبياء السابقين في أممهم حسية يراها المشاهدون، ويعاينها الحاضرون: كناقة صالح، وبرد النار وسلامها على إبراهيم، وعصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى صلوات الله عليهم جميعا، وأكثر ما كانت المعجزات الحسية في بني إسرائيل، وما كان ذلك إلا لفرط بلادتهم، وغلظ حسهم ثم ختم الله تعالى رسله إلى خلقه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكما أيد من قبله بتلك المعجزات الحسية أيده كذلك بكثير منها، كتلك التي كان يطلبها المشركون تعنتاً، فيجابون إلى بعضها ولا يؤمنون (1) . ولا يجابون إلى أكثرها، رحمة من الله تعالى أن ينزل بهم العذاب عند تكذيبهم بها،كما جاء ذلك في قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} (الإسراء:59)
كما كان الكثير من هذه المعجزات الحسية (2) يحدث ابتداء على مرأى من المؤمنين،فيكون ذلك مواساة لهم، وتثبيتا لقلوبهم، وتعميقا ليقينهم.
لكن المعجزة الكبرى لهذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم كانت من نوع آخر، إنها المعجزة العقلية الباقية، التي تخاطب الأجيال في كل عصر، يراها ويقرؤها الناس
(1) كما حدث في معجزة انشقاق القمر، وحديثها عند البخاري في الصحيح: كتاب التفسير، باب (
…
وانشق القمر) .
(2)
قد استفاضت الأخبار الصحيحة بالعديد من هذه المعجزات لرسول الله صلي الله عليه وسلم،كتكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء وفورانه من بين أصابعه حتى يتطهر ويرتوي الجمع الكثير من أصحابه من الماء القليل، وكذلك سماع تسبيح الطعام وهو يؤكل أمامه، وحنين الجذع إليه عند انتقاله صلي الله عليه وسلم إلى منبر صنع له ليخطب الناس علىه، وكل ذلك عند البخاري رحمه الله في صحيحه،يرجع في ذلك إلى: كتاب المناقب، باب علامات النبوة.
في كل حين، إنها القرآن الكريم، الذي أعجز الفصحاء، وانقطع أمامة البلغاء في الأمة العربية، التي سما بيانها، ولمع ذكاؤها،فكان المعجزة الباقية للرسالة الخاتمة.
إن اختصاص النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن الباقية خلافا للرسالات السابقة يأتي إيضاحه وتعليله كذلك في حديثه صلوات الله وسلامه عليه:
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى،فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"(1) .
وفي معنى الحديث أقوال تصح في مجملها، ولعل أوضحها أن المراد: أن معجزات الأنبياء السابقين انتهت بانتهاء عصورهم،فلم يعاينها إلا من حضرها، أما معجزة القرآن فهي باقية إلى يوم الدين فهو في كل عصر خارق للعادة في أسلوبه وبلاغته وسائر وجوه إعجازه ومنها إخباره بالمغيبات،فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وكذلك فالمعجزات الماضية كانت حية تشاهد بالأبصار، وأما القرآن فمعجزة عقلية تشاهد بالبصيرة،فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول (2) .
ولهذا رد الله تعالى على المشركين طلبهم لخوارق الآيات، وسؤالهم المعجزات بكفاية القرآن وعدم الحاجة إلى غيره من الآيات، وذلك في قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل
(2)
يراجع في ذلك ما قاله ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري) :9/7
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت:50،51)
ولقد عرف المسلمون منذ عصر نزول القرآن شأن معجزته، فأكبروه، وبذل علماؤهم جهودهم، ووقفوا الكثير من أعمارهم على إبراز وجوه إعجاز هذا الكتاب الكريم، واستمرت هذه الجهود المباركة موفورة إلى يوم الناس هذا،فسجلت القرون المباركة وما بعدها من تاريخ المسلمين كتابات في هذا المجال لم ينقطع مددها، ولم يتوقف تتابعها.
ولقد أولت المملكة العربية السعودية-فيما نهضت به من أعباء خدمة الإسلام في شتى مجالاته-كتاب الله تعالى مزيد حياطة ورعاية، تمثلت في هذا الصرح الإسلامى الشامخ، وهو مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الذي قام ويقوم بفضل من الله تعالى بخدمة كتابه الكريم طباعة المصحف، وتفسيراً للقرآن، وترجمة لمعانيه، وإثراء للدراسات القرآنية في شتى مجالاتها، وأخيراً وليس بآخر كان من معالم هذه الجهود المباركة دعوة المجمع إلى ندوة علمية عن (عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه) شملت عدة محاور تضمنت موضوعات شتى تصب كلها في هذا الهدف النبيل، هدف خدمة القرآن الكريم.
وتلبية لدعوة كريمة من أمانة المجمع يأتي هذا البحث في (عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم) مشاركة متواضعة في هذا العمل الكبير.
وصلب الموضوع في هذا البحث يتناول قضيتين الأولى: قضية التأصيل التاريخي لموضوع الإعجاز، وذلك من خلال المصنفات التي تناولته عبر قرون