الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهمية علم الإعجاز والضرورة الداعية إليه
من بداهة القول أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم هداية للناس في شتى مناحي حياتهم إلى أقوم طريق وأهدى سبيل، وذلك مما ينبئ عنه حذف متعلق الهداية في قول الله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9)
بل إن هذا الهدف الأعظم هو أول ما يطالع القارئ لكتاب الله تعالى مفتتح المصحف في أول سورة منه بعد الفاتحة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:1،2)
ومن المعلوم أن الاهتداء بالقرآن فرع عن معرفة وفهم معانيه، وطريق ذلك علم التفسير، ذلك العلم الذي نبتت نابتته الأولى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يسأله أصحابه رضوان الله عليهم عما يشكل عليهم فهمه من القرآن، فيجيبهم، وكذلك عندما كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم ابتداء ما يعلم أنهم في حاجة إلى تعلمه، ولا سبيل لهم إليه إلا ببيانه صلى الله عليه وسلم، كانت تلك البذور الأولى، ثم نما علم التفسير، وتطور عبر قرون الإسلام، من الرواية إلى التدوين والتصنيف مما لا مجال لتفصيله هنا.
أقول: إن هدى القرآن، وهو مقصود نزوله إنما يكون بتفسيره، ومعرفه ما فيه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، والحلال والحرام وغير ذلك، ولذلك كان من تعريف العلماء لعلم التفسير ما قاله بدر الدين الزركشي: (هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها
ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها.. وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها) (1) .
وحول هذا المعني جاء تعريف الزرقاني رحمه الله تعالى لعلم التفسير في عبارة أجمل فيها تفصيل الزركشي،مبينا الغرض النهائي لهذا العلم فقال:(والتفسير في الاصطلاح:علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية)(2) .
ولما كان الهدف النهائي من ذلك كله هو الاهتداء بالقرآن المترتب على فهم معانيه التى يتوصل إليها بتفسيره فإنا نستبيح لأنفسنا أن نقول في تعريف التفسير: (إنه علم يتوصل به إلى معرفة كيفية الانقياد لأمر الله تعالى فيما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم،وذلك أن ما سبق من التعريفات إنما يؤدى إلى نفس الغاية.
ولما كان القرآن قد أنزله الله تعالى بلسان عربى مبين فإن القيام على تفسيره لابد أن ينبني على معرفة باللغة العربية وخصائصها، ودلالات ألفاظها، وأوجه بلاغتها.
ولذلك يذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى: (أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعانى القرآن بالغاً حدّ الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسَّرة، بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار، فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربى، وخصائص بلاغته)
(1) البرهان في علوم القرآن:2/163،164
(2)
مناهل العرفان في علوم القرآن:2/3
ثم نراه ينحي باللائمة على من لم يجعل ذلك في التفسير له غرضا، فيقول (فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير، فمن مقل مثل معانى القرآن لأبى إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف، ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التى نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العالية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي.
(ثم إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام، وهو كونه المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم وكونه المعجزة الباقية)(1) .
وإذا كان كلام صاحب التحرير مبنياً على رؤية التلازم بين معرفة علوم العربية وفهم معانى القرآن الذي يعيّن طريقاً للاهتداء به، فإن هذا الاهتداء فرع آخر بل ونتيجة لتلك الدراسة التي تؤكد على إعجاز القرآن، ذلك أنا نرى أن هناك ترابطاً لا ينفك بين النص المعجز والمعنى الشامل لسبل الهداية كلها، هذا الترابط يمكن وصفه إن صح التعبير-بأنه ترابط ما بين المقدمات والنتائج، فغرض الإعجاز مقدمة نتيجته الهداية، أو إن شئت فقل إن غرض الإعجاز أمر يسبق في التقرير غرض الهداية، لأن الناس إذا دعوا إلى العمل بمنهج ما فلا بد من قناعتهم بسلامة مصدر هذا المنهج حتى ينقادوا له عن طمأنينة، والإعجاز- في هذا المجال-قد أدى الغرض فأوفى، فبه عرف أن
(1) التحرير والتنوير:1/102
القرآن كلام رب الناس وخالقهم، والأعلم بما يصلح لهم ويُصلحهم، ناهيك عن إعجاز ما تضمنه القرآن في مجال الهداية كذلك من سمو تشريعه، وعلو دعوته.
وهذا وما سبق يؤكد على أن العناية بعلم (إعجاز القرآن) إجمالا وتفصيلا من أكثر الأمور ضرورة، وهو ما نبه إليه العلماء قديما وحديثا.
قال القاضي أبو بكر الباقلانى رحمه الله تعالى. (ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عماداً ونظاماً، وعلى صدق نبيهم صلى الله عليه وسلم برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، لا سيما والجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس) .
ثم يقول: (وقد كان يجوز ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته والدلالة على مكانه، فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه: من القول في الجزء، ودقيق الكلام في الأغراض، وكثير من بديع الإعراب، وغامض النحو، فالحاجة إلى هذا أمس والاشتغال به أوجب)(1) .
لقد منَّ الله تعالى على علماء الأمة بحفظ هذا العلم، فأولت إعجاز القرآن وبيانه للناس جل اهتمامها، وتتابعت في ذلك المصنفات –كما سيأتى بيانه- وظلت ترى- مع ذلك- أن الكلام في إعجاز القرآن واجب لا يسع الأمة في مجملها تركه.
(1) إعجاز القرآن للباقلاني:22، 23
قال السيد محمد رشيد رضا في تقديمه لكتاب (إعجاز القرآن) لمصطفى صادق الرافعي:
(فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعاً، وهو من فروض الكفاية، وقد تكلم فيه المفسرون، وبلغاء الأدباء والمتأنقون)(1) .
وما زال العلماء والأدباء من بعد رشيد رضا والرافعى يعنون بالقرآن الكريم من جهة إعجازه، وسيظلون على ذلك بعون الله تعالى خدمة لهذا الكتاب الكريم، الذى شرفنا الله تعالى بالانتساب إليه، ومنّ علينا بالاهتداء به:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:44)
(1) إعجاز القرآن للرافعي:20