الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من قصص القرآن قد سبق ذكره في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، وأن أحداً من هؤلاء لم يستطع أن يطعن في حقيقة من حقائق القصص القرآيى-بل القرآن هو الذي صوب لهم- عرفنا يقينا، وقامت الحجة وألزمت الجميع أن هذا القصص بما جاء فيه كله وحي من عند الله عز وجل.
وهنا ننبه كما نبهنا في الوجه السابق أن هذا الوجه دليل إعجاز لا يستقل بإثبات ذلك للقرآن سورة سورة، وآية آية، فهناك سور كثيرة تخلو من القصص وأخبار السابقين، وعليه فإن موطن التحدي هنا إنما يواجه من كان في مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم -في الفروض التي ذكرنا آنفاً- أن يجيء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسا: الإعجاز النفسي
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى:
(ما أظن امرأ سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم لا يزعم أنه لم يتأثر به: قد نقول: فلم يتأثر به؟ والجواب أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية إلا ويعرض القرآن له بالهداية وسداد التوجيه.
(إن القرآن الكريم بأسلوبه الفريد يرد الصواب إلى أولئك جميعا، وكأنه يعرف ضائقة كل ذي ضيق، وزلة كل ذي زلل، ثم تكفل بإزاحتها كلها، كما يعرف الراعي أين تاهت خرافه، فهو يجمعها من هنا وهناك، لا يغيب عن بصره ولا عن عطفه واحد منها
…
حتى الذين يكذبون بالقرآن
ويرفضون الاعتراف بأنه من عند الله.. إنهم يقفون منه مثلما يقف الماجن أمام أب ثاكل! قد لا ينخلع من مجونه الغالب عليه، ولكنه يؤخذ فترة ما بصدق العاطفة الباكية، أو مثلما يقف الخلي أمام خطيب يهدر بالصدق، ويحدث العميان عن اليقين الذي يرى ولا يرون.. إنه قد يرجع مستهزئا، ولكنه يرجع بغير النفس التي جاء بها) (1) .
هذا التأثير النفسي الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله هو من أظهر خصائص القرآن الكريم التي تبرز عند سماعه، فيمضي سامعه في تفكير يملك عليه أقطار نفسه، فيفضي به إلى الإيمان إذا صفت نفسه واستقامت فطرته، أو يفضي به إلى مزيد من العناد يدفع به هذا التأثير الغالب خشية الاقتناع به إذا كان السامع غليظ القلب جاحداً للحق مظلم النفس، وعندها يأتي من أبواب التدليس والكذب ما يعلل به هذا العناد.
ولكل مما ذكرنا مما يقضي إليه تأثير القرآن في نفوس سامعيه أمثلة:
فمن أمثلة التأثير المفضي إلى الإيمان ما أخرجه البخاري (2) . من حديث جبير بن مطعم أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: _ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (الطور:35-37) . كاد قلبي أن يطير.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى) قوله: " كاد قلبي أن يطير" قال الخطايى: كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته،
(1) نظرات في القرآن:127،128
(2)
في صحيحه: كتاب التفسير، باب من سورة الطور
ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، ثم قال (فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام)(1) .
ومن هذا القبيل كذلك ما ورد في قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عند سماعه القرآن في بيت أخته فاطمة وكانت قد سبقته إلى الإسلام، والقصة وإن لم ترد من طريق صحيحة إلا أن دلالتها غير منكورة.
قال الدكتور أكرم ضياء العمري في عرضه لقصة إسلام عمر رضي الله عنه: (أما قصة استماعه القرآن يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته قرب الكعبة، وعمر مستخف بأستارها، وكذلك قصته مع أخته فاطمة حين لطمها لإسلامها، وضرب زوجها سعيد بن زيد، ثم اطلاعه على صحيفة فيها آيات وإسلامه، فلم يثبت شيء من هذه القصص من طريق صحيحة.
ولكن الحافظ ابن حجر ذكر بأن الباعث له على دخوله الإسلام ما سمع في بيت أخته فاطمة من القرآن. (2)
(ولا شك أن القرآن ببيانه الساحر، وروعة تصويره لمشاهد القيامة، وصفة الجنة والنار كان له تأثير في اجتذاب عمر إلى صف المسلمين، لأن عمر كان يتذوق الكلام البليغ ويعجب به، وعدم ثبوت الروايات حديثياً لا يعنى حتمية عدم وقوعها تاريخياً)(3) .
أما التأثير الذي قوبل بالعناد لدفعه وعدم الاستسلام له، فمن أمثلته ما ذكره السيوطي وغيره من مجيء عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه إياه فيما جاء به قومه مما يخالف ما هم عليه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تلا عليه سورة فصلت إلى
(1) فتح الباري:8/603
(2)
يشير إلى ما ذكره ابن حجر في الفتح:7/176
(3)
السيرة النبوية الصحيحة:1/180،181
قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وعند ذلك أمسك عتبة بيده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف، وأنه قام لا يدري بما يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط، فما دريت ما أقول له (1) . وعاند عتبة وظل على كفره، وكان من قتلى المشركين في بدر.
ومن هذا القبيل كذلك ما أخرجه الحاكم (2) . وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمدَّا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوا لله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} إلى قوله تعالى:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر:11-26) .
(1) يراجع في ذلك: الدر المنثور للسيوطي:7/310،311
(2)
المستدرك: كتاب التفسير،تفسير سورة المدثر:2/506،507
إن الأثر الذي يحدثه القرآن أعظم من أن تقوم له من الأرض جبالها الرواسي {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21) .
وفي طبيعة هذا الأثر لدى المؤمنين جاء قول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23) .
وفي طبيعة هذا الأثر لدى المعاندين جاء قول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} (الإسراء:41) . وفي كليهما على طريق المقابلة جاء قول الله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (الإسراء:82) .
هذا هو أثر القرآن تنطق به آياته المباركة، وينطق به كذلك واقع الناس في كل وقت، ومازلنا نشاهد هذا الأثر في نفوس سامعيه: خشوعاً وخضوعا للحق إذا صفت الفطرة واستقامت النفوس، وخوفاً من سطوة هذا الأثر إذا أظلمت القلوب وأصرت على الكفر، فتتخذ حينئذ من أجل ذلك وسائل تحول بينها وبين هذا التأثير، قال الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26) .
ذلك هو ما اصطلح على تسميته –من بين وجوه إعجاز القرآن-بالإعجاز النفسي، وهو موضع عناية علماء المسلمين من قديم، قال القاضي عياض مشيراً إلى تأثير القرآن في النفوس وهو يعد وجوه الإعجاز (ومنها: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيئة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله، وإنافة خطره، وهى على المكذبين به أعظم حتى كانوا