الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى الصحبة وما يرادفها من الألفاظ
اعلم _ رحمني الله وإياك _ أن في الاجتماع الإنساني صلات شتى تعرض بين الأفراد؛ فمنها: الصحبة، ومنها: الصداقة، ومنها: الأخوة، ومنها: الرفقة، ومنها: الخلة _ وغيرها _.
وتشترك جميعها في معنًى كلي واحد، إلا أنها تختلف في أشياء:
أما معنى الصحبة من حيث الاشتقاق الكبير؛ فقد قال ابن فارس في «المقاييس» : «الصاد والحاء والباء: أصل واحد يدل على مقارنة شيء ومقاربته، من ذلك: (الصاحب)، والجمع: (الصحب)» .
وأما من حيث المعنى الخاص؛ فهي: المعاشرة والملازمة، وقد قيدها بعض أهل اللغة بالرؤية والمجالسة، ولذا قد جاء في تعريف (الصحابي) عند المحدثين: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على الإسلام؛ سواء أطالت صحبته أم قصرت.
إلا أن الصحبة قد تطلق دون هذا القيد، وإنما يراد بها ملازمة الشيء بالبدن أو بغيره؛ كالصحبة مع الله، وقد سئل أبو عثمان _ سعيد بن إسماعيل _ الحيري عن هذه الصحبة، فقال: «الصحبة مع الله: بحسن الأدب ودوام الهيبة
…
» كما
رواه البيهقي في كتابه «شعب الإيمان» .
وكذلك: لا تقيد الصحبة بمعاشرة البشر للبشر فقط؛ إنما قد تصرف إلى معاشرة البشر لغيرهم من الكائنات والموجودات.
ولا يشترط لها القصد؛ فقد تكون بإكراه ومن غير نية؛ كمصاحبة أهل النار للنار في قوله _ تعالى _: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} .
قال أهل التفسير: والصحبة هي: الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة.
وقد جمع هذا الأصل وأجمله: الخليل بن أحمد في كتابه «العين» ، بقوله:«وكل شيء لاءم شيئًا فقد استصحبه» .
وضبط ذلك كله الراغب الأصفهاني في كتابه «المفردات في غريب القرآن» ، فقال: «الصاحب: الملازم إنسانًا كان أو حيوانًا أو مكانًا أو زمانًا، ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن _ وهو
الأصل والأكثر _، أو بالعناية والهمة
…
ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، ويقال للمالك للشيء:(هو صاحبه)، وكذلك لمن يملك التصرف فيه».
وقد فرق أهل اللغة بين الصاحب والقرين:
قال أبو هلال العسكري في كتابه «الفروق اللغوية» : «
…
أن الصحبة تفيد
انتفاع أحد الصاحبين بالآخر، ولهذا يستعمل في الآدميين خاصةً، فيقال:(صحب زيد عمرًا) و (صحبه عمرو)، ولا يقال:(صحب النجم النجم) أو (الكون الكون)
…
والمقارنة: تفيد قيام أحد القرينين مع الآخر ويجري على طريقته وإن لم ينفعه، ومن ثم قيل:(قران النجوم)، وقيل للبعيرين يشد أحدهما إلى الآخر بحبل:(قرينان)».
قلت: وقد يتوهم بأن ثمة اختلافًا بين ضبط الأصفهاني للصحبة وبين ضبط العسكري لها؛ إذ خصصه أبو هلال بالآدميين خاصةً، أما الراغب الأصفهاني فقد أطلقه وعداه إلى الحيوان والزمان والمكان!!
ولا تضارب بين القولين؛ فإن مراد أبي هلال متعلق باشتراط كون طرف الصحبة الأول المتكلم آدميا _ وهو الفاعل _، ولهذا
مثل الخطأ بقول القائل: (صحب النجم
…
) و (صحب الكون
…
)، ولا يريد بقوله _ هذا _ عدم جواز قول القائل:(صحبت الدهر) و (صحبت الصبر) و (صحبت الليل)، فهذا كله جائز لأن المتكلم آدمي، وهذا لا يخالف قول الراغب الأصفهاني؛ فإن مراده متعلق بالطرف الثاني _ وهو المفعول به _، فأشار إلى إطلاقه؛ كقول القائل:(صحبت كلبًا) أو (صحبت هذا المكان) _ والله تعالى أعلم _.
أما الفرق بين الصحبة وبين ما رادفها من ألفاظ _ كالصداقة والأخوة والرفقة والخلة _؛ فقد ضبط ذلك أهل اللغة في دواوينهم:
فأما الصداقة؛ فهي: صدق الاعتقاد في المودة، وذلك مختص بالإنسان دون غيره، وكما قيل: إنما سمي الصديق صديقًا لصدقه، والعدو عدوا لعدوه عليك.
وقد ذكر ابن حزم في كتابه «الأخلاق والسير» حد الصداقة، فقال: «هو أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره، فما سفل عن هذا فليس صديقًا، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق، وقد يكون المرء صديقًا لمن ليس
صديقه
…
إذ قد يحب الإنسان من يبغضه، وأكثر ذلك في الآباء مع الأبناء، وفي الإخوة مع إخوتهم، وبين الأزواج، وفيمن صارت محبته عشقًا، وليس كل صديق ناصحًا، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه».
وأما الأخوة؛ فهي كل من جمعك وإياه صلب أو بطن، وتستعار لكل من يشاركك في القبيلة أو في الدين أو في الصنعة أو في معاملة أو في مودة _ أو في غير ذلك من المناسبات _.
وأما الرفقة؛ فتقال للقوم ما داموا منضمين في مجلس واحد ومسير واحد، فإذا تفرقوا ذهب عنهم اسم الرفقة، ولم يذهب عنهم اسم الرفيق.
وأما الخلة؛ فهي الصداقة، إلا أنها رتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا اختص بها الخليلان إبراهيم ومحمد _ عليهما السلام _.
وقال العسكري في «الفروق» : «والخلة: المودة التي تتخلل الأسرار معها
بين الخليلين، وسمي الطريق في الرمل خلا لأنه يتخلل لانعراجه».
وقال _ أيضًا _: «الفرق بين الصداقة والخلة: أن الصداقة اتفاق الضمائر على المودة، فإذا أضمر كل واحد من الرجلين
مودة صاحبه، فصار باطنه فيها كظاهره؛ سميا صديقين، ولهذا لا يقال:(الله صديق المؤمن) كما أنه وليه، والخلة: الاختصاص بالتكريم، ولهذا قيل: إبراهيم خليل الله؛ لاختصاص الله إياه بالرسالة، وفيها تكريم له
…
».
وقال ثعلب في معنى الخليل: إنما سمي الخليل خليلًا ; لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خللًا إلا ملأته.