المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مراتب الصحبة وأسبابها - غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة

[حازم خنفر]

الفصل: ‌ مراتب الصحبة وأسبابها

فصل

في‌

‌ مراتب الصحبة وأسبابها

واعلم أن الصحبة لا تتعلق بالأقران فقط، وإنما تكون _ أيضًا _ في معاشرة الأكابر والأصاغر، وقد بينها أبو عبد الرحمن _ محمد بن الحسين _ السلمي في كتابه «آداب الصحبة»:

فأما معاشرة الأكابر؛ فتكون بالحرمة والخدمة والقيام بأشغالهم.

وأما الأقران؛ فبالنصيحة وبذل الموجود.

وأما الأصاغر؛ فبالإرشاد والتأدب.

وعليه: فمهما كان وجه المعاشرة فإنه متعلق برتب لا تقوم الصحبة إلا بها، وقد ذكرها الماوردي في «أدب الدنيا والدين»:

فمنها: ما يكون مكتسبًا من غير قصد واختيار بسبب المماثلة والاتفاق بين الصاحبين في أمور شتى.

ص: 31

ومنها: ما يكون مكتسبًا بقصد ونية بسبب الرغبة والحاجة.

أما ما يكون مكتسبًا بسبب الاتفاق؛ فهي: التجانس، ثم المواصلة، ثم المؤانسة، ثم المصافاة، ثم المودة، ثم المحبة، ثم الاستحسان.

1 -

فأولها: التجانس، ويراد به: مماثلة المتصاحبين ومشاكلتهم وائتلافهم

في جنس أو صفة.

قال الماوردي: «فإن قوي التجانس قوي الائتلاف به، وإن ضعف كان ضعيفًا ما لم تحدث علة أخرى يقوى بها الائتلاف، وإنما كان ذلك كذلك لأن الائتلاف بالتشاكل، والتشاكل بالتجانس، فإذا عدم التجانس من وجه انتفى التشاكل من وجه، ومع انتفاء التشاكل يعدم الائتلاف، فثبت أن التجانس _ وإن تنوع _ أصل الإخاء وقاعدة الائتلاف» .

قلت: يريد أن الحالة بين اثنين _ من جنس أو صفة _ كلما كانت شديدة المماثلة والمشاكلة فإنها باعثة على شدة الائتلاف والاتفاق بينهما، وإن كانت ضعيفةً ضعف الائتلاف بينهما.

ونبه على أن ذلك ليس بقاعدة مطردة، وإنما قد تأتي المماثلة في أمر آخر غير الأمر الذي عدمت المشاكلة فيه؛ فإن

ص: 32

للإنسان صفات عديدةً وطباعًا مختلفةً قد تعدم المماثلة بين الاثنين في واحدة منها، إلا أنهما تجانسا في صفة أخرى غير الأولى، فتكون الصحبة والأخوة بسبب الثانية لا الأولى.

ولهذا كان خلق الصاحب دليلًا على خلق صاحبه، فلولا شبه خلقهما لما تصاحبا:

فقد أخرج البخاري عن عائشة _ معلقًا _، ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما

تناكر منها اختلف».

نقل الحافظ ابن حجر في كتابه «فتح الباري» عن الخطابي قوله: «يحتمل أن يكون إشارةً إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخير من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير ذلك؛ يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر» .

ونقل عن ابن الجوزي قوله: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرةً ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضى ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه» .

ص: 33

وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» :

قال أهل العلم: أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، فمن رضي دينه وخلقه خالله، ومن لا: تجنبه؛ فإن الطباع سراقة.

وروى ابن أبي الدنيا في كتابه «الإخوان» عن عبد الله بن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بأخدانهم؛ فإن الرجل يخادن من يعجبه نحوه.

وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك.

وقال بعض الأدباء: يظن بالمرء ما يظن بقرينه.

وقال الأوزاعي: الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب؛ إذا لم تكن مثله

شانته.

ومنه قول الشاعر:

وما صاحب الإنسان إلا كرقعة

على ثوبه فليتخذه مشاكلا

ولبعضهم:

فلا تحتقر نفسي وأنت خليلها

فكل امرئ يصبو إلى من يشاكل

ص: 34

وقال عدي بن زيد:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

ثم ذكر الماوردي أربع خصال معتبرة في إخائهم بعد المجانسة _ التي هي أصل الاتفاق _، فقال: «فالخصلة الأولى: عقل موفور يهدي إلى مراشد الأمور

والخصلة الثانية: الدين الواقف بصاحبه على الخيرات؛ فإن تارك الدين عدو لنفسه، فكيف يرجى منه مودة غيره؟!

والخصلة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق مرضي الأفعال، مؤثرًا للخير آمرًا به، كارهًا للشر ناهيًا عنه؛ فإن مودة الشرير تكسب الأعداء وتفسد الأخلاق

والخصلة الرابعة: أن يكون من كل واحد منهما ميل إلى صاحبه، ورغبة في مؤاخاته؛ فإن ذلك أوكد لحال المؤاخاة وأمد لأسباب المصافاة؛ إذ ليس كل مطلوب إليه طالبًا، ولا كل مرغوب إليه راغبًا».

2 -

ثم المواصلة، وهي مرحلة ما بعد التشاكل، وقد قال بعض الحكماء:

بحسن تشاكل الأخوان يلبث التواصل.

وقصد بها: الاجتماع والمداومة على ذلك، وهي مرتبة نتجت من المرتبة الأولى؛ وهي: الاتفاق والائتلاف.

ص: 35

ولا يراد بهذه المواصلة: بلوغ المحبة والود بينهما؛ وإنما هي مرتبة يترقب بها كل منهما الآخر للتثبت من وجود الاتفاق، فلا يكون هذا إلا بالاجتماع والمواصلة.

3 -

ثم المؤانسة، وهي شعور بشيء من الأمان والانبساط، فينطلق اللسان، حتى يفضي ذلك إلى الانشراح والسرور والتأنس.

4 -

ثم المصافاة، ويراد بها: الإخلاص فيما سيكون من مودة وإخاء؛ قال الماوردي: «وسببها: خلوص النية» .

5 -

ثم المودة، قال بعض الحكماء: من جاد لك بمودته فقد جعلك عديل نفسه.

قال الماوردي: «وهذه الرتبة هي أدنى الكمال في أحوال الإخاء، وما قبلها أسباب تعود إليها، فإن اقترن بها المعاضدة فهي الصداقة» .

قلت: يريد أن الصحبة تبدأ من هذه المرتبة _ وهي حصول المودة _، أما ما قبلها من مراتب فهي مقدمات لبلوغ هذه المودة، وأشار كذلك إلى أن هذه المرتبة قد تبلغ مبلغ الصداقة إذا كان من كل منهما للآخر النصر والعون.

ص: 36

6 -

ثم المحبة، قال الماوردي:«وسببها: الاستحسان» .

وقد فرق أهل اللغة بين المودة والمحبة؛ قال أبو هلال العسكري في «الفروق اللغوية» : «والمحبة لا تقع إلا على المستقبل، وبه يظهر الفرق بين المحبة والمودة؛ لأن المودة قد تكون بمعنى التمني؛ كقولك: (أود لو قدم زيد)؛ بمعنى: (أتمنى قدومه)، ولا يجوز: (أحب لو قدم زيد)» .

قلت: ولعل الماوردي أراد برتبة المودة: المحبة غير المعلنة؛ فإنها تكون في أول ائتمان كل منهما للآخر، ولذلك قال:«وسببها: الثقة» ؛ أي: والسبب الذي أفضى إلى هذه المودة هو الثقة بينهما، أما رتبة المحبة؛ فقد جعل سببها الاستحسان، ويريد بهذا: التعدي في كتمان هذا الحب إلى إظهاره، وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» _ والله تعالى أعلم _.

والأصل في المحبة أمران:

الأول: أن تكون محبته لله.

والثاني: أن لا يفرط في هذه المحبة.

ص: 37

أما الأول؛ فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عنه، فقال: هو أن لا يحبه لطمع الدنيا.

وقد جاء في ذلك أحاديث؛ منها:

ما أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» .

وما أخرجاه عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله

» وذكر منهم: رجلين تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا.

وعند مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله _ تبارك وتعالى _ يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» .

وعند أحمد والترمذي، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«قال الله: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء» .

ص: 38

ولأبي داود هذا المعنى من حديث عمر، وفيه:«هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها» .

ولمسلم من حديث أبي هريرة، أن الملك قال للذي زار أخاه: إني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه.

فمما ينبغي أن تكون فيه الصحبة والمعاشرة هو: الحب من أجل حظوظ

أخروية لا دنيوية:

قال بلال بن سعد: أخ لك كلما لقيك ذكرك _ برؤيته _ ربك: خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارًا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع فتاويه» : «ومن أحب أحدًا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه؛ فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه

وكلاهما ضرر عليه؛ قال _ تعالى _: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب} ».

وقال أبو حامد في «الإحياء» : «وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل،

ص: 39

ومقصوده من العلم والعمل هو: الفوز في الآخرة

وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويرقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء».

وأما الأمر الثاني؛ فهو عدم الإفراط في المحبة، قال الماوردي:«فإن الإفراط داع إلى التقصير» .

وقد روى الترمذي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحبب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا

ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»:

قال ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث» : «يعني: لا تسرف في الحب والبغض؛ فعسى أن يصير الحبيب بغيضًا والبغيض حبيبًا، فلا تكون قد أسرفت في الحب فتندم، ولا في البغض فتستحيي» .

ونقل المناوي في كتابه «فيض القدير» عن ابن العربي قوله: «معناه: أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن؛ فقد يعود الحبيب بغيضًا وعكسه، فإذا أمكنته من نفسك حال الحب وعاد بغيضًا كان لمعالم مضارك أجدر؛ لما اطلع منك حال الحب بما أفضيت إليه من الأسرار» .

ص: 40

ومن ذلك: ما روي عن علي، أنه قال: ابذل لصديقك كل المروءة، ولا تبذل له كل الطمأنينة، وأعطه من نفسك كل المواساة، ولا تفض إليه بكل الأسرار.

وقال بعض السلف: إياك وكره الإخوان؛ فإنه لا يؤذيك إلا من تعرف.

وقال عمر بن الخطاب: لا يكن حبك كلفًا، ولا بغضك تلفًا.

وقال الحسن البصري: أحبوا هونًا وأبغضوا هونًا؛ فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا، وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا.

وأنشد أحمد بن يحيى:

فهونك في حب وبغض فربما

يرى جانب من صاحب بعد جانب

وأخرج الرافعي في كتابه «التدوين في أخبار قزوين» عن أبي إسحاق

السبيعي، أنه قال: كان علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ يذاكر أصحابه وجلاسه في استعمال حسن الأدب بقوله:

وكن معدنًا للخير واصفح عن الأذى

فإنك راء ما عملت وسامع

وأحبب إذا أحببت حبا مقاربًا

فإنك لا تدري متى أنت نازع

ص: 41

وأبغض إذا أبغضت بغضًا مقاربًا

فإنك لا تدري متى الحب راجع

7 -

ثم الاستحسان، فإن كان في الجمال الباطن فهو: الإعظام، وإن كان في الجمال الظاهر فهو: العشق، وقد يكون الاستحسان إعظامًا وعشقًا في آن واحد.

أما ما تكون الصحبة فيه بطريق القصد والاختيار؛ فهو على وجهين:

1 -

الأول: الرغبة، قال الماوردي:«فأما الرغبة؛ فهي: أن تظهر من الإنسان فضائل تبعث على إخائه، ويتوسم بجميل يدعو إلى اصطفائه، وهذه الحالة أقوى من التي بعدها لظهور الصفات المطلوبة من غير تكلف لطلبها، وإنما يخاف عليها من الاغترار بالتصنع لها، فليس كل من أظهر الخير كان من أهله، ولا كل من تخلق بالحسنى كانت من طبعه» .

2 -

والثاني: الحاجة؛ قال الماوردي: «وأما الفاقة؛ فهي أن يفتقر الإنسان لوحدة انفراده ومهانة وحدته إلى اصطفاء من يأنس بمؤاخاته ويثق بنصرته وموالاته» .

ص: 42