المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مقامات الإخوان ومراتبهم - غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة

[حازم خنفر]

الفصل: ‌ مقامات الإخوان ومراتبهم

فصل

في‌

‌ مقامات الإخوان ومراتبهم

واعلم أن لكل صحبة طريقةً ومقامًا، وقد ذكرها السلمي في «آداب الصحبة» ، وهي: الصحبة مع الله، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحبة مع الصحابة وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والصحبة مع السلطان، والصحبة مع الأهل والولد، والصحبة مع الإخوان، والصحبة مع العلماء، والصحبة مع الوالدين.

وذكر أبو عثمان _ سعيد بن إسماعيل _ الحيري شيئًا من ذلك كما أخرجه السلمي نفسه عنه في كتابه «أدب الصحبة» ، ومن طريقه: البيهقي في «شعبه» .

فأما الصحبة مع الله؛ فبحسن الأدب ودوام الهيبة _ كما تقدم _، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، ودوام ذكره، ودرس كتابه.

ص: 43

وأما الصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فباتباع سنته واجتناب البدع ولزوم ظاهر العلم.

وأما الصحبة مع الصحابة وأهل بيته؛ فبالترحم عليهم وحسن القول فيهم.

وأما الصحبة مع السلطان؛ فبالطاعة، إلا أن يأمر بمعصية أو مخالفة سنة،

والدعاء له بظهر الغيب ليصلحه الله ويصلح على يديه، والنصيحة له في جميع أموره.

وأما الصحبة مع الأهل والولد؛ فبالمداراة، وحسن الخلق، وسعة النفس، وتمام الشفقة، وتعليم الأدب والسنة، وحملهم على الطاعات.

وأما الصحبة مع الإخوان؛ فبدوام البشر، وبذل المعروف، ونشر المحاسن، وستر القبائح، وتعهدهم بالنفس والأموال، ومجانبة الحقد والحسد والبغي والأذى وما يكرهون من جميع الوجوه، وترك ما يعتذر منه.

وأما الصحبة مع العلماء؛ فبقبول قولهم، والرجوع إليهم في النوازل.

وأما الصحبة مع الوالدين؛ فبودهما بالنفس والمال،

ص: 44

وخدمتهما في حياتهما، وإنجاز وعدهما، والدعاء لهما في كل الأوقات ما داما في الحياة، وحفظ عهدهما بعد الممات، وإكرام أصدقائهما.

وقد جعل أبو عثمان للصحبة مع الجهال مقامًا _ كما في «شعب الإيمان» _، فقال:«والصحبة مع الجهال: بالدعاء لهم والرحمة عليهم، ورؤية نعمة الله عليك أنه لم يبتلك بما ابتلاهم به» .

أما ما يخص مقام الصحبة مع الإخوان؛ فقد ذكر ابن الحاج في كتابه «المدخل» نقلًا عن شيخه أبي محمد أنها على ثلاث مراتب لا رابع لها.

فأما الأولى؛ فهي: أن يكون صاحبك مثل أبيك، وهو أعلاهم.

قال: «إذ إنه ليس للولد مع أبيه حديث في شيء؛ لقوله _ عليه الصلاة

والسلام _: «أنت ومالك لأبيك» ».

وأما الثانية؛ فهي: أن يكون صاحبك مثل أخيك الشقيق، وهو أوسطهم.

قال: «وهو أقل رتبةً من الأول؛ لأن الأخ الشقيق يقاسم أخاه في جميع الأشياء، فإن أخذ الأخ دينارًا أو درهمًا أو ثوبًا

ص: 45

_ أو غير ذلك _ أخذ الأخ مثله، فكذلك

إن لبس ثوبًا كسا أخاه مثله، وإن أكل طعامًا أطعم أخاه منه أو مثله _ إلى غير ذلك _».

وأما الثالثة؛ فهي: أن يكون صاحبك مثل عبدك.

قال: «وهي أقل الإخوان مرتبةً، فإن عجزت عن ذلك فلا أخوة إذ ذاك _ أعني: الأخوة الخاصة بالفقراء، وأما أخوة الإسلام فهي حاصلة _» .

قلت: ويريد أن انخرام الأخوة المذكور لا يراد به أخوة الإسلام، وإنما هي الأخوة الخاصة بالفقراء _ من إظهار المحبة والمودة _؛ فإن معنى الأخوة قد جاء في القرآن الكريم على ضروب مختلفة كما ذكر المفسرون:

فمنها: النسب، ومنه: قوله _ تعالى _: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين} .

ومنها: القبيلة، ومنه: قوله _ تعالى _: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} .

ومنها: الدين، ومنه: قوله _ تعالى _: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} .

ص: 46

ومنها: المعاملة، ومنه: قوله _ تعالى _: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ، وهذا على قول من قال بأن المعنى _ هنا _: أخته في الصلاح.

ومنها: المودة والمحبة، ومنه: قوله _ تعالى _: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} .

ومنها: الصحبة، ومنه: قوله _ تعالى _: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} ، ومن المفسرين من جعل الأخوة _ هنا _ أخوة الدين.

ثم قال ابن الحاج معقبًا على كلامه: «أعني: أن العبد يجب عليك أن تقوم بضرورته من غذائه وكسوته وما يحتاج إليه من ضروراته في صلاح دينه ودنياه

وقد خرج البخاري من حديث المعرور بن سويد، قال: رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلًا، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«أعيرته بأمه؟!» ، ثم قال:«إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» ».

ص: 47

قلت: وقد أخرج حديث المعرور بن سويد: مسلم _ أيضًا _.

والخول: هم الخدم والعبيد _ ونحوهم _، والكلمة للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: «سموا بذلك؛

لأنهم يتخولون الأمور؛ أي: يصلحونها».

ولا يتوهم من هذا الحديث وجوب إطعام السيد عبده مما يأكل وإلباسه مما يلبس؛ قال النووي في شرحه لـ «صحيح مسلم» معلقًا: «والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد وإلباسهم مما يلبس: محمول على الاستحباب لا على الإيجاب، وهذا بإجماع المسلمين، وأما فعل أبي ذر في كسوة غلامه مثل كسوته فعمل بالمستحب، وإنما يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص؛ سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه، حتى لو قتر السيد على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله _ إما زهدًا أو شحا _؛ لا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه وموافقته إلا برضاه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره» .

ثم علل ابن الحاج في «المدخل» _ نقلًا عن شيخه _ نفي

ص: 48

الأخوة بعد هذه المرتبة بقوله: «فإن تعذرت عليه هذه المرتبة الثالثة؛ فينبغي _ أو يتعين _ عليه أن لا يدعي الأخوة؛ لعجزه عن القيام بحقها؛ إذ إنه قد يشبع وأخوه جائع، وقد يلبس وأخوه عريان، فيوجب على نفسه حقا له

فتتعمر الذمة بالحقوق لغير ضرورة شرعية، وهذا المعنى قد كثر في هذا الزمان، فإذا أحسنوا الظن بأحد من الفقراء طلبوا منه الأخوة، فإن أجابهم لما طلبوه وجبت عليهم حقوق كثيرة، ثم

إنهم ينصرفون بعد الأخوة معه، ولا يرجعون إليه غالبًا بعد ذلك، ولا يعرفون كيف حاله أبات جائعًا أم لا أو هو عريان أم لا، وقد يكون منهم من يتفقده لكن بالرؤية والسؤال _ ليس إلا _، دون إعانة ومشاركة، فشغلوا ذمتهم بشيء كانوا في غنًى عن ترتبه فيها، ألا ترى أن العبد إذا لم يقدر السيد على نفقته وكسوته أمره الشرع ببيعه، فالبيع في حق العبد مقابله في حق الأخ؛ فإنك إذا عجزت عن المرتبة الثالثة نزلت أخاك منزلة بيع العبد عند العجز

فينبغي أن تكون المؤاخاة على هذا الأسلوب

فإن لم تكن لك قدرة فلا تدعيها؛ إذ إن من ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان».

ومما جاء في مراتب الأصحاب:

قيل: منهم من هو كالغذاء الذي يمسك رمقك، ولا بد

ص: 49

لك منه على كل حال؛ لأنه قوام حياتك وزينة دهرك، ومنهم من هو كالدواء يحتاج إليه في الحين بعد الحين على مقدار محدود، ومنهم من هو كالسهم الذي لا ينبغي أن تقربه؛ فإنه سبب هلكتك.

وقيل: الإخوان كالسلاح، فمنهم من يجب أن يكون كالرمح يطعن به من بعيد، ومنهم كالسهم يرمى به ولا يعود إليك، ومنهم كالسيف الذي لا ينبغي أن يفارقك.

وكذلك روي عن المأمون أنه قال: الإخوان على ثلاث طبقات: كالغذاء؛ لا يستغنى عنهم أبدًا، وهم إخوان الصفاء، وإخوان كالدواء؛ يحتاج إليهم في بعض الأوقات، وهم الفقهاء، وإخوان كالداء؛ لا يحتاج إليهم أبدًا، وهم أهل الملق والنفاق، لا خير فيهم.

وفي معناه: ما نقله ابن الحاج عن أبي عبد الرحمن الصقلي أنه قال: «الإخوان أربعة: أخ كالدواء، وأخ كالغذاء، وأخ كالداء، وأخ كالدفلى، فالأول معدوم، والثاني مفقود، والثالث موجود، والرابع مشهود» .

قال معقبًا: «أما الأول الذي هو كالدواء فهو مثل

ص: 50

المشايخ

وكالصلحاء والعلماء، فهم قدوة للمقتدين

وأما الذي هو كالغذاء فهو مثل الأخ في الله _ تعالى _، المشفق الودود الحنون، الذي يؤلمه ما يؤلمك، ويسره ما يسرك، ويجوع نفسه لجوعك، ويتعرى لعريك، ويكابد ما نزل بك أكثر من مكابدة ما نزل به، وأنت ترى فقده في هذا الزمان، لكن بين الفقد والعدم فرق، وهو أن المعدوم لا يوجد ألبتة، والمفقود قد يوجد في موضع ما

وأما القسم الثالث

_ وهو قوله: (والثالث موجود) _؛ فلا شك أنك إذا خالطت كثيرًا من الناس في هذا الزمان أو عاشرتهم بملابسة ما؛ تجد من كثير منهم الأذية البالغة؛ إما في دينك أو دنياك أو عرضك، وهذا هو الداء الذي لا شك فيه، فإن أنت خالطته وجدت ما ذكره، وأما القسم الرابع الذي قال عنه:(إنه مشهود)؛ فلا شك في مباشرة ذلك في هذا الزمان؛ ألا ترى أنك إذا تكلمت مع أحد منهم في صلاح دينه

في شيء ما قابلك بانزعاج وخلق سيئ، وأقل جوابه: أن يقول لك: (ما حقرت في الناس إلا أنا حتى تأمرني وتنهاني!)، أو يتسلط عليك ببذاءة لسانه وينظر لك عورات يظهرها أو حسنات يخفيها أو يردها سيئات، وهذا فيه من المرارة بحيث المنتهى، كما هي الدفلى إذا تناولت منها شيئًا، وقد يفضي ذلك

ص: 51

إلى العدم؛ إذ قيل: (إنها سم)، فيتعين عليك أن تفر ممن هذه صفته، فالعاقل اللبيب من شمر عن ساعديه، وبالغ في الفحص عن القسمين الأولين

فإن عدمهما فيتعين عليه الخلوة والاعتزال إن أراد السلامة

».

ص: 52