الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في
حقوق الصحبة وآدابها ظاهرًا وباطنًا
واعلم أن لقوام الصحبة حقوقًا، فبقدر تأديتها أو الإخلال بها: تدوم الأخوة أو تنخرم.
وكانت الحكماء تقول: إن مما يجب للأخ على أخيه: مودته بقلبه، وتزيينه بلسانه، ورفده بماله، وتقويمه بأدبه، وحسن الذب والمدافعة عنه في غيبته.
وقد جمع هذه الحقوق أبو حامد في «إحيائه» ، وهي: الإخلاص والوفاء، والإعانة، وحفظ اللسان بالسكوت عن المكاره وإطلاقه بالنطق بالمحاب، والعفو عن الزلات، والتخفيف عليه، وإخبار صاحبه بمحبته له، والدعاء له.
أما الإخلاص والوفاء؛ فقال: «ومعنى الوفاء: الثبات على الحق، وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده
وأصدقائه؛ فإن الحب إنما يراد للآخرة
…
فمن الوفاء للأخ: مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به، ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه؛ فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر».
قلت: ومن الإخلاص والوفاء: أن لا يعاشر صاحبه بالمكر والخديعة، وقد قيل: من عاشر الإخوان بالمكر كافؤوه بالغدر.
ومنه أيضًا: أن لا يقبل في صاحبه مقالة سوء من عدو.
قال الخليل بن أحمد: من نم لك نم عليك، ومن أخبرك خبر غيرك أخبره بخبرك.
ومن جميل ما ذكر في ذلك: ما روي أن رجلًا جاء إلى مطيع بن إياس، فقال: قد جئتك خاطبًا، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتها، وجعلت الصداق: أن لا تقبل في مقالة قائل.
فأما الإعانة؛ فببذل المال والنفس لصاحبه عند حاجته وافتقاره.
قال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه، فكان يخدمني أكثر.
وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عمر قوله: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ولا درهمه من أخيه المسلم.
وقال ابن الجوزي: وكان الرجل إذا أراد شين أخيه طلب حاجته إلى غيره.
وقال ابن المقفع في كتابه «الأدب الكبير» : «ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك» .
وقيل لأحدهم: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها.
وقد حكي أن رجلًا لقي صاحبًا له، فقال له: إني أحبك، فقال: كذبت؛ لو كنت صادقًا ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة.
وقال الشاعر:
وإن كان الصديق قليل مال
…
يضيق بذرعه ما في يديه
فمن أسنى فعال المرء أن لا
…
يضن على الصديق بما لديه
وقد ذكر ابن الجوزي ثلاث مراتب في بذل المال للصاحب وإعانته:
فأدناها: المساهمة، وذلك بأن يبذل له نزرًا منه.
وأوسطها: المساواة، وذلك بأن يشاطره حقه، فيبذل له نصفه.
وأرفعها: الإيثار، وذلك بأن يؤثر لصاحبه أكثر ماله على نفسه.
قلت: وهذا الإيثار للخلق قد يبلغ مبلغ الذم إذا خلص إلى ثلاثة أمور؛ ذكرها أبو إسماعيل _ عبد الله بن محمد _ الأنصاري الهروي في كتابه «منازل السائرين» ، وهي: أن لا يخرم عليك هذا الإيثار دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يفسد عليك وقتًا.
وقد أظهر العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» معنى كلام الهروي:
فأما الأول؛ فقال: «مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ؛ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين» .
وأما الثاني؛ فقال: «لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير
إلى الله _ تعالى _، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك
…
فيكون مثلك كمثل مسافر سائر
على الطريق، لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق».
وأما الثالث؛ فقال: «مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله، فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا _ أيضًا _ إيثار غير محمود» .
وقد قسم الماوردي أحوال الناس في الإعانة إلى أربعة أقسام:
الأول: الذي يعين صاحبه، ويلتمس الإعانة منه، وهو أعدلهم.
قال: «فهو معاوض منصف، يؤدي ما عليه، ويستوفي ما له
…
وهو مشكور في معونته، ومعذور في استعانته».
والثاني: الذي لا يعين صاحبه، ولا يلتمس الإعانة منه.
قال الماوردي: «فهو لا صديق يرجى ولا عدو يخشى
…
كالصورة الممثلة؛ يروقك حسنها ويخونك نفعها، فلا هو مذموم لقمع شره، ولا هو مشكور لمنع خيره، وإن كان باللوم
أجدر
…
غير أن فساد الوقت وتغير أهله: يوجب شكر من كان شره مقطوعًا وإن كان خيره ممنوعًا».
والثالث: الذي لا يعين صاحبه، إلا أنه يلتمس الإعانة منه.
قال: «فهو لئيم كل
…
فلا خيره يرجى ولا شره يؤمن
…
فليس لمثله في الإخاء حظ، ولا في الوداد نصيب».
والرابع: الذي يعين صاحبه، إلا أنه لا يلتمس الإعانة منه، وهو أشرف الإخوان نفسًا وأكرمهم طبعًا.
قال الماوردي عنه: «فهو كريم الطبع، مشكور الصنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلًا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة
…
فينبغي لمن أوجد الزمان مثله _ وقل أن يكون له مثل؛ لأنه البر الكريم والدر اليتيم _ أن يثني عليه خنصره، ويعض عليه ناجذه، ويكون به أشد ضنا منه بنفائس أمواله وسني ذخائره؛ لأن نفع الإخوان عام، ونفع المال خاص، ومن كان أعم نفعًا فهو بالادخار أحق».
وقد وصف صاحب «الإحياء» الإعانة بالنفس بقوله: «فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح» .
وأما اللسان؛ فذلك بأن ينصح صديقه ويحفظه في غيبته وبعد مماته، وأن لا يتفوه بشيء يريد به شينه، ولا يكون ذا فضول بسؤال صاحبه عن أحواله وشؤونه التي يستأثرها لنفسه ولا يحب أن يطلع عليها أحد.
قال صاحب «الإحياء» : «ومن ذلك: أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله
…
وكذلك الثناء على أولاده وأهله وصنعته وفعله حتى عقله وخلقه وهيئته
…
وجميع ما يفرح به، وذلك من غير كذب وإفراط».
قلت: ويريد بقوله: (من غير كذب وإفراط): أن لا يرفع صاحبه فوق
قدره _ سواء في حضرته أو غيبته _، وقد روي عن الشافعي أنه قال: ما رفعت أحدًا _ قط _ فوق قدره إلا غض مني بقدر ما رفعت منه.
وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن مجاهد، قال:«إذا لقيت أخاك فلا تسأله: (من أين جئت؟)، ولا: (أين تذهب؟)، ولا تحد النظر إلى أخيك» .
وقال الأعمش: أدركت أقوامًا كان الرجل منهم لا يلقى أخاه شهرًا وشهرين، فإذا لقيه لم يزده على:(كيف أنت؟)
و (كيف الحال؟)، ولو سأله شطر ماله لأعطاه، ثم أدركت أقوامًا لو كان أحدهم لا يلقى أخاه يومًا سأله عن الدجاجة في البيت، ولو سأله حبةً من ماله لمنعه.
وقال صاحب «الإحياء» : «أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله؛ فهو من الغيبة، وذلك حرام في حق كل مسلم، ويزجرك عنه أمران: أحدهما: أن تطالع أحوال نفسك، فإن وجدت فيها شيئًا واحدًا مذمومًا فهون على نفسك ما تراه من أخيك، وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة كما أنك عاجز عما أنت مبتلًى به، ولا تستثقله بخصلة واحدة مذمومة، فأي الرجال المهذب؟!
…
والأمر الثاني: أنك تعلم أنك لو طلبت منزهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافةً، ولن تجد من تصاحبه أصلًا، فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ».
قلت: ومن حفظ اللسان _ أيضًا _: كفه عن المن ولو على سبيل الهزل؛ فإنه يكثر في الأصحاب، وهو يبطل الخير والعمل؛ كما في قوله
_ تعالى _: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} .
وقد أخرج مسلم _ وغيره _ عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد ذكر الأصمعي عن أعرابي، أنه قال: حمل المنن أثقل من الصبر على العدم.
وقال أبو الفرج _ المعروف بالببغاء _:
ما الذل إلا تحمل المنن
…
فكن عزيزًا إن شئت أو فهن
وأما العفو عن الزلات؛ فذلك بأن يقيل عثرات أخيه، ويعفو عن زلاته، وأن يلتمس له أعذارًا، وأن لا يعترض على هناته دون روية؛ فإن ذلك قد يبعث على القطيعة والهجران، فإن وقع التقاطع والتهاجر أخذ كل منهما ينشد صحبةً أخرى.
وأكثر من يبلغ هذا المبلغ لا يجد في الصاحب المنشود اختلافًا عمن هجره؛ بل قد يجد من الود والصفات الحميدة في المهجور ما لم يجده في المنشود.
وفي هذا المعنى أشعار كثيرة:
قال الشاعر:
كم صديق منحته صفو ودي
…
فجفاني وملني وقلاني
مل ما مل ثم عاود وصلي
…
بعدما مل صحبة الخلان
وقال آخر:
عتبت على بشر فلما جفوته
…
وصاحبت أقوامًا بكيت على بشر
وقال آخر:
ونعتب أحيانًا عليه ولو مضى
…
لكنا على الباقي من الناس أعتبا
ولهذا كان من أكثر الأمور ثباتًا للصحبة: هو التماس العذر للصاحب، والصبر عليه لخلق فيه ليس بمستحسن، والاعتراض علىه بمداراة وحكمة، والإقلال من معاتبته:
روى أبو نعيم _ وغيره _ في «الحلية» عن أبي قلابة، قال:«إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه» .
وروى ابن أبي الدنيا في «مداراة الناس» عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تظن بكلمة خرجت من في مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملًا.
وروى كذلك عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: إذا سمعت كلمةً من مسلم فاحملها على أحسن ما تجد، حتى لا تجد محملًا.
وقيل: لا تقطع أحدًا إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه، ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعةً فينسد طريقه عن الرجوع إليك، فلعل التجارب ترده إليك وتصلحه لك.
وقال الماوردي: «ثم لا ينبغي أن يزهد فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رضي سائر أخلاقه وحمد أكثر شيمه؛ لأن اليسير مغفور والكمال معوز
…
وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره».
وقال أعرابي: إذا جاد لك أخوك بأكثره فتجاف له عن أيسره.
وروي عن علي في قوله _ تعالى _: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل} ؛ قال: الرضى بغير عتاب.
وقال أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده.
وقال القرطبي عند قوله _ تعالى _: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} : «وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر الاعتراض، فتعين الفراق والإعراض» .
وقال _ أيضًا _: «كان لي أصدقاء وإخوان، فرأيت منهم الجفاء،
فأخذت أعتب، فقلت: وما ينفع العتاب؟ فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء، فهممت بمقاطعتهم، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم؛ ينبغي أن تنقلهم إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها فإلى جملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم».
وقال ابن المقفع في «الأدب الكبير» : «اجعل غاية نيتك في مؤاخاة من تؤاخي ومواصلة من تواصل: توطين نفسك على أنه لا سبيل إلى قطيعة أخيك وإن ظهر لك منه ما تكره فإنه ليس كالمملوك الذي تعتقه إذا شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك؛ فإنما مروة الرجل إخوانه وأخدانه، فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلًا من إخوانك _ وإن كنت معذرًا _ نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء
والملال فيه، وإن أنت مع ذلك تصبرت على مقاربته على غير الرضى؛ دعا ذلك إليك العيب والنقيصة، فالارتياد الارتياد، والتثبت التثبت».
ونقل ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن أبي الوفاء علي بن عقيل، أنه قال في كتابه «الفنون» في أثناء كلام له: «الذي ينبغي أن يكون حد الصداقة: اكتساب نفس إلى نفسك وروح إلى روحك، وهذا الحد يريحك عن طلب ما ليس في الوجود حصوله؛ لأن نفسك الأصلية لا تعطيك محض النفع الذي لا يشوبه إضرار
…
فإذا ثبتت هذه القاعدة أفادت شيئين: إقامة الأعذار وحسن التأويل
الحافظ للمودات، والدخول على بصيرة بأن ما يندر من الأخلاق المحمودة إذا غلب على أخلاق الشخص مع الشخص فهما الصديقان، فأما طلب الدوام والسلامة من الإخلال في ذلك والانخرام فهو الذي أوجب القول لمن قال:(إن الصديق اسم لمن لم يخرج إلى الوجود)، وإن تبع ذلك في الأسماء كلها وجب إفلاس المسميات، فأما تسمية الإنسان نفسه عبدًا مع ارتكاب المخالفة فهي بعيدة
…
فاقنع من الصداقة بما قنع الله _ سبحانه _ منك في العبودية
…
وإذا كان الأمر كله كذا؛ فطلب ما وراء الطباع طلب ما لا يستطاع، وذلك
نوع من العنت والتنطع، ومن طلب العزيز الممتنع عذب نفسه وجهل عقله وضلل رأيه، وقبيح بالعقل أن يعتمد إضرار نفسه وإتعابها فيما لا يجدي نفعًا بتعجيل التعب ضررًا».
وقال الماوردي ذاكرًا العتاب: «فإن كثرة العتاب سبب للقطيعة، واطراح جميعه دليل على قلة الاكتراث بأمر الصديق
…
بل تتوسط حالتا تركه وعتابه،
فيسامح بالمتاركة، ويستصلح بالمعاتبة؛ فإن المسامحة والاستصلاح إذا اجتمعا لم يلبث معهما نفور، ولم يبق معهما وجد».
وقال بعض الحكماء: لا تكثرن معاتبة إخوانك، فيهون عليهم سخطك.
وقال الأصمعي: قال أعرابي: عاتب من ترجو رجوعه.
وقال آخر: كثرة العتاب إلحاف، وتركه استخفاف.
وأنشد بعضهم:
إن الظنين من الإخوان يبرمه
…
طول العتاب وتغنيه المعاذير
وذو الصفاء إذا مسته معتبة
…
كانت له عظة فيها وتذكير
وقال أبو العباس الناشي:
ولست معاتبًا خلا لأني
…
رأيت العتب يغري بالعقوق
ولو أني أوقف لي صديقًا
…
على ذنب بقيت بلا صديق
وقال منصور النمري:
أقلل عتاب من استربت بوده
…
ليست تنال مودة بعتاب
وقال بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا
…
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه
…
مقارف ذنب مرةً ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى
…
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقد دون أهل الحكمة في أسفارهم وفرةً من درر الأقوال والحكم والأشعار في العفو عن الأصحاب:
قال أكثم بن صيفي: من شدد نفر، ومن تراخى تألف، والشرف في التغافل.
وقال شبيب بن شيبة: العاقل: هو الفطن المتغافل.
وقيل لبعض العارفين: ما المروءة؟ قال: التغافل عن زلة الإخوان.
وقيل: من حقوق المودة: أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصير _ إن كان _.
وروى ابن حبان في كتابه «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» عن بنت عبد الله بن مطيع، أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري: ما رأيت أحدًا _ قط _ ألأم من أصحابك، قال: مه! لا تقولي ذاك فيهم، وما رأيت من لؤمهم؟ قالت: أمرًا _ والله _ بينًا، قال: وما هو؟ قالت: إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت جانبوك، قال: ما زدت على أن وصفتهم بمكارم الأخلاق، قالت: وما هذا من مكارم الأخلاق؟! قال: يأتوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال الضعف منا عنهم.
وأورد هذا الخبر الماوردي، وقال معقبًا:«فانظر كيف تأول بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً، وهذا محض الكرم ولباب الفضل» .
وقالت الحكماء: أي عالم لا يهفو، وأي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو.
وقالوا: من حاول صديقًا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابًا إلا ازداد من غايته بعدًا.
وقال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل.
وحكى الأصمعي عن أعرابي أنه قال: تناس مساوئ الإخوان يدم لك ودهم.
ووصى بعض الأدباء أخًا له، فقال: كن للود حافظًا وإن لم تجد محافظًا، وللخل واصلًا وإن لم تجد مواصلًا.
وقيل في منثور الحكم: لا يفسدنك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له.
وروى البيهقي _ وغيره _ في «شعب الإيمان» أن يونس بن عبيد بن دينار أصيب بمصيبة، فقيل له: إن ابن عون لم يأتك، فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخينا لا يضره أنه ليس يأتينا.
وقال بعض البلغاء: لا يزهدنك في رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فضله، وبطنت عقله: عيب تحيط به
كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله؛ فإنك لن تجد _ ما بقيت _ مهذبًا لا يكون فيه عيب ولا يقع منه
ذنب، فاعتبر نفسك بعد أن لا تراها بعين الرضى ولا تجري فيها على حكم الهوى؛ فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب، ويعطفك على من يذنب.
وفي معناه: ما حكي أن أخوين التقيا في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله، فقال: والله يا أخي لو علمت منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي.
وقال الحسن بن علي: لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره.
وقال الشاعر:
اقبل معاذير من يأتيك معتذرًا
…
إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره
…
وقد أجلك من يعصيك مستترا
وقال كثير بن عبد الرحمن الملحي:
ومن لم يغمض عينه عن صديقه
…
وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدًا كل عثرة
…
يجدها ولم يسلم له الدهر صاحب
وقال نصر بن أحمد البصري:
إني أعاتب إخواني وهم ثقتي
…
طورًا وقد تصقل الأسياف أحيانا
هي الذنوب إذا ما كشفت درست
…
من القلوب وإلا صرن أضغانا
وقال الشاعر:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
…
كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه
وأنشد بعضهم:
هم الناس والدنيا ولا بد من قذًى
…
يلم بعين أو يكدر مشربا
ومن قلة الإنصاف أنك تبتغي الـ
…
مهذب في الدنيا ولست المهذبا
وقال أبو العتاهية:
إذا ما بدت من صاحب لك زلة
…
فكن أنت محتالًا لزلته عذرا
وقد ذكر أبو حامد لزلة الصاحب أمرين، قال:«إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية، أو في حقك بتقصيره في الأخوة، أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها؛ فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده ويجمع شمله، ويعيد إلى الصلاح والورع حاله» .
ثم ذكر اختلاف السلف فيمن عجز عن ردع صاحبه عن المعصية؛ فمنهم من ذهب إلى الهجر والانقطاع عنه وأن ذلك من البغض في الله، ومنهم إلى خلافه:
فمن المأثور عن بعضهم قوله: إذا تغير أخوك فلا تدعه؛ فإن أخاك يعوج مرةً ويستقيم مرةً أخرى.
وقيل عن بعضهم: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب؛ فإنه يرتكبه
اليوم ويتركه غدًا.
وأما التخفيف عليه؛ فذلك بأن لا يكلفه ما يعجز عنه.
قال صاحب «الإحياء» : «وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه؛ بل يروح سره من مهماته وحاجاته، ويرفهه عن أن يحمله شيئًا من أعبائه» .
قلت: ومن التخفيف عليه: التوسط في الزيارة، قال الماوردي:«فإن تقليل الزيارة داعية الهجران، وكثرتها سبب الملال» .
وقد روى البيهقي _ وغيره _ في «شعب الإيمان» عن أبي هريرة وأبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«زر غبا؛ تزدد حبا» ، قال ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث»: «الغب من أوراد
الإبل: أن ترد الماء يومًا وتدعه يومًا، ثم تعود، فنقله إلى الزيارة وإن جاء بعد أيام، يقال:(غب الرجل) إذا جاء زائرًا بعد أيام، وقال الحسن: في كل أسبوع».
وقد أخذ الشاعر معنى الحديث، فقال:
إذا شئت أن تقلى فزر متواترًا
…
وإن شئت أن تزداد حبا فزر غبا
وفي «أسنى المطالب» : «وتسن زيارة الصالحين والجيران _ غير الأشرار _، والإخوان والأقارب، وإكرامهم؛ بحيث لا يشق عليه ولا عليهم، فتختلف زيارتهم باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم» .
وروى الخطابي في «العزلة» عن شبيب بن شيبة، أنه قال: إن من إخواني من
لا يأتيني في السنة إلا اليوم الواحد، هم الذين أتخذهم وأعدهم للمحيا والممات، ومنهم من يأتيني كل يوم، فيقبلني وأقبله، ولو قدرت أن أجعل مكان قبلتي عضةً لعضضته.
وروى _ أيضًا _ عن إسحاق بن إبراهيم أنه قال: كان بين عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان مودة وإخاء، فكانت السنة تمر عليهما لا يلتقيان، فقيل لأحدهما في ذلك،
فقال: إذا تقاربت القلوب لم يضر تباعد الأجسام _ أو كلمةً نحوها _.
وقال لبيد:
توقف عن زيارة كل يوم
…
إذا أكثرت ملك من تزور
وقال أبو العتاهية:
أقلل زيارتك الصديق ولا تطل
…
هجرانه فيلج في هجرانه
إن الصديق يلج في غشيانه
…
لصديقه فيمل من غشيانه
حتى تراه بعد طول مسرة
…
بمكانه مستثقلًا لمكانه
وذكر الخطيب في «تاريخ بغداد» عن محمد بن الجهم أنه أنشد:
لا تضجرن مريضًا جئت عائده
…
إن العيادة يوم إثر يومين
بل سله عن حاله وادع الإله له
…
واقعد بقدر فواق بين حلبين
من زار غبا أخًا دامت مودته
…
وكان ذاك صلاحًا للخليلين
وأما إخباره بمحبته له؛ فلما تقدم من حديث المقدام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وأما الدعاء لصاحبه؛ فقد روى مسلم عن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل» .
قال أبو حامد: «فتدعو له كما تدعو لنفسك، ولا تفرق بين نفسك وبينه؛ فإن دعاءك له دعاء لنفسك» .
وقال يحيى بن معاذ الرازي: بئس الصديق صديقًا يحتاج أن يقال له: اذكرني في دعائك.
وقد ذكر السلمي في «آداب الصحبة» أكثر من ثمانين وجهًا جمع فيها بين آداب الصحبة وحقوق الأصحاب، فأذكر شيئًا منها مما تعلق بحقوق الصحبة، وهي:
1_
أن يخالق أصحابه بالخلق الحسن.
2_
وأن يحسن ما يعاينه من عيوب أصحابه.
3_
وأن يعاشر الموثوق بدينه وأمانته ظاهرًا وباطنًا.
4_
وأن يصفح عن عثراتهم، ويترك تأنيبهم عليها.
5_
وأن يقلل الخلاف لهم، وأن يلزم موافقتهم فيما يبيحه العلم والشريعة.
6_
وأن يحمدهم على حسن ثنائهم وإن لم يساعدهم باليد.
7_
وأن لا يحسدهم على ما يرى عليهم من آثار نعمة الله؛ بل يفرح بذلك.
8_
وأن لا يواجههم بما يكرهون.
9_
وأن يلازم الحياء في كل حاله.
10_
وأن تصدق مروءته معهم وتصفو محبته؛ فإنها لا تتم إلا بهما.
11_
وأن يسلم قلبه لهم، وينصح لهم، ويقبلها منهم.
12_
وأن لا يخلف وعده معهم؛ فإنه نفاق.
13_
وأن يراعي في صحبة إخوانه صلاحهم لا مرادهم.
14_
وأن يحمل كلامهم على أحسن الوجوه.
15_
وأن يعرف أسماءهم وأسماء آبائهم؛ لئلا يقصر في حقوقهم.
16_
وأن يجانب الحقد، وأن يلزم الصفح والعفو عنهم.
17_
وأن يغضي عن الصاحب في بعض المكاره.
18_
وأن يترك الاستخفاف بالأصحاب، وأن يعرف كل واحد منهم ليكرم على قدره.
19_
وأن لا يقطع صاحبًا بعد مصاحبته، ولا يرده بعد قبول.
20_
وأن يتواضع لهم ويترك التكبر عليهم.
21_
وأن يحفظ المودة القديمة والأخوة الثابتة.
22_
وأن يؤثرهم بالكرامة على نفسه.
23_
وأن يحفظ سرهم.
24_
وأن يشاورهم، ويقبل المشورة منهم.
25_
وأن يصاحبهم على الوفاء والدين، دون الرغبة والرهبة والطمع.
26_
وأن يترك المداهنة في الدين مع من يصاحبه.
27_
وأن لا يقبل عليهم قول واش نمام.
28_
وأن يجتهد في ستر عوراتهم وقبائحهم.
29_
وأن يقبل أعذارهم.
30_
وأن يصون سمعه عن القبيح، واللسان عن نطقه.
31_
وأن يزورهم، ويسأل عن أحوالهم.
32_
وأن يحفظ حرماتهم وعشرتهم.
33_
وأن ينصفهم من نفسه.
34_
وأن لا يتغير عنهم إذا حدث له غنًى.
35_
وأن لا يغرق في الخصومة، ويترك للصلح موضعًا.
36_
وأن يعرف قدرهم، ويعاشرهم على حسب ما يستحقونه.
37_
وأن لا يعاشر من يخالفه في اعتقاده.
38_
وأن يعرف حق من سبقه بالمودة.
39_
وأن يترك الثناء بعد الصحبة والمودة.
أما آداب الصحبة؛ فقد جعلها السلمي على ضربين: ظاهرة وباطنة؛ فإن من الأصحاب من حسن ظاهره وخبث باطنه، وقد ضرب ذو الرمة في ذلك مثلًا بالماء، فقال:
ألم تر أن الماء يخبث طعمه
…
وإن كان لون الماء أبيض صافيا
ونظر بعض الحكماء إلى رجل سوء حسن الوجه، فقال: أما البيت فحسن، وأما الساكن فرديء.
ولبعضهم:
لا تركنن إلى ذي منظر حسن
…
فرب رائقة قد ساء مخبرها
ما كل أصفر دينار لصفرته
…
صفر العقارب أرداها وأنكرها
فأما الظاهرة؛ فتختص بالعين والسمع واللسان واليدين والرجلين:
فآداب العين: أن ينظر إلى إخوانه نظرة مودة ومحبة يعرفها منه هو ومن حضر المجلس.
وآداب السمع: أن يستمع إلى حديث صاحبه سماع مشته لما سمعه، متلذذ به.
وآداب اللسان: أن يكلم إخوانه بما يحبون وفي وقت نشاطهم، وأن يبذل
النصيحة لهم، ويدلهم على ما فيه صلاحهم، ويسقط من كلامه ما يعلم أن أخاه يكرهه من حديث أو لفظ _ أو غيره _، وأن لا يرفع عليه صوته، ولا يخاطبه بما لا يفهم، ويكلمه بمقدار فهمه وعلمه.
وآداب اليدين: أن يكونا مبسوطتين لإخوانه بالبر والمعونة.
وآداب الرجلين: أن يماشي إخوانه على حد التبع، وأن لا يتقدمهم.
وأما الباطنة؛ فتكون بملازمة الإخلاص، والتوكل، والخوف، والرجاء، والرضا، والصبر، وسلامة الصدر، وحسن الظن بهم، والاهتمام بأمورهم.
وقال: «فمن تأدب في الباطن بهذه الآداب، وتأدب في الظاهر بما بيناه؛ رجوت أن يكون من الموفقين» .
قال حازم خنفر _ معد هذا الكتاب _: هذا آخر ما بلغ إليه جهدي فيما كتبت وجمعت، راجيًا منه _ سبحانه _ القبول والمغفرة، إنه سميع مجيب.