المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فضل الصحبة والأخوة - غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة

[حازم خنفر]

الفصل: ‌ فضل الصحبة والأخوة

فصل

في‌

‌ فضل الصحبة والأخوة

واعلم أن للأخوة الصالحة أثرًا عظيمًا في سلوك المؤمن، وذلك أن الله _ جل شأنه _ جعلها سببًا من أسباب الهداية؛ فإذا أراد بالعبد خيرًا قيض له صحبةً من الأخيار، وهيأ له من الإخوان من يعينه على صلاح نفسه، فلا يلبث أن يبلغ قدرهم أو يبرز عليهم.

قال ابن المقفع في «الأدب الصغير» : «وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس _ ما استطاع _ إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق فيأخذ عنه، أو موافقًا له على إصلاح ذلك، فيؤيد ما عنده وإن لم يكن عليه فضل؛ فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمي إلا بالموافقين والمؤيدين، وليس لذي الفضل قريب ولا حميم أقرب إليه ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبته، ولذلك زعم بعض

ص: 19

الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال».

وقال الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين» ذاكرًا فضل مجالسة أهل الخير ومصاحبتهم بقوله: «فإذا كاثرهم المجالس وطاولهم المؤانس أحب أن يقتدي بهم في أفعالهم ويتأسى بهم في أعمالهم، ولا يرضى لنفسه أن يقصر عنهم، ولا أن

يكون في الخير دونهم، فتبعثه المنافسة على مساواتهم، وربما دعته الحمية إلى الزيادة عليهم والمكاثرة لهم، فيصيروا سببًا لسعادته، وباعثًا على استزادته، والعرب تقول:(لولا الوئام لهلك الأنام)؛ أي: لولا أن الناس يرى بعضهم بعضًا فيقتدى بهم في الخير لهلكوا، ولذلك قال بعض البلغاء:(من خير الاختيار: صحبة الأخيار، ومن شر الاختيار: مودة الأشرار)، وهذا صحيح؛ لأن للمصاحبة تأثيرًا في اكتساب الأخلاق، فتصلح أخلاق المرء بمصاحبة أهل الصلاح، وتفسد بمصاحبة أهل الفساد».

قلت: ولهذا جاء النهي عن الهجران، والترهيب منه:

فقد أخرج الإمام أحمد في «مسنده» عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفسي بيده؛ ما تواد اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما» .

ص: 20

قال المناوي في «فيض القدير» : «فيكون التفريق عقوبةً لذلك الذنب، ولهذا قال موسى الكاظم: إذا تغير صاحبك عليك فاعلم أن ذلك من ذنب أحدثته، فتب إلى الله من كل ذنب يستقم لك وده» .

وأخرج الشيخان عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال؛ يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» .

واستثنى أهل العلم من هذا الهجران: أهل البدع والفسوق وغيرهم؛ مستدلين بأحاديث، منها: ما أخرجه الشيخان أن قريبًا لعبد الله بن مغفل خذف، فنهاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف

فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف؟! لا أكلمك أبدًا.

والخذف: هو الرمي بالحصى بين أصبعين.

قال النووي في «شرح صحيح مسلم» : «فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائمًا، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم

ص: 21

دائمًا، وهذا الحديث مما يؤيده، مع نظائر له؛ كحديث كعب بن مالك وغيره».

وقال ابن رجب في كتابه «جامع العلوم والحكم» بعد أن أورد أحاديث الهجران: «وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية، فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاث، نص عليه أحمد، واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرانهم

وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء».

وأما صحبة أهل المعاصي؛ فقد قال _ تعالى _ فيهم: {الأَخِلَاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِين} .

قال الطبري في «تفسيره» : «المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا: بعضهم لبعض عدو، يتبرأ بعضهم من بعض؛ إلا الذين كانوا تخالوا فيها على تقوى الله» .

ومما ذكر في هذه الآية: ما حكي عن ابن الجلاء أنه كان يقول لأصحابه: اطلبوا خلة الناس في هذه الدنيا بالتقوى تنفعكم في الدار الآخرة، ألم تسمعوا الله _ تعالى _ يقول:{الأَخِلَاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِين} .

قلت: وكذلك فإن في صحبة أهل الخير السلامة، وفي صحبة أهل الشر الأذى.

ص: 22

وفي ذلك قال بعض الحكماء: شر ما في الكريم: أن يمنعك خيره، وخير ما في اللئيم: أن يكف عنك شره.

وقال مالك بن دينار: نقل الحجارة مع الأبرار أنفع لك من أكل الخبيص مع الفجار.

ولهذا حث الشرع على صحبة الأخيار، فمن ذلك:

قوله _ تعالى _: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ، قال السعدي في «تفسيره»: «ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن

في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى».

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» ، أخرجه البخاري ومسلم.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» ، أخرجه أحمد والترمذي.

ص: 23

وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» ، أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود.

وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك وكير الحداد؛ لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثةً» ، أخرجه البخاري ومسلم.

وعليه: فإن لصحبة أهل الخير والعلم والحكمة عظيم نفع للعبد الصالح وإن لم يبلغ مبلغهم، وكما قيل: من جلس على دكان العطار لم يفقد الرائحة الطيبة.

بل وستكون صحبة الأخيار: من حسرات أهل النار يوم القيامة، بعد أن

مالت بهم أهواؤهم عنها في الدنيا، ولم يحفلوا بها:

قال جعفر بن محمد: «لقد عظمت منزلة الصديق عند أهل النار؛ ألم تسمع إلى قوله _ تعالى _ حاكيًا عنهم: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين وَلَا صَدِيقٍ حَمِيم}» .

ص: 24

ومما ذكر من محاسن صحبة أهل الفضل:

1 -

الذكر الجميل؛ فإن الملازم لأهل الفضل لا بد أن يناله شيء من ذكر جميل وشأن عظيم؛ قال ابن كثير في «تفسيره» عند قوله _ تعالى _: {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيد} : «وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن» .

قلت: وهذا الذكر والشأن قد خلص إلى كلب لازم أهل الفضل، فما بال من لازمهم واقتدى بصلاحهم؟!

2 -

ومما جاء عن السلف في محاسن صحبة الأخيار: الإعانة على طلب العلم؛ كما أخرج الخطيب البغدادي في كتابه «الجامع لأخلاق الراوي» عن علي بن أبي طالب، قال: «يا طالب العلم! إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه: التواضع، وعينه: البراءة من الحسد

» ثم ذكر أمورًا، وختم قائلًا:«ورفيقه: صحبة الأخيار» ؛ أي: ورفيق العلم: صحبة أهل الخير والفضل.

وقد ذكر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: لما قدم

ص: 25

أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، سمعت أبي يومًا يقول: ما صليت غير الفرض؛

استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي.

3 -

ومما ذكر أهل الحكمة في محاسن صحبة الأخيار: وراثة الخير؛ قال ابن المقفع في كتابه «كليلة ودمنة» : «إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر، وأنه إذا صاحب أحد صاحبًا وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضع، فلا شيء أضيع من مودة تمنح من لا وفاء له، وحباء يصطنع عند من لا شكر له، وأدب يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وإن صحبة الأشرار تورث الشر؛ كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيبًا، وإذا مرت بالنتن حملت نتنًا» .

4 -

ومن محاسن صحبة الأخيار _ أيضًا _: صون القلب والنفس عن الشيطان ووسوسته؛ قال ابن الحاج في كتابه «المدخل» : «واعلم أن الشيطان إذا نظر إلى العبد مريدًا، صادقًا، مخلصًا، مداومًا، عارفًا بنفسه، عارفًا بهواه، معاندًا لهما، حذرًا، مستعدا، عارفًا بفقره إلى الله _ تعالى _؛ قال

ص: 26

له: (إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالأعوان عليه)، والشيطان على الواحد أقوى، وهو من الاثنين أبعد، فجالس إخوانك، وذاكرهم، وأخبرهم بما ينوبك في عملك من نفسك وهواك ومن عدوك؛ فإنهم يدلونك ويعينونك».

قلت: ولهذا كان أهل الفضل يحثون على طلب الصحبة _ دون إكثار كما سيأتي _، ويعدون فقدان الصاحب أمرًا جللًا:

فقد روي عن أبي القاسم عبد الله البغوي أنه قال: سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذل.

وقال سفيان بن عيينة: قال لي أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من إخواني فكأنما سقط عضو من أعضائي.

وقال الفرزدق:

يمضي أخوك فلا تلقى له خلفًا

والمال بعد ذهاب المال مكتسب

وقال آخر:

لكل شيء عدمته عوض

وما لفقد الصديق من عوض

وعن علي: أعجز الناس: من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه: من ضيع من ظفر به منهم.

ص: 27

وقال المغيرة بن شعبة: التارك للإخوان متروك.

وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال.

وقال علي لابنه الحسن: يا بني! الغريب: من ليس له حبيب.

وقال ابن المعتز: من اتخذ إخوانًا كانوا له أعوانًا.

وقال ابن الجلاء: من لا إخوان له فلا عيش له.

وقالت الحكماء: من لم يرغب بثلاث بلي بست: من لم يرغب في الإخوان بلي بالعداوة والخذلان، ومن لم يرغب في السلامة بلي بالشدائد والامتهان، ومن لم

يرغب في المعروف بلي بالندامة والخسران.

ومن درر ما دون في الأسفار في فضل الصحبة:

ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لقاء الإخوان جلاء الأحزان.

وقال جعفر بن محمد: مناغاة الصديق أعبث بالروح وأندى على الفؤاد من مغازلة المعشوق؛ لأنك تفزع بحديث المعشوق إلى الصديق، ولا تفزع بحديث الصديق إلى المعشوق.

ص: 28

وقيل لأعرابي: أي شيء أمتع؟ قال: ممازحة محب، ومحادثة صديق.

وقال بعض الأدباء: أفضل الذخائر: أخ وفي.

وروي عن محمد بن واسع أنه قيل له: أي العمل في الدنيا أفضل؟ قال: صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا اصطحبوا على البر والتقوى.

وقال بعض البلغاء: صديق مساعد: عضد وساعد.

وقيل: الصديق إنسان هو أنت، إلا أنه غيرك.

وقيل _ أيضًا _: رب صديق أود من شقيق.

وقيل لمعاوية: أيما أحب إليك؟ قال: صديق يحببني إلى الناس.

وقيل لأعرابي: أبالصديق أنت آنس أم بالعشيق؟ فقال: يا هذا! الصديق لكل شيء؛ للجد والهزل، وللقليل والكثير، وهو روضة العقل وغدير الروح، أما العشيق؛ فإنما هو للعين، وفي الولوع به إفراط مزجور عنه، فأين هذا من ذاك؟!

ص: 29