الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
فيمن لا ترجى عشرته من الأشرار، ومن تؤثر صحبته من الأخيار
واعلم أن لأهل الفضل _ ممن تبتغى صحبتهم _ خصالًا لا يتحلى بها إلا قلة من الناس، وقد جعل أهل العلم لاختيار الصاحب ضابطًا:
قال السفاريني في كتابه «غذاء الألباب» : «كل من لم تستفد من صحبته شيئًا فتركه أولى، وكل من تضرك صحبته في دينك فتركه واجب، وكذا في دنياك ضررًا له قيمة حيث كان لك منه بد، ودفع المضار مقدم على جلب المنافع، ويدفع أشد الضررين بأخفهما» .
قلت: ولهذا ورد عن طائفة من السلف وأهل الحكمة الأنفة من استكثار الأصحاب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في معناه:
فقد أخرج البخاري عن ابن عمر، أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال:«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» .
وأخرجه الخطابي في كتابه «العزلة» ، وبوب عليه بقوله:«باب في ترك الاستكثار من الأصدقاء وما يستحب من قلة الالتقاء» .
أما ما جاء عن السلف وغيرهم:
فقد روى الخطابي _ أيضًا _ عن عمرو بن العاص أنه قال: «إذا كثر
الأخلاء كثر الغرماء».
وعن سفيان، قال:«كثرة أصدقاء المرء من سخافة دينه» ؛ قال الخطابي: «يريد أنه ما لم يداهنهم ولم يحابهم لم يكثروا؛ لأن الكثرة إنما هي في أهل الريبة، وإذا كان الرجل صلب الدين لم يصحب إلا الأبرار والأتقياء _ وفيهم قلة _» .
وعن الناشي، قال: الاستكثار من الإخوان وسيلة الهجران.
قال الخطابي: «يريد: أنهم إذا كثروا كثرت حقوقهم، فلم يسعهم برك، فإذا تأخرت عن حقوقهم استبطأوك فهجروك وعادوك» .
وقال جعفر الصادق لبعض إخوانه: أقلل من معرفة الناس، وأنكر من عرفت منهم، وإن كان لك مئة صديق فاطرح تسعةً وتسعين، وكن من الواحد على حذر.
وقال محمد بن يوسف الفريابي: قلت للثوري: إني أريد الشام، فأوصني، قال: إن قدرت أن تنكر كل من تعرف فافعل، وإن استطعت أن تستفيد مئة أخ حتى إذا خلصوا لك تسقط منهم تسعةً وتسعين وتكون في الواحد شاكا فافعل.
وقال جعفر بن يحيى لأحدهم: كم لك من صديق؟ قال: صديقان، قال: إنك لمكثر من الأصدقاء.
وقال إبراهيم بن العباس الصولي: مثل الإخوان كالنار؛ قليلها متاع، وكثيرها بوار.
وقيل: المستكثر من الإخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة، والمقل من الإخوان المتخير لهم كالذي يتخير الجوهر.
وقال بعض البلغاء: ليكن غرضك في اتخاذ الإخوان واصطناع النصحاء: تكثير العدة لا تكثير العدة، وتحصيل النفع لا تحصيل الجمع، فواحد يحصل به المراد خير من ألف تكثر الأعداد.
وقد قال في ذلك الشاعر:
لكل امرئ شكل من الناس مثله
…
فأكثرهم شكلًا أقلهم عقلا
وكل أناس آلفون لشكلهم
…
فأكثرهم عقلًا أقلهم شكلا
لأن كثير العقل لست بواجد
…
له في طريق حين يسلكه مثلا
وكل سفيه طائش إن فقدته
…
وجدت له في كل ناحية عدلا
وقال ابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» : «رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء، فبحثت بالتجارب عنهم، فإذا أكثرهم حساد على النعم، وأعداء لا يسترون زلةً، ولا يعرفون لجليس حقا، ولا يواسون من مالهم صديقًا، فتأملت الأمر، فإذا الحق _ سبحانه _ يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئًا يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها ليكون أنسه به، فينبغي أن تعد الخلق
كلهم معارف، ولا تظهر سرك لمخلوق منهم
…
بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة وبالتوقي لحظةً، ثم انفر عنهم، وأقبل على شأنك متوكلًا على خالقك؛ فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه».
وقد جاء عن بعضهم أن الصحبة قد انخرمت في زمانهم؛ منها:
ما روي عن وهيب بن الورد أنه قال: صحبت الناس
خمسين سنةً، فما وجدت رجلًا غفر لي زلةً، ولا أقالني عثرةً، ولا ستر لي عورةً.
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه «مداراة الناس» عن حفص بن حميد الأكاف، أنه قال:«جربت الناس منذ خمسين سنةً، فما وجدت أخًا لي ستر عورةً، ولا غفر لي ذنبًا فيما بيني وبينه، ولا وصلني إذا قطعته، ولا أمنته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير، كلما أصبحت تقول: (أتخذ اليوم صديقًا)، ثم تنظر ما يرضيه عنك: أي هدية؟! أي تسليم؟! أي دعوة؟! فأنت _ أبدًا _ مشغول» .
وقال مالك بن دينار: إخوة هذا الزمان مثل مرقة الطباخ في السوق؛ طيب الريح، لا طعم له.
وقال ابن الجوزي: «نسخ في هذا الزمان رسم الأخوة وحكمه، فلم يبق إلا الحديث عن القدماء، فإن سمعت بإخوان صدق فلا تصدق» .
وقال _ أيضًا _: «وجمهور الناس _ اليوم _ معارف، ويندر منهم صديق في الظاهر، وأما الأخوة والمصافاة؛ فذلك شيء نسخ، فلا تطمع فيه، وما أرى
الإنسان يصفو له أخوه من النسب
ولا ولده ولا زوجته، فدع الطمع في الصفاء، وخذ عن الكل جانبًا، وعاملهم معاملة الغرباء، وإياك أن تخدع بمن يظهر لك الود؛ فإنه مع الزمان يبين لك الخلل فيما أظهره، وقد قال الفضيل:(إذا أردت أن تصادق صديقًا فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي فصادقه)، وهذا _ اليوم _ مخاطرة؛ لأنك إذا أغضبت أحدًا صار عدوا في الحال، والسبب في نسخ حكم الصفاء: أن السلف كانت همتهم الآخرة وحدها، فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة، فكانت دينًا لا دنيا، والآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب».
وقيل لرويم بن أحمد: ما الذي أقعدك عن طلب الصديق؟ قال: يأسي من وجدانه.
وقيل لأعرابي: ألك صديق؟ قال: أما صديق فلا، ولكن نصف صديق، قيل: كيف انتفاعك به؟ قال: انتفاع العريان بالثوب البالي.
وقيل لبعضهم: ما الصديق؟ قال: اسم وضع على غير مسمى، وحيوان غير موجود.
وقيل لبعضهم: ما معنى الصديق؟ قال: لفظ بلا معنًى.
وقيل لأحدهم: من أطول الناس سفرًا؟ قال: من سافر في طلب صديق.
وحكي عن أحدهم أنه كتب على باب داره: جزى الله من لم نعرفه ولم يعرفنا خيرًا؛ فإننا ما أوتينا من نكبتنا هذه إلا من المعارف.
وقال البحتري:
إياك تغتر أو تخدعك بارقة
…
من ذي خداع يري بشرًا وإلطافا
فلو قلبت جميع الأرض قاطبةً
…
وسرت في الأرض أوساطًا وأطرافا
لم تلق فيها صديقًا صادقًا أبدًا
…
ولا أخًا يبذل الإنصاف إن صافى
وقال آخر:
خليلي جربت الزمان وأهله
…
فما نالني منهم سوى الهم والعنا
وعاشرت أبناء الرجال فلم أجد
…
خليلًا وفيا بالعهود ولا أنا
وقال أبو العباس الناشي:
سمعنا بالصديق ولا نراه
…
على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالًا نمقوه
…
على وجه المجاز من الكلام
وقال صفي الدين الحلي:
لما رأيت بني الزمان وما بهم
…
خل وفي للشدائد أصطفي
أيقنت أن المستحيل ثلاثة
…
الغول والعنقاء والخل الوفي
قال السفاريني في «غذاء الألباب» معلقًا: «فإذا كان هذا كلام من كان في أوائل الإسلام أو في أوساطه، وقد مضى بعده أكثر من خمس مئة عام، وقد زعموا أن رسم الأخوة قد نسخ، وعقد الصداقة قد فسخ، فما بالك بزمان وفاؤه غدر، وخيره شر، ونفعه ضر، وصدقه كذب، وحسنته ذنب، وصديقه
خائن، وصادقه مائن، وخليله غادر، وناسكه فاجر، وعالمه جاهل، وعاذره عاذل، وقد صارت صلاة أهل زماننا عادةً لا عبادةً، وزكاتهم مغرمًا يغرمونها، لا يرجون من عودها إفادةً، وصيامهم كجوع البهائم، وذكرهم كرغاء البعير الهائم، فأين هذه الحالة من حالة من يتضجر لعدم وفاء إخوانه وأقرانه وأخدانه؟!».
وأقول معقبًا على كلام السفاريني: فإذا كان هذا كلام من كان في أوائل الإسلام أو في أوساطه، وقد مضى على كلام السفاريني أكثر من مئتي عام، وقد زعموا أن رسم الأخوة قد نسخ، وعقد الصداقة قد فسخ، فما بالنا بزماننا؟!
أما خصال من لا ترجى عشرته؛ فقد ذكر ابن مفلح في كتابه «الآداب الشرعية» نقلًا عن الخلال في «الأدب» ، عن
ثم قال ابن مفلح: «ورواه القاضي المعافى بن زكريا _ وغيره _ بنحوه
ومعناه، إلا أنهم لم يذكروا الماجن والجبان، وذكروا الفاسق، قال:«فإنه بائعك بأكلة أو أقل منها للطمع فيها، ثم لا ينالها» ، وقاطع رحمه؛ لأنه ملعون في كتاب الله في (البقرة) و (الرعد) و (الذين كفروا
…
)».
وقال ابن المقفع في «الأدب الكبير» : «إذا نظرت في حال من ترتاد لإخائك؛ فإن كان من إخوان الدين فليكن فقيهًا غير مراء ولا حريص، وإن كان من إخوان الدنيا فليكن حرا ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير ولا مشنوع؛ فإن الجاهل أهل أن يهرب منه أبواه، وإن الكذاب لا يكون أخًا صادقًا؛ لأن الكذب
الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذب قلبه
…
وإن الشرير يكسبك الأعداء، ولا حاجة لك في صداقة تجلب لك العداوة، وإن المشنوع شانع صاحبه».
وأما خصال من تؤثر صحبته؛ فقد ذكرها أبو حامد في «إحيائه» بقوله: «أن يكون عاقلًا، حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا» .
فأما العاقل؛ فقال: «فهو رأس المال، وهو الأصل، فلا خير في صحبة الأحمق؛ فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها» .
وقال الماوردي: «فإن الحمق لا تثبت معه مودة، ولا تدوم لصاحبه استقامة
…
وقال بعض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الأحمق؛ لأن الأحمق ربما ضر وهو يقدر أن ينفع، والعاقل لا يتجاوز الحد في مضرته، فمضرته لها حد يقف عليه العقل، ومضرة الجاهل ليست بذات حد
…
وقال بعض
الأدباء: من أشار عليك باصطناع جاهل أو عاجز لم يخل أن يكون صديقًا جاهلًا أو عدوا عاقلًا؛ لأنه يشير بما يضرك ويحتال فيما يضع منك».
وقد جاء عن الحسن البصري، أنه قال: «صلة العاقل:
إقامة لدين الله، وهجران الأحمق: قربة إلى الله، وإكرام المؤمن: خدمة لله وتواضع له».
وقال المنصور للمسيب بن زهير: ما مادة العقل؟ فقال: مجالسة العقلاء.
وقال بعض البلغاء: من الجهل: صحبة ذوي الجهل، ومن المحال: مجادلة ذوي المحال.
وقال بعض العلماء: التمس ود الرجل العاقل في كل حين، وود الرجل ذي النكر في بعض الأحايين، ولا تلتمس ود الرجل الجاهل في حين.
وقال ابن المقفع في «الأدب الصغير» : «لا يؤمننك شر الجاهل قرابة ولا جوار ولا إلف
…
إن جاورك أنصبك، وإن ناسبك جنى عليك، وإن ألفك حمل عليك ما لا تطيق، وإن عاشرك آذاك وأخافك
…
فأنت بالهرب منه أحق منك بالهرب من سم الأساود والحريق المخوف والدين الفادح والداء العياء».
ولبعضهم:
ولئن يعادي عاقلًا خير له
…
من أن يكون له صديق أحمق
فاربأ بنفسك لا تصادق أحمقًا
…
إن الصديق على الصدوق مصدق
وقال ربيعة بن عامر الدارمي _ المعروف بالمسكين _:
اتق الأحمق أن تصحبه
…
إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانبًا
…
حركته الريح وهنًا فانخرق
وقال آخر:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم
…
ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل
فإني رأيت المرء يشقى بعقله
…
كما كان دون اليوم يسعد بالعقل
وقال آخر:
إذا ما كنت متخذًا خليلًا
…
فلا تثقن بكل أخي إخاء
فإن خيرت بينهم فألصق
…
بأهل العقل منهم والحياء
فإن العقل ليس له إذا ما
…
تفاضلت الفضائل من كفاء
وقال سراقة البارقي:
مجالسة السفيه سفاه رأي
…
ومن عقل مجالسة الحكيم
فإنك والقرين معًا سواء
…
كما قد الأديم من الأديم
وأما حسن الخلق؛ فقد نبه أبو حامد إلى أنه لا يكتفى بالعقل دونه، وقال: «إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه، ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع
هواه، وخالف ما هو المعلوم عنده؛ لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه، فلا خير في صحبته».
وأما الفاسق؛ فلا فائدة في صحبته؛ معللًا ذلك بقوله: «لأن من يخاف الله
لا يصر على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته، ولا يوثق بصداقته؛ بل يتغير بتغير الأغراض، وقال _ تعالى _:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ، وقال _ تعالى _:{فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} ، وقال _ تعالى _:{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، وقال:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} ، وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق».
وأما المبتدع؛ فقال: «ففي صحبته خطر سراية البدعة، وتعدي شؤمها إليه، فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة، فكيف تؤثر صحبته؟!» .
قلت: وقد جاء عن أهل السنة النهي عن مجالسة أهل البدع ومخالطتهم:
فقد ذكر ابن أبي يعلى في كتابه «طبقات الحنابلة» أن الإمام
أحمد بن حنبل قال في رسالته إلى مسدد بن مسرهد: «ولا تشاور أحدًا من أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك» .
وقال الإمام أبو محمد _ الحسن بن علي _ البربهاري في كتابه «شرح السنة» : «وإذا رأيت الرجل رديء الطريق والمذهب، فاسقًا فاجرًا، صاحب معاص، ظالمًا، وهو من أهل السنة؛ فاصحبه، واجلس معه؛ فإنك لن تضرك معصيته، وإذا رأيت عابدًا، مجتهدًا، متقشفًا، متحزقًا بالعبادة، صاحب هوًى؛ فلا تجلس معه، ولا تسمع كلامه، ولا تمش معه في طريق؛ فإني لا آمن أن تستحلي طريقته
فتهلك معه».
ونقل ابن مفلح في كتابيه «الفروع» و «الآداب الشرعية» عن أبي الفرج الشيرازي في كتاب «التبصرة» له، أن الإمام أحمد بن حنبل قال:«وإذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أصحاب البدع فايأس منه؛ فإن الشاب على أول نشوئه» .
ونقل في «الآداب الشرعية» عن ابن الجوزي أنه قال في كتابه «السر المكتوم» لما ذكر المعتزلة والفلاسفة _ وغيرهم _: «الله الله من مصاحبة هؤلاء، ويجب منع الصبيان من مخالطتهم؛
لئلا يثبت في قلوبهم من ذلك شيء، وأشغلوهم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعجن بها طبائعهم».
وأما الحريص على الدنيا؛ فقد نبه أبو حامد إلى خطر صحبته بقوله: «فصحبته سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء؛ بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا، فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا، وتستحب صحبة الراغبين في الآخرة» .
وذكر ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» عند ترجمته لأبيه القاضي أبي يعلى، أن أبا الحسن _ علي بن المبارك _ النهري قال عنه: وكان ينهانا دائمًا عن مخالطة أبناء الدنيا والنظر إليهم والاجتماع بهم، ويأمرنا بالاشتغال بالعلم ومخالطة
الصالحين.
وذكر _ أيضًا _ عن خاله أبي محمد عبد الله بن جابر بن ياسين، عن القاضي أبي يعلى _ والد المصنف _، أن شيخه إبراهيم الحربي استزاره المعتضد، وقربه، وأجازه، فرد جائزته، فقال له المعتضد: اكتم مجلسنا، ولا تخبر بما فعلنا بك وبما قابلتنا به، فقال له الحربي: لي إخوان لو علموا باجتماعي معك لهجروني.
ومما ذكر ابن عبد البر في كتابه «بهجة المجالس» عن أبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني، أنه أنشد:
إن صحبنا الملوك تاهوا وعقوا
…
واستخفوا كبرًا بحق الجليس
أو صحبنا التجار صرنا إلى البؤس
…
وعدنا إلى عداد الفلوس
فلزمنا البيوت نستخرج العلم
…
ونملا به بطون الطروس
قلت: ولا يراد بما ذكر: قطع كل صلة بكل مخالف وفاسق؛ فقد يخالط ويدارى لحضه على الخير أو لاجتناب شره، إلا أن هذه المخالطة والمداراة لا يحسن من فاعلها أن تبلغ مبلغ الصحبة الصرفة، وإنما هي لإيثار مصلحة أو دفع مفسدة.
أما إيثار المصلحة؛ فبمعاشرته بحسن الخلق ومداراته بحنكة، فيبعث ذلك على ترقق قلبه، ويحفزه على التأسي بأهل الفضل وترك قبيح الأفعال.
وقد روي عن علي أنه قال: «خالط المؤمن بقلبك، والفاجر بخلقك» .
وروي عن عبد الله بن جعفر أنه قال: «كمال الرجل بخلال ثلاث: معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس
بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاثة سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث؛ لم يسلم له صديق، ولم يتحنن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق».
ونقل ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن ابن الجوزي قوله: «العاقل: من لم يثق بأحد ولم يسكن إلى مخلوق، ومع هذا فالمباينة للكل لا تصلح؛ إذ لا بد منهم، وإنما تبتغى المداراة لا المودة، والمسايرة بالأحوال لا المجاهرة، وكتمان الأمور من الخلق كلهم مهما أمكن _ الأقارب والأباعد _، والنظر للنفس في مصالحها» .
وأما دفع المفسدة؛ فباتقاء شره وفحشه وتجنب عداوته؛ فإن العداوة قد تفضي إلى التظالم، وكان أبو العباس السفاح إذا تعادى اثنان من أهل بطانته لا يسمع من أحدهما في صاحبه شيئًا وإن كان عدلًا، ويقول: العداوة تزيل العدالة.
وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ائذنوا له؛ بئس أخو العشيرة _ أو ابن
العشيرة _»، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله!
قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام! قال:«أي عائشة! إن شر الناس: من تركه الناس _ أو ودعه الناس _ اتقاء فحشه» .
قال النووي في شرحه لـ «صحيح مسلم» : «وفي هذا الحديث مداراة من يتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه
…
ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه؛ إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام».
وقال الماوردي: «فإن أغفل تألف الأعداء مع وفور النعمة وظهور الحسدة توالى عليه مكر حليمهم وبادرة سفيههم
…
وليس ينبغي أن يكون لهم راكنًا، وبهم واثقًا؛ بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز؛ فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعًا لا يستحيل، وجبلةً لا تزول، وإنما يستكفى بالتألف إظهارها، وتستدفع به أضرارها؛ كالنار يستدفع بالماء إحراقها ويستفاد به إنضاجها وإن كانت محرقةً بطبع لا يزول وجوهر لا يتغير».
قلت: ويريد بهذا المثل قول ابن نباتة السعدي الذي ذكره بعد كلامه:
وإذا عجزت عن العدو فداره
…
وامزج له إن المزاج وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها
…
تعطي النضاج وطبعها الإحراق
وقال بعض الحكماء: من علامة الإقبال: اصطناع الرجال.
وقال الحسن: لا تشتر مودة ألف بعداوة واحد.
وقال بعض البلغاء: من استصلح عدوه زاد في عدده، ومن استفسد صديقه نقص من عدده.
وقال بعض الأدباء: العجب ممن يطرح عاقلًا كافيًا لما يضمره من عداوته، ويصطنع عاجزًا جاهلًا لما يظهره من محبته، وهو قادر على استصلاح من يعاديه بحسن صنائعه وأياديه.
وقيل لعبد الملك بن مروان: ما أفدت في ملكك هذا؟ قال: مودة الرجال.
وروي عن سليمان بن داود، أنه قال لابنه: لا تستكثر أن يكون لك ألف صديق؛ فالألف قليل، ولا تستقل أن يكون لك عدو واحد؛ فالواحد كثير.
وفي هذا المعنى:
تكثر من الإخوان ما اسطعت
…
إنهم بطون إذا استنجدتهم وظهور
وما بكثير ألف خل لعاقل
…
وإن عدوا واحدًا لكثير
وأنشد صلاءة بن عمرو _ المعروف بالأفوه الأودي _:
بلوت الناس قرنًا بعد قرن
…
فلم أر غير ختال وقالي
وذقت مرارة الأشياء طرا
…
فما طعم أمر من السؤال
ولم أر في الخطوب أشد هولًا
…
وأصعب من معاداة الرجال
وقال القاضي التنوخي:
الق العدو بوجه لا قطوب به
…
يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقى أعاديه
…
في جسم حقد وثوب من مودات
الرفق يمن وخير القول أصدقه
…
وكثرة المزح مفتاح العداوات
ولبعضهم:
لما عفوت ولم أحقد على أحد
…
أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته
…
لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
…
كأنما قد حشى قلبي محبات
الناس داء دواء الناس قربهم
…
وفي اعتزالهم قطع المودات
ومن ثمار ما ذكر من خصال حسنة _ من عقل وحسن خلق وحرص على السنة وزهد في الدنيا _: الصدق في المشورة.
ففي اجتماع هذه الخصال تنشأ الحكمة ويصيب القول ويسدد الرأي، فبها ينتفع مجالس أهل الفضل، وذلك بأن يرشدوه إلى ما هو خير له بأمانة وصدق.
وكان يقال: لا تدخل في رأيك بخيلًا فيقصر فعلك، ولا جبانًا فيخوفك ما لا يخاف، ولا حريصًا فيبعدك عما لا يرجى.
وقال بعض الحكماء: نصف رأيك مع أخيك، فشاوره ليكمل لك الرأي.
وقال بعض البلغاء: إذا أشكلت عليك الأمور وتغير لك الجمهور؛
فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة العلماء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد، فلأن تسأل وتسلم خير لك من أن تستبد وتندم.
وقيل: استشر عدوك العاقل، ولا تستشر صديقك الأحمق؛ فإن العاقل يتقي على رأيه الزلل كما يتقي الورع على دينه الحرج.
وقد ذكر الماوردي خمس خصال لأهل المشورة:
الخصلة الأولى: عقل كامل مع تجربة سالفة.
والخصلة الثانية: أن يكون ذا دين وتقًى.
قال: «فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح» .
والخصلة الثالثة: أن يكون ناصحًا ودودًا.
قال: «فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحضان الرأي» .
وقال بعض السلف: ضربة الناصح خير لك من تحية الشانئ.
وقال أعرابي: نصح الصديق تأديب، ونصح العدو تأنيب.
والخصلة الرابعة: أن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل.
قال: «فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر» .
والخصلة الخامسة: أن لا يكون له في الأمر المستشار غرض يتابعه ولا هوًى
يساعده.
قال: «فإن الأغراض جاذبة والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد» .
ومن منثور الأخبار والأشعار فيمن تؤثر صحبته ومن لا ترجى عشرته:
ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: عليك بإخوان الصدق، فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء.
وقالت الحكماء: اعرف الرجل من فعله لا من كلامه، واعرف محبته من عينه لا من لسانه.
وقال بعض البلغاء: مصارمة قبل اختبار أفضل من مؤاخاة على اغترار.
وقال بعض الحكماء: اصطف من الإخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب؛ فإنه ردء لك عند حاجتك، ويد عند نائبتك، وأنس عند وحشتك، وزين عند عافيتك.
وقال جعفر بن محمد لابنه: يا بني! من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءًا فاتخذه لنفسك خلا.
وروي أن رجلًا قال لابنه: أي بني! لا تؤاخ أحدًا حتى تعرف موارد أموره ومصادرها، فإذا استطبت منه الخبر ورضيت منه العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة عند العسرة.
وقال عبد الله بن المعتز: إخوان الشر كشجر النارنج يحرق بعضها بعضًا.
وقال بعض الحكماء: مخالطة الأشرار على خطر، والصبر على صحبتهم كركوب البحر الذي من سلم منه ببدنه من التلف فيه لم يسلم بقلبه من الحذر منه.
وقال رجل لداود الطائي: أوصني، قال: اصحب أهل التقوى؛ فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤنةً، وأكثرهم لك معونةً.
وقال بعض البلغاء: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
وقال علي: شر الأصدقاء من أحوجك إلى المداراة، وألجأك إلى الاعتذار.
وروي عنه أنه قال: شر الإخوان: من تكلف له، وخيرهم: من أحدثت لك رؤيته ثقةً به، وأهدت إليك غيبته طمأنينةً إليه.
وقيل في منثور الحكم: لا تغترن بمقاربة العدو؛ فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها.
وكان علي بن أبي طالب يقول: اللهم إني أعوذ بك ممن
لا يلتمس خالص مودتي إلا بموافقة شهوتي، وممن ساعدني على سرور ساعتي ولا يفكر في حوادث غدي.
وقال بعض البلغاء: ما ودك من أهمل ودك، ولا أحبك من أبغض حبك.
وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم ويستر عيبك، ويكون معك في النوائب، ويؤثرك في الرغائب، وينشر حسنتك، ويطوي سيئتك، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
وقيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرةً؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق سمح، فمن ظفر به فقد أفلح وأنجح.
وقال موسى بن جعفر: اتق العدو، وكن من الصديق على حذر؛ فإن القلوب إنما سميت قلوبًا لتقلبها.
وقيل لابن السماك _ محمد بن صبيح _: أي الإخوان أحق بإبقاء المودة؟ قال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله.
وقيل لخالد بن صفوان التميمي المنقري: أي إخوانك أحب إليك؟ قال: الذي يسد خلتي، ويغفر زلتي، ويقيل عثرتي.
وروي عنه _ أيضًا _ أنه قال: اصحب من ينسى معروفه عندك، ويذكر حقوقك عليه.
وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: يا عبد الملك! كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك.
وقال عمر بن عبد العزيز: لا تودن عاقا، كيف يودك وقد عق أباه؟!
وكذا قاطع الرحم.
وقيل: اصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أصابتك خصاصة مانك، وإن رأى منك حسنةً سر بها، وإن رأى منك سقطةً سترها، ومن إذا قلت صدق قولك، ومن هو فوقك في الدين ودونك في الدنيا. وكل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرًا فانبذ عنك صحبته.
وأوصى رجل ابنه، فقال: يا بني! اصحب من إذا غبت
عنه خلفك، وإن حضرت كنفك، وإن لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كفه عنك.
وقيل: شر الإخوان من كانت مودته مع الزمان إذا أقبل، فإذا أدبر الزمان أدبر عنك.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
شر الأخلاء من كانت مودته
…
مع الزمان إذا ما خاف أو رغبا
إذا وترت امرأً فاحذر عداوته
…
من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
إن العدو وإن أبدى مسالمةً
…
إذا رأى منك يومًا فرصةً وثبا
وقال بعض الشعراء:
لا تحمدن امرأً حتى تجربه
…
ولا تذمنه من غير تجريب
فحمدك المرء ما لم تبله خطأ
…
وذمه بعد حمد شر تكذيب
ولبعضهم:
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
…
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
وقال بعض الشعراء:
وكل أخ عند الهوينا ملاطف
…
ولكنما الإخوان عند الشدائد
وقال يزيد بن الحكم الثقفي:
تكاشرني كرهًا كأنك ناصح
…
وعينك تبدي أن صدرك لي دوي
لسانك ماذي ونفسك علقم
…
وشرك مبسوط وخيرك ملتوي
فليت كفافًا كان خيرك كله
…
وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي
وقال السيوطي:
إني عزمت وما عزمي بمنجزم
…
ما لم تساعده ألطاف من الباري
أن لا أصاحب إلا من خبرتهم
…
دهرًا مديدًا وأزمانًا بأسفار
ولا أجالس إلا عالمًا فطنًا
…
أو صالحًا أو صديقًا لا بإكثار
ولبعضهم:
احذر مودة ماذق
…
مزج المرارة بالحلاوه
يحصي الذنوب عليك
…
أيام الصداقة للعداوه
وقال آخر:
فصاحب تقيا عالمًا تنتفع به
…
فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب
وإياك والفساق لا تصحبنهم
…
فقربهم يعدي وهذا مجرب
من الإلف ثم الشر للناس أغلب
فإنا رأينا المرء يسرق طبعه
كما قيل طين لاصق أو مؤثر
…
كذا دود مرج خضرةً منه يكسب
وجانب ذوي الأوزار لا تقربنهم
…
فقربهم يردي وللعرض يسلب
وقال حسان بن ثابت:
أخلاء الرخاء هم كثير
…
ولكن في البلاء هم قليل
فلا يغررك خلة من تؤاخي
…
فما لك عند نائبة خليل
وكل أخ يقول أنا وفي
…
ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين
…
فذاك لما يقول هو الفعول
وقال حماد بن يحيى:
كم من أخ لك ليس تنكره
…
ما دمت في دنياك في يسر
متصنع لك في مودته
…
يلقاك بالترحيب والبشر
فإذا عدا والدهر ذو غير
…
دهر عليك عدا مع الدهر
فارفض بإجمال مودة من
…
يقلي المقل ويعشق المثري
وعليك من حالاه واحدة
…
في العسر إما كنت واليسر