الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفيد أن لا محذور في تنحيته من مكانه الذي هو به الآن إلى جانب المطاف بعد التوسيع؛ لضرورة الضيق والازدحام الشديد. وهذا هو رأي كثير من العلماء المعاصرين، ولأن المقصود هو الصلاة خلف حجر المقام في أي مكان كان فيه الحجر من المسجد. وبطريق الأولى تنحية المنبر، وباب بني شيبة عن موضعهما الآن.
رابعاً: وأما ما رأته الهيئة: أن من المصلحة عمل حاجز دائري بقسم المطاف إلى قسمين: بحيث يكون القسم القريب من الكعبة المعظمة خاصًا بالرجال، والقسم الآخر خاصًا بالنساء. فهذا فيما يظهر لا يحصل به المقصود المذكور، مع ما فيه من التضييق للمطاف ولاسيما أيام الموسم ومزيد الازدحام
…
والله ولي التوفيق.
قاله الفقير إلى عفو الله محمد بن إبراهيم آل الشيخ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(الختم)
(ص - م 3731 في 21-1-1377هـ)
(مقام إبراهيم)
(1178 - اتفاق العلماء مع سماحته على نقل المقام أولا، واستطلاع الآراء)
من محمد من إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة
الملك سعود بن عبد العزيز المعظم
…
أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: -
فقد اطلعت على خطاب جلالتكم رقم 27-214-74 تاريخ
16-
1-1381هـ وما بطيه، وذلك القرار المرفوع إلى مقام جلالتكم من علماء مكة المكرمة الشيخ علوي مالكي، والشيخ محمد يحيى أمان، والشيخ محمد أمين كتبي، بشأن مقام إبراهيم المتضمن موافقتهم على تنحيته عن موضعه الحالي ونقله إلى مكان آخر من المسجد حتى يتسع المطاف للطائفين.
ونعرض لأنظار جلالتكم أن هذا هو ما نراه ووافقنا عليه، وفقًا لما تقتضيه الأصول الشرعية.
أما ما استطلع جلالتكم رأيي فيه حول انتداب شخص يسافر إلى البلاد الإسلامية للتشاور مع العلماء الموجودين فيها بشأن ذلك. فهذا لا أراه مناسبًا؛ لأنه إذا سافر شخص وقصدهم في بلدانهم وتتبعهم في محلاتهم فإنه مع أن هذا الإجراء سيكون فيه تمديد وتطويل فإنه سيفتح ثغرة كبيرة ومجالاً واسعًا لإحداث أفكار واتصالات من بعضهم مع بعض قد ينشأ عنها تشويش وتوليد أغراض واحتياجات تربك الأمر وتجعل النتيجة عكسية، بل الذي أراه أن يعقد اجتماع في مكة المكرمة يدعى إليه العلماء المشهورين من تلك الأقطار مع العلماء في نجد والحجاز، ويبحث الموضوع بين الجميع، ثم يتخذ بشأنه القرار اللازم. وهذا أسرع وأنجز وأبعد عن تدخل أهل الأغراض. وإن تأخر الاجتماع إلى وقت الحج القادم حتى يشاهدوا ويعاينوا بأنفسهم الزحمة فهو أحسن. وإن رأيتم جلالتكم تعجيله فالنظر والأمر لله ثم لجلالتكم، تولاكم الله بتوفيقه.
(ص - م 240 في 18-1-1381هـ)
الجواب المستقيم
في جواز نقل مقام إبراهيم
(1179 - رسالة مطولة لسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم في جواز تأخير مقام إبراهيم)(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل في كتابه الكريم (وما جعل عليكم في الدين من حرج) والصلاة والسلام على خاتم رسله، الذي أتى بالحنيفية السمحة، وعلى آله وصحبه، ومن لسبيلهم نهج، وبعد: -
فإنه لما كثر الوافدون إلى بيت الله الحرام في عصرنا هذا الذي توفر فيه من وسائل نقلهم ما لم يتوفر قبل، وازدادوا زيادة لم تعهد فيما مضى، أدى ذلك إلى وقوع الطائفين في حرج شديد فيما بين المقام وبين البيت، ولذلك قدمت الرابطة الإسلامية رغبتها إلينا في أن نكتب رسالة في حكم تأخير المقام عن ذلك الموضع إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له رفعًا للحرج، فاستخرت الله تعالى. وكتبت إجابة لها هذه الرسالة. ورتبتها على ما يلي: -
1-
…
بيان وضع المقام في عهد النبوة، وأن أول من أخره عنه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
2-
…
إيراد أدلة القائلين بأن موضع المقام هو موضعه في عهد النبوة، والجواب عنها.
(1) تنبيه: أكثر التعليقات على هذه الرسالة موجودة بالأصل.
3-
…
سرد العلل التي علل بها تأخير عمر المقام، وترجيح التعليل برفع الحرج عن الطائفين.
4-
…
بيان حكم تأخير المقام اليوم عن موضعه إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له.
والله أسأل أن يكون هذا الجواب خالصًا لوجه الكريم. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
بيان موضع المقام في عهد النبوة، وأن أول من أخره عمر بن الخطاب
ثبت عن السلف الصالح أن مقام إبراهيم عليه السلام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه في سقع البيت وأن أول من أخره عن ذلك الموضع عمر بن الخطاب. وممن ثبت ذلك عنه من أعيانهم المذكورون فيما يلي: -
1-
أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها عند البيهقي، قال في "سننه": أخبرنا أبوالحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبوبكر أحمد بن كامل (1) حدثنا أبواسماعيل
(1) أحمد بن كامل امام، قال فيه الخطيب في "تاريخ بغداد": سمعت أبا الحسن ابن زرقوية ذكر أحمد بن كامل فقال: لم تر عيناي مثله. وأثنى عليه الخطيب بأنه من العلماء بالأحكام وعلوم القرآن والنحو والشعر وأيام الناس وتواريخ أصحاب الحديث، ولهذا لم يعتبر قول الدارقطني فيه: أنه كان يعتمد على حفظه فيهم. وفي ذلك يقول الذهبي في "الميزان": لينه الدارقطني. وقال: متساهلا، ومشاه غيره، وعلى مراعاة كلام الدارقطني في أحمد بن كامل فتصحيح الحافظين ابن كثير وابن حجر روايته هذه دليل على أنها ليست مما وهم فيه.
محمد بن اسماعيل السلمي. حدثنا أبوثابت، حدثنا الدراردي (1)
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة (2) رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أهـ. صحيح الحافظ ابن كثير إسناده في تفسيره في الكلام على آية المقام. وقواه الحافظ في "فتح الباري" في كتاب التفسير في الكلام على تلك الآية، قال (ج8 ص137) : أخرج البيهقي عن عائشة مثله أي مثل ما روى عن عطاء وغيره من التصاق المقام بالبيت إلى أن أخره عمر بسند قوي، ولفظه: أن المقام كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر. أهـ كلام الفتح.
ولا يرد على جزم رواية أبي ثابت المذكورة. شك رواية يعقوب بن حميد بن كاسب عند الفاكهي. قال يعقوب: حدثنا
(1) هو عبد العزيز بن محمد بن أبي عبيد المدني من مشاهير المحدثين، تكلم في حفظه بعض أهل الحديث بما لا يؤثر فيه، لما رواه ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" ص22 عن أبي بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إليه، قال سمعت مصعب الزبيري يقول: كان مالك يوثق الدراوردي. ولما ذكره الحافظ في مقدمة "فتح الباري" من أنه وثقه يحيى بن معين، وعلى بن المديني، واحتج به مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وروى له البخاري حديثين قرنه فيهما بعبد العزيز بن أبي حازم وغيره. وأورد له أحاديث يسيره في المتابعات بصيغة التعليق، ولهذا كتب الحافظ الذهبي في "الميزان" أول اسمه (صح) اشارة إلى أن العمل على توثيقه، جريًا على اصطلاح الذهبي الذي ذكره الحافظ بن حجر في ذلك في "لسان الميزان"..
(2)
هكذا روى هذا الحديث أبواسماعيل محمد بن اسماعيل السلمي عن أبي ثابت عن الدراودي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ورواه أبوزرعة عن أبي ثابت عن الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه موقوفًا على عروة. ويجمع بين ذلك بأن كلا منهما حدث بما سمع. وفي رواية السلمي زيادة الثقة وهي واجبة القبول.
عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال عبد العزيز أراه عن عائشة: أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في سقع البيت. فإن يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء، قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": قريء على العباس بن محمد الدوري أنه سأل يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب فقال ليس بشيء. وقال أيضًا: سمعت أبي يقول: هو ضعيف الحديث. وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكين": يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء مكي. وقال العقيلي في "الضعفاء": حدثنا زكريا الحلواني قال: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه: وسألته عنه: فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول فدفعنا، ثم أخرجها بعد فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها. أهـ.
2-
عروة بن الزبير. قال عبد الرازق في "مصنفه": عن معمر: عن هشام بن عروة: عن أبيه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبابكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام". وأصرح من هذه الرواية ما روى عبد الرحمن بن أبي حاتم في "العلل" عن أبي زرعة: عن أبي ثابت. عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه:"أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه" وتقدم هذا الحديث رواه أبواسماعيل محمد بن اسماعيل السلمي.
عن أبي ثابت، عن الدارودري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والروايتان ثابتتان، فدل ذلك على أن عروة روى هذا الحديث عن خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكان يحدث به عنها تارة، ويتكلم به تارة أخرى من غير أن يسنده إليها. فروى عنه بالوجهين.
3-
عطاء وغيره من أصحاب ابن جريح عند عبد الرازق، قال في "مصنفه": عن ابن جريح. قال سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة. صحح الحافظ ابن حجر العسقلاني إسناده في "فتح الباري ج8 ص137" قال في كلامه على المقام في "كتاب التفسير": كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" بسند صحيح عن عطاء وغيره. أهـ.
ومعنى قول ابن جريج: "يزعمون". يقولون. من باب استعمال الزعم في القول المحقق، نظير ما رواه البخاري في صحيحه في (باب إذا حرم طعامًا) وقوله تعالى:(يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك)(1) قال البخاري: حدثنا الحسن ابن محمد، حدثنا الحجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة تزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا" الحديث. وذكر الحافظ في شرح قول الراوي: زعم
(1) سورة التحريم آية -1.
عطاء: أن أهل الحجاز يطلقون الزعم بمعنى القول، وقرر الحافظ هو والنووي أن ذلك الاستعمال كثير. قال النووي في شرح قول ضمام ابن ثعلبة:"يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك" قال: قوله: "زعم" و "تزعم" مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه دليل على أن "زعم" ليس مخصوصًا بالكذب والقول المشكوك فيه؛ بل يكون أيضًا في القو المحقق والصدق الذي لاشك فيه، وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"زعم جبريل كذا". وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه الذي هو إمام كتب العربية من قوله: زعم الخليل، زعم أبوالخطاب، يريد بذلك القول المحقق، وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم، ونقله أبوعمرو الزاهد في "شرح الفصيح" عن شيخه أبي العباس ثعلب، عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين. أهـ. وقال الحافظ في "الفتح" في كتاب العلم في شرح قول ضمام بن ثعلبة المتقدم: إن الزعم يطلق على القول المحقق أيضًا، كما نقله أبوعمرو الزاهد في "شرح فصيح ثعلب". وأكثر سيبويه من قوله: زعم الخليل. في مقام الاحتجاج.
ومما استدل به الحافظ في "فتح الباري" لاستعمال الزعم بمعنى القول المحقق قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حديثه في المواقيت: "ويزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويهل أهل اليمن من يلملم" يعني ابن عمر بقوله "يزعمون" الصحابة. قلت: ويشهد لكون "يزعمون" في رواية عبد الرزاق المتقدمة عن ابن جريج عن عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج بمعنى
القول المحقق رواية عبد الرزاق الأخرى التي ذكرها الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)(1) فإنه قال: عبد الرزاق، حدثني ابن جريج، عن عطاء وغيره من أصحابنا، قالوا: أول من نقله - أي المقام - عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقول ابن جريج في هذه الرواية: "قالوا" يفسر قوله في الرواية الأولى: "يزعمون"(2) .
4-
مجاهد عند عبد الرزاق، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)(3) قال عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. صححه الحافظ في "فتح الباري - في كتاب التفسير ج8 ص137" وذكر ابن كثير في تفسيره أنه أصح مما في رواية ابن مردوية عن مجاهد من أن النبي
(1) سورة البقرة آية - 125
(2)
لا يرد على ما ذكره من اطلاق الزعم على القول المحقق ما روى أبوداود عن أبي قلابة، قال أبومسعود لأبي عبد الله أو أبوعبد الله لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في "زعموا" قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس مطية الرجل" فإن هذا الحديث منقطع السند، لأن أبا قلابة لم يسمع من حذيفة المكني فيه أبي عبد الله ولا من أبي مسعود رضي الله عنهما كما نقله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" عن كتاب "الأطراف" لأبي القاسم الدمشقي. وفي "فتح الباري" للحافظ ابن حجر: أن البخاري أشار إلى تضعيف هذا الحديث بإيراد قول أم هاني في شأن ابن هبيرة: "قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته" في باب ما جاء في زعموا. وأيد الحافظ ما أشار إليه البخاري يقول ضمام بن ثعلبة في حديثه: "يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك".
(3)
سورة البقرة آية - 125
صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله (1) وعبارة ابن كثير بعد ذكر أثر مجاهد هذا: هذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاده بما تقدم. أهـ. يعني ابن كثير بما تقدم الآثار التي أوردها قبل ذلك بأسانيد قوية عن عائشة وعطاء وغيره من أصحاب ابن جريج وسفيان بن عيينه.
5-
بعض مشايخ مالك، ففي "المدونة" في ج2 في قطع شجر الحرم من "كتاب الحج" ما نصه: قال مالك: بلغني أن عمر ابن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وقبل ذلك، وكان قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر، فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. أهـ.
6-
سفيان بن عيينة عند ابن أبي حاتم في تفسيره، قال فلي تفسير قوله تعالى:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) حدثنا
(1) ذكرها ابن كثير في تفسيره قال: قال الحافظ أبوبكر بن مردويه "أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم وهو ابن أبي اياس في تفسيره، أخبرنا عن ابراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، قال: قال: عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا، قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن، وسيأتي الكلام على هذه الرواية مبسوطًا.
ابن أبي عمر العدني (1)
قال: قال سفيان (2) : كان المقام في سقع البيت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد قوله تعالى:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها
(1) ابن أبي عمر العدني، هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، من أئمة العلم، قال الترمذي في "جامعه" في (باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) بعد ما روى حديثًا عنه: سمعت ابن أبي عمر يقول: اختلفت إلى ابن عيينة ثمان عشرة سنة، وكان الحميدي أكبر مني بسنة، وسمعت ابن أبي عمر يقول: حججت سبعين حجة ماشيا، وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" عن أحمد بن سهل الاسفرائني، قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عمن يكتب؟ فقال أما بمكة فابن أبي عمر، ولهذا لم يمنع المحدثين من الرواية عنه قول أبي حاتم فيه: كان رجلاً صالحًا به غفلة، ورأيت عنده حديثًا موضوعًا حدث به عن ابن عيينة وكان صدوقًا، بل اعتنى المحدثون بالرواية عنه، حتى قال صاحب الزهرة كما في "تهذيب التهذيب": روى عنه مسلم مأتي حديث وستة عشر حديثًا. وروى عنه الترمذي وابن ماجة، وروى النسائي عنه بوسائط، وذكر له البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة في الجمعة متابعة عقب حديث شعيب. عن الزهري، عن عروة، عن أبي حميد:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشية بعد الصلاة فتشهد واثنى على الله بما هو أهله، ثم قال أما بعد" قال البخاري عقب هذا: تابعه العدني عن سفيان في "أما بعد" يقصد البخاري بالعدني محمد بن يحيى هذا، بدليل رواية مسلم ذلك الحديث في صحيحه عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني هذا، عن سفيان بن عيينة، عن هشام كذلك. وممن روى عن العدني أبوحاتم الذي صدرت منه تلك الكلمة، روى عنه الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه، ورواه عن أبي حاتم ابنه عبد الرحمن في التفسير الذي التزم فيه ايراد الأصح. وبذلك تبين أيضًا أن هذا الحديث ليس بذلك الموضوع الذي شاهده أبوحاتم عند العدني: إذ لو كان كذلك لم يروه ابنه في تفسير التزام فيه الأصح..
(2)
هو ابن عيينة أحد أئمة الاسلام، أجمعت الأمة على الاحتجاج به وأما ما رواه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن يحيى بن سعيد القطان، قال: أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، من سمع منه فيها فسماعه لاشيء. فهذا الخبر استبعده الذهبي في "الميزان" قال: أنا استبعده. وأعده غلطًا من ابن عمار: فإن القطان مات في صفر سنة ثمان وتسعين وقت قدوم الحجاج ووقت تحدثهم عن أخبار الحجاز، فمتى تمكن يحيى بن سعيد من أن يسمع اختلاط سفيان ثم يشهد عليه بذلك والموت قد نزل به، ثم قال: فلعله بلغه ذلك في أثناء سنة سبع مع أن يحيى معنت جدا في الرجال، وسفيان ثقة مطلقًا. قال: ويغلب على ظني أن سائر شيوخ الأئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع - أي التي اختلط فيها - وأما سنة ثمان وتسعين ففيها مات ولم يلقه أحد، فإنه توفى قبل قدوم الحجاج بأربعة أشهر. أهـ ما ذكره الذهبي، وأقره عليه الحافظ العراقي في كتبه الثلاثة "شرح ألفية المصطلح" فاستفدنا من ذلك استبعاد الذهبي والعراقي رواية ابن عمار اختلاط ابن عيينة، واعتبارهما أياها على فرض ثبوتها من قبيل تعنت يحيى في الرجال. وقد ناقش الحافظ ابن حجر الذهبي حول استبعاد اختلاط ابن عيينة في التاريخ الذي ذكره ابن عمار بما لا يؤثر في الرواية التي نحن بصدد تقويتها مادام الحافظ قد صرح بصحتها في "فتح الباري ج8 ص137" في باب قوله تعالى:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) من كتاب التفسير.
أم لا.
صحح الحافظ في "فتح الباري" إسناده في "كتاب التفسير ج8 ص137" في شرح باب قول الله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وصحح هذا الحديث قبل صاحب "فتح الباري" الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم بإيراده في تفسيره الذي ذكر في أوله أن جماعة من إخوانه طلبوا منه تفسيرًا مختصرًا بأصح الأسانيد وحذف الطرق. ثم قال: فأجبتهم إلى مسألتهم، وبالله التوفيق، وإياه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتحريت إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادًا، وأشبهها متنًا، فإذا وجدت التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أذكر معه أحدًا من الصحابة ممن أتى بمثل ذلك؛ وإذا وجدته عن الصحابة فإن كانوا متفقين ذكرته عن أعلاهم درجة بأصح الإسناد وسميت موافقيهم بحذف الإسناد، فإن لم أجد عن الصحابة ووجدته عن التابعين عملت فيما أجد عنهم ما ذكرته من المثال في الصحابة، وكذلك أجعل المثال في أتباع التابعين وأتباعهم. أهـ ما ذكره ابن أبي حاتم في مقدمة تفسيره، وهو دليل على صحة هذا الحديث.
7-
الواقدي (1) عند ابن جرير الطبري في تاريخه، قال في حوادث سنة ثمان عشرة: وزعم - أي الواقدي - أن عمر رضي الله عنه حول المقام في هذه السنة في ذي الحجة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقًا بالبيت قبل ذلك. أهـ. وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية": أن الواقدي لم ينفرد بهذا، وعبارته ج7 ص93: قال الواقدي (2) وغيره: في هذه السنة - أي سنة ثمان عشرة في ذي الحجة منها حول عمر المقام، وكان ملصقًا بجدار الكعبة، فأخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين. ثم قال ابن كثير: قلت: ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد والمنة.
8-
مشايخ ابن سعد قال في "الطبقات الكبرى" في ترجمة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: قالوا: وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقًا بالبيت. أهـ.
هذه جملة من أعيان السلف الذين صرحوا بأن المقام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في سقع البيت، وأن أول من أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد جزم بما صرحوا به غير واحد من أئمة المتأخرين منهم الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" والحافظ ابن كثير في "التفسير" و "البداية والنهاية" والشوكاني في "فتح القدير" قال الحافظ في الفتح ج8 ص137 في باب (واتخذوا من مقام
(1) الواقدي قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية ج3 ص234": عند زيادات حسنة، وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار. أهـ.
(2)
قول ابن كثير في هذه العبارة: قال الواقدي: يفيد أن قول ابن جرير في عبارته: زعم الواقدي، من استعمال الزعم في القول المحقق.
إبراهيم مصلى) من كتاب التفسير: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت، إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن. أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" بسند صحيح عن عطاء وغيره، وعن مجاهد أيضًا. وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي، ولفظه: أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر، وأخرج ابن مردوية بسند ضعيف عن مجاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله، والأول أصح. وقد أخرج أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة قال: كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر، فجاء سيل فذهب به، فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا. أهـ.
وبهذا ظهر رجوع الحافظ عما كتبه في باب (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) من كتاب الصلاة؛ فإنه كتب ما نصه: قد روى الأزرقي في "أخبار مكة" بأسانيد صحيحة أن المقام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله حتى وجد بأسفل مكة فأتى به فربط إلى أستار الكعبة حتى قدم عمر، فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول فأعاده إليه، وبنى حوله فاستقر ثم إلى الآن (1) . أهـ. وهذا الذي كتبه الحافظ في "كتاب الصلاة" سبق قلم نبه على رجوعه عنه بالصواب الذي ذكره في "كتاب التفسير"
(1) وبهذا الذي ذكره الحافظ في "كتاب الصلاة" عن الأزرقي عارض قول الكرماني بأن المقام كان عند باب الكعبة في عهد النبوة، وكان هذا قبل ظهور الصواب للحافظ الذي بينه في "كتاب التفسير".
وكان يصنع ذلك تارة فيما سبق به القلم، ويصرح تارة بالرجوع عما كتبه أولا. ومما صرح فيه بالرجوع ما يلي:
1-
قوله في ج8 ص16 في الباب الذي بعد (باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح) في الكلام على حديث أبي شريح العدوي في تعظيم حرمة مكة: قال: (قوله: العدوي) كنت جوزت في الكلام على حديث الباب في الحج أنه من حلفاء بني كعب، وذلك لأني رأيته في طريق أخرى الكعبي، نسبة إلى كعب بن ربيعة بن عمرو بن لحي، ثم ظهر لي أنه نسب إلى بني عدي بن عمرو بن لحي وهم أخوة كعب، ويقع هذا في الأنساب كثيرًا.
2-
قوله في شرح حديث عباد بن تميم، عن عمه، قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى" في (باب الاستلقاء في ج11 ص68) : تقدم بيان الحكم في أبواب المساجد من "كتاب الصلاة" وذكرت هناك قول من زعم أن النهي عن ذلك منسوخ، وأن الجمع أولى، وأن محل النهي حيث تبدو العورة، والجواز حيث لا تبدو، وهو جواب الخطابي ومن تبعه، ونقلت قول من ضعف الحديث الوارد في ذلك وزعم أنه لم يخرج في الصحيح، وأوردت عليه بأنه غفل عما في "كتاب اللباس" من الصحيح. والمراد بذلك صحيح مسلم، وسبق القلم هناك فكتبت صحيح البخاري، وقد أصلحته في أصلي.
3-
قوله في "باب الدعاء على المشركين" ج11 ص162 في الكلام على قول البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، قال حدثنا الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، حدثنا محمد بن سيرين، حدثنا عبيدة، حدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا" الحديث قال الحافظ: قوله: حدثنا هشام بن حسان. يرجح قول من قال في الرواية التي مضت في الجهاد من طريق عيسى بن يونس، حدثنا هشام، أنه ابن حسان، وكنت ظننت أنه الدستوائي، ورددت على الأصيلي حيث جزم بأنه ابن حسان، ثم نقل تضعيف هشام بن حسان يروم رد الحديث، فتعقبته هناك، ثم وقفت على هذه الرواية فرجعت عما ظننت..الخ.
ويدل على رجوع الحافظ عما كتبه في "كتاب الصلاة" إلى ما بينه في "كتاب التفسير" تعذر الجمع بين تصحيح الحافظ أسانيد تلك الروايات الأزرقية التي تذكر أن المقام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن وهو الذي رده إليه عمر بعدما ذهب به السيل وبين تصحيحه في "كتاب التفسير" أسانيد روايات كون المقام أزق البيت إلى أن أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن الروايات الأزرقية التي أشار إليها ليس فيها شيء صحيح صريح، كما سنبينه فيما بعد أن شاء الله عند الكلام على تلك الروايات، مع ذكر كلام الحافظ فيمن تكلم فيه من رواتها، ليتبين أن ما ذكره في "كتاب الصلاة" في الروايات الأزرقية كما لا يتفق مع ما في "كتاب التفسير" لا يتفق مع كلامه في رواة تلك الروايات الأزرقية في كتبه في "الجرح والتعديل".
وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" ج1 ص162 تحت عنوان (ذكر بناية البيت العتيق) في الكلام على
مقام إبراهيم عليه السلام: قد كان هذا الحجر ملصقًا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأخره عن البيت قليلاً؛ لئلا يشغل المصلون عنده الطائفين بالبيت. وقال في الجزء السابع من التاريخ المذكور "البداية والنهاية" ص13 في الكلام على حوادث سنة ثمان عشرة: قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام، وكان ملصقًا بجدار الكعبة (1) أخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين.
وقال في "التفسير" في الكلام على قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) : قلت: قد كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب، في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، وأنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين الذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"
(1) اعتمد ابن كثير في الجزم بأن أول من أخر المقام عن البيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على روايات ذكرها في تفسيره عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعن مشائخ ابن جريج، وعن مجاهد، وسفيان بن عيينة، وهذه الروايات مذكورة فيما تقدم.
وهو الذي أنزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) قد كان - أي المقام - ملتصقًا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) . أهـ ما جمعناه من تاريخ ابن كثير وتفسيره وقال العلامة الشوكاني في "فتح القدير" في تفسير آية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) : وهو - أي المقام - الذي كان ملصقًا بجدار الكعبة، وأول من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بأسانيد صحيحة، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. أهـ.
أدلة القائلين بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة، والجواب عنها
إستدل القائلون بأن موضع مقام إبراهيم عليه السلام هذا الذي هو فيه اليوم هو موضعه في عهد النبوة بأمور نذكرها مع الإجابة عنها فيما يلي: -
(الأول) : ما رواه الحافظ أبوبكر بن مردويه، قال أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب ابن أبي تمام، أخبرنا آدم وهو ابن أبي إياس في تفسيره، أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد قال: قال عمر بن
الخطاب: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا، قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن.
والجواب عن هذا ما ذكره الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر العسقلاني في "فتح الباري". قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية الكريمة (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) بعد ذكر هذا الأثر الذي رواه ابن مردوية: هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه، مع اعتضادها بما تقدم (1) . أهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" ج8 ص137 في باب (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) من كتاب التفسير: أخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد "أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله" والأول أصح. أهـ.
ووجه ضعف سنده أن فيه شريكًا النخعي، وإبراهيم بن المهاجر وهما ضعيفان.
أما "شريك" فقد روى علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد تضعيفه جدًا. وقال ابن المثنى: ما رأيت يحيى ولا عبد الرحمن
(1) أي الآثار التي ذكرها ابن كثير في تفسيره قبل ذلك عن عائشة وعطاء وغيره من أصحاب ابن جريج ومجاهد وسفيان بن عيينة، وكلها متضمنة أن أول من آخر المقام عن سقع البيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
حدثا عن شريك شيئًا. وروى محمد بن يحيى القطان، عن أبيه قال: رأيت تخليطًا في أصول شريك، وقال ابن المبارك: ليس حديثه بشيء. وقال الجوزجاني: سي الحفظ مضطرب الحديث مائل. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: أخطأ شريك في أربعمائة حديث وقال الدارقطني: ليس شريك بالقوي فيما ينفرد به. وقال عبد الجبار ابن محمد: قلت ليحيى بن سعيد: زعموا أن شريكًا إنما خلط بآخره قال مازال مخلطًا. نقل هذا عن هؤلاء الأئمة الحافظ - الذهبي في "ميزان الاعتدال".
وأما إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي فقد قال العقيلي في "الضعفاء": حدثنا محمد بن عيسى، قال حدثنا صالح بن أحمد، قال حدثنا علي، قال قلت ليحيى: إن إسرائيل روى عن إبراهيم بن المهاجر ثلاثمائة حديث. قال: إبراهيم بن المهاجر لم يكن بالقوي، حدثنا محمد، حدثنا صالح، عن علي، قال: سئل يحيى بن سعيد عن إبراهيم بن المهاجر وأبي يحيى القتات فضعفهما. حدثنا عبد الله، قال: سألت أبي عن إبراهيم بن المهاجر، فقال: كان كذا وكذا (1) وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكين": إبراهيم بن المهاجر الكوفي ليس بالقوي. ونقل الحافظ في "تهذيب التهذيب" عن النسائي: أنه صرح أيضًا في الكنى بأنه ليس بالقوي في الحديث، قال الحافظ: وقال ابن حبان في الضعفاء: هو كثير الخطأ. وقال الحاكم: قلت للدارقطني فإبراهيم بن المهاجر؟ قال: ضعفوه، تكلم فيه يحيى بن
(1) عبارة كان كذا وكذا. يستعملها عبد الله بن الامام أحمد كثيرًا فيما يجيبه به والده، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين، كما قرره الحافظ الذهبي في "الميزان" قي ترجمة يونس بن أبي اسحاق الهمداني السبيعي.
سعيد وغيره. قلت: بحجة قال: بلى، حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقد غمزه شعبة أيضًا. قال الحافظ: وقال أبوحاتم: ليس بالقوي، هو وحصين وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، ومحلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج به. قال: عبد الرحمن بن أبي حاتم قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم. قال: كانوا قومًا لا يحفظون فيحدثون بما لا يحفظون فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطرابًا ما شئت. أهـ ما في "تهذيب التهذيب".
(الثاني) : مما استدل به القائلون بأن موضع مقام إبراهيم عليه السلام اليوم هو موضعه في عهد النبوة ما في "مغازي موسى بن عقبة" في سياق خبر فتح مكة بلفظ: وأخر - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام إلى مقامه اليوم وكان ملتصقًا بالبيت.
والجواب عن هذا أن هذا المنقول عن مغازي موسى بن عقبة يخالف ما تقدم عن عائشة وعروة شيخ موسى بن عقبة ومشائخ ابن جريج، وهو أن أول من حول المقام إلى مقامه اليوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ولذلك لم يلتفت الحافظ ابن كثير الذي نقل هذا عن مغازي موسى بن عقبة إليه؛ بل جزم بخلافه.
(الثالث) : مما استدلوا به ما رواه الأزرقي في "تأريخ مكة" قال: حدثني جدي، قال حدثنا عبد الجبار بن الورد، قال سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس.
والجواب عنه بأمرين:
"أحدهما": أن راوي هذا عن ابن أبي مليكة عبد الجبار بن الورد، وهو وإن كان ثقة يخالف في بعض حديثه، قال البخاري في "تأريخه الكبير": يخالف في بعض حديثه. واعتمد العقيلي على كلام البخاري هذا فذكره في "الضعفاء" ثم قال: حدثني آدم بن موسى، قال سمعت البخاري قال: عبد الجبار بن الورد المكي يخالف في بعض حديثه. انتهى كلام العقيلي. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب" في عبد الجبار بن الورد: صدوق، يتهم.
"الثاني": أن ما قاله ابن أبي مليكة على فرض ثبوته عنه لم يأخذه عن الصحابة فيما يرى المحب الطبري صاحب "القرى" بل إنما فهمه من سياق رواية كثير بن المطلب عن أبيه قصة احتمال سيل أم نهشل المقام. ولا يسعنا مادام الأمر كذلك أن تقدم ذلك الفهم على تصريح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأن المقام كان ملصقًا بالبيت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1) . وكلمة "هو موضعه" التي فهم منها ابن أبي مليكة ذلك يفسرها ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسند صحيح عن ابن عيينة أنه قال: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إل مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وبعد قوله تعالى:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه. الحديث المتقدم. فإن هذا يدل على أن الموضع الذي سأل عنه عمر ليرد المقام إليه الموضع الذي وضعه فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول مرة؛ لا موضعه في عهد النبوة.
(1) روى حديث عائشة المشار إليه هنا البيهقي بسند صحيح كما تقدم.
(الرابع) : مما استدل به القائلون بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة ما رواه الأزرقي في "تأريخ مكة" قال: حدثني جدي، قال حدثنا سليم بن مسلم (1) عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر. عن عبد الله بن السائب وكان يصلي بأهل مكة، فقال: أنا أول من صلى خلف المقام حين رد في موضعه هذا، ثم دخل عمر وأنا في الصلاة فصلى خلفي صلاة المغرب. ووجه الاستدلال به أن أقول عبد الله بن السائب (حين رد في موضعه) هذا يفهم منه أن له موضعًا قبل التحويل. فيلزم منه أنه موضعه في عهد النبوة.
والجواب عن هذا: أن سياق عبد الرزاق أحسن من سياق سليم ابن مسلم: فقد قال عبد الرزاق في "مصنفه": عن ابن جريج، عن محمد بن عياد بن جعفر وعمر بن عبد الله بن صفوان وغيرهما: أن عمر قدم فنزل في دار ابن سباع، فقال يا أبا عبد الرحمن: صل بالناس المغرب، فصليت وراءه، وكنت أول من صلى وراءه حين وضع، ثم قال: فأحسست عمر وقد صليت ركعة فصلى ورائي ما بقي. أهـ. فكلمة (حين وضع) في رواية عبد الرزاق هذه هي التي غيرها سليم بن مسلم بقوله: (حين رد في موضعه هذا) . وسليم بن مسلم غير مأمون على عقيدته ولا على الحديث كما بينه الأئمة. قال العقيلي في "الضعفاء": حدثنا محمد، قال حدثنا عباس، قال سمعت يحيى ذكر سليم بن مسلم المكي، فقال: كان ينزل مكة، وكان جهميًا خبيثْا. وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكين": سليم
(1) ضبط الحافظ الذهبي سليم بن مسلم في (المشتبه) بفتح السين وقال: (واه) .
ابن مسلم الخشاب متروك الحديث. أهـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "لسان الميزان": سليم بن مسلم المكي الخشاب الكاتب عن ابن جريج، قال ابن معين: جهمي خبيث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئًا. قال الحافظ وقال أبوحاتم في ترجمة سليم: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بقوي. وقال مرة: متروك. أهـ المراد من كلام الحافظ في "لسان الميزان".
(الخامس) : مما استدلوا به ما ذكره الأزرقي في "تأريخ مكة" بعد ما ساق حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في وجه الكعبة حذر الطرقة البيضاء. روى عن جده أنه قال: قال داود: وكان ابن جريج يشير لنا إلى هذا الموضع، ويقول: هذا الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الموضع الذي جعل فيه المقام حين ذهب به سيل أم نهشل إلى أن قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرده إلى موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وبعض خلافة عمر رضي الله عنه إلى أن ذهب به السيل.
والجواب عن هذا أن ما ذكره الأزرقي عن ابن جريج يخالف ما صح عن مشايخ ابن جريج عطاء وغيره من رواية ابن جريج عنهم، فقد تقدم أن عبد الرزاق روى في "مصنفه" بسند صحيح أنهم قالوا: إن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن (1) .
(1) لفظ (المصنف) : عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون: أن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة. أهـ.
(السادس) : مما استدلوا به ما رواه الأزرقي في "تأريخ مكة" قال: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير بن المطلب ابن أبي وداعة السهمي، عن أبيه (1) عن جده، قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب باب السيل، قال فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقال له سيل أم نهشل، وإنما سمي بأم نهشل أنه ذهب بأم نهشل إبنة عبيدة بن أبي أحيحة سعيد ابن العاص فماتت فيه، فاحتمل المقام من موضعه هذا فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتى به فربطه إلى أستار الكعبة في وجهها، وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل عمر فزعًا فدخل بعمرة في شهر رمضان وقد غبي موضعه وعفاه السيل، فدعا عمر بالناس فقال أنشد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب (2)
بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى
(1) كثير بن المطلب قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب": مقبول، وحديث ذوي هذه المرتبة يكتب للاعتبار لا للاحتجاج كما في "تدريب الراوي - للسيوطي".
(2)
هكذا في رواية كثير عند الأزرقي: أن أباه هو الذي قاس ذلك. وفي رواية مجاهد عند ابن سعد أن الذي قاسه أبورداعة السهمي والد المطلب. وعند ابن الجوزي في تاريخ عمر بن الخطاب أن الذي قاسه رجل من آل عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وهذا اضطراب يوجب ترك الروايات المتعلقة بالقياس. والاقتصار فيما جرى في شأن المقام على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي أخره أول مرة مراعاة لمصلحة الطائفين، ثم ذهب به السيل فأعاده إلى ذلك الموضع الذي أخره إليه أول مرة: فإن هذا هو الذي تأكدنا ثبوته..
باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط وهو عندي في البيت.
فقال له عمر: فاجلس عندي وأرسل إليها، وأتي بها، فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا، فسأل الناس وشاورهم، فقالوا نعم هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر رضي الله عنه وحق عنده أمر به فاعلم ببناء ربضه تحت المقام ثم حوله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم. أهـ.
والجواب عنه أن المراد بالموضع المذكور في هذا الخبر الموضع الذي وضعه فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول مرة، وهو الذي سأل عنه ليضعه فيه المرة الثانية، بدليل رواية ابن أبي حاتم المتقدمة عن أبيه، عن ابن أبي عمر العدني، عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) الآية: قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه - الخبر المتقدم.
(السابع) : مما استدلوا به ما رواه الأزرقي في "أخبار مكة" قال: حدثني ابن أبي عمر، قال حدثنا ابن عيينة، عن حبيب بن أبي الأشرس، قال: كان سيل أم نهشل قبل أن يعمل عمر الردم بأعلى مكة، فاحتمل المقام من مكانه فلم يدر أين موضعه، فلما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل من يعلم موضعه، فقال المطلب ابن أبي وداعة أنا يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته وذرعته بمقاط وتخوفت عليه هذا من الحجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه
الكعبة إليه، فقال: إيت به، فجاء به فوضعه في موضعه هذا، وعمل عمر الردم عند ذلك. قال سفيان: فذلك الذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن المقام كان عند سقع البيت، فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن، وأما ما يقول الناس إنه كان هناك موضعه فلا. قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن أبي الأشرس هذا لا أميز أحدهما عن صاحبه.
والجواب عن هذا: أن ما ذكره ابن أبي الأشرس وذكر عمرو بن دينار نحوه من سؤال عمر عن موضع المقام لا يدل على أن مراد عمر موضع المقام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ بل الذي دلت عليه رواية ابن أبي حاتم المتقدمة عن سفيان بن عيينة أن سؤال عمر رضي الله عنه إنما هو عن الموضع الذي وضعه فيه أول مرة ليضعه فيه المرة الثانية.
مع أن أمر حبيب بن أبي الأشرس هين؛ لأنه لا يحتج به. قال البخاري في "التأريخ الصغير": قال: أحمد: متروك. وقال في "الضعفاء الصغير": منكر الحديث. وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكين": حبيب بن حسان وهو حبيب بن أبي الأشرس كوفي متروك الحديث. قال العقيلي في "الضعفاء": حدثنا محمد بن زكريا، قال حدثنا محمد بن المثنى، قال: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن حدثا عن سفيان عن حبيب بن حسان بن أبي الأشرس شيئًا. حدثنا محمد بن عيسى، قال حدثنا عباس بن محمد، قال: سمعت يحيى بن معين، قال: حبيب بن أبي الأشرس كوفي، ليس حديثه بشيء، وقال في موضع آخر: حبيب بن حسان ليس بثقة،
وكانت له جاريتان نصرانيتان فكان يذهب معهما إلى البيعة. وقال في موضع آخر. حبيب بن حسان بن الأشرس هو حبيب بن هلال، ليس بشيء. حدثنا الخضر بن داود، قال حدثني أحمد بن محمد ابن هانيء، قال سألت أبا عبد الله وذكر حبيب بن حسان فقال: متروك الحديث. حدثني آدم بن موسى، قال سمعت البخاري قال: حبيب بن حسان الكوفي هو حبيب بن أبي الأشرس منكر الحديث. أهـ كلام العقيلي. وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": قريء على العباس بن محمد الدوري، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب بن حسان بن أبي الأشرس وهو حبيب بن هلال روى عنه مروان الفزاري وليس بثقة، وقال: سمعت أبي يقول: حبيب بن حسان موجه صالح البغدادي وليس بقوي، منكر الحديث أحيانًا. أهـ وقال ابن حبان في "كتاب المجروحين" في حبيب بن أبي الأشرس: منكر الحديث جدًا، وكان قد عشق امرأة نصرانية، وقد قيل أنه تنصر وتزوج بها، وأما اختلافه على البيعة من أجلها فصحيح. مكحول سمعت جعفر بن أبان يقول: سئل يحيى بن معين وأنا شاهد عن حبيب بن حسان، فقال: ليس بثقة، كان يذهب مع جاريتين له إلى البيعة. أهـ. وفي "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمة حبيب بن أبي الأشرس، قال أبوداود: ليس حديثه بشيء، روى عنه سفيان ولا يصرح به.
وقال أبوبكر ابن عباس: لو عرف الناس حبيب بن حسان لضربوا على بابه الختم. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوأحمد الحاكم. ذاهب الحديث. أهـ.
وأما رواية الأزرقي عن عروة أنه قال: فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن. الخ.
فيعارضها ما روى عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر، عن هشام ابن عروة، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون سقع البيت، حتى صلى عمر خلف المقام، وما روى ابن أبي زرعة، عن أبي ثابت، عن عبد العزيز الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه. أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولاشك في أنه إذا وقع التعارض بين رواية أبي الوليد الأزرقي مؤرخ مكة وبين روايتي عبد الرزاق وابن أبي حاتم تقدم رواية عبد الرزاق وابن أبي حاتم على رواية أبي الوليد الأزرقي مؤرخ مكة؛ لأنهما يحملان شهادات أئمة الحديث في زمانهما بالإمامة في الحديث. وأما أبوالوليد الأزرقي مؤرخ مكة. فلم نر شهادة أي معاصر له، ولم يرها قبلنا الفاسي على سعة اطلاعه، ولذلك يقول في "العقد الثمين": لم أر من ترجمة، وإني لأعجب من ذلك. وأما الذين لم يعاصروه فأقدم من رأيناه تعرض له منهم ابن النديم صاحب "الفهرست" قال فيه بعد ذكر نسبه: أحد الأخباريين وأصحاب السير، وله من الكتب "كتاب مكة" وأخبارها وجبالها وأوديتها كتاب كبير. أهـ. وهذا لا يغني شيئًا؛ لأمرين:
"أحدهما": أن الغالب على الأخباريين والسيريين عدم الاعتناء بالروايات، وفي ذلك يقول الحافظ العراقي في "ألفية السيرة":
وليعلم الطالب أن السيرا
…
تجمع ما صح وما قد أنكرا
"الثاني": أن "ابن النديم" قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان": هو غير موثوق به، ومصنفه المذكور يعني "الفهرست"
ينادي على مصنفه بالاعتزال والزيغ، نسأل الله السلامة، ثم قال الحافظ: لما طلعت كتابه ظهر لي أنه رافضي معتزلي؛ فإنه يسمى أهل السنة الحشوبة، ويسمى الأشاعرة المجبرة، ويسمى كل من لم يكن شيعيًا عاميًا، وذكر في ترجمة الشافعي شيئًا مختلقًا ظاهر الافتراء. أهـ. ومراد الحافظ بذلك الشيء المختلق الظاهر الافتراء قول ابن النديم في "الفهرست" ص294-295: بخطه يعني أبا القاسم الحجازي أيضًا: قرأت، قال ظهر رجل من بني أبي لهب بناحية المغرب، فحمل إلى هارون الرشيد ومعه الشافعي، فقال الرشيد للهبي: سمت بك نفسك إلى هذا. قال: وأي الرجلين كان أعلى ذكرًا وأعظم قدرًا جدي أم جدك، أنت ليس تعرف قصة جدك وما كان من أمره، وأسمعه كل ما كره لأنه استيل. قال فأمر بحبسه، ثم قال للشافعي: ما حملك على الخروج معه، قال: أنا رجل أملقت وخرجت أضرب في البلاد طلبًا للفضل، فصحبته لذلك، فاستوهبه الفضل بن الربيع فوهبه، فأقام بمدينة السلام مدة، فحدثنا محمد ابن شجاع الثلجي قال كان يمر بنا في زي المغنين على حمار وعليه رداءً محشًا وشعره مجعد. ثم وصف ابن النديم الشافعي بشدة التشيع، وذكر حكاية عن آخرين من نوع الإفتراء الذي ذكر أولا.
ثم بعد ابن النديم الحافظ عبد الكريم بن محمد السمعاني صاحب كتاب "الأنساب" قال في "الأنساب": الأزرقي هو أبوالوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي صاحب كتاب "أخبار مكة" وأحسن في تصنيف ذلك الكتاب غاية الإحسان، روى عن جده ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني وغيرهما، روى عنه
أبو محمد إسحاق بن أحمد بن نافع الخزاعي أهـ. وليس في هذا كبير فائدة من ناحية ترجمة أبي الوليد الأزرقي؛ لأن في إمكان كل من نظر في كتابه "أخبار مكة" أن يتحصل على مشايخه وعلى من روى ذلك الكتاب عنه؛ لأن جميع ذلك موجود في أخبار مكة، ومجرد كلمة روى فلان عن فلان، وروى عنه فلان، وأخرج له فلان: لا يروي الغلة، ولا يشفي العلة، كما بينها الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة كتابه:"تهذيب التهذيب".
وأما ثناء السمعاني على كتاب "أخبار مكة" فلا يوصله إلى درجة تقديم ما فيه على ما في مصنفات الإمامين الشهيرين: عبد الرزاق وابن أبي حاتم.
ثم بعد ابن السمعاني الإمام النووي قال في الكلام على حجر إسماعيل عليه السلام: قد وصفه الإمام أبوالوليد الأزرق في "تاريخ مكة" فأحسن وأجاد. وقد بحثنا عن قول النووي هذا فوجدناه يعتقد في مؤرخ مكة أنه هو جده الإمام أحمد بن محمد ابن الوليد الأزرقي، بدليل قوله في "المجموع" ج7 ص464 بعد ذكر حدود الحرم: هكذا ذكر هذه الحدود أبوالوليد الأزرقي (1) في كتاب مكة، وأبوالوليد هذا أحد أصحاب الشافعي الآخذين عنه الذين رووا عنه الحديث والفقه. وقد نبه العلامة الفاسي في "العقد
(1) وعلى أساس اعتقاد النووي أن مؤرخ مكة هو أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي الامام اعتبر في "تهذيب الأسماء واللغات" وما ذكره الأزرقي من أن موضع المقام الذي هو فيه الآن هو موضعه في الجاهلية وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض خلافة عمر، ورده إليه عمر حين ما ذهب به السيل في خلافته.
الثمين" على وهم الإمام النووي في هذا، قال: وهم النووي في قوله في "شرح المهذب" بعد أن ذكر في حدود الحرم نقلا عن "أبي الوليد الأزرقي" هذا: أنه أخذ عن الشافعي وصحبه وروي عنه، وإنما كان ذلك وهمًا لأمرين. أحدهما أن الذين صنفوا في طبقات الفقهاء الشافعية لم يذكروا في أصحاب الشافعي إلا أحمد بن محمد بن الوليد جد أبي الوليد هذا. والأمر الثاني أو أن أبا الوليد هذا روى عن الإمام الشافعي لأخرج عنه في تاريخه، لما له من الجلالة والعظمة كما أخرج عن جده وابن أبي عمر العدني وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عم الإمام الشافعي. ثم قال الفاسي: والسبب الذي أوقع النووي في هذا الوهم أن أحمد الأزرقي جد أبي الوليد هذا يكنى بأبي الوليد فظنه النووي هو، والله أعلم. وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكلام النووي فإنه ممن يعتمد عليه، وهذا مما لا ريب فيه. أهـ المراد من كلام الفاسي.
وأما تأريخ وفاة مؤرخ مكة الأزرقي فقد بيض السمعاني في الأنساب لما بعد المائتين منها، وتعرض لتاريخ وفاته بعده محمد بن عمر بن عزم التونسي، وصاحب كشف الظنون، وصاحب هداية العارفين؛ لكن أخطأوا فيها، وبيان ذلك فيما يلي:
أما محمد بن عمرو بن عزم فيقول في "دستور الأعلام بمعارف الأعلام": الأزرقي إلى جده الأزرق صاحب "تاريخ مكة" محمد ابن عبد الله بن أحمد سنة مائتين وأربع، وجده أحمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمر بن الحارث بن أبي شمر الغساني المكي، روى
عن سفيان بن عيينة وداود بن عبد الرحمن العطار، وروى عنه حفيده سنة مائتين واثنى عشر. أهـ. وهذا غير صحيح: لا من ناحية الجد، ولا من ناحية الحفيد. أما الجد فلأنه حدث بواقعة بعد تاريخ مائتين واثنى عشر، ففي الجزء الأول من تاريخ الحفيد ص194 ما نصه: قال أبو الوليد: قال قال جدي: أول من أثقب النفاطات بين الصفا والمروة في ليالي الحج وبين المأزمين - ماء زمي عرفة - أمير المؤمنين إسحاق المعتصم بالله طاهر بن عبد الله ابن طاهر سنة تسع عشرة ومائتين فجرى ذلك إلى اليوم (1) أهـ. وأما الحفيد مؤرخ مكة فقد وجدناه حدث بحادث سنة ثلاث وأربعين ومائتين، ففي الجزء الأول من تاريخه ص171 ما نصه: قال أبوالوليد: أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله بإذالة (2) القميص القباطي حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكعبة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين. أهـ.
وأما صاحب "كشف الظنون" فقد قال في الكلام على تواريخ مسكة: الإمام أبوالوليد محمد بن عبد الكريم المتوفي سنة ثلاث وعشرين مائتين. أهـ. وهذا غلط في اسم والد مؤرخ مكة؛ فإن اسمه عبد الله، لا عبد الكريم، وغلط في تأريخ وفاته، لما تقدم في الرد على التونسي.
وقد تبع صاحب "كشف الظنون" في الغلط التأريخي إسماعيل في "هداية العارفين". وتنبه الكناني لغلط صاحب "كشف الظنون"
(1) حرر الحافظ الذهبي أن وفاة جد أبي الوليد كانت سنة أثنتين وعشرين ومائتين كما في "طبقات الشافعية" لابن السبكي.
(2)
الاذالة بالذال المعجمة الاسبال.
في تأريخ وفاة أبي الوليد الأزرق: ذكر عنه في الرسالة المستطرفة أنه أرخ وفاته بسنة ثلاث وعشرين ومائتين، ثم قال: لكن جده - أي جد أبي الوليد - أحمد المذكور ذكر في "التقريب" أنه توفي سنة سبع عشرة، وقيل إثنتين وعشرين ومائتين. فيبعد عليه أن يكون حفيده مؤرخ مكة توفي في السنة المذكورة، أو لا يصح ذلك بالكلية ولم يذكر الكناني من ناحية الأزرقي شيئًا يجدي.
لماذا أخر عمر بن الخطاب المقام
علل تأخير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه المقام بأربعة أشياء، نذكرها مع الكلام عليها:
1-
خشية عمر لما كثر الناس أن يطئوه بأقدامهم، لما رواه الفاكهي كما في "شفاء الغرام" ج1 ص307 قال: حدثنا الزبير ابن أبي بكر، قال حدثنا يحيى بن محمد بن ثوبان، عن سليم، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه قال: كان المقام في وجه الكعبة، وإنما قام إبراهيم عليه حين ارتفع البيت فأراد أن يشرف على البناء، قال: فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطئوه بأقدامهم فأخره إلى موضعه الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة. أهـ.
وهذا في سنده سليم بن مسلم الراوي عن ابن جريج، وقد تقدم أنه جهمي خبيث متروك الحديث.
2-
مما علل تأخير عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقام إبراهيم عليه السلام عن موضعه الأول رده إلى الموضع الذي كان فيه في عهد النبوة. وقد بينا فيما تقدم أن صريح ما يستند إليه هذا التعليل
غير صحيح، وغير الصريح يفسره ما تقدم عن سفيان بن عيينة، أنه قال: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد قوله تعالى:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه، فإن هذا يدل على أن عمر إنما رده إلى الموضع الذي وضعه فيه أول مرة.
3-
مما علل به تأخير عمر بن الخطاب رضي الله عنه المقام رده إلى موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، لما في رواية المدونة المتقدمة بلفظ: فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. أهـ.
وهذا تعارضه رواية الفاكهي عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في سياق قصة بناء البيت بلفظ: فلما بلغ - أي إبراهيم عليه السلام الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت (1) . كما يعارضه ما ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ج8 ص137 فلي باب (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) من كتاب التفسير قال: كان
(1) ذكر هذه الرواية الحافظ بن حجر في "فتح الباري ج6 ص314" ضمن زيادات رواية عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، على الرواية التي ذكرها البخاري في صحيحه، ولم يتعقبها الحافظ، وشرطه فيما يورده في "فتح الباري" من الزيادات على متن الصحيح التي من هذا النوع أن يكون صحيحًا أو حسنًا، كما بينه في مقدمة فتح الباري ج1 ص3.
المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عصاء وغيره، وعن مجاهد أيضًا. أهـ. فهاتان الروايتان هما المانعتان من قبول ما في رواية المدونة (1) .
ولا يقال. إن رواية المدونة تتأيد برواية ابن الجوزي في "تأريخ عمر بن الخطاب" في باب ذكر ما خص به في ولايته مما لم يسبق إليه عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كان مقام إبراهيم لاصقًا بالكعبة حتى كان زمن عمر بن الخطاب، فقال عمر: إني لأعلم ما كان موضعه هنا ولكن قريش خافت عليه من السيل فوضعته هذا الموضع، فلو أني أعلم موضعه الأول لأعدته فيه، فقال رجل من آل عايذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. أنا والله يا أمير المؤمنين أعلم موضعه الأول، كنت لما حولته قريش أخذت قدر موضعه الأول بحبل وضعت طرفه عند ركن البيت الأول أو الركن أو الباب، ثم عقدت في وسطه عند موضع المقام، فعندي ذلك الحيل، فدعا عمر بالحبل فقدروا به، فلما عرفوا موضعه الأول أعاده عمر فيه، قال عمر. إن الله عز وجل يقول:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) .
فإن هذه الرواية يمنع من اعتبارها أن ابن الجوزي لم يذكر سندها إلى عبد الرحمن بن أبي الزناد، وما في عبد الرحمن بن أبي الزناد من المقال، ففي "الجرح والتعديل": حدثنا عبد الرحمن، حدثنا
(1) لا اعتراض علينا في قبول ما وافق الروايات المثبتة أن أول من أخر المقام عن موضعه الأول عمر بن الخطاب رضي الله عنه من رواية المدونة، عدم قبولنا ما فيها من أن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، فإن ذلك طريقة معروفة عند أئمة العلم.
محمد بن إبراهيم، قال سمعت عمرو بن علي، قال: كان عبد الرحمن حدثنا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: عبد الرحمن بن أبي الزناد؟ قال: مضطرب الحديث. حدثنا عبد الرحمن قريء على العباس بن محمد النوري، عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن أبي الزناد دون الدراوردي لا يحتج بحديثه. حدثنا عبد الرحمن، سئل أبي: عبد الرحمن بن أبي الزناد؟ فقال: يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إلي من عبد الرحمن بن أبي الرجال ومن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. حدثنا عبد الرحمن، قال: سألت أبا زرعة عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وورقاء، والمغيرة ابن عبد الرحمن، وشعيب بن أبي حمزة: من أحب إليك ممن يروى عن أبي الزناد؟ قال: كلهم أحب إلي من عبد الرحمن بن أبي الزناد. أهـ. ما في "الجرح والتعديل". وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكين": عبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف. أهـ. وفي كتاب "المجروحين" لابن حبان في ترجمة عبد الرحمن بن أبي الزناد: أنه كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات، قال: وكان ذلك من سوء حفظه وكثرة خطئه فلا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. وفي "الميزان": أن من مناكيره حديث "من كان له شعر فليكرمه" وحديث "الهرة من متاع البيت".
ومما يمنع اعتبار رواية ابن أبي الزناد المذكورة ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد، عن مجاهد، قال: كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه عافية السيول، وكانوا يطوفون خلفه،
فقال عمر للمطلب بن أبي وداعة السهمي: هل تدري أين كان موضعه الأول. قال: نعم. قدرت ما بينه وبين الحجر الأسود، وما بينه وبين الباب. وما بينه وبين زمزم، وما بينه وبين الركن عند الحجر. قال تأتي بمقداره، فجاء بمقداره فوضعه موضعه الأول. أهـ.
فإن في هذه الرواية أن الذي دل عمر بن الخطاب على موضعه الأول سهمي لا مخزومي، وهذا أشهر من رواية ابن الجوزي عن ابن أبي الزناد.
4-
مما علل به تأخير عمر المقام مخافة التشويش على الطائفين قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة - أي سنة ثمانية عشر - في ذي الحجة منها حول عمر منها المقام، وكان ملصقًا بجدار الكعبة، فأخره إلى حيث هو الآن، لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين. نقله عن الواقدي وغيره الحافظ ابن كثير في الجزء السابع من تاريخه "البداية والنهاية" ص93. ثم قال الحافظ ابن كثير: قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد والمنة. أهـ. وإلى هذه العلة مال الحافظان: ابن كثير في التأريخ. وابن حجر في "فتح الباري" في كتاب التفسير، قال ابن كثير في التاريخ المذكور ج1 ص164: قد كان هذا الحجر.. أي مقام إبراهيم عليه السلام ملصقًا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخره عن البيت قليلاً لئلا يشغل المصلون عنده الطائفين بمبيت. وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ج8 ص137: كان عمر رأى أن إبقاءه - أي مقام إبراهيم عليه السلام يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين، فوضع في مكان يرتفع به الحرج. أهـ.
حكم تأخير المقام اليوم نظراً للحرج
أثبتنا فيما تقدم أن مقام إبراهيم عليه السلام كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر الصديق وبعض خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سقع البيت، ثم أخره عمر أول مرة مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة. ومادام الأمر كذلك، فلا مانع من تأخير المقام اليوم عن ذلك الموضع إلى موضع آخر في المسجد الحرام يحاذيه ويقرب منه. نظرًا إلى ما ترتب اليوم على استمراره في ذلك الموضع من حرج أشد على الطائفين من مجرد التشويش عليهم الذي حمل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أن يؤخره عن الموضع الذي كان فيه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر خلافة عمر. وبتأخيره نظرًا لما ذكرنا نكون مقتدين بعمر بن الخطاب المأمور بالاقتداء به ونرفع الحرج من ناحية أخرى عن الأمة المحمدية التي دلت النصوص القطعية على رفع الحرج عنها، قال الشاطبي في "الموافقات": إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع. كقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)(1) وسائر ما يدل على هذا المعنى كقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(2) وقوله: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)(3) وقوله تعالى: (ما كان على النبي من حرج في ما فرض الله له)(4)
(1) سورة الحج آية 78.
(2)
سورة البقرة - آية 185.
(3)
سورة النساء - آية 28.
(4)
سورة الأحزاب - آية 38.
وقوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(1) قال الشاطبي: وقد سمي هذا الدين الحنيفية السمحة لما فيه من التسهيل والتيسير، وأطال الشاطبي في ذلك، وذكر أن قصد الشارع من مشروعية الرخص رفع الحرج عن الأمة. وقال السيوطي في "الأكليل": قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) هو أصل القاعدة: المشقة تجلب التيسير.
وقال أبوبكر ابن العربي في "أحكام القرآن" في تفسير الآية الكريمة (وما جعل عليكم في الدين من حرج) قال: كانت الشدائد والعزائم في الأمم فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحد قبلها. وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر. عن قتادة في قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) قال من ضيق، وقال: أعطيت هذه الأمة ثلاثًا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي اذهب فليس عليك حرج، وقد قال الله تعالى:(وما جعل عليكم في الدين من حرج) ويقال للنبي. أنت شهيد على قومك، وقال الله تعالى:(لتكونوا شهداء على الناس)(2) ويقال للنبي: سل تعط، وقال الله تعالى:(أدعوني أستجب لكم) . أهـ.
وفي كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ما يدل على أن تأخير عمر بن الخطاب المقام عن موضعه الأول إلى موضعه اليوم من قبيل رفع الحرج عن الأمة، ونصه (ج8 ص137) : كان عمر رأى أن إبقاءه - أي مقام إبراهيم عليه السلام في الموضع
(1) سورة الأعراف - آية 157.
(2)
سورة الحج - آية 78.
الأول يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين، فوضع في مكان يرتفع به الحرج. أهـ.
ومثل نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شأن المقام إلى رفع الحرج نظره إليه أيضًا في شأن المطاف حينما كثر الناس فوسعه وتبعه في ذلك عثمان، ففي "الأحكام السلطانية" للماوردي ما نصه: كان أي المسجد الحرام فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه جدار يحيط به، فلما استخلف عمر رضي الله عنه وكثر الناس وسع المسجد، واشترى دورًا هدمها وزادها فيه، وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا، ووضع لهم الأثمان حتى أخذوها بعد ذلك، واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، وكان عمر رضي الله عنه أول من اتخذ جدارًا للمسجد، فلما استخلف عثمان رضي الله عنه ابتاع منازل فوسع بها المسجد، وأخذ منازل قوم ووضع لهم أثمانها، فضجوا منه عند البيت، فقال إنما جرأكم على حلمي عنكم، فقد فعل بكم عمر رضي الله عنه هذا فأقررتم ورضيتم، ثم أمر بهم إلى الحبس حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسد فخلى سبيلهم، وبنى للمسجد الأروقة. فكان عثمان رضي الله عنه أول من اتخذ للمسجد الأورقة. أهـ. المراد من كلام الماوردي في الأحكام السلطانية. وهو آخر البحث. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
(الختم)
(وطبعت هذه الفتوى مع نصيحة الإخوان في مكة دار الثقافة للطباعة والزنكوغراف)
نصيحة الاخوان
ببيان بعض ما في نقض المبان لابن حمدان من الخبط والخلط والجهل والبهتان
تأليف
صاحب السماحة مفتي الديار السعودية
الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: - فإني لما اطلعت على تعقيب الشيخ سليمان بن حمدان على رسالة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في موضوع نقل المقام وجدت في ذلك التعقيب مما لا يليق ما يلي: -
1-
تأسيس بحثه على أسس غير متينة: كدعواه أن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام ولم يزل فيه إلى أن جعلته قريش في سقع البيت مخافة السيل، ودعواه اتفاق الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أخر المقام عن سقع البيت يوم الفتح إلى الموضع الذي هو فيه اليوم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل ركعتي الطواف خلف المقام قبل حجة الوداع، وأن من السلف من فسر المقام بالبقعة التي خلف المقام في موضعه اليوم، وبنى على ذلك أنه لو انتقل المقام تعينت الصلاة خلفه في الموضع الأول لا في الموضع الأخير، وأن تقديم الطائفين في آيتي تطهير البيت ليس للأهمية.
2-
مهاجمته الروايات التي لا تؤيد أساسًا من هذه الأسس التي سلكها: تارة بالطعن في رواتها ومصححيها من الأئمة (1) . وتارة بحملها على غير محملها، وتارة بدعوى الشذوذ فيها.
3-
ترفيع الأزرقي - أبي الوليد مؤرخ مكة - على إمامي المغازي والسير محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر الواقدي.
4-
دعوى أن كلمة "المفتى الأكير" عند الإطلاق لا تنصرف إلا إلى الله عز وجل، ففي إطلاقها على المخلوق منازعة الرب في الأكبرية.
5-
محاولته تضليل المعلمي وإخراجه عن دين الإسلام بدعاوي لم نجد لها مبررًا في كلام المعلمي، وإلزامات لا تستلزمها عبارات المعلمي ولا يرتضيها. لهذا كله أرشدت الشيخ سليمان بن حمدان إلى أن لا ينشر تعقيبه مادام بهذا الوضع. فلم يكن منه بدل قبول إرشادي إلا أن بادر إلى طبعه وتوزيعه دون أن يغير شيئًا مما ذكرناه.
وبناء على ذلك رأيت من الواجب أن أقو بكتابة رد على تعقيبه مرتب على تسعة فصول: الفصل الأول - فيما طعن في رواته ومصححيه من الروايات، والجواب عنه. الفصل الثاني - فيما حمله من الروايات على غير محمله، والجواب عنه. الفصل الثالث - في فيما ادعى فيه الشذوذ من الروايات، وتزييف دعواه. الفصل الرابع
(1) من هذا القبيل: اتهامه مشايخ ابن جريج عطاء وغيره من سادات التابعين بالكذب، ومالك بن أنس بأن ما رواه في شأن المقام إنما تكلم به على سبيل الظن وقد أخطأ فيه، وتصريحه بأن عبد الرزاق تصرف تصرفًا محرمًا محيلاً للمعنى في بعض نصوص المقام، وبأن النسائي - متساهل. وطعنه في ابن كثير بأنه مقلد للمؤرخين الذين لا يعرفون الصحيح من السقيم، وفي ابن حجر صاحب فتح الباري بأنه مقلد لابن كثير تقليدًا أعمى وغير ذلك. وستأتيك العبارات المتضمنة لذلك إن شاء الله.
فيما عزاه إلى بعض السلف الصالح في تفسير المقام، والجواب عنه.
الفصل الخامس - في رد دعواه اتفاق الروايات على أن أول من حول المقام عن سقع البيت النبي صلى الله عليه وسلم.
الفصل السادس - في رد كلامه في آيتي تطهير البيت.
الفصل السابع - في الرد على ترفيعه الأزرقي على ابن إسحاق والواقدي.
الفصل الثامن - في ذكر كلامه حول لفظة "المفتي الأكبر" والرد عليه.
الفصل التاسع - في ذكر دعاواه الشنيعة حول المعلمي، والجواب عنها. ولم يحملني على كتابة هذا الرد إلا إحقاق الحق وإبطال الباطل، وهذا أوان الشروع في المقصود. فأقول وبالله التوفيق:
فصل: في ما طعن في رواته
من الروايات، والجواب عنه
سلك صاحب النقض مسلك الطعن فيمن روى أو صحح ما يخالف رأيه في المقام، وقع ذلك منه في عدة روايات نذكرها مع الإجابة عنها.
أولها: رواية الإمام الشهير عبد الرزاق عن ابن جريج، قال حدثني عطاء وغيره من أصحابنا، قالوا: أول من نقله - أي المقام - عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال صاحب النقض ص: 114 أنكره - أي هذا الحديث - ابن جريج راويه بقوله: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من رفع المقام، كما جاء مصرحًا به في رواية ابن أبي عروبة من طريق عبد الرزاق نفسه، فاختصر ذلك عبد الرزاق في مصنفه بعد اختلاطه بحذف "يزعمون"، وهو تصرف يحيل المعنى، فلا تجوز رواية ذلك عن ابن جريج. إلا مقرونة بإنكاره، لأن الزعم قول يكون مظنة الكذب) . وقال في
نفس الصفحة: (فأما قول عطاء ومن وافقه على رأيه فلم يستند فيه إلى دليل؛ بل هو مجرد رأي، والرأي لا يعد علمًا، ولا يدخل في حده، لأن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل. والرأي ليس من ذلك، فلا يصلح أن يكون حجة) .
هكذا قال صاحب النقض. ولا يخفى ما في عبارته من التحامل على عطاء وغيره من مشائخ ابن جريج، وعلى عبد الرزاق. والجواب عما ذكره من وجوه:
"أولها": أن قول ابن جريج في الرواية التي ذكرها صاحب النقض: (يزعمون) لا يعني به ابن جريج اتهام عطاء وغيره من مشائخه بالكذب كما توهمه صاحب النقض حاشاه من ذلك، وإنما ذلك من استعمال الزعم في القول المحقق، وهو كثير في الأحاديث. من أمثلته ما روى البخاري في صحيحه في "باب إذا حرم طعامًا، وقوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) قال البخاري: حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة تزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زبيب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً" الحديث في سبب نزول الآية المذكورة، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" في كلامه على هذا الحديث: أن أهل الحجاز يطلقون الزعم بمعنى القول.
ومع هذا فمشائخ ابن جريج من التابعين الذين نقل صاحب النقض في نقضه ص41 عن ابن القيم أن الكذب لم يكن معروفًا فيهم، فلا ندري كيف ينقل ذلك هناك عن ابن القيم، ثم يستجيز
هنا أن مشائخ ابن جريج من التابعين كذبوا وتبرأ منهم ابن جريج، لا لشيء سوى أنهم رووا ما يخالف رأيه في المقام. وممن سبق العلامة ابن القيم إلى ما نقله صاحب النقض عنه من تبرئة التابعين من الكذب الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" قال ص9: "أنا محمد بن يحيى، أنا العباس بن الوليد النرسي، نايزيد ابن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة في قوله عز وجل:(والذين اتبعوهم بإحسان)(1) : التابعين، فصاروا برضوان الله عز وجل لهم وجميل ما أثنى عليهم بالمنزلة التي نزههم الله بها عن أن يلحقهم مغمز أو تدركهم وصمة؛ لتيقظهم وتحرزهم وتثبتهم، ولأنهم البررة الأتقياء الذين ندبهم الله عز وجل لإثبات دينه وإقامة سنته وسبله، فلم يكن لاشتغالنا بالتمييز بينهم معنى، إذ كنا لا نجد منهم إلا إمامًا مبرزًا مقدمًا في الفضل والعلم ووعي السنن وإثباتها، ولزوم الطريقة واحتبائها، رحمة الله ومغفرته عليهم أجمعين؛ إلا ما كان ممن ألحق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس يلحقهم، ولا هو في مثل حالهم لا في فقه ولا علم ولا حفظ ولا إتقان ولا ثبت ممن قد ذكرنا حالهم وأوصافهم ومعانيهم في مواضع من كتابنا هذا، فاكتفينا بها وبشرحها في الأبواب مستغنية عن إعادة ذكرها مجملة أو مفسرة. في هذا المكان. أهـ.
"الثاني": - أن رواية (قالوا) التي اعتبرها صاحب النقض تصرفًا محرمًا محيلا للمعنى واختصارًا من عبد الرزاق ليست إلا تفسيرًا للرواية الأخرى "يزعمون" وقد اعتمد الحافظ ابن كثير في تفسيره على رواية قالوا، وعزاها إلى عبد الرزاق، فلا وجه
(1) سورة التوبة - آية 100
لتحريم الرواية بها، كما أنه لا وجه للتشكيك في روايات الإمام الشهير عبد الرزاق، فإن ذلك ليس بسهل عند المحدثين، وفيه يقول الحافظ الذهبي في الميزان في "ترجمة علي بن المديني": لو ترك حديث علي وصاحبه محمد وشيخه عبد الرزاق وعثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن سعد وعفان وأبان العطار وإسرائيل وأزهر السمان وبهز بن أسد وثابت البناني وجرير بن عبد الحميد لغلقنا الباب، وانقطع الخطاب، ولماتت الأثار، واستولت الزنادقة ولخرج الدجالون. أهـ كلام الذهبي.
"الثالث": - أن رواية "يزعمون" التي توهم صاحب النقض أنها ليست في مصنف عبد الرزاق - موجودة في المصنف، ولفظ المصنف هكذا: عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن، وإنما كان قي قُبُل الكعبة. أهـ.
"الرابع": - أن ما ذكره عطاء في شأن المقام ليس من قبيل الرأي؛ بل هو من الأخبار عن الأمور التي لا مجال للرأي فيها (1) ولاشك أن اعتماده فيما ذكره من ذلك على النقل، وقد سمع كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم من أم المؤمنين عائشة (2) التي روي عنها البيهقي بسند صحيح أنها قالت: إن المقام كان
(1) لأنه خبر عن أمر ماض، والأخبار عن الأمور الماضية لا تصل إلى من لم يشاهدها إلا بأخبار مخبر دون الاستخراج بالعقل والاستنباط بالفكر، كما بينه ابن جرير الطبري في مقدمة تاريخه ج1 ص5.
(2)
قال ابن حاتم في "الجرح والتعديل": سمعت أبي يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: قد سمع عطاء من عائشة. وقال أبي حاتم أيضًأ: سئل أبوزرعة: عطاء سمع من عائشة؟ فقال نعم. أهـ.
زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فمن الجائز أن يكون تلقى ما ذكره عن عائشة مادام أدركها وسمع منها؛ بل لو سلكنا مسلك صاحب النقض في رواية الأزرق عن ابن أبي مليكة حيث زعم أن مضمونها تلقاه ابن أبي ملكية عن ثلاثين صحابيًا الذين أدركهم لقلنا بأن عطاء أخذ ذلك عن مائتين من الصحابة الذين ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "تهذيب التهذيب" أنه سمع منهم. وعلى كل حال فكلام صاحب النقض في عطاء لا يؤثر في مكانته المعروفة عن أئمة العلم، فقد روى ابن سعد في "طبقاته" قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: أخبرنا أبوشهاب، عن ليث، عن عبد الرحمن، قال: والله ما أرى إيمان أهل الأرض يعدل إيمان أبي بكر، وما أرى إيمان أهل مكة يعدل إيمان عطاء، قال: أخبرنا الفضل بن دكين، قال حدثنا سفيان، عن سلمة، قال: ما رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله غير هؤلاء الثلاثة: عطاء، وطاووس، ومجاهد. قال أخبرنا علي بن عبد الله بن جعفر، قال حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية قال: كان عطاء يتكلم، فإذا سئل عن المسألة كأنما يؤيد.
رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" بزيادة: يعني أن الله عز وجل يؤيده ويلهمه الصواب. وأكبر من هذا ما رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" عن أبي زرعة، ناقبيصة، ناسفيان، عن عمر بن سعيد، عن أمه، قالت: قدم ابن عمر مكة فسألوه، فقال ابن عمر: تجمعون لي المسائل
وفيكم ابن أبي رياح. وذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" نحو هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
"الرواية الثانية" من الروايات التي تعرض صاحب النقض لرواتها بالطعن رواية "المدونة" و "الطراز" عن مالك، المتضمنة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وكان ملصقًا بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه وقبل ذلك، وكان قدموه في الجاهلية مخافة السيل فأخرجه إلى موضعه اليوم. كانت هذه الرواية مخالفة لدعوى صاحب النقض أن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة، فحمله ذلك على أن يقول ص35-36:(هذا الذي قاله - أي مالك - بناءٌ منه على استصحاب الحال الذي كان عليه المقام تحت البيت بوضع أهل الجاهلية، وكأنه لم يبلغه تحويل النبي صلى الله عليه وسلم للمقام من تحت البيت إلى موضعه الذي هو فيه الآن، فظن أنه مازال تحت البيت إلى أن رده عمر رضي الله عنه، ولم يبلغه أيضًا رد عمر للمقام لما حمله السيل على وجهه، فظن أن المقاط الذي أتى به المطلب وقيس به موضعه خيوط قديمة قيس بها موضعه حين حوله تحت البيت. هذا الذي يتعين حمل كلامه عليه) هذا نص نقض المباني. وفيه من نسبة التساهل إلى مالك ما لا يخفى. والذي أوجب صاحب نقض المباني حمل الرواية المذكورة عليه من أنه ظن من مالك لا تعطيه عبارتا "المدونة" و "الطراز" اللتان استند إليهما؛ فإنهما صريحتان في أن ما ذكره مالك من قبيل روايته عن غيره، لا من قبيل ظنه. وإليك عبارتيهما:
قال سحنون في "المدونة" ج2 ص211 قال: - أي ان القاسم -.
(وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وقد كان ملصقًا بالبيت في عند النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وقبل ذلك، وكان قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم (1) أهـ.
وقال الفقيه سند بن عنان المالكي في كتابه المترجم "بالطراز": وروى أشهب، عن مالك، قال: سمعت من يقول من أهل العلم: إن إبراهيم عليه السلام أقام المقام وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه وسيلم وأبي بكر رضي الله عنه وقبل ذلك، وإنما ألصق إليه لمكان السيل مخافة أن يذهب به. فلما ولي عمر - أي ابن الخطاب رضي الله عنه أخرج خيوطًا كانت في خزانة الكعبة - وقد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت في الجاهلية إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر وأخوه إلى موضعه إلى اليوم. فقول مالك في رواية "المدونة":(بلغني) وقوله في رواية الطراز:
(1) كذا في هذه الرواية. وهو مخالف لما ثبتت به الرواية وهو أن المقام كان من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن. قال الحافظ "في الفتح": أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد. كما يخالف ما في هذه الرواية رواية عثمان ابن أبي سليمان عند الفاكهي. عن سعيد بن جبير. عن ابن عباس في قصة بناء إبراهيم الخليل البيت بلفظ: (فلما بلغ - أي إبراهيم الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه. وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت. وروى الحافظ الكلاعي في "كتاب الاكتفاء" نحو ذلك عن أبي الجهم. ولذلك قدمنا ما في تلك الروايات على ما في رواية المدونة هذه من كون المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في الموضع الذي هو فيه اليوم.
(سمعت من التصاق المقام بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقياس عمر ما بين البيت وما بين المقام بالأخيوطة التي كانت في خزانة الكعبة) كل ذلك مما رواه مالك عن غيره؛ لم يتكلم فيه بالظن، وشأن مالك أرفع من أن يتكلم في أمر وقع قبل أن يخلق بظنه، فإن ذلك محض الكذب الذي لا ينسبه إلى مالك إلا من لا يعرف مكانته.
"الرواية الثالثة": من الروايات التي تعرض صاحب النقض لمن رواها وصححها بالطعن رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العدني، قال قال سفيان: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا. أهـ. حاول صاحب النقض ص111 إسقاط الاستدلال بهذا الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم في تفسيره الذي التزم فيه أصح الأحاديث، وصححه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري". وبرر صاحب النقض مخالفته لهما بأمرين مما يرجع إلى السند: أحدهما أن هذا الحديث مما حدث به سفيان ابن عيينة بعد اختلاطه. الثاني: تجويز كون هذا الحديث هو الحديث الموضوع الذي قال أبوحاتم رآه عبد العدني حدث به عن ابن عيينة، وصرح صاحب النقض بأن نسبة هذا الحديث إلى
سفيان لا تصح. ولا يخفى ما في كلامه هذا من قلة المبالاة بتصحيح ابن أبي حاتم، وابن حجر العسقلاني، والتحامل على سفيان بن عيينة. والجواب عما ذكر بما يلي: -
أما دعوى اختلاط "سفيان بن عيينة": فمستندها ما رواه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن يحيى بن سعيد القطان، قال: أشهد أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه فيها فسماعه لا شيء. وهذا المستند استبعده الذهبي في "الميزان" وعده غلطًا من ابن عمار، معللاً ذلك بأن القطان مات في صفر سنة ثمان وتسعين وقت قدوم الحاج ووقت تحدثهم عن أخبار الحجاز. قال: فمتى تمكن يحيى بن سعيد من أن يسمع اختلاط سفيان ثم يشهد عليه بذلك والموت قد نزل به، ثم قال الذهبي: فلعله بلغه ذلك في أثناء سنة سبع؛ مع أن يحيى متعنت في الرجال جدًا، وسفيان ثقة مطلقًا. قال: ويغلب على ظني أن سائر شيوخ الأئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع.. ووافق الذهبي على استبعاد رواية ابن عمار الحافظ العراقي في "التقييد والإيضاح" و"طرح التشريب". وصحح رواية ابن عيينة المذكورة الحافظ ابن حجر في تفسيره الذي التزم فيه الأصح.
وأما قول صاحب النقض: (لعل الحديث الموضوع الذي رآه أبوحاتم عند العدني هو هذا) أي حديث المقام، فيرده أنه ليس من المعقول أن يعبر أبوحاتم العدلي برؤية حديث موضوع (1) عنده
(1) فإنه قال فيه: كان رجلاً صالحًا به غفلة، رأيت عنده حديثا موضوعًا حدث به عن ابن عيينة وهو صدوق. انتهى من "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم.
ثم يرتضي روايته عنه بعد ذلك، ويرويه عنه ابنه في تفسيره الذي اشترط فيه أن لا يورد إلا أصح الأخبار إسنادًا وأشبهها متنًا، وتصحيح الحافظ ابن حجر من أئمة المتأخرين مما يشهد ببطلان هذه الدعوى أيضًا.
وأما نفي صاحب النقض صحة هذا الحديث عن سفيان. فمن غرائبه؛ إذ لازم كلامه أن رواة هذا الحديث تحملوا مسئولية اختلاق هذا الحديث، وجاملهم من صححه من الحافظ (1) ولا ينبغي لصاحب النقض أن يتهم ابن أبي حاتم وأباه أباحتم وابن حجر العسقلاني بهذه التهمة التي لا تليق بمكانتهم.
"الرواية الرابعة" - من الروايات التي تعرض صاحب النقض لرواتها بالطعن - رواية النسائي في سننه، قال النسائي: أخبرنا حاجب ابن سليمان المنيجي، عن ابن أبي رواد، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء: عن أسامة بن زيد، قال:"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فسبح في نواحيها وكبر ولم يصل ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين". حاول صاحب النقض مراعاة لما قرره في نقضه من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل خلف المقام قبل حجة الوداع، حاول الطعن في النسائي بهذه الرواية، فقال ص136: (إن المعروف من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أنه يخرج عن كل من لم يجمع على تركه وإن كان مجروحًا. وادعى صاحب النقض أن رواية النسائي هذا الحديث من قبيل التساهل الذي حمل عليه المذهب المذكور؛ لأن في سنده حاجب بن سليمان وعبد المجيد بن أبي رواد
(1) قلت: كذا بالأصل. ولعله من الحفاظ، ويدل على ذلك ما بعده.
وكلاهما مطعون فيه. أما حاجب فيقول ص136، 137: قال الحافظ ابن حجر: قال الدارقطني في "العلل": لم يكن له كتاب وإنما كان يحدث من حفظه، وذكر له حديثًا وهم في متنه رواه عن وكيع، عن هشام، عن أبيه. عن عائشة "قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ" قال: والصواب عن وكيع بهذا الإسناد "كان يقبل وهو صائم". وقال مسلمة بن قاسم: روى عن عبد المجيد بن أبي رواد أحاديث منكرة. وأما عبد المجيد ابن أبي رواد فيقول ص137: قال - أي الحافظ - في "التقريب": صدوق، يخطيء، وكان مرجئًا، أفرط ابن حبان فقال متروك) . هذا ما ذكره صاحب النقض من ناحية سند هذا الحديث، والجواب: عنه بما يلي:
أما ما ذكره عن أبي عبد الرحمن "النسائي" فليس القصد منه ما ظنه من أنه متساهل؛ بل القصد منه كما في "توضيح الأفكار" للصنعاني ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني، قال: إنما أراد بذلك - أي تحرجه عمن لم يجمع على تركه - إجماعًا خاصًا، وذلك أن كل طبقة من طبقات الرجال لا تخلو عن متشدد، ومتوسط. فمن الأولى، شعبة وسفيان الثوري، وشعبة أشد منه. ومن الثانية يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبد الرحمن، ومن الثالثة يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، ويحيى أشد من أحمد
ومن الرابعة أبوحاتم والبخاري، وأبوحاتم أشد من البخاري. فقال النسائي: لا يترك الرجل عندي حتى يجمع الجميع على
تركه) (1) ثم قال الحافظ ابن حجر: فإذا تقرر ذلك ظهر أن ما يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك، فكم من رجل أخرج له أبوداود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه. أهـ.
وثناء أهل الحديث على النسائي كثير من ضمنه ما ذكره الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" قال: قال الحاكم: سمعت علي بن عمر الحافظ - يعني الدارقطني - غير مرة يقول: أبوعبد الرحمن - يعني النسائي - مقدم على كل من يذكر بهذا العلم في عصره، هو أعرفهم بالصحيح والسقيم، وأعلمهم بالرجال، قال: وقال الدارقطني: سمعت أباطالب الحافظ يقول: من يصبر على ما يصبر عليه أبوعبد الرحمن - يعني النسائي - كان عنده أحاديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة فما حدث بها، وكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة. وقال الدارقطني: كان أبوبكر الحداد الفقيه كثير الحديث. ولم يحدث عن أحد غير أبي عبد الرحمن النسائي فقط، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى. وقال ابن يونس: كان إمامًا في الحديث ثقة ثبتا حافظًا. وقال الصنعاني في "توضيح الأفكار": قال الذهبي في "النبلاء": هو - أي النسائي أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، وهو جابر في مضمار البخاري وأبي زرعة.
(1) ممن نقل هذا الكلام عن الحافظ ابن حجر العسقلاني تلميذه الحافظ السخاوي في "الاعلان بالتوبيخ، لمن ذم التاريخ" وعنده زيادة: "فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه القطان مثلا فإنه لا يترك، لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد، ثم قال السخاوي:(انتهى ما حققه شيخنا) .
وأما ما نقله صاحب النقض عن الدارقطني حول "حاجب بن سليمان المنبجي" فقد تعقبه الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" في باب الوضوء في الكلام على الحديث الذي تكلم فيه الدارقطني، قال الزيلعي: لقائل أن يقول: هو تفرد ثقة، وتحديثه عن حفظه إن كان أوجب كثرة خطئه بحيث يجب ترك حديثه فلا يكون ثقة، ولكن النسائي وثقه. وإن لم يكن يوجب خروجه عن الثقة فلعله لم يهم. وكان نسبته إلى الوهم بسبب مخالفة الأكثرين له. وقال الزيلعي: حاجب لا يعرف فيه مطعن. وقد حدث عنه النسائي. ووثقه وقال في موضع آخر: لا بأس به. أهـ.
وقد عاب العلامة ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" ج5 ص316 طريقة من يرى الرجل قد تكلم فيه بسبب حديث رواه وضعف من أجله فيجعل ذلك سببًا لتضعيف حديثه أين وجده. فيضعف من حديثه ما يجزم أهل المعرفة بصحته. وقال ابن القيم في كلامه على ذلك: هذا باب قد اشتبه كثيرًا على غير النقاد. والصواب ما اعتمده أئمة الحديث ونقاده من تنقية حديث الرجل وتصحيحه. والاحتجاج به في موضع، وتضعيفه وترك حديثه في موضع آخر. وهذا فيما إذا تعددت شيوخ الرجل ظاهر كإسماعيل ابن عياش في غير الشاميين، وسفيان بن حسين في غير الزهري، ونظائرهما متعددة. وإنما النقد الخفي إذا كان شيخه واحدًا كحديث العلاء بن عبد الرحمن مثلا، عن أبيه عن أبي هريرة، فإن مسلمًا يصحح هذا الإسناد ويحتج بالعلاء، وأعرض عن حديثه في الصيام بعد انتصاف شعبان وهو من روايته وعلى شرطه في الظاهر، ولم ير إخراجه لكلام الناس في هذا الحديث. وتفرده وحده به.
وهذا أيضًا كثير يعرفه من له عناية بعلم النقد ومعرفة العلل. وهذا إمام الحديث البخاري يعلل حديث الرجل بأنه لا يتابع عليه، ويحتج به في صحيحه، ولا تناقض منه في ذلك. أهـ كلام ابن القيم. والغرض منه أنه لا يلزم من وهم الراوي في بعض ما رواه أن يحكم على جميع ما رواه بالوهم، وصاحب النقض قد ذكر مثل ذلك في ص83.
وأما قول مسلمة بن قاسم في حاجب: روى أحاديث منكرة. فلا يقتضي ترك روايته؛ لما ذكره السخاوي في "فتح المغيث" من أن كلمة روى فلان أحاديث منكرة لا تقتضي الترك. قال: كيف وقد قال أحمد في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي أحاديث منكرة، وهو ممن اتفق عليه الشيخان. أهـ. قلت ولهذا نرى مسلمة بن قاسم الذي قال في حاجب: روى أحاديث منكرة. يقول بعد ذلك: وهو - أي حاجب - صالح يكتب حديثه. وقد حذف صاحب النقض هذه العبارة، واقتصر على ما يعتبره جرحًا في حاجب الذي وثقه الإمام النسائي (1) وأمانة العلم توجب خلاف هذا الصنيع.
وأما عبد المجيد بن أبي رواد. ففي "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر العسقلاني من توثيق الأئمة له ما يغنينا عن التعلق بكلام من طعن فيه، فقد قال الحافظ: قال المروزي عن أحمد: كان مرجئًا قد كتبت عنه. قال المروذي: وكان أبو عبد الله يحدث عن المرجيء إذا لم يكن داعية ولا مخاصمًا. قال: وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن ابن معين: ثقة ليس به بأس. وقال الدوري عن ابن
(1) وكلام مسلمة بن قاسم في من وثقه النسائي لا يقبل، لأنه كما في الميزان للذهبي ضعيف. قال الذهبي: وقيل: إنه من المشبهه.
معين: ثقة. وقال إبراهيم بن الجنيد: ذكر يحيى بن معين عبد المجيد فذكر من نبله وهيبته، وكان صدوقًا، ما كان يرفع رأسه إلى السماء، وكانوا يعظمونه. وقال النسائي: ثقة. وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، حدثنا عنه أحمد ويحيى بن معين. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": قريء على العباس بن محمد الدوري. قال سمعت يحيى بن معين يقول: ابن علية عرض كتب ابن جريج على عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فأصلحها له، فقلت ليحيى ما كنت أظن أن عبد المجيد كذا. قال يحيى: كان أعلم الناس بحديث ابن جريج، ولكن لم يكن يبذل نفسه للحديث. وقال ابن أبي حاتم أيضًا: قريء على العباس. قال: سمعت يحيى بن معين وسئل عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فقال: ثقة. وقال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي. قال: سئل يحيى بن معين وأنا أسمع: عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد. فقال: ثقة ليس به بأس. أهـ. قلت: وقد أكثر عمدة صاحب النقض الأزرقي في "تأريخ مكة" من الرواية عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد.
"الرواية الخامسة": من الروايات التي طعن صاحب النقض في رواتها رواية البيهقي في سننه، قال: أخبرنا أبوالحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبوبكر أحمد بن كامل، حدثنا أبوإسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبوثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن المقام كان زمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. هذا الحديث صححه ابن كثير في تفسير قوله تعالى:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) . وقوى الحافظ ابن حجر إسناده في "فتح الباري" في كتاب التفسير ج8 ص137. ورغم هذا كله زعم صاحب النقض ص136 أن هذا الحديث لم يصح عن عائشة، وعلل ذلك بأمرين: أحدهما أن في إسناد البيهقي أحمد بن كامل وعبد العزيز ابن محمد الدراوردي، يقول صاحب النقض في أحمد بن كامل: ذكروا أنه كان يعتمد على حفظه فيهم. وكان متساهلاً ربما حدث من حفظه بما ليس في كتابه. ويقول في الدراوردي: ذكروا أنه كان يحدث من كتاب غيره فيخطيء. الثاني: مما استند إليه في تضعيف هذا الحديث قول ابن أبي حاتم في "كتاب العلل": سمعت أبازرعة لا يرويه - أي حديث المقام المذكور - عن عائشة، إنما يرويه عن هشام، عن أبيه فقط. وجزم في ص118 بأن هذا الحديث إنما هو من كلام عروة.
والجواب عن ذلك بما يلي:
أما "أحمد بن كامل": فالذي تكلم فيه بما ذكره صاحب النقض الدارقطني؛ لا جميع المحدثين كما توهمه عبارة صاحب النقض، ولم يقبل ذلك من الدارقطني، ولذلك تعقبه الذهبي في كتابه "العبر في خبر من غبر" بقول الحسن بن زرقويه في أحمد بن كامل: لم تر عيناي مثله، وقال الذهبي في "الميزان" في ترجمة أحمد بن كامل: لينه الدارقطني، وقال: كان متساهلاً ومشاه غيره.
وأما "عبد العزيز الدراوردي" فقد قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": أخبرنا أبوبكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي، قال سمعت يحيى بن معين يقول: عبد العزيز الدراوردي صالح ليس به بأس. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن عبد العزيز بن محمد يعني الدراوردي؛ ويوسف بن الماجشون، فقال: عبد العزيز بن محمد محدث، ويوسف شيخ. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا ابن أبي خيثمة فيما كتب إلي، قال: سمعت معصبًا الزبيري يقول: مالك بن أنس يوثق الدراوردي. أهـ. وقال الحافظ ابن التركماني في "الجوهر النقي" في باب النفر يصيبون الصيد ج1 ص351: الدراوردي احتج به الشيخان وبقية الجماعة. وقال ابن معين: ثقة حجة، وثقة القطان، وأبوحاتم وغيرهما. أهـ. وأما ما ذكره صاحب النقض عن علل ابن أبي حاتم. فلا يؤثر في رواية السلمي الحديث عن أبي ثابت عن الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ لأن كون أبي زرعة لم يسمع هذا الحديث إلا موقوفًا على عروة لا يمنع أن يسمعه السلمي مسندًا إلى عائشة كما وقع، وهو ثقة يجب قبول زيادته.
"الرواية السادسة": من الروايات التي تعرض صاحب النقض لرواتها بالطعن الرواية التي أشار إليها ابن كثير بقوله: وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي يمنة الداخل من الباب. قال صاحب النقض ص104: كأنه - أي ابن كثير - يشير بقوله هذا إلى موضع الخلوق من إزار الكعبة. ثم قال صاحب النقض: (وإني لأعجب من قوله - أي ابن كثير: ومكانه معروف اليوم. من أين له معرفة أن ذلك الموضع الذي ذكره
مكان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام، وما دليله عليه، ولعله أخذ هذا عن بعض المؤرخين الذين ينقلون ما قيل من غير نظر في صحة القول من عدمها كابن جبير في أخبار رحلته) وصرح بعد ذلك بأن ما ذكره ابن كثير تخمين لا دليل عليه. إلى هذا الحد وصل تحامل صاحب النقض على الحافظ ابن كثير، وما ذكره حوله خلاف المعروف عنه من التحري في كتاباته. وقد شهد له الحافظ بالتحقيق والنقد. قال الحافظ الذهبي في المعجم المختص: وهو - أي ابن كثير - فقيه متقن ومحدث محقق ومفسر نقاد. وما ذكره ابن كثير في مكان المقام أنه كان إلى جانب الباب مما يلي يمنة الداخل من الباب رواه الإمام الحافظ سليمان بن سالم المشهور بالكلاعي في "كتاب الاكتفاء في مغازي المصطفى، والثلاثة الخلفاء". روى عن أبي الجهم أنه قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت. وأدخل الحجر في البيت جعل المقام لاصقًا بالبيت عن يمين الداخل. أهـ.
وأما موضع الخلوق من إزار الكعبة الذي استجاز صاحب النقض حمل كلام ابن كثير عليه. فقد نقل صاحب النقض في نقضه عن محمد بن سراقة العامري أنه موضع المقام قبل تحويله. قال صاحب النقض ص41 وص42: ذكر الفقيه محمد بن سراقة العامري في كتاب "دلائل القبلة" في موضع المقام عند الكعبة: ومن الباب - يعني باب البيت إلى مصلى آدم عليه السلام حين فرغ من طوافه وأنزل الله عليه التوبة وهو موضع الخلوق من إزار الكعبة أرجح من تسعة أذرع، وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام وصلى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين وأنزل الله عليه:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ثم نقله
صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو فيه الآن، وذلك إلى عشرين ذراعًا من الكعبة؛ لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف، ثم حمله السيل في أيام عمر وأخرجه من المسجد، فأمر عمر رضي الله عنه برده إلى موضعه الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهـ. ففي هذه العبارة وإن لم يمل صاحب النقض إلى ما فيها من جهة موضع المقام دلالة على أن ما ذكره ابن كثير ذكره محمد بن سراقة العامري الذي هو ممن اعتمد عليه صاحب النقض في أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أخر المقام إلى موضعه اليوم - معرضًا عن الروايات الصحيحة المثبتة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من أخره إلى ذلك الموضع.
"الرواية السابعة": من الروايات التي تعرض صاحب النقض لرواتها بالطعن رواية عبد الرزاق بلفظ: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن. اعتبر صاحب النقض هذه الرواية من كلام الحافظ ابن حجر، فتعقبها بقوله ص103:(هذا قول لا دليل عليه، وإنما قاله - أي ابن حجر - تقليدًا لابن كثير) . والذي أوقع صاحب النقض في هذا عدم تدبر عبارة "فتح الباري" إذ لو تدبرها لعلم أن ما ذكره الحافظ رواية لا رأي، ونصه ص137 ج8: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره، وعن مجاهد أيضًا، وأخرجه البيهقي عن عائشة بسند قوي، ولفظه: أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر. ثم قال الحافظ: قد أخرج
ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة، قال: كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر، فجاء سيل فذهب به، فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا.
ومما تعرض صاحب النقض فيه للحافظ ابن حجر قوله تعقيبًا على ما في "فتح الباري" في بحث المقام بلفظ: (تهيأ له - أي لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه ذلك - أي تأخير المقام عن موضعه الأول، لأنه الذي أشار باتخاذه مصلى، وأول من عمل المقصورة الموجودة الآن على المقام) قال صاحب النقض تعقيبًا على هذا ص158: (لا صحة لما ذكره ابن حجر في الفتح أن عمر أول من عمل المقصورة الموجودة الآن على المقام) وصرح في ص157 بأن هذا الكلام علو عن التحقيق.
أقول: قول الحافظ ابن حجر (وأول من عمل المقصورة الموجودة الآن على المقام) ليس معطوفًا على قوله (لأنه الذي أشار باتخاذه مصلى) كما توهمه صاحب النقض، فإن عطفه عليه يقتضي اعتباره تعليلا ثانيًا لتهييء تأخير المقام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبطلان ذلك واضح لمن له أدنى إلمام بالعلم، فضلا عن الإمام الحافظ ابن حجر؛ ولهذا تعين أن يكون قول الحافظ:(وأول من عمل المقصورة) ابتداء كلام بيض الحافظ لتكملته ولم يتيسر له ذلك ففي سلوك هذا المسلك غنية عن التحامل على إمام مثل الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد أشار المعلمي إلى ما ذكرناه حول هذه العبارة بإيجاز، ولو سلك صاحب النقض هذا المسلك كان أحسن من مسلكه.
فصل: في ما حمله من الروايات على غير محمله
سلك صاحب النقض هذا المسلك في حديثين، نذكرهما، مع الإجابة عنهما فيما يأتي:
"أولهما": حديث البخاري عن عمرو بن دينار، قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت للعمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقد كانت لكم في رسول الله أسوة حسنة. تعقب صاحب النقض ص119 قول المعلمي بأن هذا القدوم كان في عمرة يراها عمرة القضية بقوله:(إن صح أن القدوم كان في عمرة القضية حمل على أن صلاته خلف المقام إنما وقعت اتفاقًا قبل مشروعية ذلك) . والباعث لصاحب النقض على هذا دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل خلف المقام قبل حجة الوداع، معللاً ذلك في ص63 بأن الصلاة خلفه إنما شرعت بعد تجويله ونزول آيته التي نزلت في حجة الوداع. وما حمل عليه حديث ابن عمر المذكور ودعواه المذكورة جميع ذلك مردود. أما حمل ما في حديث ابن عمر من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين خلف المقام في عمرته على أن ذلك إنما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقًا قبل مشروعية ركعتي الطواف. فيرده تراجم الإمامين البخاري وابن ماجه لهذا الحديث، فقد ترجمه البخاري في كتاب الصلاة من صحيحه (باب قول الله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وترجمه في كتاب الحج: (باب من صلى ركعتين الطواف خلف المقام) وترجمه ابن ماجه في سننه (باب الركعتين بعد
الطواف) ثم رواه من طريق وكيع عن محمد بن ثابت العبدي، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم فطاف بالبيت ثم صلى ركعتين قال وكيع: يعني عند المقام ثم خرج إلى الصفا". ومع هذا فحمل صاحب النقض صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين خلف المقام على أن ذلك وقع منه اتفاقًا قبل المشروعية ينافي قول صاحب النقض نفسه ص46 (إنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئًا من التشريع إلا بأمر الله؛ لأن الله يقول في كتابه: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) .
ولو تمسك بكلامه هذا كان خيرًا له من حمل الأحاديث على غير محملها.
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف مقام إبراهيم قبل حجة الوداع فأمر ثبتت به روايات كثيرة:
1-
عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام يعني يوم الفتح" أخرجه أبوداود.
2-
عن عبد الله بن أبي أوفى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين" أخرجه البخاري وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وهذه العمرة التي ذكرها ابن أبي أوفى عمرة القضية كما في "فتح الباري - في المغازي" واستدل الحافظ لذلك بما روى الإسماعيلي في مستخرجه من طريق ابن أبي عمر العدني، عن سفيان، عن إسماعيل بن خالد، سمع ابن أبي أوفى يقول: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة
طاف بالبيت في عمرة القضية فكنا نستره من السفهاء والصبيان مخافة أن يؤذوه".
3-
عن جابر قال: "لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم قال له عمر يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال نعم" أخرجه ابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه. ومن طريق ابن مردويه رواه الحافظ ابن كثير في تفسيره، ونقله عنه صاحب النقض ص38، 39.
4-
عن مشائخ ابن سعد في سياق فتح مكة ما لفظه: "وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت على راحلته وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) فيقع الصنم لوجهه، وكان أعظمها هبل وهو وجاه الكعبة. ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين" رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى.
وأما قول صاحب النقض: بأن تحويل مقام إبراهيم عليه السلام إنما كان في حجة الوداع، وفيها شرعت الصلاة خلفه. فيخالف من ناحية تأريخ التحويل ما في نقضه ص4 عن موسى بن عقبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخر المقام يوم الفتح. ولاشك أن فتح مكة قبل حجة الوداع، كما يخالف من ناحية تأريخ مشروعية الصلاة خلف المقام ما نقله صاحب النقض ص41، 42 عن "شفاء الغرام" ولفظه: وذكر الفقيه محمد بن سراقة العامري
في كتابه "دلائل القبلة" في موضع المقام عند الكعبة -: ومن الباب يعني باب البيت إلى مصلى آدم عليه السلام حين فرغ من طوافه وأنزل الله عليه التوبة وهو موضع الخلوق من إزار الكعبة أرجح من تسعة أذرع، وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين، وأنزل الله عليه (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ثم نقله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو فيه الآن، وذلك على عشرين ذراعًا من الكعبة. أهـ. ففي هذه العبارة التي استدل بها صاحب النقض على أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من حول المقام من موضعه الأول إلى موضعه اليوم دليل على أنه صلى خلف المقام ركعتين قبل النقل.
هذا وهدفنا من الاستدلال بهذه العبارة إثبات تناقض صاحب النقض، وإلا فغير خاف علينا مخالفة ما فيها لما ثبت بأسانيد قوية عن عائشة أم المؤمنين وأصحاب ابن جريج وعطاء وغيره ومجاهد وسفيان بن عيينة وبعض مشائخ مالك وابن سعد والواقدي وغيرهم من أن أول من أخر المقام إلى موضعه اليوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم تصح الرواية عن السلف بما يخالف ذلك.
"الحديث الثاني": من الحديثين الذين حملهما صاحب النقض على غير محملهما حديث عائشة عند البيهقي المتقدم "أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر رضي الله عنه" ثم زعم صاحب النقض أن هذا الحديث لم يصح إلا من كلام عروة؛ استناداً
لما قدمناه الرد عليه من ناحية السند، وحمله على أساس دعواه أنه من كلام عروة على أن مراد عروة يكون المقام عند سقع البيت وضعه عنده بعد أن حمله السيل إلى أن قدم عمر رضي الله عنه من المدينة فرده إلى موضعه. قال: فعلم بهذا أنه لا خلاف بين ما قاله عروة وما رواه غيره في موضع المقام، وأن من نسب إليه خلاف هذا فقد غلط. وهذا الذي حمل عليه حديث البيهقي المذكور على فرض أنه من كلام عروة يمنعه سياق الحديث؛ فإن لفظه هكذا "أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه" فقوله "زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر" صريح في خلاف ما زعمه صاحب النقض.
فصل: فيما ادعى فيه الشذوذ من الروايات، والجواب عنه
إدعى صاحب النقض الشذوذ في روايتين من نصوص المقام:
"أولاهما": رواية الفاكهي عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس في سياق قصة بناء إبراهيم الخليل عليه السلام البيت بلفظ "فلما بلغ - أي إبراهيم عليه السلام الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت". إدعى صاحب النقض شذوذ قوله "فجعله لاصقًا بالبيت" وعلل ذلك ص60، 61 (بأن عثمان بن أبي سليمان تفرد بهذه الزيادة عمن كان معه حينما حدثهم سعيد بن جبير وهم كثير من كثير وعبد الرحمن بن أبي حسين وغيرهما، قال: فهذا مما يدل
على شذوذها، وذكر أن هذه الزيادة - يعني رواية عثمان المذكورة - ليست في رواية البخاري المعلقة والموقوفة، ولا ذكرها الأزرقي، وإنما ذكرها صاحب الفتح في رواية الفاكهي، وعارض صاحب النقض ص60 رواية عثمان بن أبي سليمان المذكورة بقول الفاسي في "شفاء الغرام": موضع المقام الآن هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام من غير خلاف علم في ذلك) وأضاف صاحب النقض إلى كلامه في هذا الحديث انتقاده على المعلمي ترضيه على عثمان بن أبي سليمان مادام تابعيًا، وذكر أن الترضي عنه يوهم كونه صحابيًا، والجواب عن جميع ما ذكره بما يلي:
أما عدم ذكر غير عثمان بن أبي سليمان هذه الزيادة فلا يصيرها شاذة مادامت لم تتناف مع روايات أخر قوية، ولا مع المزيد عليه، وما كان من أنواع الزيادة كذلك يجب قبوله كما بينه أئمة العلم، ومثل له السيوطي في "تدريب الراوي" بزيادة إبراهيم بن موسى في حديث علي أن "العين وكاء اله" زاد إبراهيم بن موسى "فمن نام فليتوضأ". وقد روى أبوالجهم مثل ما روى عثمان بن أبي سليمان ففي "كتاب الاكتفاء في مغازي المصطفى والثلاثة الخلفاء" للإمام الحافظ أبي الربيع سليمان بن سالم المشهور بالكلاعي أن أبا الجهم قال في روايته لبناء البيت:"لما فرغ إبراهيم بن بناء البيت وأدخل الحجر في البيت جعل المقام لاصقًا بالبيت عن يمين الداخل". ويضاف إلى هذا أن زيادة عثمان بن أبي سليمان من ضمن زيادات فتح الباري على نص البخاري التي اشترط الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمته أن تكون صحيحة أو حسنة قال في "مقدمة
فتح الباري" ج1 ص3 بعد ذكر فصول مقدمته: (فإذا تحررت هذه الفصول، وتقررت هذه الأصول، افتتحت شرح الكتاب - يعني البخاري - مستعينًا بالفتاح الوهاب، فأسوق إن شاء الله الباب وحديثه أولا - ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم استخرج ثانيًا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية: من تتمات، وزيادات، وكشف غامض، وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، منتزعًا كل ذلك من أمهات المساند والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد، بشرط الصحة والحسن فيما أورده من ذلك. أهـ المراد من نص مقدمة "فتح الباري".
وأما قول الفاسي في "شفاء الغرام": موضع المقام الآن هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام من غير خلاف علم في ذلك) فمردود بالروايتين المذكورتين عن عثمان بن أبي سليمان وأبي الجهم إن كانت العبارة (من غير خلاف علم) بصيغة الماضي المبني للمجهول من العلم، وإن كانت العبارة ما وجدناه في "مراة الحرمين" بلفظ:(من غير خلاف أعلمه) بصيغة المضارع فالأمر هين، لأن نفي العلم بالشيء لا يستلزم عدمه.
وأما انتقاد صاحب النقض ترضي المعلمي عن عثمان الراوي لهذه الرواية، ودعواه إن ذلك يوهم كونه صحابيًا. فإنما نشأ من اعتقاد تخصيص الترضي بالصحابة، وهو خلاف ما عليه المحققون من أهل العلم، قال النووي في "الأذكار": يستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار،
فيقال: رضي الله عنه، أو رحمه الله، ونحو ذلك. وأما ما قاله بعض العلماء: إن قوله: رضي الله عنه مخصوص بالصحابة، ويقال في غيرهم رحمه الله فقط. فليس كما قال، ولا يوافق عليه، بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه، ودلائله أكثر من أن تنحصر. أهـ. وفي "شرح ألفية العراقي" و "تدريب الراوي" ما نصه: قد روى الخطيب أن الربيع بن سليمان قال له القاريء يومًا: حدثكم الشافعي. ولم يقل: رضي الله عنه. فقال الربيع: ولا حرف حتى يقال رضي الله عنه. أهـ.
"الرواية الثانية" من الروايتين اللتين ادعى صاحب النقض فيهما الشذوذ رواية النسائي المتقدمة عن أسامة بن زيد، قال "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فسبح في نواحيها وكبر ولم يصل ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين". كان مما علل به صاحب النقض هذا الحديث دعوى الشذوذ فيه، قال في ص137: (إن رواية النسائي هذه مخالفة لما ثبت في الروايات الصحيحة في موضع صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت، ففي بعضها "أنه صلى في وجه الكعبة" وفي بعضها "أنه صلى في قبل الكعبة" وفي بعضها "أنه صلى عند باب الكعبة" وفي بعضها "أنه صلى مستقبل وجه الكعبة" وفي بعضها "أنه صلى في قبل البيت" وليس في شيء مما وقفت عليه من الروايات التي ذكرت فيها صلاته صلى الله عليه وسلم وبعد خروجه من البيت أنها كانت خلف المقام سوى رواية النسائي هذه، وهذا مما يدل على شذوذها وحصول الوهم فيها وأن المحفوظ ما في أكثر الروايات
من أن صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت كانت في وجه الكعبة، ولم تكن خلف المقام) .
هذا ما ذكره صاحب النقض. وهو غير صحيح كما يعلم من كلام الفاسي في "شفاء الغرام" ج1 ص221 حيث ذكر رواية حديث أسامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قبل البيت ركعتين وقال: هذه القبلة" وذكر بجنبها رواية النسائي التي فيها "أن النبي صلى الله عليه وسلم سبح في نواحي البيت وكبر ولم يصل ثم خرج وصلى خلف المقام ركعتين ثم قال هذه القبلة". ثم لا منافاة بين قول أسامة في الحديث الأول "ركع قبل البيت" وبين قوله في الحديث الثاني "وصلى خلف المقام ركعتين" لأن المقام كان في وجه الكعبة على ما ذكره ابن عقبة في "مغازيه" وغيره، فيكون قوله "صلى خلف المقام" مفسرًا لقوله:"ركع قبل البيت" لينتفي التعارض بين حديثيه، وهذا أولى من حمل قوله على أنه صلى خلف المقام في موضعه اليوم؛ لأنه إذا حمل على ذلك يفهم منه التناقض.
ثم ذكر الفاسي ص221 حديث ابن السائب عند الأزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح في وجه الكعبة حذو الطرقة البيضاء ثم رفع يديه فقال هذه القبلة. قال الفاسي: إذا كان حديث ابن السائ يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عند الكعبة في يوم فتح مكة وقال هذه القبلة، واقتضى ذلك حديث أسامة، ففي ذلك دليل على اتحاد المصلى الذي ذكره أسامة وابن السائب) . أهـ كلام الفاسي. ومفاده أن "خلف المقام"
و "قبل البيت" و "وجه الكعبة" كل هذه الألفاظ بمعنى واحد. ومادام الأمر كذلك فأمر باقي الروايات سهل؛ لأن معناها يرجع إلى هذه التي ذكرها الفاسي، وبهذا تبين أن لا تنافي بين رواية النسائي وبين غيرها من الروايات، ولا شذوذ.
فصل
في ذكر ما عزاه إلى بعض السلف في تفسير المقام والجواب عنه
قال صاحب النقض ص184: قد ذهب غير واحد من السلف إلى أن المقام المأمور باتخاذه مصلى الذي خلف المقام، ورجح هذا القول إمام المفسرين أبوجعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله، وقال: إنه أولى الأقوال عندنا بالصواب. وبنى صاحب النقض على هذا الذي زعم أنه مذهب غير واحد من السلف، وادعى أن ابن جرير رجحه. بنى عليه أن حكم الصلاة متعلق بالبقعة التي خلف المقام في موضعه اليوم لا بالمقام، بحيث لو نقل عن موضعه إلى موضع آخر تعينت الصلاة في ذلك الموضع الأول.
أقول: لم يذهب أحد من السلف إلى أن المقام هو البقعة التي خلف المقام، ودعوى ترجيح ابن جرير ذلك باطلة؛ فإن ابن جرير استعرض في تفسيره من أقوال السلف في المقام ما يلي:
أولا: أنه الحج كله.
ثانيًا: أنه عرفة - ومزدلفة - والجمار.
ثالثًا: أنه الحرم.
رابعًا: أنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناء البيت وضعف عن رفع الحجارة.
خامسًا: أنه المقام المعروف بهذا الإسم الذي هو في المسجد الحرام.
هذه الأقوال التي استعرضها ابن جرير في تفسيره ثم قال: (أولى الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون: إن مقام إبراهيم هو المقام المعروف بهذا الإسم، الذي هو في المسجد الحرام؛ لما روينا آنفًا عن عمر بن الخطاب (1) ولما حدثنا يوسف بن سليمان، ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال:"استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ثم تقدم إلى المقام فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بيبه وبين البيت فصلى ركعتين" فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى بمقام إبراهيم الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى هو الذي وصفنا، ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان الواجب من القول ما قلنا، وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف دون باطنه المجهول، حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك مما يجب التسليم له) . هذه عبارة ابن جرير.
ولكن هناك عبارة فيها خلل في النسخ التي وقفنا عليها، وهي التي اغتر بها صاحب النقض، نصها بعد ما تقدم هكذا:(ولاشك أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فإن أهل التأويل مختلفون في معناه: فقال بعضهم: هو المدعى إلخ
…
ولاشك عند كل من
(1) يعني ابن جرير بذلك ما رواه من طرق عن حميد، عن أنس بن مالك، قال قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو اتخذت من المقام مصلى، فأنزل الله:(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) .
نظر في هذه العبارة أن فيها خللا، ولعل صوابها هكذا: ولاشك أن المعروف بهذا الاسم هو إما المصلى الذي قال الله تعالى ذكره: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. فبهذا يرتبط الكلام معنى ولفظًا.
ويدل على ما ذكرنا قول ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) ما نصه: وأما اختلاف أهل التأويل في مقام إبراهيم فقد ذكرناه في سورة البقرة، وبينا أولى الأقوال بالصواب هناك، وأنه عندنا المقام المعروف به. فتأويل الآية يعني قوله تعالى:(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم) أن أول بيت وضع للناس مباركًا وهدى للعالمين الذي ببكة، فيه علامات بينات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم منهن أثر قدم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قام عليه. أهـ. فهذا نص صريح بأن أولى الأقوال بالصواب عند ابن جرير أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه، لا نفس البقعة التي خلف الحجر.
وأما فتوى صاحب النقض بأن حكم الصلاة إنما يتعلق بنفس البقعة لا بالمقام. ففي غاية المخالفة لعمل الصحابة حين نقل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه المقام عن موضعه في عهد النبوة إلى موضعه الذي هو فيه اليوم.
فصل في رد عواه اتفاق الروايات على أن أول من حول المقام النبي صلى الله عليه وسلم
قال صاحب النقض ص136: اتفقت الروايات على تحويل النبي صلى الله عليه وسلم للمقام، وأن هذا موضع المقام في زمن النبوة. وفي ص168 (أن تحويل النبي صلى الله عليه وسلم للمقام من تحت البيت إلى مكانه اليوم ثابت بنقل الثقات، وهذا أمر لا يقبل الشك والارتياب عند من أنصف، وقد وضحنا جميع ذلك بشواهده فيما تقدم) وفي ص175 (قد قامت الأدلة المتظاهرة على تحويل النبي صلى الله عليه وسلم للمقام، وعلى أن هذا موضعه في زمن النبوة، ولما نقله السيل منه رده عمر إليه وثبته فيه، ومع تظافر الأدلة على هذا وتعاضدها هل يبقى للشك في هذا مجال ولمن أنكر ذلك إلا العناد والشقاق، وقد توعد تعالى من فعل ذلك بقوله: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) هذا نص نقض المباني. وجميعه مردود:
أما دعوى صاحب النقض أنه أوضح في رسالته اتفاق الروايات على تحويل النبي صلى الله عليه وسلم للمقام بنقل الثقات. فغير صحيحة؛ فإنه لم يذكر مما يصرح بتحويل النبي صلى الله عليه وسلم لمقام إبراهيم عليه السلام غير روايتين:
"أحدهما": عن مجاهد عند ابن مردويه وابن أبي داود أنه قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
مقامه هذا" وهذه الرواية ضعفها الحافظان ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في "فتح الباري" وبينا أنها مخالفة لما صح عن مجاهد قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) من تفسيره بعد ذكره هذا الأثر عن مجاهد: (هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم عن رواية عبد الرزاق عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا صح من طريق ابن مردوية مع اعتضاد هذا بما تقدم) يعني ابن كثير بما تقدم ذكره قبل ذلك من الآثار؛ فإنه قال: قال الحافظ أبوبكر أحمد بن علي ابن الحسين البيهقي: أخبرنا أبوالحسين بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبوبكر أحمد بن كامل، حدثنا أبواسماعيل محمد ابن اسماعيل السلمي، حدثنا أبوثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها "أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه" قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح. ثم قال: وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي، أخبرنا ابن أبي عمر العدني، قال قال سفيان يعني ابن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، قال سفيان لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا.
قال ابن كثير: فهذه
الآثار متعاضدة على ما ذكرناه) يعني من كون المقام في سقع البيت قبل تحويل عمر إياه في خلافته. أهـ.
وقال ابن حجر في تفسير الآية المذكورة في "فتح الباري" ج8 ص137: أخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله، والأول أصح) . يعني بالأول ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ووجه ضعف السند الذي أشار إليه الحافظ: أن فيه ضعيفين: "أحدهما": شريك بن عبد الله وهو كما في "تقريب التهذيب" يخطيء كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء. "الثاني": إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي ضعفه علي بن المديني ويحيى بن سعيد وأحمد ابن حنبل، كما في "الضعفاء" للمقيلي، وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكين": ليس بالقوي. وقد اطلع صاحب النقض على كلام الحافظين في هذه الرواية ومع ذلك ضرب عنه صفحًا، وصار ينسب مضمونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون مبالاة بضعفها، وأطال في الثناء على مرسلات مجاهد بما لا يجدى مادام شرط ذلك مفقودًا وهو صحة السند إلى مجاهد وعدم قوة المعارض.
"الرواية الثانية": مما يصرح بتحويل النبي صلى الله عليه وسلم لمقام إبراهيم عليه السلام عن موضعه الأول إلى موضعه اليوم مما ذكره صاحب النقض ما في تاريخ ابن كثير "البداية والنهاية" عن موسى بن عقبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أخر المقام إلى مقامه اليوم وكان ملصقًا بالبيت" أهـ.
وهذا يجاب عنها بأنها مع عدم الوقوف على سندها تخالف ما ثبت عن عائشة وعروة شيخ موسى بن عقبة وعطاء وغيره من أصحاب ابن جريج، وهو أن أول من حول المقام عن موضعه الأول إلى الموضع الذي هو فيه اليوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولهذا نرى ابن كثير الذي نقل هذا عن مغازي بن عقبة لم يعتبر؛ بل جزم بما ثبت عن الأعلام المذكورين.
وأما دعوى صاحب النقض تظاهر الروايات على أن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة فمن جنس دعواه الأولى في عدم الصحة؛ فإن الصريح في ما ذكره من ذلك روايتان في "تأريخ مكة" للأزرقي.
1-
قوله: حدثني جدي، قال حدثنا عبد الجبار بن الورد، قال سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس.
2-
روى أبوالوليد الأزرقي في "تأريخ مكة" عن جده، عن داود بن عبد الرحمن العطار حديثًا طويلا فيه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة في وجه الكعبة حذو الطرقة البيضاء، ثم روى عن جده أنه قال: قال داود: وكان ابن جريج يشير لنا إلى هذا الموضع، ويقول: هذا الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الموضع الذي جعل فيه المقام حين ذهب به سيل أم نهشل إلى أن قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرده إلى موضعه الذي كان
فيه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وبعض خلافة عمر رضي الله عنه إلى أن ذهب به السيل.
وهاتان الروايتان فيهما ما فيهما. أما رواية الأزرقي عن ابن أبي مليكة فلأن راويها عبد الجبار بن الورد، يخالف في بعض حديثه كما رواه العقيلي في "كتابه - الضعفاء" عن الإمام البخاري (1) .
وأما رواية الأزرقي عن ابن جريج فلمخالفتها ما صح عن مشائخ ابن جريج من رواية ابن جريج عنهم، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه، عن ابن جريج أنه قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة. ومع هذا ففي هاتين الروايتين مخالفة لدعوى صاحب النقض أن أول من حول المقام إلى الموضع الذي هو فيه اليوم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن ظاهرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) ومن أغرب ما جاء به صاحب النقض دعواه ص76 أن كلام ابن أبي ملكية هذا تلقاه عن ثلاثين صحابيًا الذين أدركهم قال: (هو - أي ما ذكره ابن أبي مليكة - من العلم المأثور الذي تلقاه ابن أبي ملكية عمن أدركهم من الصحابة. فإنه أدرك ثلاثين منهم، لأن ما ذكره لا يقال من قبل الرأي) . وهذا مردود من وجهين: أحدهما: - أن الثلاثين صحابيا الذين أدركهم بن أبي ملكية لم يسمع منهم كلهم إنما سمع من بعض، وفي ذلك يقول العيني في "عمدة القاريء" في الكلام على قول البخاري في (باب خوف المؤمن أن يحيط عمله) قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين صحابيًا كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول أنه على ايمان جبريل وميكائيل. قال العيني ص275 ج:1 أدرك - أي ابن مليكة بالسن جماعة ولم يسمع منهم، كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وأظن صاحب النقض لو اطلع على قول ابن حبان في كتابه "مشاهير علماء الأمصار" في ابن أبي مليكة: رأى ثمانين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لو اطلع على هذا لادعى أن ما ذكرله الأزرقي عن ابن أبي مليكة تلقاه عن أولئك الثمانين صحابيًا. الثاني أن ما ذكره ابن أبي مليكة لم نجده عن صحابي واحد فضلا عن ثلاثين، بل الذي وجدناه عن عائشة وهي من أجل من أدركهم من الصحابة خلاف هذا، فقد ثبت عنها أن أول من أخر المقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويرى المحب الطبري في "القرى": أن كلام ابن أبي مليكة هذا إنما فهمه من سياق قصة المطلب بن أبي وداعة، ومادام الأمر كذلك فلا يقدم على تصريح عائشة.
لم يحول المقام عن الموضع الذي كان فيه في الجاهلية، بل استمر المقام في عهده في ذلك الموضع وفي عهد أبي بكر وبعض خلافة عمر قبل مجيء السيل الذي احتمله وبعد ما ذهب به السيل رده عمر إلى ذلك الموضع. هذا موقفنا من هاتين الروايتين.
وأما ما ليس بصريح من الروايات فيرجع إلى ما روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سفيان بن عيينة إمام المكيين في زمانه، قال:"كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر رضي الله عنه إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه" الحديث.
وأما قول صاحب النقض: (هل يبقى للشك في هذا - أي تحويل النبي صلى الله عليه وسلم للمقام - مجال، ولمن أنكر ذلك إلا العناد والشقاق، وقد توعد تعالى من فعل ذلك بقوله: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) الآية.
فالجواب عنه أن ما ذكره من الروايات في ذلك هو الذي بينا حالته آنفًا، ودعوى كون القول بأن عمر بن الخطاب أول من أخر المقام إلى موضعه اليوم مشاقة للرسول وإتباع غير سبيل المؤمنين باطلة، فإنه لو كان كذلك لما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعطاء وغيره من مشائخ ابن حريج، ومجاهد، وسفيان بن عيينة، وأشياخ ابن سعف.
وقد جمع كلامهم الإمام العلامة أبوبكر بن زيد الخزاعي الحنبلي في كتابه: "تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد" قال: روى
محمد بن سعد عن أشياخ له أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملتصقًا بالبيت. وروى عبد الرزاق عن عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج ومجاهد: أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وروى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن كثير: وسنده صحيح، وروى ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة قال: كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر رضي الله عنه إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب السيل به بعد تحويل عمر رضي الله عنه إياه من موضعه هذا فرده عمر رضي الله عنه إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا. قال ابن كثير: فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه. وذكر الحافظ أبوبكر بن مردويه بسنده إلى إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله لو صلينا خلف المقام. فأنزل الله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا. قال مجاهد: قد كان عمر رضي الله عنه يرى الرأي فينزل به القرآن. وهذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن كثير: وهو أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاده بما تقدم) ومر الخراعي في كلامه إلى أن ذكر أن عمر رضي الله عنه أخره أولا
ثم ذهب به السيل ثم أخره فيكون أخره مرتين) . أهـ المراد من كلام الخزاعي.
وجزم بمضمون هذه الروايات عن أولئك الأئمة: الحافظان ابن كثير في "تفسيره وتأريخه" وابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" وضعفا ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أخر مقام إبراهيم عليه السلام إلى الموضع الذي هو فيه اليوم.
فصل في رد كلامه في آيتي التطهير
ذكر المعلمي في رسالته أن تقديم (الطائفين) في قوله تعالى: (أن طهرا بيتي للطائفين)(1) وفي قوله تعالى: (وطهر بيتي للطائفين) الآيتين الكريمتين (2) يفيد الأهمية بحيث يقدم الطائفون إذا حصل التعارض بينهم وبين العاكفين والمصلين تطوعًا. فتعقب صاحب النقض ذلك في ص12، 13 وذكر أن لانكتة لتقديم (الطائفين) على سواهم في هاتين الآيتين، واستند في تلك الدعوى إلى أمرين: أحدهما ان "الواو" في قوله تعالى: (للطائفين والعاكفين والركع السجود) واو العطف. قال: وهي عند النحاة لمطلق الجمع. وحمى بعض الأصوليين الغجماع على ذلك، ونقله أبوعلي الفارسي إجماع نحاة الكوفة والبصرة عليه. الثاني: أنه قد روى عن بعض السلف تفسير (الطائفين) بمن أتى البيت من غربة، (والعاكفين) بالمقيمين فيه. قال: وقد سوى الله بينهما في قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد)(3) هذا ما ذكره. والجواب عنه بما يلي:
(1) سورة البقرة آية 125
(2)
سورة الحج آية 16
(3)
سورة الحج - آية 25
اما حكاية الإجماع على كون "واو العطف" غير مفيدة للترتيب فغير صحيحة. كما بينه ابن هشام والأسنوي، وابن اللحام، وابن كثير، قال ابن هشام في "المغني": وكونها - أي الواو السيرافي: فإن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب. مردود؛ بل قال بإفادتها إياه قطرب، والربعي، والفراء، وثعلب، وأبوعمرو الزاهد، وهشام، والشافعي. أهـ. وقال الإمام الأسنوي في "نهاية السول، على منهاج الأصول للبيضاوي": وقال السيرافي والسهيلي والفارسي: أجمع عليه - أي على عدم إفادة "الواو" للترتيب نحاة البصرة والكوفة. وليس الأمر كما قالوا، فقد ذهب جماعة إلى أنها للترتيب مهم ثعلب وقطرب وهشام وأبوجعفر الدينوري وأبوعمرو الزاهد. وقال: ابن اللحام في "قواعده" في ذكر المذاهب في "الواو": "الثالث" أنها تدل على الترتيب. وممن قال ذلك من أصحابنا عن الإمام أحمد بن أبي موسى في الارشاد. وأبومحمد الحلواني وغيرهما حتى إن الحلواني لم يحك خلافًا عن أصحابنا، إلا أنه قال تقتضي أصولها أنها للجمع، ونقل هذا المذهب صاحب "التتمة" من الشافعية عن بعض أصحابهم، وتابع الماوردي في الوضوء من الحاوي فنقله عن الأخفش وجمهور الشافعية: واختاره الشيخ أبوإسحاق في"التبصرة" نقل هذا المذهب أيضًا قطرب عن طائفة من النحاة منهم ابن درستويه وثعلب وأبوعمر والزاهد وابن جني وابن برهان الربعي. أهـ.
وقال ابن كثير من أئمة التفسير في (تفسير آية الوضوء) في بحث
دلالة "الواو" على الترتيب: منهم من قال لا نسلم أن "الواو" لا تدل على الترتيب، بل هي دلت عليه كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء. ثم نقول: وبتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي هي دالة عليه شرعًا فيما من شأنه أن يترتب، والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى:(إن الصفا والمروة من شعائر الله)(1) ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به" لفظ مسلم. ولفظ النسائي "إبدءوا بما بدأ الله به" وهذا لفظ أمر. وإسناده صحيح، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعًا. أهـ كلام ابن كثير. وكلام العلماء في بطلان دعوى الإجماع على أن "الواو" لا تفيد الترتيب كثير.
وأما ما يتعلق بالآية التي نحن بصدد الكلام عليها فقد بين السهيلي وابن القيم نكتة تقديم الطائفين على من سواهم. قال السهيلي في بحث الواو الذي نقله عنه ابن القيم في "بدائع الفوائد ج1 ص65": بدأ أي في الآية الكريمة - بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين، وجمعهم جمع السلامة، لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير، ولو كان مكان (الطائفين) الطواف لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله (للطائفين) ألا ترى انك تقول: تطوفون، كما تقول: طائفون. فاللفظان متشابهان. فإن قيل: فهلا أتى بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: وطهر بيتي للذين يطوفون. قيل: إن الحكم يعلل بالفعل لا بذوات الأشخاص، ولفظ
(1) سورة البقرة - آية 158
الذين ينبيء عن الشخص والذات. ولفظ الطواف يخفي معنى الفعل ولا يبينه. فكان لفظ (الطائفين) أولى بهذا الموطن. ثم يليه في الترتيب القائمين، لأنه في معنى (العاكفين) وهو في معنى قوله:(إلا ما دمت عليه قائمًا)(1) أي مثابرًا ملازمًا، وهو كالطائفين في تعلق حكم التطهير به، ثم يليه بالرتبة لفظ الركع لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصون بما قرب منه كالطائفين، ولذلك لم يتعلق حكم التطهير بهذا الفعل الذي هو الركوع، وأنه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجيء بلفظ جمع السلامة، لأنه لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل كما احتيج فيما قبله.
وقال ابن القيم في "بدائع الفوائد ج1 ص81" في كلامه على الآية المذكورة: فإنه ذكر أخص هذه الثلاثة وهو الطواف الذي لا يشرع إلا بالبيت خاصة، ثم انتقل منه إلى الاعتكاف وهو القيام المذكور في الحج، وهو أعم من الطواف، لأنه يكون في كل مسجد، ويختص بالمساجد لا يتعداها، ثم ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثنى شرعًا. وإن شئت قلت: ذكر الطواف الذي هو أقرب من العبادات بالبيت: ثم الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد، ثم الصلاة التي تكون في البلد كله، بل في كل بقعة.
يضاف إلى هذا إستدلال من قال من أئمة العلماء بأفضلية التطوع بالطواف على التطوع بالصلاة بهذه الآية كابن عباس وغيره، وقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم البدء بالطواف قبل كل
(1) سورة آل عمران - آية 75
شيء كما صرح به شيخ الإسلام ابن تيمية في منسكه قال: النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل المسجد ابتدأ بالطواف، ولم يصل قبل ذلك تحية المسجد، بل تحية المسجد الحرام الطواف بالبيت.
وممن سبق شيخ الإسلام ابن تيمية إلى تقرير ذلك عمدة صاحب النقض الأزرقي في "تأريخ مكة" والإمام الشافعي في "الأم". قال الأزرقي في "أخبار مكة" ج2ص91: حدثني جدي - أي أحمد ابن محمد بن الوليد - حدثني مسلم بن خالدج الزنجي. عن ابن جريج. قال: قال عطاء: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة لم يلو ولم يعرج ولم يبلغنا أنه دخل بيتًا ولا لوى لشيء ولا عرج في حجته هذه وفي عمره كلها حتى دخل المسجد، ولم يصنع شيئًا ولا ركع حتى بدأ بالبيت فطاف به، وهذا أجمع في حجته وعمره كلها. أهـ.
وقال الإمام الشافعي في "الأم": (باب ما جاء في تعجيل الطواف بالببيت حين يدخل مكة) أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لم يلو ولم يعرج. قال الشافعي لم يبلغنا أنه حين دخل مكة لو لشيء ولا عرج في حجته هذه ولا عمرته كلها حتى دخل المسجد ولا صنع شيئًا حين دخل المسجد لا ركع ولا صنع غير ذلك حتى بدأ بالبيت فطاف، هذا أجمع في حجه وفي عمرته كلها. أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج، قال: قال عطاء فيمن قدم معتمرًا فقدم المسجد: لأن يطوف بالبيت فلا يمنع الطواف ولا يصلي تطوعًا حتى يطوف، وإن وجد الناس في المكتوبة فليصل معهم. ولا أحب أن يصلي بعدها
شيئًا حتى يطوف بالبيت، وإن جاء قبل الصلاة فلا يجلس ولا ينتظرها وليطف. فإن قطع الإمام طوافه فليتم بعد. أخبرنا سعيد بن سالم. عن ابن جريج، قال قلت لعطاء: ألا أركع قبل تلك المكتوبة إن لم أكن ركعت ركعتين. قال: لا. إلا ركعتي الصبح إن لم تكن ركعتهما فاركعهما ثم طف، لأنهما أعظم شأنًا من غيرهما. أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج أنه قال لعطاء: المرأة تقدم نهارًا؟ قال: ما أبالي إن كانت مستورة أن تقدم نهارًا. قال الشافعي: وبما قال عطاء آخذ لموافقته السنة فلا أحب لأحد قدر على الطواف أن يبدأ بشيء قبل الطواف إلا أن يكون نسي المكتوبة فليصلها، أو يقدم في آخر مكتوبة فيخاف فواتها فيبدأ بصلاتها، أو خاف فوت ركعتي الفجر فيبدأ بهما، أو نسي الوتر فليبدأ به ثم يطوف، فإذا جاء وقد منع الناس الطواف ركع ركعتين لدخول المسجد إذا منع الطواف، فإن جاء وقد أقيمت الصلاة بدأ بالصلاة، فإن جاء وقد تقاربت إقامة الصلاة بدأ بالصلاة. والرجال والنساء فيما أحببت من التعجيل حين يقدمون ليلاً سواء. وكذلك هم إذا قدموا نهارًا، إلا إمرأة لها شباب ومنظر فإني أحب لتلك تؤخر الطواف حتى الليل ليستر الليل منها. أهـ نص "الأم".
وهو صريح في أن من قدر على الطواف لا يبدأ بشيء قبله، وعند الأزرقي بسنده إلى ابن جريج أنه قال في عطاء: هو يشدد في تأخير الطواف بالبيت جدًا. قال: لا تؤخره إلا لحاجة: إما لوجع، وإما لحصار. قال: فإذا دخلت المسجد فسأعتئذ فطف حين تدخل. قلت له: إني ربما دخلت عشية فأحببت أن أوخره إلى الليل. قال: لا يؤخره إلا أن يمنع إنسان الطواف فيصلي تطوعًا إن بدا له. أهـ.
وأما قول المعلمي (يقدم الطائفون عند التعارض بينهم وبين العاكفين والمصلين تطوعًا) فيشهد له ما ذكره الحافظ ابن كثير في تأريخه "البداية والنهاية" ج7 ص93 عن أئمة هذا الشأن أنهم قالوا: حول عمر المقام وكان ملصقًا بجدار الكعبة فأخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين، ثم قال ابن كثير: قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر: ولله الحمد والمنة.
أما تفسير (الطائفين) بالآيتين من غربة. فقد استبعده القرطبي في تفسيره، وذكر ابن جيرير الطبري في تفسيره أنه ليس بصواب قال: لأن الطائف هو الذي يطوف بالشيء دون غيره، والطاريء من غربة لا يستحق اسم طائف بالبيت إن لم يطف به. أهـ.
(فصل) في ترفيعه الأزرقي على ابن اسحاق والواقدي، والرد عليه
قال صاحب النقض في نقضه ص71 وص72: (إذا كان محمد بن إسحاق بن يسار المرمي بالتشيع والقدر والتدليس إمامًا وحجة في المغازي، ومحمد بن عمر الواقدي الذي هو متروك الرواية لا يحتج به إذا انفرد إنما يستفاد كثير من أمور المغازي من جهته، حتى قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يختلف اثنان أن الواقدي من أعلم الناس بتفاصيل أمور المغازي وأخبرهم بأحوالهم. وقد كان الشافعي وأحمد وغيرهما يستفيدون علم ذلك من كتبه. فالإمام أبوالوليد الأزرقي الذي لم يرم ببدعة، ولم يجرح بقادح يوجب الطعن يما يرويه أولى وأحرى بأن يكون حجة فيما دونه من أخبار مكة، وما تعلق بالمشاعر المعظمة) هكذا حاول صاحب
النقض ترفيع عمدته الأوزرقي مؤرخ مكة الذي لم يترجمه أحد من أئمة عصره بشيء (1) على إمامي المغازي والسير محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر الواقدي، وذلك غير لائق، فإنهما وإن تكلم فيهما بعض أئمة العلم فهما مشهوران عند أئمة زمانهما ومن بعدهم بالعلم، وقد ذب عنهما من أئمة العلم من تذكر كلامه فيما يلي:
أما "محمد بن إسحاق" فقد قال البخاري في "التأريخ الكبير": قال لي علي بن عبد الله، عن ابن عيينة، قال الزهري: من أراد المغازي فعليه بمولى قيس بن مخرمة هذا - يعني ابن اسحاق - قال ابن عيينة: ولم أر أحدًا يتهم ابن إسحاق، قال في عبيد بن يعيش: سمعت يونس بن بكير يقول: سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المحدثين بحفظه، مات سنة إحدى وخمسين ومائة. أهـ.
وقال البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام": رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق. وقال علي. عن ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يتهم ابن إسحق. قال البخاري: قال لي إبراهيم بن المنذر: حدثنا عمر بن عثمان: أن الزهري كان يتلقف المغازي من ابن إسحاق المدني فيما يحدثه عن عاصم بن قتادة. قال البخاري: والذي يذكر عن مالك في ابن إسحق لا يكاد يبين، وكان اسماعيل ابن أبي أويس من أتبع من رأينا مالكًا أخرج كتب ابن إسحق عن أبيه في المغازي وغيرها، فانتخبت منها كثيرًا، وقال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي. وإبراهيم بن سعد من
(1) بذلك صرح الفاسي في "العقد الثمين" في ترجمة الفاكهي باهمال الفضلاء ترجمته.
أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه، ولو صح عن مالك تناوله من ابن إسحق فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد ولا يتهمه في الأمور كلها. وقال إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش وقد أكثر عنهما في الموطأ، وهما ممن يحتج بحديثهما، ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما ذكره عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة وفيمن كان قبلهم، تأول بعضهم في الغرض والنفس. ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة، والكلام في هذا كثير. وقال عبيد ابن يعيش: حدثنا يونس بن بكير. قال سمعت شعبة يقول: محمد ابن اسحاق أمير المحدثين لحفظه. وروى عنه الثورين وابن ادريس وحماد بن زيد، ويزيد بن زريع. وابن علية. وعبد الوارق، وابن المبارك، وكذلك احتمله أحمد ويحيى وعامة أهل العلم. وقال لي علي بن عبد الله: نظرت في كتاب ابن إسحق فما وجدت عليه إلا في حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين. وقال بعض أهل المدينة: إن الذي يذكر عن هشام بن عروة.
قال: كيف يدخل ابن إسحق على امرأتي؟ لو صح عن هشام جاز أن تكتب إليه، فإن أهل المدينة يرون الكتاب جائزًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتابًا، وقال:"لا تقرأه حتى نبلغ كذا وكذا" فلما بلغ فتح الكتاب، وأخبرهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وحكم بذلك، وكذلك الخلفاء والأئمة يفضون كتاب بعضهم إلى بعض، وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب، وهشام لم يشهد. أهـ. كلام البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام".
وممن حذا حذو البخاري في الذب عن ابن إسحق من المتأخرين السهيلي صاحب "الروض الأنف" وابن القيم. قال السهيلي في "الروض الأنف": محمد بن إسحق رحمه الهل ثبت في الحديث عند أكثر العلماء، وأما في المغازي والسير فلا تجهل إمامته فيهما، قال ابن شهاب الزهري: من أراد المغازي فعليه بابن إسحق. ذكره البخاري في "التاريخ" وذكر عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما أدركت أحدًا يتهم ابن إسحق في حديثه، وذكر أيضًا عن شعبة بن الحجاج أنه قال: ابن إسحق أمير المؤمنين - يعني في الحديث - وذكر أبويحيى الساجي رحمه الله بإسناد له عن الزهري أنه قال: خرج إلى قريته باذام فخرج غليه طلاب الحديث فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول، أو قد خلفت فيكم الغلام الأحول - يعني ابن اسحق - وذكر الساجي أيضا قال: كان أصحاب الزهري يلجئون إلى محمد بن اسحق فيما شكوا فيه من حديث الزهري ثقة منهم بحفظه. هذا معنى كلام الساجي نقلته من حفظي لا من كتاب. وذكر عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا ابن اسحق واحتجوا بحديثه. وذكر علي بن عمر الدارقطني في "السنن" حديث القلتين من جمؤع طرقه وما فيه من الاضطراب. ثم قال في حديث جرى قال: وهذا يدل على حفظ محمد بن إسحاق وشدة إتقانه.
ثم ذكر السهيلي أن ابن إسحاق أدرك من لم يدركه مالك روى حديثًا كثيرًا عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، ومالك إنما يروى عن رجل عنه، ثم قال: وذكر الخطيب أحمد بن علي
ابن ثابت في تاريخه فيما ذكر لي عنه أنه - يعني ابن إسحق - رأى أنس بن مالك وعليه عمامة سوداء والصبيان خلفه يشتدون ويقولون هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يلقى الدجال، وذكر الخطيب أيضًا أنه روى عن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وذكر أن يحيى بن سعيد الأنصاري شيخ مالك روى عن ابن اسحق، قال: وروى عنه سفيان الثوري والحماد أن: حماد بن سلمة بن دينار، وحماد بن زيد ابن درهم وشعبة. وذكر عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن اسحق. أهـ.
وقال الإمام ابن القيم في باب الرد على الجهمية ج7 ص94 من "تهذيب سنن أبي داود": إن ابن اسحق بالموضع الذي جعله الله من العلم والأمانة. قال علي بن المديني: حديثه عندي صحيح. وقال شعبة: ابن إسحق أمير المؤمنين في الحديث. وقال أيضًا: هو هو صدوق. وقال علي بن المديني أيضًأ: لم أجد له سوى حديثين متكريين. وهذا في غاية الثناء والمدح إذ لم يجد له على كثرة ما روى إلا حديثين متكريين، وقال علي أيضًا: سمعت ابن عيينة يقول: ما سمعت أحدًا يتكلم في ابن إسحق إلا في قوله في القدر، ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بعدهم. وقال محمد بن عبد الله ابن الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال الزهري: لا يزال بهذه الحرة علم مادام ذلك الأحول - يريد به ابن إسحق - وقال يعقوب ابن شيبة: سألت يحيى بن معين: كيف ابن إسحق؟ قال: ليس بذلك. قلت: في نفسك من حديثه شيء؟ قال: لا، كان
صدوقًا. وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: لو كان في سلطان لأمرت ابن إسحق على المحدثين. وقال ابن عدي: قد فتشت أحاديث ابن إسحق الكبير فلم أجد في حديثه ما يتهيؤ أن نقطع عليه بالضعف. وربما أخطأ أو وهم كما يخطيء غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة. وهو لا بأس به. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: ابن اسحق ثقة. وقد استشهد مسلم بخمسة أحاديث ذكرها لابن إسحق في صحيحه. وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن إسحق، حدثنا سعيد بن عبيد بن السباق عن أبيه عن سهل بن حنيف قال:"كنت ألقى من المذي شدة فأكثر الاغتسال منه" الحديث. قال الترمذي: هذا حديث صحيح لا تعرفه إلا من حديث ابن اسحق. فهذا حكم قد تفرد به ابن إسحق في الدنيا وقد صححه الترمذي.
ثم قال الإمام ابن القيم: فإن قيل: فقد كذبه، مالك، فقال أبوقلاية الرقائي: حدثني أبوداود سليمان بن داود، قال: قال يحيى بن القطان: أشهد أن محمد بن إسحق كذاب. قلت: وما يدريك؟ قال: قال لي وهب، فقلت لوهب وما يدريك؟ قال: قال في مالك بن أنس. فقلت لمالك: وما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة. قال: قلت لهشام: وما يدريك؟ قال: حدث على امرأتي فاطمة بنت المنذر. ودخلت عليها وهي بنت تسع وما رآها رجل حتى لقيت الله.
قيل: هذه الحكاية وأمثالها هي التي غرت من اتهمه بالكذب. وجوابها من وجوه:
"أحدها": أن سليمان بن داود راويها عن يحيى هو الشاذكوني وقد اتهم بالكذب فلا يجوز القدح في الرحل بمثل رواية الشاذكوني.
"الثاني": أن في الحكاية ما يدل على أنها كذب، فإنه قال: أدخلت فاطمة علي وهي بنت تسع. وفاطمة أكبر من هشام بثلاثة عشرة سنة، ولعلها لم تزف إليه إلا وقد زادت على العشرين، ولما أخذ عنها ابن إسحق كان لها نحو بضع وخمسين سنة.
"الثالث": أن هشامًا إنا نفى رؤيته لها ولم ينف سماعه منها، ومعلوم إنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع. قال الإمام أحمد: لعله سمع منها في المسجد. أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب، فأي شيء في هذا، فقد كانت امرأة كبرت وأسنت، وقال: يعقوب بن شيبة: سألت ابن المديني عن ابن إسحاق، فقال: حديثه عندي صحيح. قلت: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه ولم يعرفه، وأي شيء حدث بالمدينة. قلت: فهشام بن عروة قد تكلم فيه. قال: الذي قال هشام ليس بحجة. لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها؛ فإن حديثه ليتبين فيه الصدق، يروي مرة يقول حدثني أبوالزناد، ومرة يقول ذكر أبوالزناد، ويقول حدثني الحسن بن دينار عن أيوب عن عمرو بن شعيب في "سلف وبيع" وهو أروى الناس عن عمرو بن شعيب. انتهى المراد من كلام ابن القيم.
وأما "محمد بن عمر الواقدي" فعندنا له - وإن تكلم فيه بعض أهل العلم - من شهادات أئمة الحديث ما لم يوجد منه شيء للأزرقي مؤرخ مكة، قال الخطيب: هو ممن طبق شرق الأرض
وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف أخبار الناس أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم: من المغازي والسير، والطبقات، وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والأحداث التي كانت في وقته وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وكتب الفقه، واختلاف الناس في الحديث. وغير ذلك. وقال الحافظ أبوالفتح محمد بن محمد المعروف بابن سيد الناس في "عيون الأثر": وقال محمد بن خلاد: سمعت محمد بن سلام الجمحي يقولك محمد بن عمر الواقدي عالم دهره. وقال إبراهيم الحربي: الواقدي أمن الناس على أهل الإسلام. وقال الحربي أيضًا: كان الواقدي أعلم الناس بأمر الإسلام فأما الجاهلية فلم يعمل فيها شيئًا. وقال يعوب بن شيبة: لما انتقل الواقدي من الجانب الغربي إلى ها هنا يقال إنه حمل كتبه على عشرين ومائة وقر. وقيل كانت كتبه ستمائة قمطر، وقال محمد بن جرير الطبري: وقال ابن سعد: كان الواقدي يقول: ما من أحد إلا وكتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي، وروى غيره عنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته هل سمعت أحدًا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل، فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه، ونحو هذا الكلام. وقال ابن منيع: سمعت هارون الفروي يقول: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة، فقلت: أين تريد؟ قال أريد أن أمضي إلى حنين حتى أرى موضع الواقعة.
وقال إبراهيم الحربي: سمعت المسيبي يقول: رأيت الواقدي يومًا جالسًا إلى اسطوانة في مسجد المدينة وهو يدرس،
فقال له: أي شيء تدرس؟ فقال: حزبي من المغازي، وروينا عن أبي بكر الخطيب قال: أنا الأزهري قال: أنا محمد بن العباس، قال أنا أبوأيوب، قال سمعت إبراهيم الحربي يقول: وأخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي، ثنا عبد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري، ثنا محمد بن أيوب بن المعافى، قال قال إبراهيم الحربي: سمعت المسيبي يقول: قلنا للواقدي هذا الذي تجمع الرجال تقول: ثنا فلان وفلان وجئت بمتن واحد، لو حدثتنا بحديث كل رجل على حدة. قال: يطول. فقلنا لقد رضينا، قال: فغاب عنا جمعة ثم أتانا بغزوة أحد عشرين جلدًا، وفي حديث البرمكي مائة جلد، فقلنا له ردنا إلى الأمر الأول، معنى اللفظين متقارب. وعن يعقوب بن شيبة قال: ومما ذكر لنا أن مالكًا سئل عن قتل الساحرة، فقال: انظروا هل عند الواقدي في هذا شيء، فذاكروه ذلك، فذكر شيئًا عن الضحاك بن عثمان، فذكروا أن مالكًا قنع به، وروى أن مالكًا سئل عن المرأة التي سمت النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ما فعل بها، فقال ليس عندي بها علم، وسأسأل أهل العلم قال فلقي الواقدي، قال يا أبا عبد الله: ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي سمته بخيبر؟ فقال: الذي عندنا أنه قتلها، فقال مالك قد سالت أهل العلم فأخبروني أنه قتلها. وقال أبوبكر الصاغاني: لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه، حدث عن أربعة أئمة: أبوبكر بن أبي شيبة، وأبوعبيد، وأحسبه ذكر أبي خيثمة ورجلاً آخر. وقال عمرو الناقد: قلت للدراوردي: ما تقول في الواقدي؟ قال: لا تسألني عن الواقدي، سل الواقدي عني. وذكر الدراوردي الواقدي فقال: ذلك أمير المؤمنين في الحديث.
وسئل أبوعامر العقدي عن الواقدي، فقال: نحن نسأل عن الواقدي، إنما يسأل هو عنا، ما كان يفيدنا الأحاديث والشيوخ بالمدينة إلا الواقدي، وقال الواقدي: لقد كانت الواحي تضيع فأوتي بها من شهرتها بالمدينة. يقال: هذه ألواح ابن واقد. وقال مصعب الزبيري: والله ما رأينا مثله قط. قال مصعب: وحدثنا من سمع عبد الله بن المبارك يقول: كنت أقدم المدينة فما يفيدني ولا يدلني على الشيوخ إلا الواقدي. وقال مجاهد بن موسى: ما كتبت عن أحد أحفظ منه. وسئل عنه مصعب الزبيري، فقال: ثقة مأمون. وكذلك قال المسيبي. وسئل عنه معن بن عيسى فقال: أنا أسأل عنه؟ هو يسأل عني. وسئل عنه أبويحيى الزهري، فقال: ثقة مأمون، وسئل عنه ابن نمير، فقال: أما حديثه عنا فمستو، وأما حديث أهل المدينة فهم أعلم به. وقال يزيد بن هارون: ثقة، وقال عباس العنبري: هو أحب إلى من عبد الرزاق. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام: ثقة. وقال إبراهيم: وأما فقه أبي عبيد فمن كتاب محمد بن عمر الواقدي: الاختلاف، والإجماع كان عنده، وقال إبراهيم الحربي: من قال إن مسائل مالك بن أنس وابن أبي ذئب تؤخذ عمن هو أوثق من الواقدي فلا يصدق، إنه يقول سألت مالكًا وسألت ابن أبي ذئب. وقال إبراهيم بن جابر: حدثني عبد الله ابن أحمد بن حنبل. قال كتب أبي عن أبي يوسف ومحمد ثلاثة قماطر، قلت له: كان ينظر فيها؟ قال: كان ربما نظر فيها، وكان أكثر نظره في كتب الواقدي.
وأما ما أنكر على الواقدي، فقد تعرض له ابن سيد الناس في "عيون الأثر" قال: سئل إبراهيم الحربي عما أنكره أحمد على الواقدي؟ فقال: إنما أنكر عليه جمعه الأسانيد ومجيئه بالمتن
واحدًا. وقال إبراهيم: وليس هذا عيبًا، فقد فعل هذا الزهري، وابن اسحق: قال إبراهيم: لم يزل أحمد بن حنبل يوجه في كل جمعة بحنبل بن اسحق إلى محمد بن سعد فيأخذ له جزئين من حديث الواقدي فينظر فيهما، ثم يردهما ويأخذ غيرهما.
ثم ذكر ابن سيد الناس كلام من ضعف الواقدي، وكلام من نسبه إلى وضع الحديث وتقليب الأخبار، وأجاب عن ذلك بقوله: قلت: سعة العلم مظنة لكثرة الاغراب، وكثرة الاغراب مظنة التهمة، والواقدي غير مدفوع عن سعة العلم، فكثرت بذلك غرائبه. وقد روينا عن علي بن المديني أنه قال: للواقدي عشرون ألف حديث لم نسمع بها، وعن يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين ألف حديث، وقد ورينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع. وسؤاله من أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفرادًا بروايات وأخبار لا تدخل تحت الحصر. وكثيرًا ما يطعن في الراوي برواية وقعت له من أنكر تلك الرواية عليه واستغربها منه. ثم يظهر له أو لغيره بمتابعة متابع أو سبب من الأسباب براءته من مقتضى الطعن فيتخلص بذلك من العهدة. وقد روينا عن الإمام لأحمد رحمه الله ورضي الله عنه أنه قال: مازلنا ندافع أمر الواقدي حتى روى عن معمر عن الزهري عن نبهان عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان انتما، فجاء بشيء لا حيلة فيه، والحديث حديث يونس لم يروه غيره. وروينا عن أحمد بن منصور الرمادي قال: قدم علي بن المديني بغداد سنة سبع ومائتين والواقدي يومئذ قاض علينا،
وكنت أطوف مع علي على الشيوخ الذي يسمع منهم، فقلت: أتريد أن تسمع من الواقدي، ثم قلت له بعد ذلك: لقد أردت أن أسمع منه. فكتب إلى أحمد بن حنبل: كيف تستحل الرواية عن رجل روى عن معمر حديث نبهان مكاتب أم سلمة، وهذا حديث يونس تفرد به، قال أحمد بن منصور الرمادي: فقدمت مصر بعد ذلك، فكان ابن أبي مريم يحدثنا به عن نافع بن يزيد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن نبها، وقد رواه أيضًا يعقوب بن سفيان، عن سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن يزيد كرواية الرمادي، قال الرمادي: فلما فرغ ابن أبي مريم من هذا الحديث ضحكت. فقال مم تضحك؟ فأخبرته بما قال علي.
وكتب إليه أحمد فقال لي ابن أبي مريم: إن شيوخنا المصريين لهم عناية بحديث الزهري، وكان الرمادي يقول: هذا مما ظلم فيه الواقدي. فقد ظهر في هذا الخبر أن يونس لم ينفرد به. وإذ قد تابعه عقيل فلا مانع من أن يتابعه معمر، وحتى لو لم يتابعه عقيل لكان ذلك محتملا، وقد يكون فيما رمى به من تقليب الأخبار ما ينحو هذا النحو. أهـ المراد من كلام صاحب "عيون الأثر".
(فصل) في ذكر كلمة المفتي الأكبر والرد عليها (1)
قال صاحب النقض ص188: وأما وصفه لفضيلة المفتي "بالأكبر" كما اعتاده بعض من لا علم عنده وجعله ديدنه في خطاباته لفضيلته، فهذا خطأ واضح، بل زلة كبرى، لأن المفتي الأكبر هو الله جل وعلا؛ لأن الفتوى هي بيان الحكم للسائل، والله سبحانه هو الذي شرع الأحكام وبينها لعباده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر تعالى عن توليه لمنصب الفتوى في قوله:(ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب)(2) وقال (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)(3) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في قصة السحر: "أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي"(4) وفتوى أهل العلم إنما هو مجرد التبليغ عنه لما أفتى به، والأخبار بأنه أمر بكذا ونهي عن كذا وأحل كذا وحرم كذا، والمفتي في الحقيقة هو الله عز وجل. وبما أن الوصف "بالأكبر" أفعل تفضيل مطلق يقتضي تفضيل الموصوف بالأكبرية على غيره، وهذا لا يليق إلا بالله، لأن هذا الوصف لا يصدق إلا عليه، ولا ينصرف عند
(1) القصد بهذا البحث رد دعوى ابن حمدان أن اطلاق لفظة "المفتي الأكبر" على المخلوق فيه منازعة للربوبية، لا رغبتي في تلقيبي بهذا اللقب، فإني وإن كان الأمر فيه كما ذكرنا أكرهه.
(2)
سورة النساء - آية 127.
(3)
سورة النساء - آية 176.
(4)
وهي مخرج في الصحيحين وغيرهما بألفاظ منها "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم عندي دعا الله ودعاه ثم قال أشعرت يا عائشة أن الله أفتاني فيما أستفتيته..الخ.
الإطلاق إلا إليه، فإطلاقه على المخلوق تهجم على مقام الربوبية في الفتوى، ومنازعة له في الأكبرية. هذا نص نقض المباني حول كلمة "المفتي الأكبر".
وجوابنا عنه أن تقليب الشخص بلقب "المفتي الأكبر" ليس القصد منه التفضيل المطلق، ولا منازعة الرب في الأكبرية؛ بل القصد منه أنه مرجع غيره من المفتين الذين يعتبر مرجعًا لهم، كما أن تلقيب غير الرسول صلى الله عليه وسلم بلقب "الإمام الأعظم" ليس القصد منه التهجم على منصب الرسول الذي هو الإمام الأعظم، إنما القصد أنه أعظم بالنسبة إلى من هو أعظم منه (1) . وقد أطلقت لفظة "المفتي الأعظم" قديمًا على بعض العلماء ففي كتاب "الاعلام بأعلام بيت الله الحرام" للقطب الحنفي إطلاق لقب المفتي الأعظم على أبي السعود، ففي ص26 منه ما نصه: أرسل - أي السلطان سليمان خان - إلى مفتي الإسلام، سلطان العلماء الأعلام، مولانا أبي السعود أفندي، المفتي الأعظم، يستفتيه عن حكم الله في هذه المسألة - أي مسألة تتعلق بإصلاح شيء من الكعبة - وكان هذا الإطلاق في زمن العلماء الأعلام أمثال الهيتمي والشيخ نور الدين علي بن إبراهيم وغيرهما، ولم يسمع أن أحدًا منهم اعتبر التلقيب بذلك اللقب "المفتي الأعظم" منازعة للربوبية، وذلك لمعرفتهم بالمقصود بهذه الكلمة ونظيراتها.
وأما إسناد الإفتاء بصيغة الفعل المقيد إلى الله تعالى في القرآن
(1) بهذا الاعتبار فرق الفقهاء بين الامام الأعظم وبين غيره في أحكام، منها الصلاة على الغال، ففي "زاد المستنقع" وشرحه: الروض المربع، ما نصه: ولا يسن أن يصلي الامام الأعظم على الغال
…
الخ.
فلا يستلزم تسمية الله عز وجل باسم المفتي؛ فإن باب الأفعال أوسع من باب الأسماء، كما بينه العلامة ابن القيم في كتبه، قال في "مدارج السالكين" ج3 ص415 في الكلام على الواجد: أطلق الله على نفسه أفعالاً لم يتسم منها باسم الفاعل: كأراد، وشاء، وأحدث. ولم يسم بالمريد، والشائي، والمحدث. كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء. وقد أخطأ أقبح خطأ من اشتق له من كل فعل اسمًا وبلغ بأسمائه زيادة على الألف، فسماه الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد، ونحو ذلك. وكذلك باب الإخبار عنه بالإسم أوسع من تسميته به؛ فإنه يخبر عنه بأنه شيء وموجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمى بذلك. ومر ابن القيم في هذا البحث إلى أن قال: وهذا من دقيق فقه الأسماء الحسنى. وقال في "سفر الهجرتين" بعد كلام طويل فيما لا يصح إطلاقه على الله عز وجل: من هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقها له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه أسماء مطلقًا فأدخله في أسمائه الحسنى، فاشتق له اسم الماكر، والخادع، والفاتن، والمضل، والكاتب، ونحوها. من قوله:(ويمكر الله)(1) ومن قوله: (وهو خادعهم)(2) ومن قوله: (لنفتنهم فيه)(3) ومن قوله: (يضل من يشاء)(4) وقوله: (كتب الله لأغلبن)(5) وهذا خطأ من وجوه:
(1) سورة الأنفال - آية 30
(2)
سورة النساء - آية 142
(3)
سورة الجن - آية 17
(4)
سورة فاطر - آية 8
(5)
سورة المجادلة - آية 21
"أحدها" أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء، فإطلاقها عليه لا يجوز.
"الثاني" أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة، فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الإسم عند الإطلاق.
"الثالث" أن مسمى هذه الأسماء ينقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به، وإلى ما يذم، فيحسن في موضع، ويقبح في موضع، فيمتنع إطلاقه عليه تعالى من غير تفصيل.
"الرابع" أن هذه ليست من الأسماء الحسنى التي تسمى بها سبحانه، فلا يجوز أن يسمى بها؛ فإن أسماء الرب سبحانه كلها حسنى، كما قال تعالى:(ولله الأسماء الحسنى)(1) وهي التي يحب سبحانه أن يثني عليه ويحمد ويمجد بها دون غيرها.
"الخامس" أن هذا القائل أو سمي بهذه الأسماء، وقيل هذه مدحتك وثناء عليك. فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعد هذا مدحة، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علوًا كبيرا.
"السادس" أن هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه اللاعن والجائي والآلي والذاهب والتارك والمقاتل والصادق والمنزل والنازل والمدموم والمدمر وأضعاف أضعاف ذلك، فيشتق له اسمًا من كل فعل أخبر به عن نفسه، وإلا تناقض تناقضًا بينًا، ولا أحد من العقلاء طرد ذلك، فعلم بطلان قوله. والحمد لله رب العالمين. أهـ.
(1) سورة الأعراف - آية 180
ويضاف إلى ما ذكرناه في هذا البحث أن المقصود بالإفتاء في الكتاب والسنة الإجابة عن المشكل، كما بينه الراغب في "مفردات القرآن" وابن الأثير في "النهاية" قال الراغب: الفتيا والفتوى: الجواب عما يشكل من الأحكام. ويقال: استفتيته فأفتاني بكذا، قال:(ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن)(1)(فاستفتهم)(2)(أفتوني في رؤياي)(3) . وقال ابن الأثير في "النهاية": يقال: أفتاه في المسألة، يفتيه. إذا أجابه، والإسم الفتوى. ومنه الحديث "الإثم ما حاك في صدرك
…
وإن أفتاك الناس" (4) . وأما المفتي في الإصطلاح ففي "منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب ما نصه: أما المفتي فالعالم بأصول الفقه وبالأدلة السمعية التفصيلية واختلاف مراتبها. وقال الشاطبي في "الموافقات" ج4 ص258: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال. وقال ابن القيم في "اعلام الموقعين": حكم الله ورسوله يظهر على أربعة السنة: لسان الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم، ولسان الشاهد. فالراوي يظهر على لسانه لفظ حكم الله ورسوله. والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبط من لفظه. والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم الله وتنفيذه. والشاهد يظهر على لسانه الأخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع.
(1) سورة النساء - آية 127
(2)
سورة الصافات - آية 249
(3)
سورة يوسف - آية 33
(4)
وأخرجه الامام أحمد بلفظ "البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن اليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون".
فصل - في دعاواه حول المعلمي والجواب عنها
ادعى صاحب النقض على المعلمي دعاوي لا تليق، نذكرها مع الإجابة عنها في ما يلي:
1-
…
دعواه أن قول المعلمي (وأن في معنى التطهير إزالة كل ما يمنع من أداء هذه العبادات أو يعسرها أو يخل بها، كأن يكون في موضع الطواف ما يعوق عنه من حجارة أو شوك أو حفر) ادعى صاحب النقض أن مراد المعلمي بهذه العبارة تطهير البيت من مقام إبراهيم عليه السلام، ورتب على هذه الدعوى لوازم باطلة قبيحة يقول لا مفر للمعلمي منها ولا محيد له عنها هي كما يلي:
1-
…
أن إبراهيم واسماعيل عليهما السلام لم يفعلا ما أمرهما الله به من تطهير البيت حيث تركا المقام في موضعه الذي هو فيه الآن.
2-
…
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطهر البيت التطهير التام يوم الفتح حيث كسر الأًصنام والأوثان وأزالها عن البيت وترك المقام.
3-
…
إعتبار مقام إبراهيم الذي أمر الله بأن يتخذ منه مصلى في معنى الأصنام، فالمقام بهذا الاعتبار في معنى ما يتطهر منه وهي الأصنام.
4-
…
أنه لا يجوز أن يتخذ من المقام مصلى، وذلك مناقضة لأمر الله بذلك.
5-
…
وجوب إخراج المقام من الحرم حيث أن تأخيره عن محله إلى موضع آخر من المسجد لا يتم به تطهير البيت.
وذكر صاحب النقض أن ما ذكره المعلمي من أن إزالة ما يمنع من أداء تلك العبادات في معنى التطهير لا دليل عليه من لغة ولا شرع، ولم يذكره أحد من المفسرين، وهو غير صحيح، وقال: إن الطهارة ضد النجاسة حسية كانت أو معنوية فهما ضدان لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما. والجواب على الجميع بما يلي:
أما اتهامه المعلمي بأنه إنما يقصد بتلك العبارة تطهير البيت من مقام إبراهيم. فلم نجد في رسالة المعلمي ما يبرره، ونعيذه بالله من أن يقول ذلك. وأما اللوازم القبيحة التي زعم صاحب النقض أن لا مقر للمعلمي منها ولا محيد عنها، فلا نرى أنها تلزم المعلمي، لا لمجرد حسن الظن به فقط باعتباره عالمًا خدم الأحاديث النبوية وما يتعلق بها، بل لأمرين:
"أحدهما": تصريحاته في رسالته بما يبرؤه من تلك اللوازم القبيحة، ففي تطهير ابراهيم واسماعيل عليهما السلام البيت يقول ص3: أقام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت على الطهارة بأوفى معانيها) قال هذا بعد أن ذكر ما جاء عن السلف في تفسير تطهير البيت بالتطهر من الشرك والأوثان والريب وقول الزور والرجس والآفات. وفي تطهير النبي صلى الله عليه وسلم البيت يوم الفتح أشار ص59 إلى قيامه صلى الله عليه وسلم بإزالة الشرك وآثاره عند البيت، وذكر أن ذلك هو الأهم.
وفي حقوق مقام إبراهيم عليه السلام يقول ص42، 43:(وللمقام حقوق: الأول القرب من الكعبة، الثاني البقاء في المسجد الذي حولها. الثالث البقاء على سمت الموضع الذي هو عليه) وهذه
الحقوق التي أثبتها للمقام لا يتصور أن يثبتها له من يعتبره في معنى الأصنام. وفي اتخاذ مقام إبراهيم مصلى يقول ص36 قال البخاري في صحيحه في أبواب القبلة: (باب قوله تعالى) : (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)(1) ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أنه سئل عن رجل طاف بالبيت للعمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة) وقال ص38: (ثبت في حديث عطاء عن أسامة عند النسائي بسند رجاله ثقات" ثم خرج أي النبي صلى الله عليه وسلم فصل خلف المقام ركعتين وقال هذه القبلة) وذكر في ص61-62 أن حكم الصلاة خلف المقام يتعلق بالمقام لا بالموضع الذي خلفه قال: (إن الحكم المتعلق بالمقام وهو اتخاذه مصلى أي يصلي إليه لو كان يختص بموضع لكان هو موضعه الأصلي الذي انتهى إليه إبراهيم في قيامه عليه لبناء الكعبة وقام عليه فيه بالأذان بالحج، ونزلت الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وهو فيه، وصلى إليه النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا تلا في بعضها الآية وهو فيه. فلما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تأخيره وانتقل الحكم وهو الصلاة إليه معه ثبت قطعًا أن الحكم يتعلق به لا بالموضع، إلا أنه يراعى ما راعوه من بقائه إلى ضيق ما أمامه على الطائفين) أهـ. في هذه العبارة دليل على احتفاظ المعلمي للمقام بحقوقه التي منها اتخاذه مصلى سواء انتقل
(1) سورة البقرة - آية 125
من موضعه اليوم أو لم ينتقل، واشتراطه لنقله عن موضعه اليوم إلى موضع آخر البقاء على السمت الخاص في المسجد والقرب من الكعبة.
هذا لا يمكن الجمع بينه وبين محاولة صاحب النقض إلزام المعلمي اعتبار المقام في معنى الأصنام.
"الثاني": أن المعلمي لا يرضى هذه اللوازم على فرض أن في كلامه ما يستلزمها. ولازم القول الذي لا يرضاه القائل بعد ظهوره لا تجوز إضافته إليه. كما بينه ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية. قال العلامة ابن القيم في "اعلام الموقعين" ص250 ج3 في بحث ترك الحبل: أما من عداه - أي الشارع - فلا يمنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمه. ولو علم أن هذا لازمه لما قاله، فلا يجوز أن يقال هذا مذهبه، ويقول ما لم يقله. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "القواعد النورانية" ص118، 119: لازم قول الإنسان نوعان: أحدهما لازم قوله الحق. فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره. وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب. والثاني لازم قوله الذي ليس بحق. فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين: ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد تلك القول ولا بلزومه. وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب، أم ليس بمذهب.
هو أجود من إطلاق أحدهما. فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله وإن كان متناقضًا.
وأما اعتبار إزالة ما يعوق عن الطواف من شجر أو شوك أو حجر أو حفر في معنى التطهير المأمور به، فيدل عليه ما رواه الأزرقي في "أخبار مكة" قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء عن عبيد بن عمير الليثي (طهر بيتي) من الآفات والريب. قال ابن جريج الآفات الشرور. أهـ. ولاشك أن الشجر والشوك والحفر في موضع الطوف من الشرور.
وأما زعم صاحب النقض أن الطهارة لا تكون إلا في مقابلة نجاسة حسية أو معنوية. فيرده (1) ما رواه الأزرقي في "تأريخ مكة" ج1 ص17 قال: حدثني جدي، قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال حدثني علقمة بن أبي علقمة، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: طيبوا البيت، فإن ذلك من تطهيره، ولاشك أن التطهير هنا ليس في مقابلة نجاسة لا معنوية ولا حسية، إذ لا وجود لشيء من ذلك عند البيت أيام تحدثت بذلك عائشة رضي الله عنها، بل دعوى وجود شيء من ذلك عند البيت وقت أمر إبراهيم عليه السلام بتطهيره تحتاج إلى دليل صحيح عن
(1) مما يرد القول بأن الطهارة لا تكون إلا في مقابلة نجاسة قول ابن رشد في المقامات ج1 ص42: أصل الطهارة في اللغة النظافة والنزاعة، ولذلك كانت العرب تستعملها في الطاهر دون النجس. ومثل ابن رشد لاستعمالها في الطاهر بقوله تعالى:(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) .
المعصوم، ولذلك يقول الحافظ ابن كثير في "تفسيره": يحتاج إثبات هذا - أي كون الأصنام تعبد عند البيت قبل إبراهيم عليه السلام إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم. أهـ. قلت: ولعله لهذا قال السدي في تفسير (طهرا بيتي) ابنيا بيتي.
الدعوى الثانية: من دعاوي صاحب النقض على المعلمي فسر التطهير في آيتي (طهر بيتي) و (طهرا بيتي) بالتهيئة، وقوله إثر ذلك: التطهير شيء، والتهيئة شيء آخر. فتفسيره التطهير بالتهيئة تأويل مردود، لأنه صرف لمعاني الآيات عما دلت عليه إلى غيره، والبيت وما حوله مهيؤ لمن يعبد الله فيه من عهد إبراهيم عليه السلام، والتهيئة لا تنفي وجود الشرك فيه المأمور بتطهيره منه؛ ولهذا كان أهل الجاهلية يحجون البيت ويطوفون به مهيأ لهم مع شركهم وعبادتهم للأصنام عنده، وهذا يدل على أن التهيئة غير التطهير.
أقول: تصفحنا رسالة المعلمي من أولها إلى آخرها لنجد فيها موضعًا واحدًا فسر فيه (طهر بيتي) يهييء و (طهرا بيتي) يهيئا فلم أجد شيئًا من ذلك؛ بل الذي وجدناه في ص3 من رسالته مما يتعلق بتفسير التطهير ما يلي:
1-
…
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: من الأوثان والريب وقول الزور والرجس. ذكره ابن كثير وغيره، وقال البغوي: قال ابن جبير وعطاء: طهرا من الأوثان والريب وقول الزور. وأخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال: من الآفات والريب. هذا الذي وجدناه في رسالة المعلمي، وهو الذي ذكر أنه أعم معنى
للتطهير. وبعد ذلك قال المعلمي: أقام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت على الطهارة بأوفى معانيها - يعني بأوفي المعاني ما نقله قبل ذلك عن أئمة التفسير مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير.
وأما قول المعلمي: (فثبت الأمر بأن يهيأ ما حول البيت تهيئة تمكن الطائفين والعاكفين والمصلين من أداء هذه العبادات بدون خلل ولا حرج) فهذا لا يعني به المعلمي تفسير التطهير في الآيتين الكريمتين بالتهيئة كما توهمه صاحب النقض؛ بل إنما أخذ المعلمي الأمر بالتهيئة كما توهمه صاحب النقض؛ بل إنما أخذ المعلمي الأمر بالتهيئة من تعلق (للطائفين والعاكفين والركع السجود) بـ (طهرا) بدليل قوله إثر ما قدمناه عنه في تفسير التطهير وإقامة إبراهيم وإسماعيل إياه بأوفى المعاني، قال: وقوله: (للطائفين) الآية تدل على أنه - مع أن التطهير مأمور به لحرمة البيت - فهو مأمور به لأجل هذه الفرق - الطائفين، والعاكفين، والقائمين، والركع السجود - لتؤدي هذه العبادات على الوجه المطلوب) . ففي هذا الصدد قال:(فثبت الأمر أن المعلمي فسر التطهير بالتهيئة لا يرد عليه قول صاحب النقض: (والتهيئة لا تنفي وجود الشرك فيه المأمور بتطهيره منه) لأن تهيئة إبراهيم الخليل عليه السلام لبيت الله بامر الله لا يمكن أن تجتمع مع الشرك، بل لابد أن تكون كاملة أتم الكمال. بقي أن يقال: إن تفسير التطهير بالتهيئة ليست تفسيرًا لفظيًا للتطهير. والجواب عن هذا أن التزام التفسير اللفظي طريقة المتأخرين. أما المتقدمون فلا يلتزمون التفسير اللفظي
كما قرره الإمامان ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في مصنفاتهما، واستسهلا لذلك ما لا يتنافى مع الحق من تفاسير الصوفية المعبر عنها بالإشارات. وإليك نصهما بذلك:
قال العلامة ابن القيم في "التبيان في أقسام القرآن" ص79: تفسير الناس يدور على ثلاثة أصول: تفسير على اللفظ، وهو الذي ينحو إليه المتأخرون. وتفسير على المعنى. وهو الذي يذكره السلف. وتفسير على الإشارة والقياس. وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم. وهذا لا بأس به بأربعة شروط: أن لا يناقض معنى الآية، وأن يكون صحيحًا في نفسه، وأن يكون في اللفظ إشعار به، وأن يكون بينه وبين الآية ارتباط وتلازم. فإذا اجتمعتت هذه الأمور الأربعة كان استنباطًا حسنًا. أهـ. وقال في تفسير قوله تعالى:(لا يمسه إلا المطهرون)(1) ص23: دلت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه وأن يفهمه كما ينبغي، قال البخاري في صحيحه في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به. وهذا أيضًا من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتذ بقراءته وفهمه وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله تكلم به حقًا وأنزله على رسوله، ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج بوجه من الوجود. أهـ.
وقال ابن القيم في "مدارج" السالكين ص416 ج ثاني في الكلام على الإشارات الصوفية: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله
(1) متفق عليه وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
روحه يقول: الصحيح منها ما يدل عليه اللفظ بإشارة من باب قياس الأولى. قلت: مثاله قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون)(1) ثم بعد كلام طويل في تفسير الآية قال: فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر، وسمعته يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة"(2) : إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب من دخول البيت، فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتليء بكلاب الشهوات وصورها، فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة. ومن هذا أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطًا في صحة الصلاة والاعتداد بها فإذا أخل بها كانت فاسدة، فكيف إذا كان القلب نجسًا ولم يطهره صاحبه فكيف يعتد له بصلاته وإن سقطت المطالبة، وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن. ومن هذا أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب، فتوجه المصلي إليها ببدنه وقلبه شرط، فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن، بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت. وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن السيرة وحسن التأمل والله أعلم.
(1) سورة الواقعة - آية 79
(2)
سورة الواقعة - آية 79
وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية بعد ذكر نوع من إشارات الصوفية الباطلة قال في "شرح حديث النزول": منها - أي إشارات الصوفية - ما يكون معناه صحيحًا وإن لم يكن هو المراد باللفظ وهو الأكثر في إشارات الصوفية، وبعض ذلك لا يجعل تفسيرًا بل يجعل من باب الاعتبار والقياس، وهذه طريقة صحيحة علمية كما في قوله تعالى:(لا يمسه إلا المطهرون) وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب" فإذا كان ورقة لا يمسه إلا طاهر البدن، فمعناه لا تهتدي بها إلا القلوب الطاهرة، وإذا كان الملك لا يدخل بيتًا فيه كلب فالمعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل قلبًا فيه أخلاق الكلب المذمومة. ولا تنزل الملائكة على هؤلاء. وهذا لبسطه، وضع آخر. أهـ.
قلت: ومن قبيل التفسير الغير اللفظي تفسير السدي (طهرا) في قوله تعالى: (أن طهرا بيتي) : بأمنا. رواه عنه الأزرقي في "أخبار مكة" وروى عنه ابن كثير في تفسيره أنه قال في تفسر (طهرا) : إبنيا. وكذلك تفسير يمان (طهرا بيتي) بقوله: خلقاه، وبخراه. ذكره عنه القرطبي في تفسيره.
"الدعوى الثالثة": من دعاوي صاحب النقض على المعلمي: دعواه أن ما كتبه في بحث المقام إنما هو من قبيل الاحتيال بالباطل، أخذًا من قول المعلمي في أول رسالته (حاولت فيها - أي في الرسالة تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق) قال صاحب النقض: هذا يدل على أنه - أي المعلمي - لم يجد من الأدلة ما يصح الاستناد عليه في ذلك؛ لأن المحاولة إنما تكون في ما فيه مشقة وصعوبة ولا يتأتى إلا بالاحتيال - هذا معنى كلامه ومقتضاه في
اللغة. قال صاحب "النهاية": والمحاولة طلب الشيء بحيلة. وكلا الأمرين اللذين ذكرهما غير جائز شرعًا. هذا نص نقض المباني. وهو مبنى على أن المحاولة لا تستعمل إلا في الاحتيال بالباطل وهو مردود. قال صاحب لسان العرب في مادة "حول" ما نصه حاول الشيء محاولة رامه قال رؤية: (حول حمد وانتجار المؤتجر) فهذا يدل على أن المحاولة لا تستلزم الاحتيال بالباطل كما أدعاه صاحب النقض. وما ذكره عن "النهاية" وهو في النهاية بصيغة التمريض "قيل" وذكر صاحب النهاية قبل ذلك حديثًا يدل على أن المحاولة لا تتلازم مع الاحتيال بالباطل وهو "بك أصاول، وبك أحاول"(1)
وهذه الرواية التي ذكرها صاحب النهاية ذكرها أيضًا المرتضي في "تاج العروس" ثم قال: قال الأزهري: معناه - أي لفظ "أحاول" - بك أطالب. ومن قبيل المحاولة التي لم تكن بالطرق الباطلة قول حسان بن ثابت الأنصاري شاعر النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" بهذا اللفظ بسند قوي قال ص32: أخبرنا أبويعلى، حدثنا ابراهيم بن الحجاج السامي حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان - يحرك شفتيه بعد صلاة الفجر بشيء فقلت يا رسول الله إنك تحرك شفتيك بشيء ما كنت تفعل، ما هذا الذي تقول؟ قال "أقول: الهلم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل". أهـ. وعزاه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "تخريج الأذكار" إلى النسائي. وعلق عليه الشوكاني في "تحفة الذاكرين" بقوله: قوله: "وبك أحاول" مأخوذ من المحاولة أي بك اتحرك. كما في الحديث الآخر (بك أحول) وقيل: معناه أحتال. وقيل: المحاولة طلب الشيء بحيلة. أهـ. كلام الشوكاني..ويدل على أن لا ملازمة بين المحاولة والاحتيال والحيلة وبين الباطل خلاف ما توهمه صاحب النقض.
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
هذا مع أن كلمة الحيلة نفسها لا تستلزم الباطل كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" ص82 - 83 ج3 من مجموعة الفتاوى الكبرى قال: ليس كل ما يسمى في اللغة حيلة أو يسميه بعض الناس حيلة أو يسمونه آلة مثل الحيلة المحرمة حرامًا. فإن الله سبحانه قال في تنزيله: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا)(1) فلو احتال المؤمن المستضعف على التخلص من بين الكفار لكان محمودًا في ذلك. ومر شيخ الإسلام في كلامه إلى أن قال: وحسن التحيل على حصول ما فيه رضي الله ورسوله أو دفع ما يكيد الإسلام وأهله سعي مشكور. قال: والحيلة مشتقة من التحول وهو نوع من الحول: كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود. وكالأكلة والشربة من الأكل والشرب. ومعناها نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي هو التحول من حال إلى حال هذا مقتضاها في اللغة، ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، وبحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة. أهـ. وقال صاحب "المحكم": الحول والحيل والحيلة والحويل والمحالة والاحتيال والتحول والتحيل كل ذلك الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة
(1) سورة النساء - آية 98
التصرف. أهـ. نقله عن صاحب المحكم الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات". وقول صاحب النقض: لم يجد - أي المعلمي - من الأدلة ما يصح الاستناد عليه. خلاف الواقع؛ فإن رسالته مملوءة بالأدلة الثابتة. لا بالحيل الباطلة. والله أعلم، وصل الله على نبينا محمد وصحبه وسلم (1) .
(1181 - ترك نقله مؤقتا لقصد استقامة الأحوال)
وهنا كلمة حول المقام:
المقام نعرف ان موضعه ليس معينا ذاتًا من الأرض، بخلاف الكعبة. ما ورد في المقام يفيد أنه ماله موضع معين؛ فإنه مرة صار عند البيت، ومرة كان في مكانه. وهذا صار مرتين أو ثلاثًا. إنما المتعين أن يكون بنسبة من البيت.
واختلف هل هذا موضعه الأول، وجعل عند البيت لعارض؟ وهل واضعه النبي. أو عمر؟.
وهذا الاختلاف يفيد أنه ليس عند العلماء نزاع أنه ليس من حين نزل منه إسماعيل وإبراهيم أن موضعه هذا. أو أنه ما صار فيه تغيير، ما قال هذا أحد؛ بل هو كان فيه تنحية بالاتفاق، والذي رجحه ابن حجر أن الذي نحاه عمر.
وحينئذ إذا عرض عارض جاز تنحيته عن المطاف بلا إشكال، وتنحيته من الموضع الذي هو فيه قرب البيت على جانب المسجد
(1) طبعت هذه النصيحة في مطابع دار الثقافة بمكة المكرمة - على نفقة دار الافتاء.
أو قريب من طرف المسجد لئلا يتعثر به الطائفون، ولكون الصلاة خلفه مشروعة، ولا يحصل زحمة لمن يقصد الصلاة عنده، هذه مصلحة، ودرء مفسدة ظاهرة، فإذا اقتضت المصلحة تنحيته فإنه لا مانع من ذلك.
وقد ألف المعلمي رسالة وذكر ما يتعلق بها، وهو أحسن في تعليقه وكتبنا عليها تعليقًا بسيطًا "تقريظ" وتكلم بعض من لا علم عنده بدون علم أن هذا مكانه أو نحو هذا.
وحين صار هذا الشيء وخشي من خوض الجهال ناس يقولون كذا
…
رؤي من المصلحة أن يترك الآن، ليس أنه أشكل لما سمعنا بعض القول؛ لكن حيث أنه سيشوش أناس، فاستشار الملك ورؤي أن يترك.
وبحث المقام وتنحيته ليس هو عندي فقط؛ بل هذا مقتضى ما ظهر للمشايخ عند أصل البحث في المسألة، بحث كم مرة، هذا الذي رأوه صوابا، للتعليل السابق.
لكن المقصود استقامة الأحوال، وأن يكون الناس على نظر واحد.
ولكن بعد هذا التوسيع يكون الضرر منه أشد؛ فإنه إذا كان فيه ستين أو مائة وجاءوا كلهم وحاذوا المقام؛ بل يوجد عليهم خلل في طوافهم فيجعل كأنه يقبل على البيت في خطواتع يخطوها.
(تقرير)
(1182 - اختصار هيكل المقام بعد توقف بعض المشايخ)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم
أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
فنتيجة للاجتمع المنعقد بيننا وبين العلماء لبحث المواضيع المتعلقة بمنى وبكسوة الكعبة المشرفة ومقام إبراهيم، فقد صدر بشأن ذلك القرار المتخذ من الجميع المعروض لأنظار جلالتكم من طي هذا. تولاكم الله بتوفيقه.
(الختم)
(ص - م57 في 2/1/1380هـ)
(القرار)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: فبناء على رغبة إمام المسلمين حفظه الله في بحث عدة موضوعات دينية هامة فقد جرى بحثها واستعراضها وهي:
1-
البنايات التي في منى بما فيها الأحواش والبيوت الخربة التي لا تصلح للسكنى.
2-
الكسوة العتيقة للكعبة الشريفة، وكيف يكون مصيرها.
3-
تنحية مقام إبراهيم عن موضعه الحالي نتيجة الزحام.
وقد ظهر لنا ما يلي:
1-
…
لا يسوغ بأي حال من الأحوال البناء في منى، وعليه فإنه يجب أن ترفع أيدي أرباب الدور المتهدمة عن تلك الدور، ويعوضوا عن ماله قيمة من أنقاضها، ثم تهدم وتسوى الأرض، كما يجب عدم جميع الأحواش المستقلة التي لا تتبع البيوت وتسويتها بالأرض وإزالة جميع المتحجرات والتأسيسات والمراسيم التي يراد بها التملك.
أما الأحواش التابعة للبيوت المبنية فتنقسم إلى قسمين: أحدهما الأحواش الواسعة الزائدة على حاجة البيوت. فهذه يجب هدم الزائد منها عن حاجة البيت. ويبقى ما هو بقدر حاجة البيت فقط. والثاني ما كان أصله بقدر حاجة البيت فقط. فهذا الذي بمقدار حاجة البيت المبني يكون تبعاً له. وإذا أزيلت تلك البيوت كما هو مقتضى الحكم الشرعي أزيلت معه الأحواش التابعة لها.
2-
…
يشكل هيئة دائمة لمراقبة منى. تتكون من أربعة أشخاص. ويجب أن يكونوا أمناء. أقوياء، حتى تحصل بهم المحافظة التامة، وتربط هذه الهيئة بجهة دينية: إما برئاسة القضاء، أو برئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحجاز.
3-
…
يتعين على الحكومة توسعة شارع الجمرات بقدر كاف، ويقسم طريقين: أحدهماللذاهبين. والآخر للراجعين، ويجعل بينهما حاجز. ومن ضرورة توسعة هذا الشارع المذكور أن تؤخذ الدور الواقعة في الشارعين القديمين ما بين جمرة الوسطى وجمرة العقبة.
4-
…
يتعين جعل مظلة من شينكو او نحوه لتقي الحجاج حرارة الشمس تبتدي هذه المظلة من الجمرة الأولى وتنتهي إلى جمرة العقبة.
أما موضوع الكسوة العتيقة للكعبة المشرفة فإنه ليس لآل الشيبي في هذه الكسوة حق من حيث الشرع، لكن حيث كان الولاة المتقدمون قد عودوهم إعطاءهم إياها. وكانوا متشوفين لذلك، ولهم مكانة لدانتهم لهذا البيت المطهر، فينبغي للإمام وفقه الله أن يعوضهم عنها من بيت المال ما يراه كافيًا لتطيب نفوسهم. ولا يدفع الكسوة إليهم، لما يفضي إليه ذلك من بيعها المنتهي إلى حصولها في أيدي الجهلة المتعلقين بها على وجه التبريك والتمسح بها الذي لا تجيزه الشريعة، لكن تحفظ تلك الكسوة في مكان مصون تحت أيدي حفاظ لها أمناء. ولو تلفت بأرضه أو غيرها فإن ذلك لا يضر شرعًا، وأكثر ما فيه أنه فوات جزء من المال. وارتكاب ذلك أسهل من ارتكاب ما يجر العوام والجهال إلى ما هو محظور شرعًا. وفي ذلك حراسة لعقائد الناس.
أما تنحية مقام إبراهيم عن موضعه الآن شرقًا ماما ليتسع المطاف. فحيث توقف بعض المشائخ في ذلك. اتفق الرأي من الجميع على اختصار هذا الهيكل الذي على المقام الآن بجعله مترًا في متر فقط، والباقي يبقى توسعة في المطاف، فيكون من المطاف من وجه، وزيادة في مصلى الركعتين من وجه آخر، إذا فقدت الزحمة صارت صلاة الركعتين يه وفيما خلفه من المصلى الأول، وإذا وجدت الزحمة انشغل هذا الزائد بالطائفين وصلى المصلون ركعتي الطواف خلفه. ويحسن أن يوضع مظلة تقي المصلين خلف المقام حر الشمس. وتكون جملونًا من خشب، وينبغي أن يكون شبك المقام ضيقًا جدًا بحيث لا يتمكن الجهال من إدخال
الأوراق فيه. وينبغي أيضًا أن ترفع الكسوة التي على حجر المقام ويوضع عليه مكانها زجاج سميك جدًا حتى يراه الناس ويعرفوا أنه حجرن ويلزم إحضار عالمين وقت قيام المهندس وعماله بعملية ما ذكر، حتى يتم تطبيق ما سلف ذكره بحضرتهما وتحت إشرافهما.
اما المنبر فيزال من مكانه، ويعمل من خشب، ويكون متحركًا بعجلات حتى يتمكن من إحضاره في محله وقت الحاجة، وعلى هذا حصل التوقيع:
عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ
…
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
…
عبد الله بن جاسر
علوي عباس مالكي
…
عبد الله بن عمر بن دهيش
محمد بن علي الحركان
…
حسن بن عبد الله بن حسن
عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم
…
عبد العزيز بن ناصر الرشيد
أمين الكتبي
…
محمد يحيى أمان
(1183 - تغطية الحاجز الحديدي للمقام بسلك نايلون)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس الديوان العالي
الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المحالة إلينا بخطاب الديوان العالي رقم 16/2/2417 وتاريخ 25/9/76هـ الخاصة باقتراح مديرية الأوقاف العامة بمكة بتغطية الحاجز الحديدي
لـ "مقام إبراهيم" بالسلك النايلون صيانة له من إلقاء الأوراق التي ترمى فيه (1) .
نفيدكم أنه إذا كانت التغطية لمجرد تحصين المقام عما يلقى فيه ولم تكن بصورة كسوة وجمال فهذا لا بأس به إن شاء الله. والله يحفظكم. حرر في 17/10/1376هـ.
(ص ف 841 في 18/10/1376هـ)
(1184 - حدود المسعى بعد العمارة الجديدة)
(برقية) : الحوية، جلالة الملك المعظم أيده الله
ج30144: من خصوص قرار الهيئة في حدود المسعى قد أطلعنا عليه فوجدناه صوابًا. وقد أعدنا أوراق القرار المذكور إلى محمد سرور مصحوبة بفتوانا بمقتضى ما جاء فيه: حفظكم الله وتولاكم.
…
محمد بن إبراهيم
(ص م 1396 في 23/10/1374هـ)
(مضمون القرار)
تأملت قرار الهيئة المنتدبة من لدن سمو وزير الداخلية، وهم فضيلة الأخ الشيخ عبد الملك بن إبراهيم. وفضيلة الشيخ عبد الله ابن دهيش. وفضيلة الشيخ عاوي مالكي. حول حدود موضع السعي مما يلي الصفا. المتضمن أنه لا بأس بالسعي في بعض دار آل الشيبي والأغوات المهدومتين هذه الأيام توسعة، وذلك البعض الذي يسوغ
(1) قلت: هذا الاستفتاء قبل إزالة الحاجز المذكور.
السعي فيه هو ما دفعه الميل الموجود في دار آل الشيبي إلى المسعى فقط وهو الأقل، دون ما دفعه هذا الميل إلى جهة بطن الوادي مما يلي باب الصفا وهو الأكثر؛ فإنه لا يسوغ السعي فيه. فبعد الوقوف على هذا الموضع في عدة رجال من الثقات رأيت هذا القرار صحيحًا، وأفتيت بمقتضاه، قاله الفقير إلى عفو الله محمد بن إبراهيم آل الشيخ وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(ص م 1386 في 19/10/1374)
(نص القرار الوارد من الهيئة المشكلة رقم 35 في 23/9/74هـ)
بناء على الأمر الشفوي المبلغ إلينا بواسطة الشيخ محمد حابس رئيس ديوان سمو وزير الداخلية الأمير عبد الله الفيصل. القاضي أنه يأمر سموه بوقوفنا نحن الموقعين أدناه على "الميل" القائم هناك والبارز حينئذ، وذلك بعدما صدرت إرادة جلالة الملك المعظم بإضافة دار آل الشيبي ومحل الأغوات الواقعين بين موضع السعي من جهة الصفا وبين الشارع العام الملاصق للمسجد الحرام مما يلي باب الصفا. وتقرير ما يلزم شرعًا بشأن "الميل" المذكور. فقد توجهنا فوقفنا على "الميل" المذكور. وصحبنا معنا مهندسًا فنيًا، وجرى البحث فيما يتعلق بتحديد عرض المسعى مما يلي الصفا، فرأينا هذا الميل يقع عن يسار الخارج من باب الصفا القاصد إلى الصفا. وفي مقابل هذا الميل من الجهة الغربية على مسامتته ميل آخر ملتصقًا بدار الأشراف الناعمة فاصل بينها طريق الخارج من باب الصفا في سيره إلى الصفا. وما بين الميل الأول المذكور الذي بركن دار الشيبي المنتزعة ملكيتها
حالا والمضافة إلى الصفا وبين الميل الذي بركن دار المناعمة ثمانية أمتار وثلاثون سنتيمًا. هي سبعة عشر ذراعًا، ومن دار المفتاح التي تقع بين الساعي من الصفا إلى الميل الأول الواقع بدار الشيبي تسعة عشر مترًا ونصف متر. ومن الميل الذي بدار الشيبي إلى درج الصفا للحرم الشريف خمسة وعشرين مترًا وثمانين سنتيمًا، كما أن بين الميل الذي يقرب الخاسكية ببطن الوادي والميل الذي يحاذيه بركن المسجد الحرام ستة عشر مترًا ونصف متر، كما أن بين الميل الذي بدار العباس وباب العباس ستة عشر مترًا ونصف متر تقريبًا، هذا التقرير الفني من حيث المساحة.
ثانيًأ - قد جرت مراجعة كلام العلماء فيما يتعلق بذلك، قال في صحيح البخاري:(باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة) وقال ابن عمر رضي الله عنه: السعي من دار ابن عباد إلى زقاق بني أبي حسين. قال في "الفتح" صحيفة 394 جلد 3: نزل ابن عمر من الصفا حتى إذا حاذى باب بني عباد سعى، حتى إذا انتهى إلى الزقاق الذي يسلك بين دار بني أبي حسين ودار بنت قرضة. ومن طريق عبيد الله بن ابي يزيد قال: رأيت ابن عمر يسعى من مجلس ابن عباد إلى زقاق ابن أبي حسين. قال سفيان: هو ما بين هذين العلمين. انتهى. والمقصود بهذا والله أعلم سعيه في بطن الوادي. ولم نجد للحنابلة تحديدًا لعرض المسعى وجاء في "المغني" صحيفة 403 جلد 3: أنه يستحب أن يخرج إلى الصفا من بابه، فيأتي الصفا، فيرقى عليه حتى يرى الكعبة، ثم يستقبلها، قال في "الشرح الكبير" صحيفة 405 جلد3: فإن ترك مما بينها شيئًا
(أي ما بين الصفا والمروة) ولو ذرعًا لم يجزءه حتى يأتي به. انتهى.
هذا كلامهم في الطول. ولم يذكروا تحديد العرض. وقال النووي في "المجموع" شرح المهذب جلد 8 صحيفة 76: "فرع" قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو مر وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف، قال أبوعلي البندنجي في كتابه "الجامع": موضع السعي بطن الوادي، قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئًا يسيرًا أجزأه. وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز، وكذا قال الدرامي: إن التوى في السعي يسييرًا جاز. وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا. والله أعلم. انتهى. وقال شمس الدين محمد الرملي الشافعي المتوفي سنة 1004 هجرية في "نهاية المحتاج" شرح المنهاج صحيفة 383 جلد 3 ما نصه: ولم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيرًا لم يضر كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه. انتهى. وفي "حاشية تحفة المحتاج" شرح المنهاج صحيفة 98 جلد 4 ولما ذكر النص الذي ذكره صاحب المجموع عن الإمام الشافعي قال: الظاهر أن التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين أو نحوها على التقريب، إذ لا نص فيه يحفظ من السنة، فلا يضر الاءلتواء اليسير لذلك، بخلاف الكثير فإنه يخرج عن تقدير العرض ولو على التقريب.
ثالثًأ - قد جرت مراجعة كلام المؤرخين، فذكر أبوالوليد محمد ابن عبد الله الأزرقي في صحيفة 90 في "المجلد الثاني" ما نصه بالحرف: وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب وبينهما عرض السعي خمسة وثلاثون ذراعًا ونصف ذراع، ومن العلم الذي على باب دار العباس إلى العلم الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم الذي في حد المنارة وبينهما الوادي مائة ذراع وإحدى وعشرين ذراعًا. انتهى. وقال الإمام قطب الدين الحنفي في صحيفة 101 في تاريخه المسمى بـ "الاعلام" لما ذكر قصة تعدي ابن الزمن على اغتصاب البعض من عرض المسعى في سلطنة الملك الأشرف قاينباي المحمودي إلى أن قال: قاضي مكة وعلماؤها أنكروا عليه. وقالوا له في وجهه أن عرض المسعى كان خمسة وثلاثين ذراعًا، وأحضر النقل من تاريخ الفاكيه وذرعوا من ركن المسجد إلى المحل الذي وضع فيه ابن الزمن أساسه فكان سبعة وعشرين ذراعًا. وقال باسلامه في تاريخه "عمارة المسجد الحرام" صحيفة 299: ذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى المسجد إلى العلم الذي بحذائه على دار العباس بن عبد المطلب وبينهما عرض المسعى (1) ستة وثلاثون ذراعًا ونصف. ومن العلم الذي على باب دار العباس إلى العلم الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم الذي في حد المنارة وبينهما الوادي مائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعًا. انتهى.
(1) بالأصل السعي في النقول المتقدمة كلها.
رابعًا - جرت مراجعة صكوك دار الشيبي، فوجد من أقدمها صك مسجل بسجل المحكمة الكبرى بمكة بعدد (57) محرم عام 1171 هجرية قال في حدودها: شرقًا الحوش الذي هو وقف الواقب، وغربًا الصفا وفيه الباب، وشاما الدار التي هي وقف خاسكي سلطان، ويمنًا الدار التي هي وقف الأيوبي، قال المسجل: ولم يظهر ما يدل على حدود السعي، كما جرى سؤال أغوات الحرم الشريف المكي عن تاريخ وحدود دارهم التي أضيفت إلى ما هناك، فذكروا أن دارهم في أيديهم من نحو ثمانمائة سنة وليست لها صكوك ولا وثائق. هكذا.
وحيث أن الحال ما ذكر بعاليه، ونظرًا إلى أنه في أوقات الزحمة عندما ينصرف بعض الجهال من أهل البوادي ونحوهم من الصفا قاصدًا المروة يلتوي كثيرًا حتى يسقط في الشارع العام فيخرج من حد الطول من ناحية باب الصفا والعرض معًا ويخالف المقصود من البينية - بين الصفا والمروة. وحيث أن الأصل في السعي عدم وجود بناء وأن البناء حادث قديمًا وحديثًا. وأن مكان السعي تعبدي، وأن الالتواء اليسير لا يضر، لأن التحديد المذكور بعاليه العرض تقريبي، بخلاف الالتواء الكثير كما تقدمت الإشارة إليه في كلامهم فإننا نقرر ما يلي:
(أولاً) لا بأس ببقاء العلم الأخضر موضوع البحث الذي بين دار الشيبي ومحل الأغوات المزالين؛ لأنه أثري، والظاهر أن لوضعه معنى، ولمسامته ومطابقته الميلين ببطن الوادي مكان السعي، ولا بأس من السعي في موضع دار الشيبي لأنها على مسامته بطن الوادي بين
الصفا والمروة، على أن لا يتجاوز الساعي حين يسعى من الصفا أو يأتي إليه إلى ما كان بين الميل والمسجد مما يلي الشارع العام، وذلك للاحتياط والتقريب.
(ثانيًا) أننا نرى عرض كل ما ذكرناه بعاليه على أنظار صاحب السماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم حفظه الله تعالى.
هذا ما تقرر متفقًا عليه بعد بذلنا الوسع، سائلين من الله تعالى السداد والتوفيق.
الهيئة
علوي بن عباس المالكي
…
عبد الملك بن إبراهيم
الشيخ عبد الله بن دهيش
(هذا القرار حصلت عليه من ديوان رئاسة مجلس الوزراء)
(قرار آخر)
(جميع ما ادخلته العمارة الجديدة داخل في مسمى المسعى)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فبناء على أمركم الكريم المبلغ إلينا من الشيخ يوسف ياسين في العام الماضي حول تنبيه الابن عبد العزيز على وضع الصفا ومراجعة ابن لادن لجلالتكم في ذلك، وحيث قد وعدت جلالتكم بالنظر في موضوع الصفا ففي هذا العام بمكة المكرمة بحثنا ذلك، وتقرر لدى ولدى المشايخ: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علوي عباس المالكي، والأخ الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد العزيز ابن رشيد: على أن المحل المحجور بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا، ماعدا فسحة الأرض الواقعة على يمين النازل من الصفا فإننا لم نتحقق أنها من الصفا. أما باقي المحجور بالأخشاب فهو داخل في مسمى الصفا. ومن وقف عليه فقد وقف على الصفا كما هو مشاهد، ونرى أن ما كان مسامتًا للجدار القديم الموجود حتى ينتهي إلى صبة الأسمنت التي قد وضع فيها أصياخ الحديد هو منتهى محل الوقوف من اليمين للنازل من الصفا. أما إذا نزل الساعي من الصفا فإن الذي نراه أن جميع ما أدخلته هذه العمارة الجديدة فإنه يشمله اسم المسعى، لأنه داخل في مسمى ما بين الصفا والمروة، ويصدق على من سعى في ذلك أنه سعى بين الصفا والمروة. هذا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد بالفعل ينبغي حضور ك من المشائخ: الأخ الشيخ عبد الملك، والشيخ علوي
المالكي، والشيخ عبد الله بن جاسر والشيخ عبد الله بن دهيش، حتى يحصل تطبيق ما قرر هنا، وبالله التوفيق.
(ص م 403 في 3/1/1380هـ)
(1185 - ترك حجارة الصفا والمروة كما كانت وما يكفي العربات في استكمال السعي)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس ديوان جلالة الملك
وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد أطلعنا على المعاملتين المحالتين إلينا بخطابكم رقم 15/5/1466 وتاريخ 19/4/1377هـ ورقم 15/5/1617
وتاريخ 19/4/1377هـ حول اقتراح عضو اللجنة التنفيذية لتوسعة المسجد الحرام محمد طاهر الكردي تأليف لجنة من علماء المذاهب الأربعة لبيان مبدأ السعي ومنتهاه في الصفا والمروة، وذلك بأن يكسر صخر الصفا والمروة، ولا يبقى درج مطلقًا، بل يبقى جدار سميك فقط في آخر الصفا. وجدار آخر ينتهي في آخر المروة يبدأ السعي منه وينتهي إليه، معللآً ذلك يتيسير حصول السعي في العربات على استكمال السعي بين الصفا والمروة.
وبعد تأمل الاقتراح المذكور ظهر لنا أنه يتعين ترك الصفا والمروة على ما هما عليه أولاً. ويسعنا ما وسع من قبلنا في ذلك، ولو فتحت أبواب الاقتراحات في المشاعر لأدى ذلك إلى أن تكون في المستقبل مسرحًا للآراء، وميدانًا للاجتهادات، ونافذة يولج منها لتغيير المشاعر وأحكام الحج، فيحصل بذلك فساد كبير. ويكفي في حصول وصول العربات التي تحمل المرضى والعاجزين إلى ما يحصل به الوصول إلى ما يكفي الوصول إليه في استكمال السعي، يكفي في ذلك إعادة أرض المسعى إلى ما كانت عليه قبل هذا العمل الجديد، أو يجمع بين هذه المصلحة ومصلحة انخفاض المسعى، بأن يجعل ما يلي كلا من الصفا والمروة متصاعدًا شيئًا فشيئًا حتى يكون ما يلي كلا منهما على حالته قبل هذا العمل الجديد، ولا مشقة في ذلك، مع المحافظة على ما ينبغي المحافظة عليه من بقاء المشاعر بحالها وعدم التعرض لها بشيء، ولا ينبغي أن يلتفت إلى أماني بعض المستصعبين لبعض أعمال الحج واقتراحاتهم، بل ينبغي أن يعمل حول ذلك البيانات الشرعية بالدلائل القطعية المشتملة على مزيد البحث والترغيب
في الطاعة والتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في المعتقدات والأعمال، وتعظيم شعائر الله ومزيد احترامها، والله يحفظكم في 4/5/1377هـ.
(ص - ف 5520 في 8/5/1377هـ)(1)
(مساحة الصفا والمروة، واستبدال الدرج بمزلقان، ونهاية أرض المسعى - في قرار مشايخ)(2)
في يوم الثلاثاء الموافق 10/2/1378هـ اجتمعتت اللجنة المكونة من كل من: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والسيد علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، بحضور صالح قزاز وعبد الله ابن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن، للنظر في بناء المصعدين المؤديين إلى الصفا (3) ولمعرفة ما إذا كان في ذلك مخالفة للمصعد الشرعي القديم، وذلك بناء على الأمر السامي المبلغ للجنة من وزارة الداخلية برقم 1053 في 28/1/78هـ وجرى الوقوف أولاً على المصعدين المذكورين الذي جرى بناؤهما هناك من قبل مكتب مشروع توسعة المسجد الحرام. وبعد الدراسة والمذاكرة فيما بين اللجنة اتضح أن المصعد الشرقي المواجه للمروة هو مصعد غير شرعي، لأن الراقي عليه لا يستقبل القبلة كما هو السنة، وإذا حصل الصعود من ناحية فلا يتأتى بذلك استيعاب ما بين الصفا والمروة المطلوب
(1) وهو توضيح ما طلبه سماحة الشيخ محمد من اعادة أرض المسعى إلى ما كانت عليه قبل هذه العمارة الجديدة، أو جعل ما يلي كلا من الصفا والمروة متصاعدا شيئًا فشيئًا. الخ.
(2)
سقط من الأصل: والمروة.
(3)
سقط من الأصل: والمروة
شرعًا. وبناء على ذلك فإن اللجنة رأت إزالة ذلك المسعد، والاكتفاء بالمصعد الثاني المبني في موضع المصعد القديم، لأن الراقي عليه يستقبل القبلة كما هو السنة، كما أن المصعد والنزول من ناحيته يحصل به الاستيعاب المطلوب شرعًا. ونظرًا لكون المصعد المذكور يحتاج إلى التوسعة بقدر الإمكان ليتهيأ الوقوف عليه من أكبر عدد ممكن من الساعين فيما بين الصفا والمروة، وليخفف بذلك الضغط خصوصًا في أيام المواسم وكثرة الحجيج، وبالنظر لكون الصفا شرعًا هو الصخرات الملساء التي تقع في سفح جبل أبي قبيس، ولكون الصخرات المذكورة لاتزال موجودة للآن وبادية للعيان، ولكون العقود الثلاثة القديمة لم تستوعب كامل الصخرات عرضًا. فقد رأت اللجنة أنه لا مانع شرعًا من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا.
وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا، وعليه فلا مانع من توسعة المصعد المذكور في حدود العرض المذكور، على أن يكون المصعد متجهًا إلى ناحية الكعبة المشرفة، فيحصل بذلك استقبال القبلة كما هو السنة، وليحصل الاستيعاب المطلوب شرعًا.
وبالنظر لكون الدرج الموجود حاليًا هو 14 درجًا، فقد رأت اللجنة أن تستبدل الستة الدرجات السفلى منها بمزلقان يكون انحداره نسبيًا، حتى يتمكن الساعي من الوصول إلى نهايتها باعتباره من أرض المسعى، وليتحقق بذلك الاستيعاب المطلوب شرعًا، ثم يكون
ابتداء الدرج فوق المزلقان المذكور، ويكون من ثم ابتداء المسعى من ناحية الصفا.
ثانيًا: كما وقفت اللجنة أيضًا على المروة، فتبين لها بعد الاطلاع على الخرائط القديمة والحديثة للمسعى، وبعد تطبيق الذرع للمسافة فيما بين الصفا والمروة كما نص على ذلك الإمام الأزرقي والإمام الفاسي في تأريخهما بأن المسافة المذكورة تنتهي عند مراجعة موضع العقد القديم من المروة، وهو الموضع الذي أقيم عليه الجسر في البناية الجديدة، وبذلك يكون المدرج الذي أنشيء أمام الجسر والذي يبلغ عدده ستة عشرة درجة جميعه واقع في أرض المسعى.
وقد يجهل كثير من الناس ضرورة الصعود إلى نهاية الست عشرة درجة المذكورة ويعودون من أسفل الدرج كما هو مشاهد من حال كثير من الناس فلا يتم بذلك سعيهم، لذلك رأت اللجنة ضرورة إزالة الدرج المذكورة. وبعد تداول الرأي مع المهندسين والاطلاع على الخريطة القديمة تقرر استبدال الدرج المذكورة بمزلقان يتحدر نسبيًا إبتداء من واجهة الجسر المذكور إلى النقطة التي عينها المهندسون المختصون بمسافة يبلغ طولها 31مترًا، وبذلك يتحتم على الساعين الوصول إلى الحد المطلوب شرعًا وهو مكان العقد القديم الذي وضع في مكانه الجسر الجديد باعتبار المزلقان المذكور من أرض المسعى، ثم تكون الثلاث الدرج التي تحت الجسر هي مبدأ الصعود للمروة، وتكون هذه النقطة هي نهاية السعي من جهة المروة، وعلى ذلك حصل التوقيع.
(هذا القرار وجدته عند فضيلة الشيخ عبد الله بن دهيش أحد أعضاء اللجنة)
(1186 - طريق العربات)
وكذلك تسهيلاً للسعي بين الصفا والمروة على العجزة يمكن عمل خط تمر عليه عربات من داخل المسعى ومعلقة في جدرانه تذهب من طريق وتعود من الطريق الثاني.
(ص - م في 28/7/1117هـ)
وقد استغنيت عن أولها بفتاوي أبسط منها.
(1187 - حدود منى)
من شفير وادي محسر الغربي إلى جمرة العقبة. بعضهم يدخل جمرة العقبة في نفس منى، وبعضهم يقول حد منى إليها نفسها وهي خارجة من الحد إلا أنها لاصقة به. ومتى في العرض كل ما انحدر به السيل إلى متى كله تبع متى، وهو ما بين الجبلين الأيمن والأيسر وجميع التلاع التي فيه. (تقرير)
(الجمرات)
(1188 - توسيع ما حول جمرة العقبة)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس الديوان العالي
الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 15/5/3175 وتاريخ 11/8/1375هـ المرفق به الأوراق الدائرة حول توسيع ما حول جمرة العقبة.
نفيدكم أنه قد جرى الاطلاع على قرار رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة بهذا الخصوص، وترى الموافقة عليه على أساس أن
يكون الأخذ من الجبل المذكور الذي تستند عليه جمرة العقبة بطريقة التسهيل فقط - على أن لا يمس الشاخص والحوض وما يليه، ويكون الوصول إلى المرمى من تلك الجهة سهلاً - وتبقى الجهة التي فوق العقبة مرتفعة ارتفاعًا يتناسب مع الموضع المذكور واسم العقبة وحرمة المشعر المذكور، مع العلم أن التسامح في التسهيل المذكور نظرًا للحالة الحاضرة ووجود الزحام الذي ينشأ عنه ما ينشأ من أضرار، ولولا ذلك أبقى كل شيء على ما كان عليه. وإليكم برفقه جميع الأوراق لإجراء اللازم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(ص - ف 947 وتاريخ 1/9/1375هـ)
(1189 - دائرة المرمى لا توسع، ولا يغير الشاخص الزمي من فوقه، التخفيف من الجدار، النهي عن الكتابة عليه)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فبالإشارة إلى خطاب سموكم رقم 1318 - 2 وتاريخ 29/4/1383هـ المرفق بقصاصة جريدة الندوة من عددها 1151 المؤرخ في 23/5/82هـ المنشور فيها اقتراحات الشيخ طاهر الكردي حول جدار جمرة العقبة الخلفي المكتوب عليه: (لا يجوز الرمي من هنا) وما ارتآه من أن الكتابة لا تكفي لتتبيه الناس، واقتراحه أن يوضع ميكرفون يشبه الناس على ما ذكر، كما يقترح أن يزاد
في بناء الجدار حتى يحاذي رأس الجمرة، وأن يبنى من الخلف طول نحو أربعة أمتار أو خمسة. وذكرتهم أن اللجنة العامة لمشاريع مناطق الحج رأت في قرارها رقم 14-8 إحالة هذا الاقتراح إلينا لإبداء ما تراه. وهل الرمي من خلف الجمرة غير جائز؟ وإذا كان جائزًا فترغبون إيضاح الطريقة التي يزال بها الجدار الحالي.
أولاً: من ناحية جواز رمي جمرة العقبة من فوقها، فهذا جائز شرعًا، بتصريح أهل العلم من المذاهب الأربعة وغيرهم، ولا نعلم أحدًا قال إن رميها من وفقها غير صحيح، وإنما رميها من بطن الوادي هو السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل وأكمل بلاشك. وأما رميها من فوقها فصحيح ومجزي قولا واحدًا، ونحن نسوق هنا عبارات العلماء لاطلاع اللجنة الموقرة وغيرها، بل واطلاع الرأي العام.
أما كلام علماء الحنابلة فقال الموفق في "المغني" صحيفة 427": وإن رماها - يعني جمرة العقبة - من فوقها جاز، لأن عمر رضي الله عنه جاء والزحام عند الجمرة فرماها من فوقها، والأول أفضل. أهـ. وقال في "الإقناع وشرحه" جزء 2 صحيفة 450: ذكره في "المنتهى وشرحه" و "الغاية" وغيرها من كتب المذهب.
وأما كلام علماء الشافعية فقال الإمام الشافعي في "الأم" جزء ثاني صحيفة 213: ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ومن حيث رماها أجزأه. وقال النووي في "شرح صحيح مسلم" جزء 9 ص42. وقد أجمعوا على أن من حيث رماها سواء استقبلها
أو جعلها يمينه أو عن يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وقف وسطها ورماها، والاختلاف في الأفضل. أهـ.
وأما كلام المالكية فقال فلي"شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للإمام أبي الحسن جزء أول صحيفة 477 و 478: وللرمي شروط صحة: وهي ثلاثة. وشروط كمال: وهي سبعة. وذكر السابع رميها من بطن الوادي فلو رماها من فوقها أجزاء. وقال في "الفواكه الدواني": على رسالة ابن أبي زيد القيرواني صحيفة 374:: ولا فرق في الإجزاء بين كون الرامي واقفًا أمام البناء أو تحته أو خلفه، لأن القصد إيصال الحصيات إلى أسفل البناء. أهـ.
وأما كلام الحنيفية فقال: في "المبسوط" للسرخسي جزء رابع ص66 قال: وإن رمي جمرة العقبة من فوق العفبة أجزأه، وقد بينا أن الأفضل أن يرميها من بطن الوادي، ولكن ما حول ذلك الموضع. كله موضع الرمي، فإذا رماها من فوق العقبة فقد أقام النسك في موضعه فجاز. أهـ. وقال في "فتح القدير" على الهداية جزء ثاني صحيفة 174. ولو رماها من فوق العقبة أجزأ، لأن ما حولها موضع النسك، والأفضل أن يكون من بطن الوادي، لما روينا. قال في شرحه: قوله: ولو رماها من وفق العقبة أجزأه. إلا أنه خلاف الستة، ففعله صلى الله عليه وسلم من أسفلها سنة، لا لأنه متعين، ولذا ثبت رمي خلق كثير في زمن الصحابة من أعلاها كما ذكرناه آنفًا من حديث ابن مسعود، ولم يأمرهم بالإعادة ولا أعلنوا بالنداء بذلك في الناس.
ثانيًا: من ناحية بناء الجدار الحالي والكتابة عليه (لا يجوز
الرمي من هنا) الموجودة الآن. فهذا غلط محقي لا تعلم له مسوغًا وقد نهينا عن هذا من يتصل بنا في أيام الموسم وغيرها، فيتعين محو الكتابة، وهدم البناء، وتسهيل طريق الرمي للناس من جميع جوانب جمرة العقبة كغيرها من الجمرات.
ثالثًا: رغبة سموكم إيضاح الطريقة التي يزال بها الجدار الحالي حيث كان الرمي من فوق الجمرة جائزًا. فذلك راجع إلى نظر المختصين يمثل هذا، إلا أنه يتعين إبقاء الرمي - وهو الحوض - على ما كان عليه فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، بل يبقى حسب حالته السابقة كنصف دائرة والشاخص في جانبها الشمالي، فإذا نزل من طول الجدار المذكور وخفف من عرضه تمكن الناس من الرمي من تلك الجهة، أما الشاخص فيبقى على حالته قائمًا ملاصقًا لجدار الجمرة الشمالي، ويجعل لما ارتفع عنه عن جدار الجمرة بترة ملازقة له تخالف لونه وتكون أطول منه بقليل وأعرض منه بقليل، لتحول بين الشاخص وبين من في الجهة الشمالية، تحتى لا يغتر أحد فيرمي ظهر الشاخص من شمال ويظنه هو المرمى. أما جوانب الرمي التي من يمين الشاخص والبترة وعن شمالهما والتي هي زائدة عن محاذاة الشاخص عرضًا فتنزل حتى تحاذي جدار الجمرة الجنوبي ليتمكن الناس من الرمي منها. وينبغي أن يكون إصلاح ما ذكر بحضرة مندوب من قبلنا لإيضاح معنى ما قررناه، وتطبيق ما تضمنته الفتوى. والسلام عليكم.
(ص - ف 1260 في 2/7/1383هـ)
(1190 - إنشاء دور ثان للجمار الثلاث ومظلات حولها)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة معالي وزير الحج والأوقاف
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد اطلعنا على خطابكم رقم 1667 - 1 في 11/4/1382هـ حول إنشاء دور ثان للجمار الثلاث، وإقامة مظلات حولها، كما أطلعنا على صورة الخرائط والمواصفات التي وضعت لهذا المشروع.
ونفيدكم أننا لا نرى مانعًا من ذلك بشرط الاتيان على الغرض المقصود، والخلو من أي محذور شرعي. وفق الله الجميع، وجعل هذا العمل نافعًا، والسلام عليكم.
(ص - ف 1060 في 25/6/1382هـ)
(1191 - لا يجوز البناء في منى، ولا تصح الصلاة فيما غصب منه)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم سعود بن عبد العزيز أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
ثم حفظكم الله لقد اطلعت على خطاب الشيخ حمود التويجري لجلالتكم، المؤرخ في 9/11/76هـ المتضمن النصيحة حول البناء في متى.
والحقيقة حفظكم الله أن ما ذكره هو عين الصواب، وكما أن المسجد الحرام لا يجوز لأحد أن يبني فيه منزلا، فهذا المشعر كذلك.
ومن استولى على شيء منه تملكًا وصلى فيه فصلاته غير صحيحة، لأنه صلى في مكان غصب. فالله الله إمام المسلمين في كف هذه الأيدي الغاصبة عن هذا المشعر الذي هو موضع هذه العبادة الخاصة إلى يوم القيامة. واغتصاب شيء منه أعظم من اغتصاب أملاك المسلمين المحترمة المنصوص عليها وعلى غيرها في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم. ألا هل بلغت" رواه أبوداود. وفق الله جلالتكم لما يحبه ويرضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (الختم)
(ص - م 2074 في 3/11/1376هـ)
(ديوان رئاسة مجلس الوزراء)
(1192 - اتفاق العلماء على عدم جواز البناء في منى وهدم الأبنية القديمة والحديثة)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم
…
أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد تلقينا خطابكم الكريم المؤرخ في 11/12/78هـ واطلعنا على ما ذكرتموه حول منى، والتماسكم ما لدي في حكم هذه المسألة وأن أجمع الإخوان العلماء وآخذ ما لديهم في ذلك. وأحيط جلالتكم بما يأتي:
1-
أنه لاشك أحد في حسن قصد جلالتكم وإرادتكم الخير للمسلمين وما ينفعهم حالا ومستقبلا، وهذا شيء معروف، فجزاكم الله خير الجزاء وزادكم هدى وتوفيقا.
2-
قد جمعنا من قدرنا عليه من المشائخ الذين حضروا في منى وهم إخوتي: الشيخ عبد اللطيف، الشيخ عبد الملك، الشيخ عبد الله ابن حميد، الشيخ عبد العزيز بن باز، السيد الشيخ علوي مالكي، الشيخ عبد الله بن جاسر، الشيخ عبد الله بن دهيش، الشيخ عبد الله ابن عقيل، وعرضنا المسألة - أعني مسألة منى - على بساط البحث، وقد اجتمع الرأي واتفقت الكلمة من الجميع أن إحداث شيء من النباء في منى أمر لا يصح شرعًا، لأن ذلك يقضي قطعًا على تفويت اشتراك الحجاج من المسلمين فيه، ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا نبني لك بيتًا تستظل به؟ قال: لا. منى مناخ من ساق"(1) .
نحن والمشائخ المذورون متفقون على وجوب هدم ما كان بمنى من الأبنية القديمة والحادثة وعدم جواز بقائها، وإن كان عند أحد مستند في بقاء شيء منها فليحضره، وأنتم ولله الحمد رائدكم الحق وما يتمشى مع الأمر الشرعي، نسأل الله أن يتولاكم بتوفيقه. والسلام عليكم ورحمة الله.
(ص - م 367 في 14/12/1378هـ)
(وهذه أيضًا من الديوان (2)
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم.
(2)
وانظر فتوى في "احياء الموات": بأن الحرم وهو ما أدخلته الأميال ومنه المشاعر لا يملك بالاحياء. وليس لأحد اقطاعه (21/12/1374هـ) .
(1193- منع الأوقاف من بناء حوش تابع لها في منى)
من محمد بن إبراهيم إلى معالي وزير الحج والأوقاف بالنيابة
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد جرى اطلاعنا على خطابكم رقم 10821 وتاريخ 21/8/85هـ بخصوص طلبكم منا الإذن لكم بالبناء في الحوش التابع للأوقا في منى بجوار مسجد الخيف.
وتعلمون بارك الله فيكم ان البناء في منى غير جائز شرعًا، وأن تضرر الحجاج الآن وتشكي بعضهم من عدم وجود محلات يقيمون فيها في منى ايام النحر والتشريق ناشيء في الغالب من قيام مبان فيها أقيمت على سبيل الغصب والاعتداء، إذ الإحياء فيها محرم شرعًا، ومخالف لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله "منى مناخ من سبق"(1) لهذا تعتذر من إجابة طلبكم، وتأمل أن نتلقى منكم بصفتكم أحد المسئولين عن الحج ووسائل تيسيره ما يساعد على إزالة هذه المباني المغتصبة، لتكون منى كما أرادها صلى الله عليه وسلم "مناخ من سبق" والسلام عليكم.
مفتي البلاد السعودية
(ص - ف 3162 - 1 في 16/11/1385هـ)
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم.
(1194 - وتملكها والوقف بها غير صحيح)
من محمد بن إبراهيم إلى معالي وزير الحج والأوقاف بالنيابة.
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 732/5 وتاريخ 26/12/85هـ بخصوص رغبتكم منا إعطاءكم الإذن في البناء داخل حوش الأوقاف في منى. وذكركم أن البناء المراد إقامته داخل حوش الأوقاف، وفي منطقة لا مضايقة منها على الحجاج.
ونفيدكم أننا لا نرى مشروعية البناء في منى مطلقًا، وما ذكرتموه من تملك الأوقاف لهذا الحوش أو تملك غيرها من أي جهة كانت فهو تملك غير صحيح، وما كان أساسه باطلا فمقتضياته وملتزماته باطلة بالطبع. وقد كان الأولى بمعاليكم بصفتك المسئول مباشرة عن الحج وراحة الحجاج أن تغتنم منا فرصة موقفنا هذا من هذه المباني المقامة في منى ظلمًا وعدوانًا لتوحيد جهود يرجى أن يكون لها من النتائج الإيجابية ما يعيد لمنى حرمتها وإشاعتها لعموم الحجاج لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالسبق، كما قال صلى الله عليه وسلم "منى مناخ من سبق" هذا ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والسلام عليكم.
مفتي البلاد السعودية
(ص - ف 697 - 1 في 6/3/1386هـ)
(1195 - ولم يصرح لأحد بالبناء)
من محمد بن إبراهيم إلى معالي وزير الحج والأوقاف بالنيابة سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 527 - ووتاريخ 1/11/1385هـ بخصوص تعقيبكم على خطابكم الموجه إلينا بعدد 253 - وتاريخ 6/8/1385هـ حول ما ذكرتموه من عزمكم على إنشاء مظلات وغرف للأوقاف داخل الحوش التابع للأوقاف في منى، وتذكرون أن وزارة الدفاع قد صرح لها ببعض الإنشاءات من فلل وخلافها، وقد أجبناكم أننا لا نوافق على البناء في مشاعر الحج مطلقًا، لحرصنا على توفير الراحة لحجاج بيت الله الحرام، ولما فيه من التضييق عليهم، ولمخالفته لقوله صلى الله عليه وسلم:"منى مناخ من سبق"(1) أما القول بأن وزارة الدفاع قد صرح لها بالبناء فلم يصدر منا لها إذن به. ولاشك أنها في الحكم كغيرها. ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد. والسلام عليكم.
مفتي البلاد السعودية
(ص - ت 3262 - 1 في 23/11/85هـ)
(1196 - حجز قطعتين لفرق صيانة العين)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
…
رئيس مجلس الوزراء سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد جرى الإطلاع على المعاملة المحالة إلينا رفق خطاب سموكم
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم.
برقم 16523 وتاريخ 20/9/1378هـ بشأن قطعتي الأرض اللتين ترغب مصلحة عين زبيدة في حجزهما لها في منى لنزول فرق صيانة الماء والعمال والسيارات الوايتات ايام التشريق - المشتملة على قرار الهيئة المشكلة لهذا الغرض. وبتتبع المعاملة، ونأمل قرار الهيئة المتضمن تقريرهم بالاتفاق ان تضم القطعة المذكورة إلى إدارة عين زبيدة للاستنفاع بها في المصلحة الخيرية. إلى آخر ما قرروا.
نفيدكم أن هذا لا يجوز، وأن منى مشعر حرام يستوي العاكف فيه والباد، قال الله تعالى:(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلنا للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)(1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "منى مناخ من سبق". ويجب إزالة الأبنية الحديثة التي ظهرت مضايقتها لحجاج بيت الله الحرام وتجلي ضررها عليهم. فكيف بقرار الهيئة المشار إليه. ونفيد سموكم أننا لا نوافق عليه، ولا نقره، لما ذكرنا، ونأمل أن تتخذ الحكومة في شأنها ما يزيل الضرر ويكفل الراحة للحجاج والله يحفظكم.
(ص - في 982 في 27/10/1387هـ)
(1197 - وإنشاء سبيل في منى وغرفة ماتور)
حضرة المكرم القائم بأعمال الرئاسة بالمنطقة الغربية المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
نشير إلى خطابكم رقم 1916 في 17/2/82هـ ومشفوعة المعاملة الخاصة بطلب محمد عبد القادر باشراحيل التصريح له بإنشاء
(1) سورة الحج - آية 25
سبيل وغرفة ماتور فوقه (بمنى) لغرض عمل سبيل لله تعالى، وما دار حول ذلك بينه وبين الأمانة..الخ.
ونفيدكم أن إنشاء السبيل وغرفة الماتور بمنى غير جائز، ولا يمكن السماح له بإقامة ذلك في منى، خاصة وأن الحكومة وفقها الله قد عملت على توفير ذلك، وإذا كان يقصد عمل الخير فأعمال البر وطرق الخير كثيرة. ونعيد لكم بطيه كامل الأوراق. والله يحفظكم.
رئيس القضاة
(ص - ق 1609 - 3 في 15/5/1382هـ)
(1198 - دورات المياه وخزانات الماء داخل المظلات)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة معالي وزير الحج والأوقاف بالنيابة
السلام علكيم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
نشير إلى خطابكم رقم 108 وتاريخ 30/3/85هـ حول دورات المياه وتوفير المياه وضرورة ذلك فلا مانع من إيجاد دورات المياه وخزانات الماء، وتكون داخل المظلات فقط بحيث لا تأخذ شيئًا من الأرض البيضاء المخصصة لنزول الحجاج. أما بناء مطابخ فلا ينبغي. والله يحفظكم.
(ص - م 1982 في 15/5/1385هـ)(1)
(1) ويأتي ما يتعلق ببناء المظلات في عرفة والمشاعر قريبًا.
(1199 - بناء مظلة لحارس خزان في أعلى الجبل)
من محمد بن إبراهيم إلى الأخ المكرم مدير عام مصلحة عين زبيدة والعزيزية سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد وصلنا كتابك رقم 511 في 11/3/81هـ وفهمنا ما تضمنه من استفتائك عن حكم بناء مظلة فوق خزان مياه الشرب لحارس هذه المياه، حيث أن الضرورة تقتضي تعيين حارس للخزان يكون مسئولا عن صيانة الماء وحفظه من التلوث والأيدي، ولا مظلة لهذا الحارس تقيه حرارة الشمس. إلى آخر ما ذكرت.
ونفيدك أنه مادام الخزان في علو الجبل، والمطلوب إقامة مظلة فوق الجدران للحارس المذكور، وليس ذلك في مواقع سكن الحجاج ولا في طرقهم، فنرجو ألا يكون هناك مانع من ذلك، وبالله التوفيق.
والسلام عليكم.
(ص - ف 351 في 22/3/1381هـ)
(1200 - طرق منى ومنعطفاتها تبع لها)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم أمين العاصمة
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد اطلعنا على الإعلان المنشور في صحيفة الندوة الصادرة في يوم الأربعاء الموافق 23/10/1381هـ بشأن أراضي وشوارع منى. وهذا نص الإعلان (تلقت أمانة العاصمة نظر العموم أن جميع أراضي وشوارع ومنعطفات منى هي تابعة لها، وسوف تقوم بتوزيعها على
المواطنين في الوقت المناسب مجانًا وبدون أي أجرة، وليس لأي شخص حق التصرف في تأجيرها أو خلافه مطلقًا سواء كانوا من قريش أو خلافهم. ولإعلام الجميع بذلك صار نشره) . وحيث أن منى مناخ من سبق كما ورد بذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أحببنا الاستفسار عن معنى ما نشرته أمانة العاصمة بهذا الصدد. والسلام عليكم.
(ص - ف 1332 في 29/10/1381هـ)
(1201 - وليس لمن بنى فيها حق الانقاض)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم أمين العاصمة
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فنشير إلى خطابك المرفق رقم 6072 - خ وتاريخ 9/10/1384هـ بشأن مباني منطقة منى التي لا توجد بأيدي أهلها مستندات رسمية وقد نزعت منهم لصالح التوسعة في تلك المنطقة، وذكرتم بأنه قد رصد لأصحابها تعويضات لدى الأمانة، وأن تسليمها متوقف على صدور صكوك من كاتب العدل، وترغبون إشعاركم بما نراه.
وعليه نشعركم بما يلي:
أولاً: إن منى مناخ من سبق ولا يحل البناء فيه، فأيدي هؤلاء كأيدي الغاصبين.
ثانيًا: إن هؤلاء ليس معهم حجة تجعل لهم شبهة تقتضي تعويضهم، فأنقاضها حينئذ ليس لها حرمة، لأنها لم توضع على أسس
شرعية، ولذا فإنا لا نتمكن من تبليغ كاتب العدل حول ما ذكرتموه بشيء. والله يتولاكم. والسلام عليكم.
رئيس القضاة
(ص - ق 11191 - 1 في 9/11/1384هـ)
(1202 - ومن كان بناؤه باذن في سفح الجبل فيعوض عن الانقاض ويعطى في غير المشاعر وما لا يضيق على الحجاج)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
رئيس مجلس الوزراء حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد جرى الإطلاع على ما أبداه فضيلة رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة برقم 457 - 1 وتاريخ 7/3/77هـ حول طلب قبيلة قريش إثبات تملك لما بنوه من البيوت بآخر سوق العرب بسفح جبل بمنى بحجة الإذن لهم بالبناء على هذه الأرض بدلا من الأراضي التي أخذت منهم لتوسعة منى. وامتناع فضيلة رئيس المحكمة الكبرى في ذلك، تعليلاً بما ثبت شرعًا من اختصاصها منازل للحجاج أيام منى لكون الأرض التي عليها تلك الأبنية من منى، لقوله صلى الله عليه وسلم "منى مناخ من سبق"(1) وبنقض رئاسة القضاء بمكة لحكم الشيخ حسن مشاط عضو المحكمة الكبرى، المتضمن الحكم لبعض قريش على وكيل عين زبيدة بما أدعوه بما شمل بعض المشاعر المرفقة صورته. فوجد ما أبداه فضيلة رئيس المحكمة الكبرى صحيحًا.
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم.
وحيث ثبت أن بناء المذكورين بإذن فيعوضون عن بنائهم، ويناسب أيضًا إعطاؤهم أراضي ليست في مشعر من المشاعر، ولا في موضع يحصل به التضييق على الحجاج. والله يحفظكم.
(ص - ف 1222 في 2/11/1377هـ)
(1203 - منح امتياز مجزرة بمنى لا يجوز)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس الديوان العالي
…
الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 8935 في 1/10/1372هـ المرفق به المعاملة المقدمة من النيابة بصدد الاقتراح المتقدم به عبد الكريم شريف حول طلبه الموافقة على منحه "امتياز مجزرة منى" ليستفيد من الفضلات، على أن يتعهد بحفظ اللحوم ببرادات لتبقى صالحة لتوزيعها على الفقراء. إلى آخر ما شرحه حول الموضوع.
فاتضح عدم جواز موافقته، فإنه يجب ويتحتم إلغاء جميع الامتيازات المتقدم بطلبها حول هذا الموضوع، لعدة محاذير شرعية:
منها: أن مثل هذا لا يصح شرعًا - لو كان ذلك الطلب للامتياز مطلوبًا في مجزرة دنيوية لا تعلق لها بالعبادات الدينية ومناسك الحج.
ثانيًا: أن في ذلك من مخالفة المقصود الشرعي من نسك النسائك ونحو وذبح القرابين في ذلك الموضع المقدس ما لا يخفى. وهؤلاء وإن أظهروا أو ظن غيرهم إمكان بقاء الأمر الشرعي بحاله فهو غلط واضح، والأمر الشرعي والمقصود الديني من هذه النسائك وأنها لا تجتمع مع اقتراحات هؤلاء أبين من الشمس في رابعة النهار.
وهاهنا عدة طرق كل واحد منها يخفف وطأة الأمور المخرفة، أو نحسم مادتها بالكلية. فإذا طلب بيان ذلك حصل إن شاء الله. والله يحفظكم.
(ص - م5 - 11 - 1382هـ)(1)
(1204 - الأمر السامي لا يراد به قطعًا شيئًا يخالف الشرع)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم فضيلة مدير أعمال
كتابة عدل مكة المكرمة سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على خطابك المرفوع لنا برقم 259 وتاريخ 28/2/1384هـ حول الأبنية في منى، وما وردكم أخيرًا من صورة خطاب سمو أمير منطقة مكة برقم 478 في 24/2/84هـ المعطوف على خطاب سمو وزير الداخلية، والمتضمن أمر صاحب السمو الملكي رئيس مجلس الوزراء برقم 256 وتاريخ 13/1/84هـ.
ونفيدك بأن الأمر السامي لا يراد به قطعًا شيئًا يخالف الشرع المطهر، ومسألة الأبنية في منى سبق أن كتبنا أنها موضوعة بغير حق والله يتولاكم. والسلام.
رئيس القضاة
(ص - ق 1429 - 3 في 15 - 5- 1384هـ)
(1) ويأتي ما يتعلق بالذبح خارج منى.
(1205 - نقض حكم بالتملك في منى)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
رئيس مجلس الوزراء أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المحالة إلينا رفق خطاب سموكم برقم 22007 في 25/11/78هـ حول شكوى أحمد خليفة النبهاني من تكليفه بتسليم قطعة الأرض الواقعة ضمن محدوده في منى، المشتملة على الحكم الشرعي الصادر من الشيخ حسن مشاط، وعلى صورة ضبط جلسات المحاكمة. ويتتبع المعاملة، ومرفقاتها ودراستنا الحكم الشرعي الصادر فيها من الشيخ حسن مشاط عضو المحكمة الكبرى بمكة.
نفيد سموكم أن منى مشعر حرام لا يجوز تملك أرضها والاختصاص بها، بل يستوي العاكف فيها والباد. وقال الله تعالى:(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)(1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "منى مناخ من سبق"(2)
وقد سبق أن كتبنا لسموكم حول منى وحكم تملك أراضيها والاختصاص بها، وذكرنا لسموكم أنه يجب إيقاف الأبنية التي ظهر مضايقتها لحجاج بيت الله الحرام. وتجلى ضررها عليهم. ونحن لا نوافق على ما حكم به القاضي المذكور، ولا نقره، ونأمل
(1) سورة الحج - آية 25
(2)
أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم.
أن تتخذ الحكومة في شأنها ما يزيل الضرر، ويكفل الراحة للحجاج ويحقق ما عناه الدين الإسلامي الحنيف من استواء العاكف فيه والباد. والله يحفظكم.
(الختم)
(ص - م 266 في 15/2/1379هـ)
(1206 - اقتراح اقامة بوابة لمدخل منى)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
أمير منطقة مكة المكرمة المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على خطاب سموكم رقم 2139 - 3 وتاريخ 29/4/1383هـ المرفق بما كتبه لكم أمين العاصمة باقتراحه إقامة بوابة لمدخل منى على حدها، ليعرف الحجاج حدودها الشرعية فلا يتعدونها، وما أرتاته اللجنة العامة لمشاريع مناطق الحج من إحالة ما ذكر إلينا لمعرفة وجهة الشريعة في هذا.
وعليه فقد جرى منا تأمل ما ذكر. ولم نجد له مأخذًا شرعيًا، إذ لم يفعله أو يقل به أحد من سلف الأمة وأئمتها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فسوف يترتب على وضع البوابة من الازدحام وتراكم الناس وعرقلة سير المرور ما لا يخفى، ولهذا نرى أن يكتفي بما وضع على حدودها من علامات وأنصاب، وإن كانت غير مستوعية فتزاد بما تحصل به الكفاية، ويكتب عليها الكتابة المفهمة بأن هذه حدودها.
أما ما أشار إليه سموكم من مشكلة ضيق منى، وأنها لا تتسع الآن لجميع الحجاج نظرًا لزيادتهم في السنن الأخيرة وكثرة السيارات
والخيام وغير ذلك فإن هذه الناخية رهن الدراسة، وهي تستدعي المزيد من التعمق في البحث، وسنوافيكم بالجواب إن شاء الله، والسلام عليكم.
(ص - ف 1292 - 1 وتاريخ 5/7/1383هـ)
(1207 - استنكار خبر إقامة ملعب في مزدلفة)
"برقية"
صاحب الجلالة الملك المعظم أيده الله الرياض
بلغني أنه سيتخذ موضع ملعب بناحية وراء مني في طرف مزدلفة، ومن المعلوم حفظك الله أن هذا حرم ومشعر، ولا يصح للملاعب، فهو لإقامة ذكر الله، والركعة فيه بمائة ألف ركعة. فالواجب منع ذلك وأرجو أن هذا الخبر ليس له صحة، كما أنه وإن سولت لأحد نفسه محاولة ذلك فإن عندكم من تقوى الله تعالى وتعظيم هذه المشاعر المفضلة ما يحصل منه نفي ذلك وعدم السماح به. وبرقيتي هذه زيادة تنبيه ولفت نظر، وإلا ففي غيرتكم وشعوركم بما يجب تجاه هذه المشاعر من الاحترام والصيانة كفاية.
محمد بن إبراهيم
(ص - م 2378 في 25/6/1380هـ)
(1208 - حدود عرفة، ووضع أعلام لها، وتوصيات)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
أمير منطقة مكة حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 121 وتاريخ 8/1/88هـ عطفًا على
ما وردكم من سمو وزير الداخلية. المتضمن صدور الأمر الملكي بتشكيل لجنة لتحديد حدود عرفة، مكونة من عدد من طلبة العلم وأهالي تلك الجهة الذين يعرفون حدودها، ليقفوا على نفس المحل، ويقوموا بتحديدها، ووضع علامات واضحة عليها.
وعليه فقد اخترنا لذلك لجنة مكونة من كل من: الشيخ عبد الله ابن جاسر، والشيخ سليمان العبيد، والسيد علوي عباس مالكي، والشيخ عبد العزيز بن فوزان. وكتبنا لهم بذلك برقم 3615 وتاريخ 22/8/88هـ فاعتمدوا ذلك. ومنهم كل من الشريف فائز الحارثي. والشريف محمد بن فوزان الحارثي، والشريف شاكر ابن هزاع أبوبطين، وكل من: خيشان حامد القرشي وأخيه كريدم من بادية قريش، والشيخ محسن بابصيل، والمهندس فؤاد كامل حوا وهما من قبل وزارة الأوقاف. وقد وقفوا على عرفة ومشوا على حدودها وراجعوا النصوص الشرعية الواردة في هذا وكلام أهل العلم وطبقوه على واقع الأرض على حسب ما فهموه منها، ووضعوا بذلك قرارهم المرفق برقم بدون وتاريخ 17/10/88هـ وبرفقه خارطة وضعوها توضح حدود عرفة من جميع جوانبها، وقد تأملنا ما قرروه ومعنا جملة من الإخوان الذين يعتمد عليهم في مثل هذا. وبدراسة القرار المذكور والخارطة المرفقة له (1) ومراجعة ما أمكن الاطلاع عليه من كلام أهل العلم لم نجد ما يلاحظ عليه.
وعليه فلا مانع من إجازة ما ذكروه والعمل به، فتوضع على الحدود أعلام كبيرة عالية مخالفة لأعلام الحرم من حيث الارتفاع واللون
(1) لم أجدها برفقه.
وتصميم البناء لئلا يظن أنها من حدود الحرم، وتكون مرتفعة بحيث لا تحول الخيام والسيارات عن رؤيتها، ويكتب عليها كتابة واضحة بالنيلون وباللغات المشتهرة بأنها حدود عرفة.
كما نلفت النظر إلى ما ذكرته اللجنة من ملاحظة شق الطرق وتمهيدها وسفلتتها في جهات عرفة خصوصًا الجهة الشمالية والشرقية بوضع هندسي يربطها بالطرق الرئيسية المؤدية لمزدلفة، وتعمم فيها شبكة المياه الكافية، وذلك لتخفيف الضغط والزحام. والله الموفق. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف 3404 - 1 في 1-11-1388هـ)
(كتاب سماحته للمشايخ)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرات أصحاب الفضيلة المشايخ الكرام: الشيخ عبد الله بن جاسر رئيس هيئة التمييز بمكة، الشيخ سليمان بن عبيد رئيس المحكمة الكبرى بمكة، الشيخ السيد علوي عباس مالكي المدرس بالمسجد الحرام، الشيخ عبد العزيز بن فوزان عضو هيئة التمييز بمكة المكرمة
…
المحترمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فموجبه إعلامكم بأن حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم أصدر أمرًا ساميًا بتشكيل هيئة مؤلفة من طلبة العلم ومن سكان عرفات ومن وزارة الحج والأوقاف، لوضع أعلامًا ظاهرة للعيان على حدود عرفات، ليتسنى لكافة الحجاج رؤيتها والوقوف داخل عرفات على
هدى ارشادها في الحج. وأنيط بحضرة صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة وفقه الله تنفيذ هذا الأمر الجليل.
ولقد رأينا بعد ترو في الأمر أن تمثلوا طلبة العلم في هذه الهيئة، لما لكم من رؤية وخبرة. وهذا أمر لاشك أنكم تدركون أهميته، وأنه يتعين عليكم المشاركة فيه قيامًا بما أوجبه الله من بيان العلم، وحفاظًا على من يجهل حدود عرفات من الحجاج من عدم صحة حجهم. نسأل الله أن يسدد خطاكم ويجعل التوفيق للحق حليفكم والسلام عليكم ورحمة الله.
مفتي الديار السعودية ورئيس القضاة
(الختم)
(ص - م 3615 في 22/8/1388هـ)
(قرار الهيئة)
الحمد لله وحده وبعد: بناء على ما تلقينا من سماحة رئيس القضاة برقم 3615 وتاريخ 22/8/88هـ نحن: عبد الله بن جاسر، وسليمان بن عبيد، والسيد علوي عباس مالكي، وعبد العزيز بن فوزان، المبني على أمر صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز المعظم بتشكيل هيئة مؤلفة من طلبة العلم ومن سكان عرفات ومن وزارة الحج والأوقاف، لوضع علامات ظاهرة للعيان على حدود عرفات يتسنى لكافة الحجاج رؤيتها، والوقوف داخل عرفات على هدي إرشادها في الحج، وأنه أنيط بحضرة صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة تنفيذ هذا الأمر الجليل، وقد رأى سماحته - وفقه الله - بعد ترو في الأمر أن تمثل طلبة العلم في هذه الهيئة
لما لنا من روية وخبرة في ذلك، وأنه يتعين علينا المشاركة فيه قيامًا بما أوجبه الله من بيان العلم، وحفاظًا على من يجهل حدود عرفات من الحجاج خشية من عدم صحة حجهم.
وعليه فقد اعتمدنا الأمر، واجتمعنا في يوم الخميس الموافق 6/10/1388هـ في عرفات، وبصحبتنا كل من الشريف فائز الحارثي، والشريف محمد بن فوزان الحارثي، والشريف شاكر بن هزاع أبوبطين، واثنين من بادية قريش المقيمين بتلك الجهة وهما خيشان بن حامد القرشي وأخوه كريدم، ومندوب وزارة الحج والأوقاف الشيخ محسن بن الشيخ بابصيل والمهندس فؤاد بن كامل حواريا، واستعرضنا النصوص الشرعية في حدود عرفات من مظانها ككتب المناسك والأحكام والتواريخ والمعاجم. ووقفنا على منتهى جميع جهات عرفات شمالاً وغربًا وجنوبًا وشرقًا. فظهر لنا بعد الدراسة لذلك من جميع النواحي أن تحديد موقف عرفات يرجع فيه إلى ما يلي:
أولاً: ما رواه الإمام أحمد في مسنده برجال ثقات عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "وقفت ها هنا وكل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة" وأصل الحديث في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه.
ثانيًا: ما رواه الأزرقي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرفة، إلى جبال عرنة إلى الوصيق، إلى ملتقى وصيق بوادي عرنة.
ثالثًا: ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله في (الأم ج2 ص179) : عرفة ما جاوز وادي عرفة الذي فيه المسجد - وليس المسجد
ولا وادي عرنة من عرفة - إلى الجبال المقابلة على عرفة كلها مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن، فإذا جاوزت ذلك فليس من عرفة. أهـ.
وهذه الأدلة الثلاثة المتقدمة توضح في مجموعها حدود موقف عرفات من جميع الجهات، وما اطلعنا عليه من كلام العلماء لا يعدو في الغالب أن يكون بيانًا لما تقدم وإيضاحًا له.
وعليه فقد ظهر لنا مما تقدم بعد البحث والتطبيق أن حد موقف عرفة من جهة الشمال الشرقي هو الجبل المشرف على بطن عرنة المسمى بجبل سعد، والذي وصفه صاحب جغرافية شبه الجزيرة العربية حيث قال: وهناك تجد الجبل قد حلق الوادي وقفله أمامك من الشرق بشكل قوس كبير، وعلى طرف القوس من جهة الجنوب طريق الطائف. أهـ. وهذا هو المشاهد من واقع الجبال. وسيأتي مزيد إيضاح له من كلام العلماء رحمهم الله. ويمتد الحد من هذه الجهة مبتدئًا من منتهى الجبل المذكور مما يلي الغرب متجهًا إلى الغرب حتى ينتهي بملتقى وادي وصيق وادي عرنة، وذلك أن وادي وصيق يأتي من ناحية الشرق بالنسبة لجبل سعد متجهًا إلى الغرب ثم ينعطف إلى الجنوب وعندئذ يلتقي بوادي عرنة عندما يقابل منتهى جبل سعد الغربي، فإذا اجتمع وصيق ووادي عرنة صارا واديًا واحدًا يتلاشى معه اسم وصيق ويكون الاسم لوادي عرنة فقط، كما أفاد بذلك أهل المعرفة بتلك الجهة، وتبلغ المساحة من سفح جبل سعد الغربي إلى ملتقى وصيق بوادي عرنة (ألف متر) .
ويدل على ذلك ما جاء في أثر ابن عباس المتقدم حيث قال: حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبال عرفة إلى الوصيق إلى ملتقى وصيق بوادي عرنة.
ويؤيد هذا أيضًا أن جميع ما اطلعنا عليه من كلام العلماء رحمهم الله متفق على أن حد موقف عرفات من الجهة الشمالية الشرقية هو جبل سعد المذكور، وحد موقف عرفة من الجهة الغربية وادي عرنة. يبتديء من الجهة الشمالية من ملتقى وادي وصيق بوادي عرنة، وينتهي من جهة الجنوب عندما يحاذي أول سفح الجبل الواقع جنوبي طريق المأزمين وطريق ظب والذي طرفه الشمالي قرية نمرة من الجهة الشرقية غربي الواقف هناك وغربي سفح الجبال التي في منتهى طرفه من جهة الجنوب شرقيه بخط مستقيم. وبين وادي عرنة المذكور وبين الموقف علمان كبيران يقعان شمالي شرقي مسجد إبراهيم، وهما الحد الفاصل بين وادي عرنة وبين عرفة، كما ذكر ذلك تقي الدين الفاسي في كتابه "شفاء الغرام" (1) قال: وكان ثمة ثلاثة أعلام، فسقط أحدها وهو إلى جهة المغمس، وأثره بين، ورأيت عنده حجرًا ملقى مكتوب فيه: أمر الأمير الاصفهلار الكبير مظفر الدين صاحب اربل حسان (2) أمير المؤمنين بإنشاء هذه الأعلام الثلاثة بين منتهى أرض عرفة ووادي عرنة، لا يجوز لحاج بيت الله العظيم أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس. وفيه: كان ذلك بتاريخ شهر شعبان من سنة (605) ورأيت مثل ذلك مكتوبًا في حجر ملقي في أحد العلمين الباقيين، وفي هذين العلمين مكتوب: أمر بعمارة علمي عرفات، وأضاف كاتب ذلك هذا الأمر للمستظهر العباسي. ثم قال: وذلك في شهر سنة أربع وثلاثين وستمائة. أهـ.
(1) ج1 ص302
(2)
كذا بالأصل، وفي شفاء الغرام: حسام.
وقال في "مواهب الجليل" شرح مختصر خليل: وعرفة متسعة من جميع الجهات. والمحتاج إليه من حدودها ما يلي الحرم، والاختلاف فيه. ولئلا يجاوزه الحاج قبل الغروب: وقد صار ذلك معلومًا بالأعلام التي بنيت، وكانت ثلاثة، فسقط منها واحد وبقي اثنان، مكتوب في أحدها: إنه لا يجوز لحاج بيت الله أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس. أهـ.
وقد يقول قائل: إن ما جاء في حديث جابر الذي في مسلم وغيره "حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة" بفهم منه بأن نمرة من عرفة. ويجاب عن ذلك بأننا لم نر من استشكل هذا من العلماء. وقال صاحب "المنهل العذب" على شرحه لهذا الحديث: أي لما قارب، لأن نمرة قبل عرفة. أهـ. يؤيد ذلك ما جاء في حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن خطب وصلى بعرفة ركب حتى أتى الموقف يعني أرض عرفة. كما أوضح ذلك في "المنهل العذب" المورود. شرح سنن أبي داود.
وأيضًا فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن عرنة تمتد عرضًا إلى أعلام حدود الحرم. الأمر الذي يتضح منه بأن ذلك جميعه خارج عن حدود عرفة.
ثم يأخذ الحد من العلم الجنوبي من العلمين المذكورين بالاتجاه إلى ما بين الجنوب والغرب بخط مستقيم إلى أن يصل إلى المنارة الواقعة شرقي شمال مسجد إبراهيم القديم، وبين العلم الجنوبي المذكور وبين مسجد إبراهيم سبعمائة وأربعة وستون ذراعًا بذارع الحديد، كما ذكر ذلك الفاسي.
ثم إن الحد يأخذ متجهًا إلى الجنوب من منتهى مسجد إبراهيم القديم إلى الجهة الجنوبية حتى يصل إلى منتهى عرفة من جهة الجنوب الموضح عنه بعاليه. ومنه يتضح بأن"مسجد إبراهيم" القديم الذي ذرعه مبتدؤه من الناحية الغربية إلى منتهاه من الناحية الشرقية (مائة وستون ذراعًا) كما ذكره الأزرقي في "تأريخ مكة" خارج عن موقف عرفات. وقد قال بعض أهل العلم: إن مقدم المسجد - أعني القديم - في وادي عرنة، ومؤخره في عرفات. وهو قول إمام الحرمين الجويني، والقاضي حسين، والرافعي، وجماعة من الخراسانيين. قالوا: ويتميز ذلك بصخرات كبار فرشت هناك. وقيل إن جميع المسجد من عرفة وأن جداره الغربي لو سقط لسقط على بطن عرنة قال ذلك في "البحر العميق" نقلا عن الطرابلسي وغيره. ولكن الأولى بأخذ قول الجمهور في أن جميع المسجد القديم خارج عن حدود عرفة فلا يصح الوقوف فيه كما أوضحنا ذلك بعاليه، ولأن الأخذ بهذا القول أحوط لهذه العبادة العظيمة الخطرة. أما الزيادة التي أدخلت فيه بعهد حكومتنا الحاضرة وفقها الله فإنها داخلة في موقف عرفات. وإن كانت هذه الزيادة خارجة في رأي العين عن مسامتة العلمين اللذين وضعهما ملك الإربل إلى جهة الغرب قليلاً. لأننا لم نسر من العلماء رحمهم الله من استثنى شيئًا مما كان خارج المسجد القديم من الجهة الشرقية وأدخله في حدود عرفة، بل صرح بعضهم بأن الإنسان إذا خرج من المسجد - أعني القديم - يريد الوقوف فقد دخل عرفة من حين يخرج (1) .
(1) قلت: والآن المسجد المذكور يزاد فيه من الجهة الجنوبية.
ويدل على هذا الحد ما رواه الإمام أحمد في مسنده برجال ثقات، عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وقفت هاهنا وكل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة" وأصل الحديث في صحيح مسلم وقد تقدم. فدل قوله صلى الله عليه وسلم: "وارفعوا عن بطن عرنة" إن وادي عرنة ليس من موقف عرفة، إذ لو كان منه لما أمر بالرفع عنه، والأمر بالرفع يقتضي النهي عن الاتيان، بل لما كان وادي عرنة ملاصقًا لموقف عرفة ومشابهًا له احتاج إلى التنبيه من المرشد الأعظم صلوات الله وسلامه عليه لأمته، كما وأنه لو كان وادي عرنة المذكور موقفًا والنهي عن الوقوف فيه لعلة أخرى لوضحها الشارع صلى الله عليه وسلم. فلم ينقل عنه صلوات الله وسلامه عليه جواز الوقوف بوادي عرنة، ولا عن أحد من أصحابه بعده، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بنمرة إلى أن زالت الشمس، ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس خطبته المشهورة، وصلى الظهر والعصر جمعًا، ثم ذهب إلى الصخرات. وقال:"وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف" الحديث. ولم يقل هذا إلا بعد ان ذهب من نمرة ومن المسجد معًا الأمر الذي يتضح منه عدم دخول المسجد وما ب عده من الجهة الغربية في مسمى عرفة التي هي مكان الوقوف.
وقد صرح بذلك كثير من الأئمة والعلماء الأعلام كأحمد بن حنبل والشافعي حيث قال الشافعي وهو المكي القرشي في "الأم": وعرفة ما جاوز وادي عرنة الذي فيه المسجد، وليس المسجد ولا وادي عرنة من عرفة. وقال النووي في "الإيضاح": واعلم أنه ليس من عرفات وادي عرنة ولا نمرة ولا المسجد المسمى مسجد إبراهيم
ويقال له أيضًا مسجد عرفة، بل هذه المواضع خارجة عن عرفات على طرفها الغربي مما يلي مزدلفة وهذا نص الشافعي. أهـ. وقال في "المجموع": أما مسجد إبراهيم فقد نص الشافعي على أنه ليس من عرفات. وان من وقف به لم يصح وقوفه. وقال القشيري: والمسجد الذي يصلي فيه الإمام اليوم يوم عرفة هو في بطن عرنة، فإذا خرج منه الإنسان يريد الوقوف فقد صار في عرفة من حين يخرج. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ونمرة كانت قرية خارج عن عرفات من جهة اليمين. فيقيمون بها إلى الزوال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي وهو موضع النبي صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه الظهر والعصر وخطب وهو في حدود عرفة ببطن عرفة. وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم، وإنما بني في أول دولة بني العباس. أهـ. وقال ابن القيم رحمه الله: نمرة قرية، غربي عرفات، وهي خراب اليوم. نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت له. ثم سار حتى أتي بطن الوادي من أرض عرنة فخطب الناس، وموضع خطبته لم يكن من الموقف. فإنه خطب بعرنة وليست من الموقف. فهو صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة. وخطب بعرنة، ووقف بعرفة. أهـ.
وقد يقول قائل: إن ما بين العلمين المذكورين أعلاه واللذين وضعهما ملك الاربل في عام 605 وبين مجرى وادي عرنة في الوقت الحاضرب مسافة لا يقل عرضها عن (مائة متر) وهي مرتفعة عن مجرى عرنة، فكيف لا تكون داخلة في حدود موقف عرفة.
فيقال: إن هذين العلمين قد وضعا منذ سبعمائة وثلاثة وثمانين عامًا. ولم يغيرا على مر السنين بل أبدا ممن نقلنا عنهم ذلك أعلاه ومن غيرهم. الأمر الذي يدل على أنهما حد مجرى وادي عرنة حينذاك. وأيضًا فإن سهول عرفة كلها رمال تنتقل. الأمر الذي يتلمح منه أن مجرى وادي عرنة القديم يشمل هذا المرتفع ولا يزول الحكم بالارتفاع بسبب تراكم الأتربة بهبوب الرياح وجريان السيل، وقد يشتد سيل الوادي في بعض الأحيان فيعلو عليه ويزيله. وقد ذكر أهل الخبرة من أهل تلك الجهة أنه عند اشتداد السيل بعلو هذا المرتفع.
وتبلغ المساحة لهذا الحد ابتداءً من ملتقى وصيق بوادي عرنة من الجهة الشمالية إلى منتهاه من الجهة الجنوبية الموضح ذلك أعلاه (خمسة آلاف متر) . كما وأن المساحة التي بين جبل الرحمة إلى ملتقى وصيق بوادي عرنة تبلغ (ثلاثة آلاف متر) . ومن جبل الرحمة إلى مسجد إبراهيم قدر ميل، كما صرح بذلك النووي رحمه الله في "الإيضاح" حيث قال: وبين المسجد والجبل الذي بوسط عرفات. المسمى جبل الرحمة قدر ميل. وجميع تلك الأرض يصح الوقوف فيها. وتبلغ مساحة المسجد من ركنه الشمالي الشرقي إلى ركنه الجنوبي الشرقي (23ذراعًا) كما ذكر ذلك الأزرقي في "تاريخ مكة" كما وأن مساحة ما بين منتهى مسجد إبراهيم من الجهة الشرقية الجنوبية وبين منتهى الحد الجنوبي الغربي (ألف وثلاثمائة متر) . وتبلغ المساحة إبتداء من ملتقى الحد الجنوبي بالغربي إلى جبل الرحمة (ثلاثة كيلو متر) . ويحد موقف عرفات من الجهة الجنوبية الجبال
المقابلة للجبل الشمالي المسمى الآن بجب لسعد والواقعة يمين الذاهب إلى الطائف. ويمتد الحد من الجهة الغربية مبتدئًا من سفح الجبل الغربي من الجبال المذكورة بخط مستقيم جنوبي متجهًا إلى الجبل الواقع جنوبي طريق المأزمين وطريق ضب حتى يلتقي بمجرى وادي عرنة، وبهذا ينتهي الحد من الجهة الجنوبية الغربية وتبلغ مساحته (ألف وخمسمائة متر) وتبلغ مساحته ما بين منتهى سلسلة الجبال المذكورة من جهة الغرب إلى جبل الرحمة (2600م) . أما منتهاه من الجهة الجنوبية الشرقية فهو منعطف سلسلة الجبال الجنوبية المذكورة من جهة الشرق والذي اخترق معه في الوقت القري طريق للسيارات الذاهبة إلى الطائف والمقابل لمنتهى جبل سعد من جهته الجنوبية والواقع شرقي المقاهي المعروفة بأم الرضوم. فتكون قرية عرفات وما أدخله الحد المذكور من حوائط ابن عامر داخل جميع ذلك في عرفات.
ويدل على هذا الحدما تقدم من قول الشافعي في "الأم" من أن عرفة ما جاوز وادي عرنة الذي فيه المسجد. وليس المسجد ولا وادي عرنة من عرفة إلى الجبال المقابلة على عرفة كلها مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن. فإذا جاوزنا ذلك فليس من عرفة. وقال في "فتح مسالك الرمز" لعبد الرحمن عيسى الحنفي: وحد عرفة ما بين الجبل المشرف على بطن عرنة إلى الجبال المقابلة لعرفة مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن. وما جاوز ذلك فليس منها. أهـ. وقال الموفق في "المغني": وحد عرفة من الجبال المشرفة على عرفة إلى الجبال المقابلة له مما يلي حوائط ابن عامر، وهذه عبارة الشرح
الكبير، والكافي، والإقناع، والمنتهى، والغاية. وما ذكر من قول الإمام الشافعي وفقهاء الحنابلة يدل على أن حد عرفة من هذه الجهة هي سلسلة الجبال المذكورة المقابلة لجبل سعد.
ويزيد هذا الحد وضوحًا ما قاله الطبري في "القرى" نقلاً عن البلخي: حائط ابن عامر غير عرنة. ويقربه المسجد الذي يجمع فيه الإمام الظهر والعصر. وهو حائط نخل وفيه عين تنسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز. قلت: وهي الآن خراب. وقال ياقوت في "معجم البلدان" نقلاً عن البنا: قرية عرفة قرية فيها مزارع وخضر ومباطخ، وبها دور حسنة لأهل مكة ينزاونها يوم عرفة. الموقف منها على صيحة. وقال النووي في "المجموع" و "الإيضاح": قال بعض أصحابنا: لعرفات أربع حدود: الأول ينتهي إلى حافة المشرق. الثاني إلى حافة المشرق. الثاني إلى حافة الجبال التي وراء أرض عرفات. الثالث إلى البساتين التي تلي قرية عرفات. وهذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا وقفت بأرض عرفات. الرابع ينتهي إلى وادي عرنة.
ويشهد بذلك أيضًا مشاهدة العيان فإنه بوقوفنا على هذه الجهة بعرفات وجدنا آثارًا لتلك الحوائط منه الجهة الجنوبية وهو ما كشفته الرياح من آثار المصانع والبرك الكبار والأساسات القوية التي تشير إلى أنه كان فلي الموضع قصور وحوائط وجوابي واسعة تليق بمكانة هذا الرجل ااشهير. والذي قال ابن الأثير عنه: إنه أول من اتخذ الحياظ بعرفة وأجرى فيها العين.
كما أنه بسؤالنا من اتفقنا به من القاطنين بتلك الجهة من زمن قديم وهم قريش عن موضع حوائط ابن عامر أشاروا إلى جنوب
بعرفات حيث الآثار المذكورة، ومثل هؤلاء تعتبر إفادتهم دليلاً مستقلاً بذاته لتلقيهم ذلك عن أسلافهم جيلاً بعد جيل.
وأيضًا فإن عرفة محاطة من الشرق والشمال بالجبال الشاهقة، ومن الغرب بوادي عرنة، فلم يبق موضع قابل لأن يكون حوائط وبساتين سوى هذا الموضع.
ويحد موقف عرفات من الجهة الشرقية جبل عرفات المسمى الآن بجبل سعد والواقع شرقي جبل الرحمة والممتد على شكل قوس من جهة الشمال إلى جهة الجنوب كما أوضحنا ذلك بعاليه. وينتهي هذا الحد من الجهة الجنوبية بمنعطف سلسلة الجبال الجنوبية من جهة الشرق. والدليل على ذلك قول ابن عباس رضي الله عنه المتقدم من: أن حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عونة إلى جبال عرفة إلخ.. وقول الإمام الشافعي المتقدم أيضًا: وعرفة ما جاوز وادي عرنة الذي فيه المسجد، وليس المسجد ولا وادي عرنة من عرفة. إلى الجبال المقابلة على عرفة كلها مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن الخ.. وتبلغ المساحة لهذا الحد إبتداء من جبل الرحمة إلى ملتقى الحد الجنوبي بجبل سعد بطريق الذاهب إلى الطائف (ألف وسبعمائة متر) .
وحاصل ما تقدم هو: أن حد موقف عرفة من الجهة الشمالية الشرقية جبل سعد. ومن الجهة الغربية الأعلام الواقعة بين الموقف وبين وادي عرنة ومنتهى مسجد إبراهيم القديم من الجهة الشرقية. يبتديء هذا الحد من الجهة الشمالية بملتقى وصيق بوادي عرنة. وينتهي من الجهة الجنوبية عندما تحاذي سفح الجبل الواقع جنوبي
طريق المأزمين وطريق ضب من الجهة الشرقية غربي الواقف هناك وسفح الجبل الغربي من الجبال الشرقية شرقي الواقف هناك بخط مستقيم. ومن الجهة الجنوبية وجوه سلسلة الجبال الجنوبية من جهة الشمال والمخترق معها طريق الطائف الآن (1) وينتهي من الجهة الغربية بوادي عرنة.
هذا وليعلم أن وجوه الجبال المحيطة بعرفات داخلة في الموقف كما ذكر ذلك إمام الحرمين حيث قال: ويطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفات. وأن قرية عرفات وما أدخله الحد الجنوبي من حوائط ابن عامر داخل في الموقف، ويشهد لهذا ما قاله الماوردي عن الشافعي: حيث وقف الناس من عرفات في جوانبها ونواحيها وجبالها وسهولها وبطاحها وأوديتها. الخ
…
ويستأنس لهذا بحديث عروة بن مضرس "والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه" الحديث (2) ولما جاء في السنن أن يزيد بن شيبان كان في مكان بعيد من موقف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كونوا على مشاعركم هذه".
كما أن وادي عرنة والمرتفع الذي بين العلمين وبين مجرى الوادي حاليًا ومسجد إبراهيم القديم ووادي وصيق جميع ذلك خارج حدود موقف عرفات كما أوضحنا ذلك في مواضعه.
(1) قلت: وقد فتح خلف الجبال المذكورة طريق آخر وسفلت للطائف من مكة.
(2)
ولفظه: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين أقام الصلاة فقلت يا رسول الله إني جئت من جبل طي أكللت راحلتي واتعبت نفسي. وأني ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج قال صلى الله عليه وسلم. من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى تدفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" أخرجه أصحاب السنن.
هذا وليعلم بأنه لا فضيلة الوقوف على الجبل الذي يقال له جبل الرحمة، بل كره الإمام مالك رحمه الله الوقوف على جبل الرحمة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا يسن صعوده إجماعًا.
هذا ما ظهر لنا من حدود هذا الموقف العظيم الهام بعد الاستقصاء للأدلة وتتبع الآثار والمعالم التي يهتدي بها إلى معرفة الحدود، وبعد سؤال أهل الخبرة والمعرفة من أهل مكة ومن سكان تلك الجهة.
هذا ونوصي بأن يوضع على الحدود التي أوضحناها والتي لم تحدد بعد أعلامًا كبيرة عالية لا يقل ارتفاعها ومتانتها عن أعلام حدود الحرم، ويكتب عليها باللغات المشتهرة بأنها حدود الموقف وأن من وقف خارجًا عنها فلا يصح حجه، وأن يكون بين كل علمين مائتا متر على الحد الأقصى.
كما توصي اللجنة أيضًا بأن يشق في جميع عرفات طرق متعددة. وخاصة الجهة الشمالية والشرقية. بوضع هندسي يربطها بالطرق الرئيسية المؤدية إلى مزدلفة، وتعمم فيها شبكة مياه كافية ليحصل بذلك تخفيف الضغط والازدحام خاصة وقت الانصراف. أهـ.
والله نسأله أن يوفق ولاة الأمر إلى ما فيه صلاح الأمة وهداها إلى الصراط القويم. وأن ينصر دينه ويعلي كلمته. وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه. وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رئيس محكمة التمييز للمنطقة الغربية: عبد الله بن جاسر.
رئيس المحكمة الشرعية الكبرى: سليمان بن عبيد.
المدرس بالمسجد الحرام: علوي عباس مالكي
عضو هيئة التمييز: عبد العزيز بن فوزان
(هذا القرار وجدته عند فضيلة الشيخ سليمان العبيد عضو الهيئة المذكورة وأحد تلاميذ الشيخ البارزين) .
(1209 - بناء المظلات في عرفة ومنى)
من محمد بن إبراهيم إلى معالي وزير الحج والأوقاف بالنيابة.
…
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد جرى اطلاعنا على خطابكم رقم 253 - د وتاريخ 4/1/85هـ بخصوص ذكركم أن مشاريع هذا العام قد اشتملت على إبدال سقف المظلتين المخصصتين لإيواء الحجاج التافهين بعرفات بأسقف من الأسمنت المسلح بدلا من الأسقف المصنوعة من الجملون التنك والخشب، وعلى إنشاء دور ثان من المظلات على عنابر التائهين بمنى فوق المظلات الحالية. إلى آخر ما ذكرتم. وطلبكم منا الإذن لكم بمباشرة البناء.
ونفيدكم - مع أنه لا يخفى عليكم - أن البناء في المشاعر غير سائغ شرعًا، لما فيه من التضييق على الحجاج، ولا نريد أن نمثل لكم بحال منى، وكيف أن البنايات فيها صارت موضع الشكوى والمضايقات لحجاج بيت الله الحرام.
لهذا فإننا نعتذر من إجابة طلبكم، ونأمل أن نجد منكم بصفتكم أحد المسئولين عن الحج ما يساعد على تنفيذ قوله صلى الله عليه وسلم (منى مناخ من سبق)(1) وكذلك الحال في بقية المشاعر والسلام عليكم.
مفتي البلاد السعودية
(ص - ف 3161 - 1 وتاريخ 16/11/1385هـ)
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم.