المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة الإنابة:

‌(فصلٌ في منزلة الإنابة:

[*] (عناصر الفصل:

(تعريف الإنابة:

(فضائل منزلة الإنابة:

(أقسام الإنابة:

(علامات الإنابة:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

(تعريف الإنابة:

مسألة: ما هو تعريف الإنابة؟

الإنابة هي الرجوع إلى الله وانصراف القلب بكليته إليه سبحانه والعبد المنيب محب لربه خاضع له خاشع ذليل.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

قال صاحب المنازل:

"الإنابة في اللغة:

الرجوع وهي ههنا الرجوع إلى الحق.

وهى ثلاثة أشياء: «الرجوع إلى الحق إصلاحا كما رجع إليه اعتذارا» «والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدا» «والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة"» .

لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته كان من تتمة ذلك: رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته كما قال: {إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70]

وقال تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160]

«فلا تنفع توبة وبطالة فلا بد من توبة وعمل صالح» : «ترك لما يكره وفعل لما يحب «تخل عن معصيته وتحل بطاعته» .

وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيا والدين كله: عهد ووفاء فإن الله أخذ عهده على جميع المكلفين بطاعته فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته أو منه إلى الرسول بلا واسطة كما كلم موسى وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرسل وأخذ عهده على الجهال بواسطة العلماء فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم وعلى هؤلاء بالتعلم ومدح الموفين بعهده وأخبرهم بما لهم عنده من الأجر فقال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [محمد:10] وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]

وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]

وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177].

وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة وعهودهم مع الخلق.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من علامات النفاق (الغدر بعد العهد).

فما أناب إلى الله عز وجل من خان عهده وغدر به كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به.

ص: 1

وقوله: «والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة"» .

أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولا فلا بد من الإجابة حالا تصدق به المقال فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال فارجع إليه إجابة بالحال.

قال الحسن رحمه الله: "ابن آدم لك قول وعمل وعملك أولى بك من قولك ولك سريرة وعلانية وسريرتك أملك بك من علانيتك".

(فضائل منزلة الإنابة:

مسألة: ما هو فضائل منزلة الإنابة؟

(للإنابة فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهي نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى،، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومن أعظم ما تكلم عنها العالم الحبر العلامة الضياء اللامع والنجم الساطع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فقد كان من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

فإذا استقرت قدمه في منزل (التوبة) نزل بعده منزل (الإنابة) وقد أمر الله تعالى بها في كتابه وأثنى على خليله بها فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54]

وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} إلى أن قال {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8،6]

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]

وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إليه وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31].

(فمنيبين) منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لأن هذا الخطاب له ولأمته أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه نظيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] ويجوز أن يكون حالا من المفعول في

ص: 2

قوله {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي فطرهم منيبين إليه فلو خلو وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه ولكنها تحول وتتغير عما فطرت عليه كما قال صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" وفي رواية: "على الملة حتى يعرب عنه لسانه" وقال عن نبيه داود: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]

وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة فقال: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، قال تعالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ)[ق 31: 34]

وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17].

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي.

[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:

(رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ): أَيْ عَلَى أَعْدَائِي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ.

ص: 3

(وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ، فَالْمَعْنَى:(اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ) كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ.

(وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ.

(وَيَسِّرْ لِي الْهُدَى) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الطَّاعَةِ.

(وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ.

(رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ

(لَكَ ذَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الذِّكْرِ.

(لَكَ رَهَّابًا) أَيْ كَثِيرَ الْخَوْفِ

(لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ

(لَكَ مُخْبِتًا) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْإِخْبَاتِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَخْبَتَ خَشَعَ

(إِلَيْكَ أَوَّاهًا) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهُ أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوْهُ وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ. أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ وَقِيلَ الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ

ص: 4

(مُنِيبًا) أَيْ رَاجِعًا قِيلَ التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.

(رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) أَيْ بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ.

(وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي.

(وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي.

(وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.

(وَسَدِّدْ لِسَانِي) أَيْ صَوِّبْهُ وَقَوِّمْهُ حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ.

(وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

(وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ

(سَخِيمَةَ صَدْرِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ.

(أقسام الإنابة:

مسألة: ما هي أقسام الإنابة؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

و (الإنابة) إنابتان: إنابة لربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إليه} [الروم:33]

فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع وهذه (الإنابة) لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر كما قال تعالى في حق هؤلاء: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم:34،33]

فهذا حالهم بعد إنابتهم.

و (الإنابة الثانية) إنابة أوليائه وهي إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة.

وهي تتضمن أربعة أمور: «محبته والخضوع له والإقبال عليه والإعراض عما سواه»

فلا يستحق اسم (المنيب) إلا من اجتمعت فيه هذه الأربعة وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك.

ص: 5

وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم و (المنيب) إلى الله: المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه.

(علامات الإنابة:

مسألة: ما هي علامات الإنابة؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

(ومن علامات الإنابة: ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم مع فتحك باب الرجاء لنفسك فترجو لنفسك الرحمة وتخشى على أهل الغفلة النقمة ولكن ارج لهم الرحمة واخش على نفسك النقمة فإن كنت لا بد مستهينا بهم ماقتاً لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه فكن لنفسك أشد مقتا منك لهم وكن لهم أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك.

قال بعض السلف: لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا.

وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله وإقبالهم على غيره وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني لم يجد بدا من مقتهم ولا يمكنه غير ذلك البتة ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك: كان لنفسه أشد مقتا واستهانة فهذا هو الفقيه.

(وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة: فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس «وتمييز حق الرب منها من حظ النفس» ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظا لنفسك وأنت لا تشعر.

فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال: أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه! وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها.

«فبين العمل وبين القلب مسافة» وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.

ص: 6