المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة التقوى:

«ثم بين القلب وبين الرب مسافة» وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب ومن رحمة الله تعالى: سترها على أكثر العمال إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة.

‌(فصلٌ في منزلة التقوى:

التقوى شيء عظيم ومنزلة سامية وهي أساس الدين ولا حياة إلا بها بل إن الحياة بغيرها لا تُطاق بل هي أدنى من حياة البهائم فليس صلاحٌ للإنسان إلا بالتقوى، هي كنزٌ عزيز لئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف وخيرٍ كثير ورزق كريم وفوز كبير وغنمٍ جسيم وملكٍ عظيم، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جُمِعَت فجُعِلَت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى .. !

وتأمل ما في القرآن من ذكرها، فكم عُلِّق بها من خير، وكم وُعِد عليها من خير وثواب، وكم أضيف إليها من سعادة .. !

هذه التقوى ظلالٌ طاب العيش فيها .. هذه التقوى حياة كريمة .. فما هي وما تعريفها وكيف تحصل التقوى وما هي ثمراتها وما درجاتها وما هي الأسباب المعينة عليها .. ؟

[*] (عناصر الفصل:

(تعريف التقوى:

(كيف يستدل على تقوى الرجل؟

(علاقة العلم بالتقوى:

(مراتب التقوى:

(منزلة التقوى:

(وصايا السلف بعضهم بالتقوى:

(علامات التقوى:

(وسائل تحصيل التقوى:

(الأسباب الباعثة على التقوى:

(كيف تكون تقيّاً؟

(من ثمرات التقوى:

(صفات المتقين:

ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:

(تعريف التقوى:

التقوى هي الاسم من التقى والمصدر الاتقاء وهي مأخوذة من مادة وقى فهي من الوقاية، وهي ما يحمي به الإنسان نفسه، وتدل على دفع شيء عن شيء لغيره، فالوقاية ما يقي الشيء، ووقاه الله السوء وقاية أي حفظه ..

وأما المعنى الشرعي: فقد ذكر العلماء في تعريفها عدة عبارات فمن ذلك قولهم ..

(أن تجعل بينك وبين ما حرم الله حاجباً وحاجزاً ..

(امتثال أوامر الله واجتناب النواهي فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم، ولا يقدمون على ما نهاهم عنه ..

[*] قال ابن رجب رحمه الله: وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه، من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.

ص: 7

[*] وقال القشيري: فالتقوى جماع الخيرات. وحقيقة الاتقاء: التحرر بطاعة الله من عقوبته، وأصل التقوى: اتقاء الشرك، ثم بعد ذلك اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعد ذلك اتقاء الشبهات، ثم بعد ذلك ترك الفضلات.

[*] وقال ابن مسعود في معنى قوله تعالى: (ا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)(آل عمران:102): أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

وقال سهل بن عبد الله: من أراد أن تصح له التقوى فليترك الذنوب كلها.

[*] وقال الروذباري: التقوى: مجانبة ما يبعدك عن الله.

(والتقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل ..

(التقوى أن يجعل المسلم بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه ..

("وقد سأل عمر رضي الله عنه أُبَي بن كعب فقال له: ما التقوى؟ فقال أُبَي: يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً فيه شوك؟ قال: نعم .. قال: ما فعلت؟ .. قال عمر: أشمّر عن ساقي وأنظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة .. فقال أُبَي بن كعب: تلك التقوى .. ! "، فهي تشمير للطاعة ونظر في الحلال والحرام وورع من الزلل ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه وتعالى ..

(فالتقوى هي أساس الدين، وبها يرتقى إلى مراتب اليقين، هي زاد القلوب والأرواح فبها تقتات وبه تتقوى وعليها تستند في الوصول والنجاة ..

قال ابن المعتز:

خَلِّ الذنوبَ صغيرها

وكبيرها ذاك التقى

واصنع كَمَاشٍ فوق أرض الشوك

يَحْذرُ ما يرى

لا تحقِرنَّ صغيرةً

إن الجبالَ من الحصى

(وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل كقوله {واتقوا الله}، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه فالمقصود اتقوا سخطه وغضبه، ليس المقصود اتقوا القرب منه ولا اتقوا شرعه لكن اتقوا عذابه وسخطه، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي كما قال تعالى: (وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ)[آل عمران: 28]، و قال تعالى:(هُوَ أَهْلُ التّقْوَىَ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)[المدثر: 56]، هو أهلٌ أن يتقى وأن يخشى وأن يهاب وأن يجلّ وأن يعظّم سبحانه وتعالى وأن يعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه لأنه المستحق للجلال والإكرام وهو صاحب الكبرياء والعظمة وقوة البطش ..

ص: 8

(وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله أو إلى مكان العقاب كالنار قال تعالى: (وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ)[آل عمران: 131]، أو إلى زمان العقاب كيوم القيامة قال تعالى:(وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281]

ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات، وربما دخل فيها أيضاً فعل المندوبات وترك المكروهات والمشتبهات فقول الله تعالى:{آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} يشمل ذلك كله ..

[*] قال ابن القيم رحمه الله: في التقوى في تعريفها الشرعي: حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده ..

[*] قال طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى، قالوا: و ما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله .. "وهذا من أحسن ما قيل في حدّ التقوى" ..

والتقوى أيضاً امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكون على ثلاث مراتب هي ما يلي:

(1)

التوقّي من العذاب المخلّد صاحبه و هو المشرك الكافر، وذلك باتباع التوحيد وكلمة التوحيد وهي المقصودة بقوله تعالى:(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ)[الفتح: 26]

أن تتقي كل ما يكون سبب للعذاب في النار ولو لبرهة يسيرة من كبائر وصغائر، وهو المتعارف عليه في الشرع.

(2)

أن يتنزه العبد عن ما يشغل نفسه عن الله تعالى ولو كان مباحات تشغله عن السير لله أو تُبَطّيء سيره، فهذه مرتبة الكُمّل وهذه المرتبة العالية فإن الانشغال بالمباحات يشغل القلب عن الله عز وجل وربما يؤدي إلى القسوة وبالتالي يؤدي إلى الوقوع في المكروهات والمكروهات تؤدي للوقوع في المحرمات، وهذا مسلسل يعرفه الإنسان من نفسه في عدد من الأحيان.

قال بعض الواعظين: " اعلم أولاً بارك الله في دينك وزاد يقينك أن التقوى في قول أهل إصلاح الباطن تنزيه القلب عن الذنب حتى تحصل لك من قوة العزم على تركه وقاية بينك وبين سائر المعاصي، وتتوطّن نفسك على ترك كل قبيح".

(و التقوى تُطلَق في القرآن الكريم على عدد من الأمور:

ص: 9

(1)

تأتي بمعنى الخشية والهيبة كما قال تعالى: (وَإِيّايَ فَاتّقُونِ)[البقرة: 41] أي اخشوني وهابوني، وكذلك في قوله:(وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ)[البقرة: 281] أي خافوا هذا اليوم وما فيه.

(2)

تأتي بمعنى الطاعة والعبادة كقوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] يعني أطيعوه حق الطاعة واعبدوه حق العبادة، وهو قول مجاهد: أن يطاع فلا يُعصَى وأن يُذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفَر.

(3)

تطلق على التنزه عن الذنوب وهذه هي الحقيقة في تعريف التقوى في الاصطلاح، قال تعالى:(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتّقْهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون)[النور: 52]، يتقه أي يترك المعاصي والذنوب، فترك الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى فعلمنا أن حقيقة التقوى شيء إضافي غير الطاعة والخشية في هذا النص وهو تنزيه القلب عن كل قبيح.

(4)

وكذلك يقال في مراتب التقوى أو حالات التقوى:

(أ) اتقاء الشرك.2

(ب) اتقاء البدعة.3

(ج) اتقاء المعصية.،

والله عز وجل ذكر التقوى ثلاث مرات في آية واحدة، فقال تعالى:(لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ إِذَا مَا اتّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة: 93]، فهذا التكرار ليس تكراراً مجرداً، فقال بعضهم: التقوى الأولى تقوى عن الشرك، والثانية تقوى عن البدعة، والثالثة عن المعاصي، ويقابل الأولى التوحيد، والثانية السنة، والثالثة الطاعة، فجمع بين هذه المنازل الثلاث (منزلة الإيمان ومنزلة السنة ومنزلة الاستقامة والطاعة).

ص: 10

وكذلك التقوى يدخل فيها كما تقدم الحذر من المكروهات والمشتبهات، فلا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ومن الناس من يتقي نفسه الخلود في النار، هذه همته، ولا يتقي المعاصي التي تدخله جهنم ولو حيناً من الدهر فيقر بالتوحيد ويصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول أنا مسلم، و يأتي بأركان الإسلام والإيمان لكن لا يحرص على أن يقي نفسه دخول النار بالكلية فيفرط في واجبات ويفعل محرمات .. ، فينبغي أن يعلم أي درجة من التقوى هو عليها، وهذا لا يستحق صاحبه اسم المتقي بإطلاق. لماذا .. ؟ لأنه متعرض للعذاب مستحق للعقاب بما يفعله إلا أن يتداركه الله برحمته ويدخل في المشيئة، لأن أهل التوحيد ممكن أن يدخلوا في المشيئة، أي يعفو الله عنهم وإن شاء عذبهم بحسب أعمالهم حتى يخرجوا من النار يوماً من الأيام.

ومن الناس من يتقي الكفر وكبائر الذنوب ويعمل طاعات و يفعل واجبات، لكن لا يمتنع من الصغائر ولا يكثر من النوافل، فهذا أقرب للنجاة لكن لا تستطيع أن تطلق عليه أيضاً أنه شخص تقي أو متقي وقد قال تعالى: قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مّدْخَلاً كَرِيماً)[النساء: 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات)) كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلواتُ الخمس والجمعةُ إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر.

، لكن قد لا تكفي، قد تكون الصغائر كثيرة جداً بحيث أن هذه لا تكفي للتكفير، ولم يأخذ هذا الشخص جُنّته من النار ووقايته منها بالكامل فهناك تقصير ووقوع في الصغائر، وقد يؤدي إلى الاجتراء على الكبائر فيما يُستَقبل.

ولذلك قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، يعني كلها، ليس أن تتقي الخلود فقط في جهنم، أو تتقي الكبائر فقط، بل لابد من اتقاء الصغائر أيضاً، اتقاء كل مايؤدي للدخول في النار، أن تجعل بينك وبين النار جنّة حصينة بهذه الطاعات.

ص: 11

[*] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً))، طبعاً ليس المقصود أن يترك كل الحلال لكن الحذر يقتضي أحياناً ترك شيء من المباح خشية الوقوع في الحرام، ورَع. فإن الله قد بين للعباد أنه من يعمل مثقال ذرة شرّاً يره، فلابد أحياناً حتى تتقي الذرة من الشر أن توسع الدائرة لتبتعد، ولذلك" لا يرتع غنمه فيه وإنما يبتعد عنه ألا وإن لكل ملكٍ حمى وإن حمى الله محارمه"، ومن اقترب من الحمى أوشك أن يقع فيه.

[*] وقال الحسن رحمه الله: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.

[*] وقال الثوري: إنما سمّوا متقين لأنهم اتقوا ما لا يُتقى" ما لا يُتقى عادة أو ما لا يتقيه أكثر الناس".

فالمتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسمّاهم الله متقين، والمتقي أشد محاسبة لنفسه من محاسبة الشريك لشريكه، ولذلك يخلي جميع الذنوب ويتركها كما قال ابن المعتز:

خَلِّ الذنوبَ صغيرها

وكبيرها ذاك التقى

واصنع كَمَاشٍ فوق أرض الشوك

يَحْذرُ ما يرى

لا تحقِرنَّ صغيرةً

إن الجبالَ من الحصى

لكن هنا مسألة مهمة وهي فائدة العلم في قضية التقوى، لابد أن تعرف أولاً ما هو الذي تتقيه ..

(1)

أن تبين لك ما يجب عليك أن تتقي، تعلم أحكام الدين، تعلم الحلال والحرام ..

(2)

وكذلك قد الإنسان من جهله يمتنع من حلال خالص ظناً منه أنه حرام، من الجهل ولا يكون في هذا ورع ولا تقوى ولكن حرمان نفس بدون فائدة ..

قال بعضهم:"إذا كنت لا تحسن تتقي؛ أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي؛ لقيتك امرأة ولم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي؛ وضعت سيفك على عاتقك"، أي تدخل في الفتن بالجهل، ودخل مسلمين كُثر عبر التاريخ الإسلامي في معارك بين المسلمين لو كان عندهم علم وفقه ما دخلوا فيها، مع أن بعضهم قد يتورع عن أشياء دقيقة جداً، لكن في الدماء لم يتورع للجهل.

(مسألة الاستصغار التي تقع من كثر من الناس للذنوب ويراها سهلة وليست بشيء، كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار، ((إياكم ومحقرات الذنوب))، كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب؛ فإن لها من الله طالبا.

ص: 12

(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم و محقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم و إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه.

فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر منها وشبهها بالأعواد التي يجمعها المسافر أو النازل في مكان فيجمع الأعواد فيوقد ناراً فهذه أعواد ممكن أن توقد عليه نار جهنّم!

[*] قال الإمام أحمد رحمه الله: "التقوى هي ترك ما تهوى لما تخشى " فتترك هواك لأن لك خشية من العذاب ويوم طويل، و قيل أيضاً في التقوى:" أن لا يراك حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك".

(كيف يستدل على تقوى الرجل؟

مسألة: كيف يستدل على تقوى الرجل؟

قال بعض أهل العلم:

يستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء:

(1)

حسن التوكل فيما لم ينل

(2)

وحسن الرضا فيما قد نال

(3)

وحسن الصبر على ما قد مضى.

وقال خالد بن شوذب: شهدت الحسن، وأتاه فرقد السبخي وعليه جبة صوف، فأخذ الحسن بتلابيبه ثم قال: يا فرقد! – مرتين أو ثلاثا – إن التقوى ليس في هذا الكساء، إنما التقوى ما وقر في القلب وصدقه العمل.

(علاقة العلم بالتقوى:

والتقوى لا تقوم إلا على ساق العلم، فالجاهل لا يمكن أن يكون تقيا، لأنه لا يعلم ما يتقى وما لا يتقى، وهذا غاية التخليط.

قال الإمام ابن رجب: وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقى.

وقال بكر بن خنيس: كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي.

وقال معروف: إذا كنت لا تحسن تتقي: أكلت الربا. وإذا كنت لا تحسن تتقي: لقيتك امرأة فلم تغض بصرك. وإذا كنت لا تحسن تتقي: وضعت سيفك على عاتقك أي: شهرت سيفك وقاتلت في الفتنة.

(مراتب التقوى:

[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

التقوى ثلاث مراتب:

إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات. الثانية: حميتهما عن المكروهات. الثالثة: الحمية عم الفضول وما لا يعني. فالأولى: تعطي العبد حياته، والثانية: تفيد صحته وقوته، والثالثة: تكسبه سروره وفرحه وبهجته.

(منزلة التقوى:

وأما بالنسبة لمنزلة التقوى وشرف هذه المنزلة فإنه شيء عظيم ويكفي أن التقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى:(وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ)[النساء: 131]

ص: 13

[*] قال القرطبي رحمه الله: الأمر بالتقوى كان عاماً لجميع الأمم، وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله، لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال:

يريد المرء أن يعلى مناه

ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي

وتقوى الله أفضل ما استفادا

[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديث ((اتقِ الله حيثما كنت)): " ما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ}، ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " ..

وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عالية فإنه قال له: يا معاذ والله إني لأحبك، وإذا كان يحب معاذ فهل ستكون الوصية وصية عابرة؟، والإنسان يجتهد في وصية من يحب أكثر من اجتهاده في وصية من لا يحبه تلك المحبة، ومعاذ أقسم له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحبه فكيف ستكون الوصية له؟، ستكون وصية عظيمة جداً، ولذلك قال له: يا معاذ .. اتقِ الله حيثما كنت .. ، وهو من كبار الصحابة وسادات القوم وأعلم الأمة بالحلال والحرام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثق به جداً وأرسله لمناطق كثيرة ولليمن وولاّه وجعله قاضياً وحاكماً، و يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة معاذ بن جبل، بعثه داعياً ومفتياً وحاكماً إلى أهل اليمن، وكان يُشبّه بإبراهيم عليه السلام لأن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين .. ، وابن مسعود من قدامى المهاجرين ورأس في العلم و الزهد و يشهد لمعاذ بهذه الشهادة ومع ذلك يقول له صلى الله عليه وسلم:((يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)).

[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:

ص: 14

(اتَّقِ اللَّهَ) أسَيْ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنَّ التَّقْوَى أَسَاسُ الدِّينِ وَبِهِ يَرْتَقِي إِلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ (حَيْثُ مَا كُنْتَ) أَيْ فِي الْخَلَاءِ وَفِي النَّعْمَاءِ وَالْبَلَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِسِرِّ أَمْرِكَ كَمَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَوَاهِرِكَ، فَعَلَيْكَ بِرِعَايَةِ دَقَائِقِ الْأَدَبِ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَسَاوِيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (وَأَتْبِعْ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ (السَّيِّئَةَ) الصَّادِرَةَ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَذَا كَبِيرَةٍ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ عُمُومُ الْخَبَرِ وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لَكِنْ خَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِالصَّغَائِرِ (الْحَسَنَةَ) صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً أَوِ اسْتِغْفَارًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (تَمْحُهَا) أَيْ تَدْفَعُ الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَتَرْفَعُهَا، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، وَالْمُرَادُ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا آثَارَهَا مِنَ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (وَخَالِقِ النَّاسَ) أَمْرٌ مِنَ الْمُخَالَقَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ أَيْ خَالِطْهُمْ وَعَامِلْهُمْ (بِخُلُقٍ حَسَنٍ) أَيْ تَكَلَّفْ مُعَاشَرَتَهُمْ بِالْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ طَلَاقَةِ وَجْهٍ، وَخَفْضِ جَانِبٍ، وَتَلَطُّفٍ وَإِينَاسٍ، وَبَذْلِ نَدًى، وَتَحَمُّلِ أَذًى، فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ فِي الدُّنْيَا الْفَلَاحُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْفَوْزُ بِالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ.

[*] وقال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(اتق الله) بامتثال أمره وتجنب نهيه

ص: 15

(حيثما كنت) أي وحدك أو في جمع فإن كانوا أهل بغي أو فجور فعليك بخويصة نفسك أو المراد في أي زمان ومكان كنت فيه رآك الناس أم لا فإن الله مطلع عليك واتقوا الله إن الله كان عليكم رقيباً، والخطاب لكل من يتوجه إليه الأمر فيعم كل مأمور وأفراد الضمير باعتبار كل فرد وما زائدة بشهادة رواية حذفها وهذا من جوامع الكلم فإن التقوى وإن قل لفظها كلمة جامعة فحقه تقدس أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر بقدر الإمكان، ومن ثم شملت خير الدارين إذ هي تجنب كل منهي عنه وفعل كل مأمور به فمن فعل ذلك فهو من المتقين الذين أثنى عليهم في كتابه المبين ثم نبه على تدارك ما عساه يفرط من تقصيره في بعض الأوامر والتورط في بعض النواهي فقال (واتبع) بفتح الهمزة وسكون المثناة فوق وكسر الموحدة ألحق (السيئة) الصادرة منك صغيرة وكذا كبيرة كما اقتضاه ظاهر الخبر والحسنة بالنسبة إليها التوبة منها فلا ملجئ لقصره على الصغيرة كما ظن وأيا مّا كان فالحسنات تؤثر في السيئات بالتخفيف منها يعني ألحق (الحسنة) إياها صلاة أو صدقة أو استغفاراً أو تسبيحاً أو غيرها (تمحها) أي السيئة المثبتة في صحيفة الكاتبين وذلك لأن المرض يعالج بضده كالبياض يزال بالسواد وعكسه {إن الحسنات يذهبن السيئات} يعني فلا يعجزك إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة كصلاة قال ابن عربي: والحسنة تمحو السيئة سواء كانت قبلها أو بعدها وكونها بعدها أولى إذ الأفعال تصدر عن القلوب وتتأثر بها فإذا فعل سيئة فقد تمكن في القلب اختيارها فإذا أتبعها حسنة نشأت عن اختيار في القلب فتمحو ذلك وظاهر قوله تمحها أنها تزال حقيقة من الصحيفة وقيل عبر يه عن ترك المؤاخذة ثم إن ذا يخص من عمومه السيئة المتعلقة بآدمي فلا يمحها إلا الاستحلال مع بيان جهة الظلامة إن أمكن ولم يترتب عليه مفسدة وإلا فالمرجو كفاية الاستغفار والدعاء (وخالق الناس بخلق) بضمتين (حسن) بالتحريك أي تكلف معاشرتهم بالمجاملة من نحو طلاقة وجه وحلم وشفقة وخفض جانب وعدم ظن السوء بهم وتودد إلى كل كبير وصغير وتلطف في سياستهم مع تباين طباعهم، يقال فلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلف وجمع هذا بعضهم في قوله: وأن تفعل معهم ما تحب أن يفعلوه معك فتجتمع القلوب وتتفق الكلمة وتنتظم الأحوال وذلك جماع الخير وملاك الأمر، والخلق بالضم الطبع والسجية وعرفاً ملكة نفسانية تحمل على فعل الجميل وتجنب القبيح كذا ذكره البعض هنا وليس بصواب فإنه

ص: 16

تفسير لمطلق الخلق بالخلق الحسن وهو فاسد وقد تكفل حجة الإسلام بتعريفه على طرف التمام فقال: الخلق هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة وسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً وحسن [ص 121] الخلق وإن كان جلياً لكن في الحديث رمز إلى إمكان اكتسابه وإلا لما صح الأمر به كما سيجيء إيضاحه والأمر به عام خص بمستحقه فخرج الكفرة والظلمة فأغلظ عليهم ثم هذا الحديث من القواعد المهمة لإبانته لخير الدارين وتضمنه لما يلزم المكلف من رعاية حق الحق والخلق. وقال بعضهم: وهو جامع لجميع أحكام الشريعة إذ لا يخرج عنه شيء وقال آخر فصل فيه تفصيلاً بديعاً فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام كل منها جامع في بابه ومترتب على ما قبله (تنبيه) قال الراغب: الفرق بين الخلق والتخلق أن التخلق معه استثقال واكتساب ويحتاج إلى بعث وتنشيط من خارج والخلق معه استخفاف وارتياح ولا يحتاج إلى بعث من خارج.

مسألة: ما ذا نفهم من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه بالتقوى مع أن معاذ بهذه المنزلة؟

أن المرء محتاج للتقوى ولو كان أعلم العلماء، وأتقى الأتقياء، يحتاج إلى التقوى لأن الإنسان تمر به حالات، ويضعف في حالات، يحتاج إلى التقوى للثبات عليها، يحتاج إلى التقوى للازدياد منها. اتق الله حيثما كنت، في السر والعلانية، أتبع السيئة الحسنة تمحها، لماذا بدأ بالسيئة؟، لأنها هي المقصودة الآن، عند التكفير الاهتمام يكون بالسيئة، لا لفضلها، ولكن لأنها المشكلة التي ينبغي حلّها. وخالق الناس بخلق حسن .. ، هناك أشياء بين العبد وخالقه وبينه والناس، هذه وصية جامعة. والكيّس لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو به السيئات، و ليس المقصود الآن هو فعل الحسنات، وإنما كيف تكفر السيئة، لذلك بدأ فيها، وإلا فقد دلّ على حسنات كثيرة في أحاديث أخرى ولم يذكر السيئة فيها، لأن المقصود تعليم الناس الحسنات، لكن هنا المقصود تعليم الناس كيفية تكفير السيئة.

ص: 17

الطبيب متى تناول المريض شيئاً مضر أمره بما يصلحه، وكأن الذنب للعبد حتمٌ ولذلك قال:((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها))، إذاً تحرص على التقوى وإذا حصل وأذنبت تعرف الطريق، اعمل الحسنات لتمحو ما ارتكبت من السيئات. فهذه الوصية لحقوق الله وحقوق عباده من النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك صلى الله عليه وسلم أوصى أصحابه لما أحسوا بدنو أجله، كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.

فالحاصل: أول شيء بدأ به تقوى الله،

(والتقوى هي رأس كل شيء بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شيء و عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام و عليك بذكر الله تعالى و تلاوة القرآن فإنه روحك في السماء و ذكرك في الأرض.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

ص: 18

(أوصيك بتقوى اللّه فإنه رأس الأمر كله وعليك بتلاوة القرآن وذكر اللّه فإنه ذكر لك في السماء) يعني يذكرك الملأ الأعلى بسببه بخير (ونور لك في الأرض) أي بهاء وضياء يعلو بين أهل الأرض وهذا كالمشاهد المحسوس فيمن لازم تلاوته بشرطها من الخشوع والتدبر والإخلاص. قال الزمخشري: فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هذه المنة والقيام بشكرها (وعليك بطول الصمت) أي الزم السكوت (إلا في خير) كتلاوة وعلم وإنذار مشرف على هلاك وإصلاح بين الناس ونصيحة وغير ذلك (فإنه مطردة للشيطان) أي مبعدة له (عنك) يقال طردته أبعدته كما في الصحاح وغيره وهو مطرود وطريد واطرده السلطان بالألف أمر بإخراجه عن البلد. وقال الزمخشري: طرده أبعده ونحاه وهو شريد طريد ومشرد مطرد. قال ابن السكيت: طرده نفاه وقال له اذهب عنا (وعون لك على أمر دينك) أي ظهير ومساعد لك عليه (إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب) أي يغمسه في الظلمات فيصيره كالأموات قال الطيبي: والضمير في أنه وفي فإنه يميت واقع موقع الإشارة أي كثرة الضحك تورث قسوة القلب وهي مفضية إلى الغفلة وليس موت القلب إلا الغفلة (ويذهب بنور الوجه) أي بإشراقه وضيائه وبهائه قال الماوردي: واعتياد الضحك شاغل عن النظر في الأمور المهمة مذهل عن الفكر في النوائب المسلمة وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار وقال حجة الإسلام: كثرة الضحك والفرح بالدنيا سم قاتل يسري إلى العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة وهذا هو موت القلب {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (عليك بالجهاد (1) فإنه رهبانية أمتي) كما تقرر وجهه فيما قبله (أحب المساكين) المراد بهم ما يشمل الفقراء كما سبق في أمثاله (وجالسهم) فإن مجالستهم ترق القلب وتزيد في التواضع وتدفع الكبر (انظر إلى من) هو (تحتك) أي دونك في الأمور الدنيوية (ولا تنظر إلى من هو فوقك) فيها (فإنه أجدر) أي أحق وأخلق يقال هو جدير بكذا أي خليق وحقيق (أن لا تزدري نعمة اللّه عندك) كما سبق بتوجيهه أما في الأمور الأخروية فينظر إلى من فوقه (صل قرابتك) بالإحسان إليهم (وإن قطعوك) فإن قطيعتهم ليست عذراً لك في قطيعتهم (قل الحق) أي الصدق يعني مر بالمعروف وانه عن المنكر (وإن كان مُرّاً) أي وإن كان في قوله مرارة أي مشقة على القائل فإنه واجد أي ما لم يخف على نفسه أو ماله أو عرضه مفسدة فوق مفسدة المنكر الواقع.

ص: 19

قال الطيبي: شبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن يأباه بالصبر فإنه مرّ المذاق لكن عاقبته محممودة. قال بعض العارفين: من أمراض النفس التي يجب التداوي منها أن يقول الإنسان أنا أقول ولا أبالي وإن كره المقول له من غير نظر إلى الفضول ومواطنه ثم تقول: أعلنت الحق وعز عليه ويزكي نفسه ويجرح غيره ومن لم يجعل القول في موضعه أدى إلى التنافر والتقاطع والتدابر ثم إن بعد هذا كله [ص 77] لا يكون ذلك إلا ممن يعلم ما يرضي اللّه من جميع وجوهه المتعلقة بذلك المقام لقوله سبحانه وتعالى {لا خير في كثير من نجواهم} الآية ثم قال: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه} ثم زاد في التأكيد في قول الحق قوله (لا تخف في اللّه لومة لائم) أي كن صلباً في دينك إذا شرعت في إنكار منكر وأمر بمعروف وامض فيه كالمسامير المحماة لا يرعك قول قائل ولا اعتراض معترض (ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك) أي ليمنعك عن التكلم في أعراض الناس والوقيعة فيهم ما تعلم من نفسك من العيوب فقلما تخلو أنت من عيب يماثله أو أقبح منه وأنت تشعر أو لا تشعر (ولا تجد عليهم فيما يأتون) أي ولا تغضب عليهم فيما يفعلونه معك يقال وجد عليه موجدة غضب (وكفى بالمرء عيباً أن يكون فيه ثلاث خصال أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه) أي يعرف من عيوبهم ما يجهله من نفسه (ويستحي مما هو فيه) أي ويستحي منهم أن يذكروه مما هو فيه من النقائص مع إصراره عليها وعدم إقلاعه عنها (ويؤذي جليسه) بقول أو فعل ولهذا روي أن أبا حنيفة كان يحيي نصف الليل فمرّ يوماً في طريق فسمع إنساناً يقول هذا الرجل يحيي الليل كله فقال: أرى الناس يذكرونني بما ليس فيَّ فلم يزل بعد ذلك يحيي الليل كله وقال: أنا أستحي من اللّه أن أوصف بما ليس فيَّ من عبادته (يا أبا ذر لا عقل كالتدبير) أي في المعيشة وغيرها والتدبير نصف المعيشة (2)(ولا ورع كالكف) أي كف اليد عن تناول ما يضطرب القلب في تحليله وتحريمه فإنه أسلم من أنواع ذكرها المتورعون من التأمل في أصول المشتبه والرجوع إلى دقيق النظر عما حرمه اللّه (ولا حسب) أي ولا مجد ولا شرف (كحسن الخلق) بالضم إذ به صلاح الدنيا والآخرة وناهيك بهذه الوصايا العظيمة القدر الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر فأعظم به من حديث ما أفيده.

(والتقوى جماع كل خير بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي: (

ص: 20

(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أوصني، قال عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير.

(وقد أمر النبي بالتقوى سراً وعلانية بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصيك بتقوى الله تعالى في سر أمرك و علانيته و إذا أسأت فأحسن و لا تسألن أحدا شيئا و لا تقبض أمانة و لا تقض بين اثنين.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(أوصيك بتقوى اللّه في سر أمرك وعلانيته) أي في باطنه وظاهره والقصد الوصية بإخلاص التقوى وتجنب الرياء فيها قال حجة الإسلام: وإذا أردنا تحديد التقوى على موضع علم السر نقول الحد الجامع تبرئة القلب عن شر لم يسبق عنك مثله بقوة العزم على تركه حتى يصير كذلك وقاية بينك وبين كل شر قال: وهنا أصل أصيل وهو أن العبادة شطران اكتساب وهو فعل الطاعات واجتناب وهو تجنب السيئات وهو التقوى وشطر الاجتناب أصلح وأفضل وأشرف للعبد من الاكتساب يصوموا نهارهم ويقوموا ليلهم واشتغل المنتبهون أولو البصائر والاجتناب إنما همتهم حفظ القلوب عن الميل لغيره تعالى والبطون عن الفضول والألسنة عن اللغو والأعين عن النظر إلى ما لا يعنيهم

(وإذا أسأت فأحسن){إن الحسنات يذهبن السيئات}

(ولا تسألن أحداً) من الخلق

(شيئاً) من الرزق ارتقاء إلى مقام التوكل فلا تعلق قلبك بأحد من الخلق بل بوعد اللّه وحسن كفايته وضمانه {وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها} وقد قال أهل الحق: ما سأل إنسان الناس إلا لجهله باللّه تعالى وضعف يقينه بل إيمانه وقلة صبره وما تعفف متعفف إلا لوفور علمه باللّه وتزايد معرفته به وكثرة حيائه منه

(ولا تقبض أمانة) وديعة أو نحوها مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين ثم استعمل في الأعيان مجازاً فقيل الوديعة أمانة ونحو ذلك والنهي للتحريم إن عجز عن حفظها وللكراهة إن قدر ولم يثق بأمان نفسه وإن وثق بأمانة نفسه فإن قدر ووثق ندب بل إن تعين وجب

(ولا تقض بين اثنين) لخطر أمر القضاء وحسبك في خطره خير من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين والخطاب لأبي ذر وكان يضعف عن [ص 76] ذلك كما صرح به في الحديث.

(والتقوى هي الميزان الصحيح والمقياس الدقيق المعتبر لتفضيل الناس بعضهم على بعض:

ص: 21

(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فيبلغ الشاهد الغائب.

(وكان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسألها في دعائه كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

وكما في دعاء السفر الآتي:

(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال! سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون >! اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون.

والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى مسافراً فقال: ((أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف)) كما في الحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن رجلا قال يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني قال عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف.

فالحاصل: أن التقوى في السفر بالذات لها طعم خاص، فالمسافر يغيّر مكانه وحاله، وقد يكون في بلاد الغربة لا يخشى مما يخشى منه في بلده وموطنه، ولا يخشى فضيحة لو عرف، لكن في بلده يخاف الفضيحة، لذلك كانت ملازمة التقوى في السفر مهمة جداً.

وعلى كل حال الإنسان يسأل الله التقوى في السفر والحضر والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكّاه أنت وليها ومولاها)).

(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.

(جميع الرسل الكرام كانوا يوصون بالتقوى:

ص: 22

قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتّقُونَ)[الشعراء: 106]

و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتّقُونَ)[الشعراء: 124]

و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتّقُونَ)[الشعراء: 142]

و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتّقُونَ)[الشعراء: 161]،

و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتّقُونَ)[الشعراء: 177]،

فهذه إذاً منزلة التقوى عرفناها من خلال الوصايا والإنذارات والدعوة التي أطلقها الرسل لأقوامهم.

(التقوى خير لباس .. ، فالتقوى أجمل لباس يتزين به العبد قال تعالى: (يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ)[الأعراف: 26]،

منّ الله بهذا عليهم، والمنّة تقتضي الإباحة، إذا جاء الأمر في سياق الامتنان يفيد الإباحة، مثلاً قال تعالى:(وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)[النحل: 14]،

ما دام ذكرها في مقام المنّة؛ أفاد الإباحة، لأنه لا يمتنّ على عباده بما حرّم عليهم وإنما يمتنّ عليهم بما أحلّ لهم فقال {يَا بَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً} ، ولكن ذكرهم في ذات الوقت بما هو أهم، فقال في لباس معنوي غير اللباس الحسّي أنفس منه وأعلى {وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} ، واللباس يستر العورات فهو اللباس الأصلي، والريش هو ما يُتجمَّل به، فلما أخبرهم بما يسترون به ظاهرهم؛ نبّههم إلى ما يسترون به باطنهم، لما أرشدهم إلى ما يزينون به ظاهرهم؛ نبههم إلى ما يزينون به بواطنهم فقال:{ولباس التقوى ذلك خير} .

(ولله درُّ من قال:

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى

تقلب عُرياناً وإن كان كاسياً

وخيرُ لِباسِ المرء طاعة ربه

ولا خير فيمن كان لله عاصياً

لباس التقوى العمل الصالح، الحياء، السمت الحسن، العلم، لكن البعض فهم قال هذا لباس التقوى الخشن من الثياب .. !، يلبس الإنسان ما وجد، نعم .. يتواضع في الملبس، ومن ترك اللباس تواضعاً لله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يكافئه يوم القيامة بالحلل العظيمة وبالحور العين.

(أهل التقوى هم أولياء الله:

ص: 23

قال تعالى: (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ)[يونس 62: 63]

و قال تعالى: (إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَإِنّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ)[الجاثية: 19]،

فالمتقون هم أصحاب الولاية حقاً، المجتهدون في فعل الطاعات والنوافل ((ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)) كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.

(ومن هنا يتبين كذب ودجل ادعاء من قالوا أنهم أولياء الصوفية وهم يرقصون ويضربون بالطبل في الموالد، ويتمايلون ويتساقطون ويزعمون الصرع، ويعاشرون المردان والنسوان كما نقل عنهم العلماء، هؤلاء هم مشايخ الصوفية، ويقولون نحن أولياء الله، ويستغاث بهم .. !!،سجدوا خلف من يزعمون أنه ولي فأطال السجود في الصلاة ثم رفعوا رؤوسهم فإذا هو ساجد، ورفعوا رؤوسهم أخر ى فإذا هو كذلك، وبعد الصلاة قالوا خشينا عليك فأراهم كمّي ثوبه مبتلة بالماء قالوا أين كنت؟ قال: استنجد بي ناس في عرض البحر على وشك الغرق فأنجدتهم ثم عدت إلى صلاتي .. !،فإذاً مسألة الأولياء هؤلاء قصة طويلة في عالم الخرافة والبدع ولذلك الله عز وجل جعل لنا فرقاناً نفرق به بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .. ، فقال تعالى: (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ)[يونس 62: 63]

و قال تعالى: (إِلاّ الْمُتّقُونَ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[الأنفال: 34]

(وجعل الله عز وجل التقوى هي الميزان عنده في التفاضل بين الناس:

قال تعالى: (إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13]

ص: 24

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قيل يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال:(أتقاهم). فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:(فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله). قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:(فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا).

فالفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب للقبائل ولذلك كما قال الشاعر:

فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ

وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب

وذُكِر أن سلمان رضي الله عنه كان يقول:

أبي الإسلام لا أبَ لي سواه: إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ

(ومن شرف التقوى أن الله أمر بالتعاون من أجلها:

قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ)[المائدة: 2]، ومصالح العباد لا تتم إلا بها. وكذلك فإن التقوى منبع الفضائل فالرحمة والوفاء والصدق والعدل والورع والبذل والعطاء كلها من ثمرات شجرة التقوى إذا أينعت في قلب المؤمن وهي الأنس من الوحشة والمنجية من عذاب الله،

(ولله درُّ من قال:

ألا فاسلك إلى المولى سبيلا

ولا تطلب سوى التقوى دليلا

وسر فيها بجد وانتهاض

تجد فيها المنى عرضا وطولا

ولا تركن إلى الدنيا وعوّل

على مولاك واجعله وكيلا

وان أحببت أن تعتزّ عزا

يدوم فكن له عبدا ذليلا

وواصل من أناب إليه واقطع

وصال المسرفين تكن نبيلا

ولا تفني شبابك واغتنمه

ومثل بين عينيك الرحيلا

ولا تصل الدنيا واهجر بنيها

على طبقاتهم هجرا جميلا

وعامل فيهم المولى بصدق

يضع لك في قلوبهم القبولا

(وصايا السلف بعضهم بالتقوى:

(ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك:

[*] كان أبو بكر يقول في خطبته: ((أوصيكم بتقوى الله))، ولم حضرت الوفاة دعا بالوصية لعمر وقال:((اتقِ الله يا عمر)

[*] و كتب عمر بها لابنه فقال: ((أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل)،

[*] واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلاً على سرية فقال: ((أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من لقائه)

ص: 25

[*] وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: ((أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين))، ولما ولّي خطب حمد الله وأثنى عليه وقال:((أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف))، التقوى يمكن أن تعوّض أي شيء، لكن إذا فقدت لا يعوضها شيء.

[*] وقال رجل ليونس بن عُبَيد أوصني قال: ((أوصيك بتقوى الله والإحسان فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)

[*] وكتب رجل من السلف إلى أخيه: ((أوصيك وأنفسنا بالتقوى فإنها خير زاد الآخرة والأولى واجعلها إلى كل خير سبيلك ومن كل شر مهربك، فقد توكل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق من حيث لا يحتسبون)

[*] وكتب ابن السمّاك الواعظ إلى أخٍ له: ((أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيُّك في سريرتك، و رقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال، في ليلك ونهارك وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك، و ليكثر منه وجلك والسلام)).

(ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك:

[*] كان أبو بكر يقول في خطبته: ((أوصيكم بتقوى الله))، ولم حضرت الوفاة دعا بالوصية لعمر وقال:((اتقِ الله يا عمر)

[*] و كتب عمر بها لابنه فقال: ((أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل)،

[*] واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلاً على سرية فقال: ((أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من لقائه)

(ودخل عليٌ رضي الله عنه المقبرة فقال: يا أهل القبور ما الخبر عندكم، إن الخبر عندنا أن أموالكم قد قسمت وأن بيوتكم قد سكنت وأن زوجاتكم قد زوجّت، ثم بكى ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى.

[*] وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: ((أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين))، ولما ولّي خطب حمد الله وأثنى عليه وقال:((أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف))، التقوى يمكن أن تعوّض أي شيء، لكن إذا فقدت لا يعوضها شيء.

ص: 26

[*] وقال رجل ليونس بن عُبَيد أوصني قال: ((أوصيك بتقوى الله والإحسان فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)

[*] وكتب رجل من السلف إلى أخيه: ((أوصيك وأنفسنا بالتقوى فإنها خير زاد الآخرة والأولى واجعلها إلى كل خير سبيلك ومن كل شر مهربك، فقد توكل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق من حيث لا يحتسبون)

[*] وكتب ابن السمّاك الواعظ إلى أخٍ له: ((أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيُّك في سريرتك، و رقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال، في ليلك ونهارك وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك، و ليكثر منه وجلك والسلام)).

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن فضالة بن عبيد أنه كان يقول: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأن الله تعالى يقول: إنما يتقبل الله من المتقين.

(علامات التقوى:

للتقوى علاماتٌ واضحة وسماتٌ جلية منها ما يلي:

(1)

إذا تخلّص من آفات الغفلة والاستخفاف بالمنكر من الأقوال والأفعال، والضيق بالمنكر إذا حصل، والتأذي منه إذا وقع، والفزع إلى الله طالباً الخلاص، هذا من صفات المتقين، إذا هو نفسه وقع في المعصية لا يمكن أن يستريح حتى يعود إلى الله طالباً الصفح والمغفرة مما ألمّ به والدليل على ذلك قوله عز وجل: قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ)[الأعراف: 201]، فلا يمكن أن يجدوا أمناً ولا طمأنينة إلا بالخروج من تلك الحال وذلك بالاستغفار والتوبة إلى الله.

(2)

التقي دائماً يذكر ربه، لأن ذكر الله مطردة للشيطان والوسوسة، مطهرة لكل ما يدخل في الإنسان من رجس أو دنس من كلاب الشهوات أو الشبهات التي تغير على قلبه قال تعالى:(إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال - 2: 4]

(وسائل تحصيل التقوى:

يمكن تقسيم التقوى إلى قسمين: واجبة ومستحبة.

(أما الواجبة:

ص: 27

فلا يمكن أن تتحقق إلا بفعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات، وأعظم الواجبات: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأعظم المحرمات: الشرك بالله والكفر بجميع أنواعه. قال تعالى: (الم~ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة 1 - 4)

[*] قال معاذ بن جبل: ينادى يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر، قالوا له: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة.

[*] وقال الحسن: المتقون اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.

[*] وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير.

(وأما التقوى المستحبة:

فهي تكون بفعل المندوبات وترك المكروهات، وربما بالغ المتقي في التنزه عن بعض ما هو حلال مخافة الوقوع في الحرام.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرام يكون بينه وبين الحرام.

وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام.

وقال الثوري: إنما سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

(الأسباب الباعثة على التقوى:

(1)

كثرة العبادة: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة:21)

(2)

أداء العبادة على الوجه الأكمل: لقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) (البقرة:203)

(3)

الجدية في التعامل مع شرع الله تعالى: لقوله تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة: 63)

ص: 28

(4)

تطبيق الحدود الشرعية: بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة:179)

(5)

إقامة شعائر الإسلام والتحلي بمكارم الأخلاق: لقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(البقرة:177)

(6)

الصيام: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة:183)

(7)

تعظيم شعائر الله: لقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج:32)

(8)

العدل: لقوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة: 8)

(9)

العفو: لقوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(البقرة: 237)

(10)

تعظيم الرسول وتوقيره: لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)(الحجرات: 3)، وذلك يشمل الرسول حيا وميتا، ويكون عدم رفع الأصوات عليه ميتا باحترام سنته، وانتهاج طرقته، وعدم مجاوزة هديه إلى غيره من زبالات الأذهان ونخالات الأفكار والمذاهب والآراء.

وبالجملة: فجميع الطاعات من أسباب حصول التقوى، وجميع المعاصي من معوقات حصول التقوى، كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله تخاف عقاب الله.

(كيف تكون تقيّاً؟

1 -

أن تحب الله أكثر من أي شيء.

2 -

أن تستشعر مراقبة الله دائماً.

3 -

أن تعلم عاقبة المعاصي.

4 -

أن تتعلم كيف تقاوم هواك وتتغلب عليه.

5 -

أن تدرك مكائد الشيطان و وساوسه.

ص: 29

وهذه الأشياء سهلة بالقول وصعبة في التطبيق .. ، فبعض الناس يغفل وينسى مراقبة الله له، وينسى حديث ((اعبد الله كأنك تراه)) ..

ولله درُّ من قال:

إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقل

خلوتُ ولكن قل عليّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفلُ ساعةً

ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ

وأما مسألة معرفة ما في الحرام من المفاسد والآلام فإن الإنسان يكفي أن يتأمل فيما حصل للكبار، و ما حصل للأقوام السابقة، ما الذي أخرج الأبوين من الجنة؟ من دار النعيم واللذة والسرور إلى دار الآلام والأحزان .. ؟؛ المعصية .. ! .. فالحرام يترتب عليه مفاسد ومصائب ..

وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ باطنه وظاهره فجعله في أقبح صورة وبدّله بالقرب بعداً وبالرحمة لعنة وبالجنّة ناراً تلظّى فهان على الله غاية الهوان وصار فاسقاً مجرماً قاد البشرية إلى كل فساد وشرّ؟؛ المعصية .. !

ما الذي أغرق أهل الأرض جميعهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال .. ؟،

ما الذي سلّط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم صرعى على سطح الأرض .. ؟

وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم .. ؟، ما الذي رفع قرية سدود .. قرية قوم لوط .. حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأتبعها بحجارة وجعل مكانها شيئاً منتناً لا يكاد يوجد فيه حياة .. ؟،

وما الذي أرسل على قوم شعيب عذاب الظُّلّة، لما صار فوق رؤوسهم أمطرهم ناراً تلظّى .. ؟،

وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم تعرض عليها صباح مساء؟ فالأجساد للغرق والأرواح للحرق والموعد يوم القيامة .. !

فتأمل ما في الذنوب من الآلام والمصائب؛ يقود إلى التقوى ولو كان فيها لذّة ..

(ولله درُّ من قال:

تفنى اللذاذة ممن نال لذتها

من الحرام ويبقى الإثم والعارُ

تبقى عواقبُ سوءٍ من مَغَبَّتها

لا خيرَ في لذةٍ من بعدها النارُ

وكذلك فالإنسان لابد أن يتعلم كيف يغالب هواه وابتداءً من معالجة الخواطر، أول ما تأتي الخاطرة بالمعصية أو بالشر يطردها، وهذا هو العلاج الناجح؛ أن الإنسان يدافع الهوى والخاطرة ويتغلّب عليها، ولا بأس أن يفطم نفسه عن المعاصي ولو كان ذلك شيئاً مكروهاً بالنسبة له، فالصبر على الحرام ليس سهلاً بل فيه ألم لكن يعقبه لذّة وراحة يوم الدنيا ..

ص: 30

ولاشك أن هذا كما تقدم فيه غصّة في البداية لكن أحسن من الشوك والغسلين والضريع يوم القيامة والإنسان أحياناً يترك المعاصي شهامة ورجولة لو تأمل ما فيها من الخسّة ..

وأغضُ طَرْفِي إن بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

إذا كان هذا العربي قبل الإسلام يفاخر انه يغض طرفه عن جارته فبعد الإسلام كيف يجب أن نكون .. ؟، إذا كان الفرد يمكن أن يترك بعض المعاصي خجلاً من الناس .. فما باله إذا فكر من جهة الله .. ؟ سيكون الترك أعظم .. !

ثم يجب على المرء أن يعرف مكائد إبليس لكي يتقيه وإبليس له عدة طرق في إغواء الناس فينبغي أن ينظر فيها، كيف يشغله مثلاً بالمفضول عن الفاضل وهذا أنزل المراتب وكيف يبدأ به من الشرك أولاً .. !

(من ثمرات التقوى:

للتقوى ثمرات وفوائد جليلة فمن ذلك ما يلي:

(1)

البشرى .. سواء كانت ثناء من الخلق، أو رؤيا صالحة، من الملائكة عند الموت، قال تعالى:(أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الَاخِرَةِ)[يونس 62: 64].ذهبت النبوة وبقيت المبشرات، فإن أثنى الناس عليه لعمل ما قصد إظهاره فإن هذا من عاجل بشرى المؤمن بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي:

(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم * أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن.

(2)

نصرة الله للمتقي وتأييده له وتسديده قال تعالى: (وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ)[البقرة: 194]، والمعيّة هذه معية نصرة وتأييد وتسديد، وهو سبحانه وتعالى أعطاها للأنبياء المتقين فقال لموسى وهارون (قَالَ لَا تَخَافَآ إِنّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىَ) [طه: 46]، و قال تعالى:(قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62] فهو معه فلا يخاف.

(3)

التوفيق للعلم: لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: 282]

ص: 31

فيعلمكم الحلال والحرام ومصالحكم وحفظ أموالكم وما أمركم وما نهاكم عنه ويعلمكم كل ما تحتاجون إليه، ومن أسباب نقصان العلم و نقص الحفظ وذهاب المسائل وعدم انفتاح النفس للعلم وعدم الحماسة للعلم؛ المعاصي فهي تصد النفس عن العلم. ومن أسباب تحصيل العلم وانفتاح الذهن والقلب والحماس له؛ التقوى.

(4)

الهداية للصواب والتمييز بين الحق والباطل: لقوله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال: 29] الفرقان في اللغة الذي يفرّق بين الليل والنهار، كالصبح يفرق بين الحق والباطل.

(5)

تكفير الذنوب وتعظيم أجر المتقين: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5]

وقال تعالى: (وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتّقَوْاْ لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ)[المائدة: 65] وقال تعالى: (وَمَن يَتّقِ اللّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)[الطلاق: 5]

(6)

مغفرة الذنوب: لقوله تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 129]

(7)

تسهيل الأمور وتيسيرها: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]

(8)

أنها المخرج من كل ضيق ومصدر للرزق من حيث لا يحتسب المتقي، لأن الله وعد و وعد الله لا يتخلف قال تعالى:(وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق 2، 3]. وهذه مهمة جداً في شحّ الوظائف. وحتى يأتيك البديل المباح بعد تركك للعمل المحرّم ينبغي أن تتقي الله في جميع أمورك.

(9)

الرزق الواسع دون عناء أو مشقة: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3،2]

(10)

محبة الله والملائكة للعبد، ومحبة الناس لهذا العبد، قال تعالى:(بَلَىَ مَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ)[آل عمران: 76]، قال تعالى:(إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً)[مريم: 96] أي مودة منه ومن الملائكة وفي قلوب العباد، وإذا أحبه نادى جبريل أن يحبه، ويحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض كما في الحديث الآتي: (

ص: 32

(حديث أبي هريرة الأشعري في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.

(11)

نيل الجزاء وعدم إضاعة العمل: لقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]

(12)

التقوى سبب قبول العمل وهذا من أعظم الأشياء قال تعالى: (إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ)[المائدة: 27] أجاب بها الأخ الصالح أخاه الفاجر الذي قتله.

[*] وكان بعض السلف يقول: لو أعلم أن الله تقبّل مني سجدة واحدة لتمنّيت الموت لأن الله يقول {إنما يتقبل الله من المتقين} .

(13)

الأمن والمنزلة الرفيعة: لقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51]

(14)

تنوع الجزاء وتعدد اللذات: لقوله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً [النبأ 31 - 34]

(15)

القرب من الله تعالى يوم القيامة مع التمتع باللقاء والرؤية: لقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55،54]

الحادية والعشرون: سلامة الصدر: لقوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]

(16)

إصلاح العمل مع المغفرة: لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:71،70]

(17)

البصيرة وسرعة الانتباه: لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]

الرابعة والعشرون: عظم الأجر: لقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]

(18)

الفوز: لقوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52]

ص: 33

(19)

التفكر والتدبر: لقوله تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:6]

(20)

التقوى سبب للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة: قال تعالى: (وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتّقُونَ)[فصلت: 18]

وقال تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]

وقال تعالى: (ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً)[مريم: 72]،

(21)

الفوز بالخيرية: لقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]

(22)

حسن العاقبة: لقوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]

(23)

الفوز بولاية الله: لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:19]

(24)

حصول الفلاح: لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]

(25)

الفوز بالجنة: لقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات:15]

(26)

يرزق بركات من السموات والأرض، والبركة تكثير القليل، الكثرة، الزيادة، الخير، العافية، قال تعالى:(وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ)[الأعراف: 96]، وهذا معناه أنه وسّع عليهم في الخير ويسّره لهم بسبب التقوى، و قال تعالى:(وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً)[الجن: 16]، وكذلك إذا لم تحصل التقوى؛ يظهر الفساد في الأرض قال تعالى:(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ)[الروم: 41] ويحصل التلوث والأمراض والسرطانات {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} جزاءً ونكالا، وتُنزع البركة بالمعصية.

(27)

الحفظ من كيد الأعداء، فإن الإنسان لا يخلو من عدو حاسد قال تعالى:(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لَا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120] فيدفع الله عنه شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال التقوى.

ص: 34

(28)

حفظ الأبناء من بعدهم قال تعالى: (وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُواّ اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً)[النساء: 9]، فأرشد الله الآباء الذين يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شؤونهم لكي يحفظ أبناءهم، ويغاثون بالرعاية الإلهية بل يحفظ فروع الفروع .. !، قال تعالى:(وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً)[الكهف: 82] ولكن هناك أمر مهم وهو {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً}

(29)

التزكية بالكرامة: لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]

(فحفظ الله الأبناء بصلاح ذلك الأب ..

[*] يقول محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد و لده وقريته التي هو فيها والدويرات التي حولها فما يزالون في حفظ الله وستره .. ،

[*] قال ابن المسيب: يا بني إني لأزيد في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفَظ فيك وتلا الآية {وكان أبوهما صالحا} ،طبعاً هو يصلي لله، وابن المسيب أفقه من أن يرجو على عمله فقط ثواباً دنيوياً ولكنه يرجو تبعاً للثواب الأخروي أمراً في الدنيا والله تعالى كريم يعطي أموراً في الدنيا والآخرة على العبادات.

ص: 35

(30)

العز والفوقية فوق الخلق يوم القيامة غير عز الدنيا قال تعالى: (زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[البقرة: 212]، فيورثون الجنة بالتقوى كما قال تعالى:(وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ)[آل عمران: 133] و قال تعالى: (تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً)[مريم: 63]، وهؤلاء المتقون لا يذهبون إلى الجنة مشياً وإنما يذهبون ركباناً موقرين مكرمين قال تعالى:(وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)[ق: 31] وقال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمََنِ وَفْداً)[مريم: 85]، والوفد يكرم يذهب بهم إلى ملك الملوك سبحانه وتعالى، فيدخلهم جنته قال تعالى:(إِنّ لِلْمُتّقِينَ مَفَازاً)[النبأ: 31]، يدخلهم الأنهار قال تعالى:(إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ)[القمر: 54]

والدار الآخرة للمتقين يوم القيامة، ويجمع الإنسان بأحبابه إذا اتقى ربه قال تعالى:(الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ)[الزخرف: 67]، وهؤلاء على سرر متقابلين كما قال تعالى:(إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ)[الحجر 45: 47] فيأتون إلى الجنة زمراً زمراً، مجموعات ووفود إلى الله تعالى مكرمين قال تعالى:(وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً)[الزمر: 73]

(صفات المتقين:

(1)

ذكر الله من صفاتهم أنهم يؤمنون بالغيب إيماناً جازماً، قال تعالى:(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[البقرة 2: 3]

(2)

يتحرون الصّدق في الأقوال والأعمال قال تعالى: (وَالّذِي جَآءَ بِالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ)[الزمر: 33]، الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به قيل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. و قال تعالى:(أُولََئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ)[البقرة: 177]، هذا بيان أن المتقي يصدق.

ص: 36

(3)

يعظمون شعائر الله قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32]، وما معنى تعظيم شعائر الله؟؛ أن المرء يعظم حرمات ربه فلا ينتهكها، ويعظّم أوامر الله فيأتي بها على وجهها، ويأتي بأنفس الأشياء، فلو طُلِب منه هدي في الحج أو أضحية استسمنه واستحسنه وأتى به على أحسن وأنفس وأغلى ما يجد، هذا من تعظيم شعائر الله. وكان إشعار الهدي وهو تعليمه بعلامة حتى لا يؤخذ أو إذا ضاع يُعرف هذا ما يفعله الحاج من السنة.

(4)

يتحرون العدل ويحكمون به قال تعالى: (يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8].الآية أساساً في المشركين والمشركون يبُكرَهون ويبغضُون لأجل شرك والكفر ومع ذلك أمرنا أن نعدل فيهم. وعلي بن أبي طالب لما اختصم مع يهودي، حكم عليه القاضي لما لم يأتِ ببينة، وسُلّمت الدرع لليهودي، فاندهش اليهودي كيف يُحكم له على أمير المؤمنين، و الدرع كان لعلي رضي الله عنه ولم تكن له بيّنة، قال شهودي الحسن والحسين، قال لا تجوز شهادة الأبناء للأب، قال سيّدا شباب أهل الجنة، قال هذا في الجنّة .. ، فمن دهشة اليهودي مما رأى قاليا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، الدرع درعك، سقطت منك وأنت خارج إلى صفّين، فاختلستها. إذاً إذا رأى الكفار عدل المسلمين يمكن أن يسلموا.

(5)

المتقين يتبعون سبيل الأنبياء والصادقين والمصلحين يكونون معهم، قال تعالى:(يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ)[التوبة: 119]، فأهل الصدق هم أصحاب المتقين وإخوانهم ورفقاءهم وأهل جلوسهم وروّاد منتدياتهم.

يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآتي:

(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.

فتمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك أحياناً ما ترى بعض الحلال خشية أن تكون حراماً، النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى تمرة فيريد أن يأكلها فيتركها لأنه يخشى أن تكون سقطت من تمر الصدقة.

ص: 37