الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا أصل من أصول الورع، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بتمرة فلا يأكلها خشية أن تكون من الصدقة.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق، قال:(لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها).
والورع يجب أن يكون ورعاً صحيحاً، فبعض الناس يفعلون الكبائر ثم يتورعون عن الأشياء اليسيرة .. !." عجبتُ لكم يا أهل العراق تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تسألون عن دم البعوض" .. !!!، فلذلك ينبغي أن يكون الورع على أساس، امرئ ترك المحرمات ثم هو آخذ في الإعراض عن المشتبهات، ولذلك لما سُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري البقل ويشترط الخوصة أنه يخشى أن تكون هذه التي تربط بها حزمة البقل غير داخلة في البيع فيشترط على البائع ذلك .. ،قال: ما هذه المسائل .. ؟!!!، قالوا: فلان يفعل ذلك .. إبراهيم بن أبي نعيم .. قال: هذا نعما .. هذا رجل يليق بحاله .. رجل متقي جداً. وهو الذي سُئِل رحمه الله عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها فقال: ((إن كان برّ أمه في كل شيء حتى لم يبقَ إلا طلاق زوجته؛ يفعل، ولكن إن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم إلى أمه بعد ذلك فيضربها فلا يفعل .. !)).
(فصلٌ في منزلة الاستقامة:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الاستقامة:
(إذا استقام القلب استقامت الجوارح:
(حكم الاستقامة:
(أدلة الاستقامة:
(حاجتنا إلى الاستقامة:
(الاستقامة على الدين ظاهراً وباطناً:
(الاستمرار على الاستقامة والتقصير فيها:
(واقع الاستقامة في حياة الناس:
(مقامات الدين التي يطالب بها العبد في الاستقامة:
(فضل الاستقامة:
(حقيقة الاستقامة:
(الأمور التي تُعِينُ على تحقيق الاستقامة؟
(ما تتحقق به الإستقامة:
(القوادح في الإستقامة:
(مرض نقص الاستقامة:
(أسباب الاستقامة:
(ثمار الاستقامة ونتائجها:
(درجات الاستقامة:
(متعلقات الاستقامة:
(أقسام الاستقامة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف الاستقامة:
الاستقامة في اللغة (1):
ضد الاعوجاج والانحراف فالشَّيء المستقيم هو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه، وهذا يأتي في الحِسِّيَات، تقول: هذا طريق مستقيم و هذا طريق مُعْوَجٌّ.
الاستقامة في الشرع:
(1) انظر: التعريفات للجرجاني ص37.
لأئمة الدين في تعريف الاستقامة وحدها ألفاظ وأقوال مختلفة، ذات دلالة واحدة، والأقوال هي:
[*] (سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال:"أن لا تشرك بالله شيئاً".
[*] (وقال عمر رضي الله عنه: "أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب".
[*] (وقال عثمان رضي الله عنه: "إخلاص العمل لله".
[*] (وعرفها علي رضي الله عنه: "بأنها أداء الفرائض".
[*] (وقال الحسن البصري رحمه الله: "استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته".
[*] (وقال مجاهد رحمه الله: "استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله".
[*] (وقال ابن زيد وقتادة رحمهما الله: "الاستقامة على طاعة الله".
[*] (وقال سفيان الثوري رحمه الله: "العمل على وفاق القول".
[*] (وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: "الإعراض عما سوى الله".
[*] (وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية".
[*] (وقال ابن تيمية رحمه الله: "الاستقامة على محبة الله وعبوديته، وعدم الالتفات عنه يمنة أويسرى".
[*] (وقال شيخ الإسلام الهروي رحمه الله: "الاجتهاد في اقتصاد".
مفاد هذه التعريفات، وحقيقتها، ومدلولها:
الاستقامة من الكلمات الجامعة المانعة، كالبر، والخير، والعبادة، فلها تعلق بالقول، والفعل، والاعتقاد.
[*] (قال الإمام القرطبي رحمه الله: هذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله، عقداً، وقولاً، وفعلاً، وداوموا على ذلك.
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء.
والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال، والأحوال، والنيات، فالاستقامة فيها، وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله).
فحقيقة هذه التعريفات تُتَرجم في الآتي:
أولاً: الإيمان الصادق بالله عز وجل.
ثانياً: الاتباع الكامل والاقتداء التام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"، قال: أخلصه وأصوبه؛ قيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أوكما قال.
ثالثاً: أداء الواجبات: "ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه" الحديث، وفعل الواجبات أفضل من ترك المحرمات.
رابعاً: الانتهاء عن المحرمات والمكروهات.
خامساً: الإكثار من النوافل والتطوعات: "لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" الحديث.
سادساً: المداومة على أعمال الخير: "أحب العمل إلى الله أدومه" الحديث، وقالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كان عمله ديمة".
سابعاً: التوسط والاعتدال، فخير الأمور الوسط، وعمل قليل في سبيل وسنة خير من كثير في بدعة، والاعتدال لا يعني التسيب والانفلات، فبين التشدد، والالتزام، والتفلت فروق دقيقات.
ثامناً: حفظ الجوارح وسجن اللسان.
تاسعاً: السعي لتزكية النفس: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا".
عاشراً: الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، وفي نيل مرضاته قدر الطاقة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
(وفصل الخطاب في تعريف الاستقامة: أن معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى وهي المواظبة على التقوى بدوام امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة» والاستقامة وسط بين الغول والتقصير، وكلاهما منهي عنه شرعاً، وهى من جوامع الكلم فهي كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين فهي تجمع الدين كله ولهذا أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت دليلاً أوفى على جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآتي:
(حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ؟ قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ.
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
(إذا استقام القلب استقامت الجوارح:
أصل الاستقامة في القلب، فإذا استقام القلب استقامت الجوارح؛ لأن القلب ملك الأعضاء وهي جنوده ورعاياه. كما أن من أعظم الجوارح تأثيرًا في استقامة العبد اللسان؛ فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه، وقد دلنا النبي صَلى عليه وسلم على هذه القضية الكبيرة كما في الحديث الآتي: (
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا.
(حكم الاستقامة:
أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه أن يلتزموا الاستقامة عقيدة وشريعة، هدياً ومنهجاً، ويجتنبوا الطغيان، ويحذروا أهواء أولياء الشيطان، قال الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود:112][*] (قال ابن كثير رحمه الله: " يأمر الله – تعالى – رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء، ومخالفة الأضداد، وينهى عن الطغيان وهو البغي؛ فإنه مصرعة حتى ولو على مشرك، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء ".
(أدلة الاستقامة:
لقد حث الله تعالى على الاستقامة، وأمر بها عباده، وجاءت الدعوة إلى الاستقامة في مواطن من القرآن الكريم، منها ما يلي:
(1)
الأمر المباشر للنبي صلى الله عليه وسلم (فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[هود: 112]
وقوله تعالى: (فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ)[فصلت: 6]
(2)
ومنها الحثُ على الاستقامة والحضُ عليها وبيان النتائج المترتبة عليها، كما في قوله تعالى:(إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30]
وقوله تعالى: (إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأحقاف: 13]
(وقد أورد الماوردي في الآية خمسة أوجه:
أحدها: ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده.
الثاني: استقاموا على طاعته وأداء فرائضه.
الثالث: على إخلاص الدين والعمل إلى الموت.
الرابع: ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم.
الخامس: ثم استقاموا سرًّا كما استقاموا جهرًا.
والحق أن ذلك كله داخل في معنى الاستقامة.
(3)
أمرنا الله تعالى أن ندعو بالهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة قال تعالى: (اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6]
ولذا كان أنفعُ دعاء هو (اهدنا الصراط المستقيم) ولذا نقوله في كل ركعةٍ من الصلوات.
(4)
والله تعالى يتولى الهداية إلى الاستقامة وهي هداية التوفيق التي لا يملكها إلا الله تعالى، لا يملكها نبيٌ مرسل ولا مَلَكٌ مُقَرَّب، قال تعالى:(وَإِنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ)[الحج: 54]
(5)
والنبي صلى الله عليه وسلم يتولى الهداية إلى الاستقامة وهي هداية الإرشاد: قال تعالى: (وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ)[الشورى: 52]
(حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ؟ قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ. (حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
(ولن تحصوا):
[*] (قال الإمام السندي في حاشيته على ابن ماجة: أي ولن تطيقوا وأصل الإحصاء العدل والإحاطة به لئلا يغفلوا عنه فلا يتكلوا على ما يوفون به ولا ييأسوا من رحمته فيما يذرون عجزا وقصورا لا تقصيرا وقيل معناه لن تحصوا ثوابه.
(اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن): أَيْ إِنْ لَمْ تُطِيقُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ الِاسْتِقَامَة فَحَقّ عَلَيْكُمْ أَنْ تَلْزَمُوا فَرْضهَا وَهِيَ الصَّلَاة الْجَامِعَة لِأَنْوَاعِ الْعِبَادَات الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح وَالتَّهْلِيل وَالْإِمْسَاك عَنْ كَلَام الْغَيْر وَالْأَحَادِيث فِي خَيْر الْأَعْمَال جَاءَتْ مُتَعَارِضَة صُورَة فَيَنْبَغِي التَّوْفِيق بِحَمْلِ خَيْر أَعْمَالكُمْ عَلَى مَعْنَى مِنْ خَيْر أَعْمَالكُمْ كَمَا يَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث اِبْن عُمَر.
(حاجتنا إلى الاستقامة:
إنَّ الاستِقامة على أَمَر الله غَايةٌ جليلة، وَهَدَفٌ في هذه الحياة ينبغي لِكُلِّ مُسلم أن يسعى إليه، فإنَّ مِنْ رَحْمَة الله سبحانه وتعالى أَنَّه يَأْمُرنا بالأمر ويبيِّن لنا كيفية الامتثال به، والحاجة إلى الاستقامة حاجة ماسّة.
يقول الله تعالى: ((فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ)) [هود:112].
(هذا الأمر مُرَتَّبٌ على ما قبله وهو قوله تعالى: ((وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ)) [هود:111].
أي: كلُ إنسان سَيُوَفَّى عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فإذا كان الأمر كذلك (فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ) لأنها طريق السعادة والفلاح والفوز.
وقوله تعالى: ((فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ)): الأمر هنا للنبي أولاً: ثم لأتباعه ((ومن تاب معك))
أي: ومن آمن معك بأن تابوا من الشرك فأمنوا بالله ورسوله وصاروا مع النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنين به وبما جاء به.
(ثم إن الأمر بالاستقامة هو التي شيَّب النبي صلى الله عليه وسلم:
[*] قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره:
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السدى. وقيل: "استقم" اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع.
{وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته.
[*] (قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: "شيبتني هود وأخواتها". وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: "شيبتني هود". فقال: "نعم" فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: "لا ولكن قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} .
{وَلا تَطْغَوْا} نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد. فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السدى. وقيل: "استقم" اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: "شيبتني هود وأخواتها". وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: "شيبتني هود". فقال: "نعم" فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: "لا ولكن قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} .
{وَلا تَطْغَوْا} نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد.
(الاستقامة على الدين ظاهراً وباطناً:
إن الالتزام بالإسلام والاستقامة على دين الله هو ظاهرٌ وباطن، هو مخبرٌ ومظهر، هو حقيقة وجوهر كما أنه شكل ومظهر ينتج ويظهر على المسلم في الخارج، ونحن نريد أن يكون التزامنا بالإسلام داخلي وخارجي، شيء يقر في القلب فينعكس على التصرفات وعلى الأعمال .. أعمال القلب وأعمال الجوارح. ينبغي أن نعالج القلب قبل أن نعالج العادات والتقاليد والملابس مع أن الكل من الدين، لكن هناك أولويات، ونحن نوقن بالارتباط بين الظاهر والباطن، ونحن نعتقد أن هناك مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. نعتقد أن تحكيم الشريعة في كل شيء يقود إلى إصلاح الظاهر والباطن، وأن ديننا قد أمر بإصلاح الظاهر والباطن، والله سبحانه وتعالى قال: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] لم يقل: ذروا ظاهر الإثم فقط، ولا قال: ذروا باطن الإثم فقط، قال: ذروا ظاهر الإثم وباطنه، فظاهر الإثم كل ما يظهر للناس من البذاءة والفحش والسب واللعن والشتم .. ونحو ذلك. وباطن الإثم كل ما يكون في القلب .. من الحقد والحسد والعجب والغش واحتقار الخلق .. ونحو ذلك: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] الباطن مهم جداً والظاهر مهم كذلك، ولولا أن الظاهر مهم ما جاءت الشريعة بأحكام اللباس وسنن الفطرة والزينة والشعر والانتعال والنظافة وكل أمرٍ من الأمور التي تميز المسلم ظاهرياً عن غير المسلم، ولما شرعت الشريعة لنا وجوب مخالفة أهل الكتاب وغير المسلمين حتى في صبغ الشعر وفي الصلاة حفاة بغير نعال، وفي اللحية والشارب وغير ذلك، حتى نهينا عن التشبه بالحيوانات والبهائم، والذين يطيلون شواربهم اليوم مخالفون للهدي النبوي الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وحذرنا:(من لم يأخذ من شاربه؛ فليس منا) يجب قص ما طال عن الشفة، وأولئك النسوة اللاتي أطلن أظافرهن مثل الوحوش وصبغنها بالمناكير الحمراء وغيرها، هؤلاء المتشبهات بالحيوانات والبهائم والوحوش الكاسرة هن على استعداد بالخدش بها في أقرب مناسبة تقوم بها قائمة.
إذاً أيها الإخوة! الظاهر أمر عظيم وليس هناك في الإسلام شيء اسمه قشور ولب، والذين ينادون بتقسيم الإسلام إلى قشور ولباب أناسٌ ضالون مخطئون، الإسلام كلٌ لا يتجزأ .. الإسلام يؤخذ كله ويطبق كله، ومع الأسف فإن الناس اليوم يغترون بالظاهر، وليت أن ظاهر الأكثرية ظاهراً إسلامياً؛ إذاً لقلنا: إنهم على الأقل قد امتثلوا شيئاً من الدين، لكن الناس اليوم يعتنون بالمظاهر .. في الثياب والحفلات والزينات والطعام والشراب والسياحة، حتى العبادات إذا سمعوا قارئاً يقرأ بصوتٍ جميل، قال: صوتٌ رائع، ويجعلون حجهم سياحة، وعمرتهم أكل وحكايات في الحرم، هذا حالهم. وطائفة أخرى من الناس دخلوا في الدين ظاهرياً؛ فهذا أطال لحيته وأعفاها، والتزم الثوب بطوله الشرعي الذي لا ينزل عن الكعبين، ولكن قلبه ينطوي على أنواع من المفاسد، والأمور العظيمة، ولذلك التصرفات الناتجة عنه والتعامل مع الناس بل مع زوجته وأولاده في البيت وأقربائه وجيرانه من أسوأ ما يمكن. وأناسٌ قد أخذوا بنصيبٍ من هذا وهذا الالتزام الظاهري والباطني، ولكن عندهم نقص، نحن كلنا مقصرون ولذلك هذه دعوة حقيقة للالتزام بالإسلام ظاهراً وباطناً. ولسنا من الذين ينخدعون بالظاهر، ولا بالذين يقومون الناس على الظاهر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعنده رجل، فمر رجلٌ فقال النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الذي عنده:(ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجلٌ آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجالس عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا) هذا الضعيف المستضعف خيرٌ من ملأ الأرض من أمثال هذا الذي تقول عنه: إنه من أشراف الناس.
ولما كانت امرأة من بني إسرائيل ترضع صبياً لها، أقبل رجلٌ ذو شارة حسنة وهيئة وفخامة ولباس وحشم، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الصبي الثدي، وأقبل وقال: اللهم لا تجعلني مثله، أنطقه الله في المهد، ونحن اليوم في خضم هذه الجاهلية التي يتعارك فيها ومعها؛ فإننا نحتاج إلى شخصيات إسلامية قوية ذات إيمان وإخلاص ذات علم وعمل: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] نحتاج إلى أناسٍ يتمسكون بالدين ظاهراً وباطناً .. نحتاج إلى أناس لا يلعبون بالدين، وإنما يكونون صادقين مع الله سبحانه وتعالى في تمسكهم به، وقلنا أن الناس اليوم قد اهتموا بالمظاهر السيئة، وبعضهم عنده مظاهر طيبة وبواطن سيئة، ولكن الأكثرية بعيدون عن شرع الله .. يلعبون بهذا الدين لعباً، وهؤلاء هم الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى، فقال: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98]
…
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]
…
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور:11 - 12]، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:57 - 58] .. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأنعام:70]. هذه النوعية التي تلعب بالدين ابتداءً من العقيدة:
فالإيمان قول وعمل واعتقاد، والذين يقولون: إن الإيمان بالقلب فقط هم أناسٌ يلعبون بالدين، ويتخذونه لعباً ولهواً، هؤلاء الذين يتحايلون على شرع الله قد عرفناهم، وقد جاءت تصريحاتهم موافقة لما في قلوبهم من الاستهزاء بالدين .. هؤلاء الذين سموا الربا فوائد وعوائد استثمار، والذي سموا الخمر مشروبات روحية، والذين سموا الرقص والموسيقى والغناء والتماثيل فن، والذين سموا الرشوة أتعاب، هؤلاء الذين يلعبون بالدين قد عرفناهم، وميزناهم جيداً في الواقع، هؤلاء الذين يتتبعون الرخص ويضربون كلام العلماء بعضه ببعض، هؤلاء يلعبون بالنار، الذين يفتون في المجالس في الأهواء ويتكلمون في الدين يخبطون بغير علم.
قد عرفنا الذين يقولون: لِمَ يأخذ رجل أربعة نسوة ولا تأخذ المرأة إلا واحد؟ فلماذا لا تأخذ المرأة أكثر من رجل؟ قد عرفنا هؤلاء. أيها الإخوة! نريد أن نلقي الضوء على عقيدتنا وتصرفاتنا نحن؛ نحن الذين نرى أننا نريد الصراط المستقيم والهداية، نسعى للتمسك بهذا الدين .. نريد أن نرى أنفسنا على ضوء الشريعة، الشريعة أمرتنا بأي شيء؟ هل أمرتنا بجزء من الإسلام أو أمرتنا بالإسلام كله؟ هل قالت: أسلموا في وقت الرخاء، ثم تراجعوا في وقت الشدة؟ بماذا طالبتنا الشريعة؟ ما هو المنهج والموقف من هذه الشريعة؟ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208 - 209] .. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] كلكم ادخلوا في الإسلام أو ادخلوا أنتم جميعاً في شعائر الإسلام كلها، لا تتركوا شعيرة إلا وطبقتوها بما تستطيعون: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170] فالله عز وجل قال: يُمسِّكون بالكتاب، فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك، هذا الفرق بين يمسِكون بالكتاب ويمسِّكون بالكتاب، إنها صيغة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة، وهذه الصورة هي التي يريد الله منا أن نأخذ بها كتابه، ونحن نعلم كما علمنا الله ورسوله أن الجد والقوة في أخذ الدين شيء والتعنت والتنطع والغلو والتطرف هو شيء آخر، ولذلك نحن نعلم جيداً الذين يوجهون إلينا سهام التطرف والتنطع بلفظة الأصولية اليوم، نعرفهم ونميزهم ونعرف معنى التمسك بالدين على وجهه صحيح. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر، لكنها تنافي التميع .. إنها لا تنافي سعة الأفق، لكنها تنافي الاستهتار .. لا تنافي مراعاة الواقع، لكنها تنافي أن يكون الواقع هو الحكم على الشريعة، لأن الدين يقول: إن الشريعة هي الحكم على الواقع، وليس العكس.
والله سبحانه وتعالى علمنا ونبهنا إلى أن كتابه الكريم هذا قولٌ فصل وما هو بالهزل، بل هو حقٌ وجد، ليس فيه سائبة هزلٍ بل كله جدٌ محض، هو فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك، فليس بالهزل ولم ينزل باللعب، ويجب أن يكون مهيباً في الصدور: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63] خذوا ما ألزمناكم من.
(الاستمرار على الاستقامة والتقصير فيها:
المؤمن مُطَالَبُ بدوام الاستقامة، ولذلك يسألها ربه في كل ركعة من صلاته: قال تعالى: (اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6]، ولما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يقصر في امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهذا خروج عن الاستقامة إذ الاستقامة هي المواظبة على التقوى بلزوم امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الدوام، لذلك أرشده الشرع إلى ما يعيده لطريق الاستقامة، فقال تعالى مشيراً إلى ذلك:(فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُ)[فصلت: 6]، فأشار إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها، وأن ذلك التقصير يُجْبَرُ بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[اتق الله حيثما كنت]: أي واظب على التقوى على الدوام وفي كل وقتٍ وحين، وهذه هي الاستقامة بحذافيرها.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(اتَّقِ اللَّهَ) أسَيْ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنَّ التَّقْوَى أَسَاسُ الدِّينِ وَبِهِ يَرْتَقِي إِلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ (حَيْثُ مَا كُنْتَ) أَيْ فِي الْخَلَاءِ وَفِي النَّعْمَاءِ وَالْبَلَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِسِرِّ أَمْرِكَ كَمَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَوَاهِرِكَ، فَعَلَيْكَ بِرِعَايَةِ دَقَائِقِ الْأَدَبِ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَسَاوِيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (وَأَتْبِعْ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ (السَّيِّئَةَ) الصَّادِرَةَ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَذَا كَبِيرَةٍ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ عُمُومُ الْخَبَرِ وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لَكِنْ خَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِالصَّغَائِرِ (الْحَسَنَةَ) صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً أَوِ اسْتِغْفَارًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (تَمْحُهَا) أَيْ تَدْفَعُ الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَتَرْفَعُهَا، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، وَالْمُرَادُ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا آثَارَهَا مِنَ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (وَخَالِقِ النَّاسَ) أَمْرٌ مِنَ الْمُخَالَقَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ أَيْ خَالِطْهُمْ وَعَامِلْهُمْ (بِخُلُقٍ حَسَنٍ) أَيْ تَكَلَّفْ مُعَاشَرَتَهُمْ بِالْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ طَلَاقَةِ وَجْهٍ، وَخَفْضِ جَانِبٍ، وَتَلَطُّفٍ وَإِينَاسٍ، وَبَذْلِ نَدًى، وَتَحَمُّلِ أَذًى، فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ فِي الدُّنْيَا الْفَلَاحُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْفَوْزُ بِالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ.
[*] وقال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(اتق الله) بامتثال أمره وتجنب نهيه
(حيثما كنت) أي وحدك أو في جمع فإن كانوا أهل بغي أو فجور فعليك بخويصة نفسك أو المراد في أي زمان ومكان كنت فيه رآك الناس أم لا فإن الله مطلع عليك واتقوا الله إن الله كان عليكم رقيباً، والخطاب لكل من يتوجه إليه الأمر فيعم كل مأمور وأفراد الضمير باعتبار كل فرد وما زائدة بشهادة رواية حذفها وهذا من جوامع الكلم فإن التقوى وإن قل لفظها كلمة جامعة فحقه تقدس أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر بقدر الإمكان، ومن ثم شملت خير الدارين إذ هي تجنب كل منهي عنه وفعل كل مأمور به فمن فعل ذلك فهو من المتقين الذين أثنى عليهم في كتابه المبين ثم نبه على تدارك ما عساه يفرط من تقصيره في بعض الأوامر والتورط في بعض النواهي فقال
(واتبع) بفتح الهمزة وسكون المثناة فوق وكسر الموحدة ألحق (السيئة) الصادرة منك صغيرة وكذا كبيرة كما اقتضاه ظاهر الخبر والحسنة بالنسبة إليها التوبة منها فلا ملجئ لقصره على الصغيرة كما ظن وأيا مّا كان فالحسنات تؤثر في السيئات بالتخفيف منها يعني ألحق (الحسنة) إياها صلاة أو صدقة أو استغفاراً أو تسبيحاً أو غيرها (تمحها) أي السيئة المثبتة في صحيفة الكاتبين وذلك لأن المرض يعالج بضده كالبياض يزال بالسواد وعكسه {إن الحسنات يذهبن السيئات} يعني فلا يعجزك إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة كصلاة قال ابن عربي: والحسنة تمحو السيئة سواء كانت قبلها أو بعدها وكونها بعدها أولى إذ الأفعال تصدر عن القلوب وتتأثر بها فإذا فعل سيئة فقد تمكن في القلب اختيارها فإذا أتبعها حسنة نشأت عن اختيار في القلب فتمحو ذلك وظاهر قوله تمحها أنها تزال حقيقة من الصحيفة وقيل عبر يه عن ترك المؤاخذة ثم إن ذا يخص من عمومه السيئة المتعلقة بآدمي فلا يمحها إلا الاستحلال مع بيان جهة الظلامة إن أمكن ولم يترتب عليه مفسدة وإلا فالمرجو كفاية الاستغفار والدعاء (وخالق الناس بخلق) بضمتين (حسن) بالتحريك أي تكلف معاشرتهم بالمجاملة من نحو طلاقة وجه وحلم وشفقة وخفض جانب وعدم ظن السوء بهم وتودد إلى كل كبير وصغير وتلطف في سياستهم مع تباين طباعهم، يقال فلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلف وجمع هذا بعضهم في قوله: وأن تفعل معهم ما تحب أن يفعلوه معك فتجتمع القلوب وتتفق الكلمة وتنتظم الأحوال وذلك جماع الخير وملاك الأمر، والخلق بالضم الطبع والسجية وعرفاً ملكة نفسانية تحمل على فعل الجميل وتجنب القبيح كذا ذكره البعض هنا وليس بصواب فإنه تفسير لمطلق الخلق بالخلق الحسن وهو فاسد وقد تكفل حجة الإسلام بتعريفه على طرف التمام فقال: الخلق هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة وسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً وحسن [ص 121] الخلق وإن كان جلياً لكن في الحديث رمز إلى إمكان اكتسابه وإلا لما صح الأمر به كما سيجيء إيضاحه والأمر به عام خص بمستحقه فخرج الكفرة والظلمة فأغلظ عليهم ثم هذا الحديث من القواعد المهمة لإبانته لخير الدارين وتضمنه لما يلزم المكلف من رعاية حق الحق والخلق.
وقال بعضهم: وهو جامع لجميع أحكام الشريعة إذ لا يخرج عنه شيء وقال آخر فصل فيه تفصيلاً بديعاً فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام كل منها جامع في بابه ومترتب على ما قبله (تنبيه) قال الراغب: الفرق بين الخلق والتخلق أن التخلق معه استثقال واكتساب ويحتاج إلى بعث وتنشيط من خارج والخلق معه استخفاف وارتياح ولا يحتاج إلى بعث من خارج.
(واقع الاستقامة في حياة الناس:
أيها الإخوة! عند النظر للواقع الذي نعيش فيه الآن، نرى أن أكثر الناس على غير دين الله، وأكثرهم يصدون عن سبيل الله، وفي وسط هذه الظلمات قامت الدعوة بدين الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهي لا تزال في تقدمٍ وانتشارٍ ولله الحمد. إن بوادر اليقظة الإسلامية التي تعم اليوم أرجاء العالم الإسلامي وحتى الأقليات الإسلامية في بلدان كثر هي أمر واقع، وإن ظهور علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص لا شك أنه نتيجة لهذه الصحوة وظهور هذه اليقظة هو أمرٌ من أمر الله سبحانه وتعالى، ونحن مع فرحنا واستبشارنا بهذه النعمة الإلهية من ظهور أمر الدين وانتشاره؛ فإننا في نفس الوقت نحذر حذراً عظيماً مما يخالط هذه الصحوة، وهؤلاء الناس الذين تظهر عليهم بوادر الاستقامة ومظاهرها، الخشية العظيمة التي نخشاها على أنفسنا وعلى الآخرين من فشو الأمراض الباطنة ونقص الاستقامة الذي هو عيب أي عيب، فإن الكثير ضعف عندهم معيار الالتزام، وتقلص المفهوم الحقيقي للتمسك بهذا الدين، ولقد ظهرت علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص تأثراً بالجو العام، وإذعاناً لبعض الفتاوى، أو حماساً بعد سماع موعظة أو محاضرة، فهؤلاء الذين يغشون اليوم التجمعات الإسلامية من هم هؤلاء؟ ما هي صفاتهم؟ ما مقدار تمسكهم بهذا الدين؟ لا بد أن ننقد أنفسنا لنصحح الواقع، ولا بد أن نعلم مواطئ أقدامنا ومواقعنا حتى ننظر هل نحن على الصراط المستقيم أم أنه يوجد عندنا من الانحرافات ما يجب علينا أن نصححه؟ فهذا بيان للحقيقة، وتنبيه للغافلين، ونصيحة للمقصرين، وكلنا مقصرون، إن بيان الاستقامة أمر مهم؛ لأننا لن نسلم إلا إذا جئنا الله بقلب سليم، وكذلك فإننا لا نريد أن نكون عقبة في طريق التزام الناس بالإسلام .. لا نريد أن نكون منفرين عن شرع الله .. لا نريد أن يكون عندنا من التصرفات ما يكون سداً بين الناس وبين الدخول في هذا الدين والشريعة، فكم من الكفرة لما رأوا بعض التصرفات من بعض المسلمين عدلوا عن الدخول في دين الله، وكم من العامة الذين رأوا تصرفات بعض الذين عندهم شيء من الالتزام الظاهر حملوا على هذا الدين وعلى هذه الاستقامة، وقالوا: هؤلاء المتدينون انظروا إليهم ماذا يفعلون! هل تريدون أن نكون مثل هؤلاء؟ والناس كثيرٌ منهم جهلة، لا يفرقون بين الإسلام والمسلمين، يقولون: الإسلام هو هذه التصرفات التي نراها من المسلمين ..
الاستقامة والالتزام والتدين هو هذه المعاملة التي نلقاها من المتدينين .. الناس عندهم هذا المبدأ وهم لا يميزون، ليتهم يعرفون الرجال بالحق، لكنهم مع الأسف يعرفون الحق بالرجال! ولذلك فإن كثيراً منهم يكون عنده تصورات خاطئة وقناعات مغلوطة عن حقيقة الاستقامة مما يرونه من تصرفات بعض المتدينين في الظاهر.
(مقامات الدين التي يطالب بها العبد في الاستقامة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
«المطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة» فإن نزل عنها: فالتفريط والإضاعة. أهـ.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يُدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر و لن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شيء من الدلجة.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[سددوا و قاربوا]: فالسداد: الوصول إلى حقيقة الاستقامة، أو هو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد.
وقوله: (قاربوا) أي: اجتهدوا في الوصول إلى السداد، فإن اجتهدتم ولم تصيبوا فلا يفوتكم القرب منه، فما لا يُدْرك كُلُهُ لا يُتْرَك جُلُه، فهما مرتبتان يطالب العبد بهما: السداد، وهي الاستقامة، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، وما سواهما تفريط وإضافة، والمؤمن ينبغي عليه أن لا يفارق هاتين المرتبتين، وليجتهد في الوصول إلى أعلاهما، كالذي يرمي غرضاً يجتهد في إصابته، أو القرب منه حتى يصيبه.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين تعليقاً على هذا الحديث:
فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال وأخبر في حديث ثوبان: أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم: أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله
«فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين» وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها: «وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله»
قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
(ثم تأمل في الحديث الآتي أيضاً بعين البصيرة:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المسلم المسدد يدرك درجة الصّوَّام القوَّام بآيات الله بحسن خلقه، وكرم ضريبته.
وكرم الضريبة: أي كرم الطباع .. وهذا يدل على أن الصيام والقيام وحدهما ليسا كافيين، بل أن حُسن الخلق أهم.
(فضل الاستقامة:
الاستقامة، وما أدراك ما الاستقامة، ثم ما أدراك ما الاستقامة، إنها أس الديانة، وسبيل السلامة، إذ هي أكبر كرامة في الدنيا، المفضية إلى الكرامة الأبدية وهي الجنة:"فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ".
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"، فلو مشى المرء على الماء، أوطار أوتربع في الهواء، ما دل ذلك على قبول الله له حتى يستقيم على أمر الله ونهيه، إذ هو الضابط الوحيد للكرامة.
حُكِي للإمام الشافعي رحمه الله ما قاله الليث بن سعد، فقيه مصر ومفتيها في زمانه:"لو رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال:"لقد قصَّر الليث، لو رأيتم الرجل يمشي على الماء، أويطير في الهواء، فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب".
أمر بهذه الخطورة والأهمية فيه فلاح الدنيا والآخرة، ينبغي لكل مسلم عاقل أن يسعى لتحقيقه في نفسه، ويحرص على أن ينال منه حظه، فما لا يدرك كله لا يترك جله،، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن تُحاسب، ووزن أعماله بميزان الشرع قبل أن توزن عليه، وتزيَّن ليوم العرض الأكبر، كما قال عمر بن الخطاب، الناصح البصير.
وهاك بعض فضائل الاستقامة:
(1)
قد ذكر الله سبحانه فضل الاستقامة، وأنها سبيل السعادة في غير ما موضع من كتابه:
قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأحقاف:13 - 14].
فالله تعالى قد أثنى على أهل الاستقامة، وَوَعَدَهُم بالأجر الجزيل.
وقال: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)) [فصلت:30].
لقد وعدهم الله، ووعد الله حق .. إذا ما استقاموا أن تتنزل عليهم الملائكة وهي تنادي أن لا تخافوا .. ولاتحزنوا .. وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .. فالحزن بعيد عمن استقام .. والخوف بعيد عنه .. وله البشرى ..
(2)
وأهل الاستقامة لهم الرزق الحسن قال تعالى: (وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً)[الجن: 16]
وما الطريقة التي تريد الآية الاستقامة عليها سوى الطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أول من سلك طريقة الاستقامة قدوة لهذه الأمة مستجيبا لأمر الله تعالى: ” قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ)) [هود: 112] ” وليس ذلك وحده .. بل: ” (وَمَن تَابَ مَعَكَ) ” .. وطريق الاستقامة هذه تسير بعكس طريق الطغيان (وَلَا تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
يؤكد الله ذلك مرة أخرى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلَا تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ)[الشورى: 15].
كما أمره أن يخاطب الناس يدعوهم للاستقامة: ” قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ)[فصلت: 6] وهكذا يتضح الطريق أمام المؤمن .. فليس له أن يسلك طريقا سواه .. أدع .. استقم كما أُمرت .. ولا تَتبع أهواء الكافرين والفاسقين والمنافقين .. ثم الحذر أن تزل القدم بالفتنة فيزيغ المرء عن الصراط المستقيم .. ففيما أنزل الله على رسوله الحق .. كل الحق .. وليس غير الحق. ومن ثم تكون الاستقامة خير من ألف كرامة.
(3)
إن الاستقامة من شأنها أن ترقى بالإنسان، وتصل به إلى الذُّرْوَةِ من الكمال، وتحفظ عقله وقلبه من أن يتطرق إليهما الفساد، وتصون نفسه من التردي في حمأة الرذيلة.
وإذا سيطرت الرغبة في الاستقامة على جماعة وسادت بينهم، حسنت أحوالهم، واستقامت أمورهم، وعمهم الأمن والسلام، وإذا ضعفت الرغبة في الاستقامة ضعف الإقبال على الخير، وعظم التورط في الإثم وفشا المنكر، وتعرض الفرد والجماعة للانحراف والخطايا والانحلال الذي يعقبه سلب الحرية والاستقلال.
ولهذا اهتم الإسلام بالاستقامة اهتمامًا كبيرا، وأولاها عناية خاصة، لأنها الاستقامة تجمع الدين كله ولهذا أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت دليلاً أوفى على جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآتي:
(حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ؟ قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ.
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
(حقيقة الاستقامة:
الاستقامة تتضمن في الشرع أمرين:
(1)
السَّير على الطريق.
(2)
الاستمرار و الثبات عليه حتى الممات.
فالأول: السير على الطريق:
وهذا المعنى يُفَسِّرُهُ قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)) [آل عمران:102].
اتقوه حق التقوى بحسب الاستطاعة، قال تعالى:((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16].
والثاني: الاستمرار والثبات عليه حتى الممات:
وذلك في قوله تعالى: ((وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].
فهذا يتضمن الأمر بالدوام والاستمرار.
والمعنى: استقيموا واثبتوا على التقوى حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فلتأته مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[فلتأته مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] أي يواظب على التقوى حتى الممات.
{تنبيه} : (ومن هنا يتضح أن الاستقامة هي المواظبة على التقوى حتى الممات.
(الأمور التي تُعِينُ على تحقيق الاستقامة؟
الاستقامة على أمر الله نعمة عظيمة، ودرجة رفيعة، ومنة عالية، فتحقيقها يحتاج إلى جد، واجتهاد، وصبر، واحتساب، ودعاء، وتضرع، وإخبات، وتوفيق، واحتراز.
وأهم المعينات على تحقيق ذلك بعد توفيق الله عز وجل ما يأتي:
أولاً: الدعاء والتضرع، وسؤالها بجد وإخلاص:
ولأهمية ذلك أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة، لما فيها من سؤال الصراط المستقيم المخالف لأصحاب الجحيم.
فالدعاء هو العبادة، وهو سلاح المستضعفين، وعدة الصالحين، ولا يعجز عنه إلا المخذولين، فالله سبحانه وتعالى مالك الهداية والاستقامة، فلا تُطلب إلا من مالكها.
ثانياً: الاشتغال بالعلم الشرعي:
فالعلم قائد والعمل تبع له: قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لَا إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ)[محمد: 19]، فأمر بالعلم قبل العمل. وينبغي أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويشرع في الأهم ثم المهم، وأن يتلقى من مشايخ أهل السنة الموثوق بدينهم وعقيدتهم وعلمهم، "إن هذا العلم دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم"، كما قال مالك وغيره.
ثالثاً: الحرص على التمسك بالسنة:
إن الحرص على التمسك بالسنة هو سفينة النجاة، والحذر كل الحذر من البدع والاقتراب من المبتدعين، فإن ذلك هو الداء العظيم، والضلال المبين، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديثين الآتيين: (
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
رابعاً: مراقبة الله في السر والعلن:
خامساً: مجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، وعدم الغفلة عن ذلك، ومحاسبتها في كل وقت وحين، وعلى الجليل والحقير.
سادساً: الإكثار من تلاوة القرآن، ومحاولة حفظه أوما تيسر منه، والمداومة على ورد ثابت.
سابعاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار وأدعية المناسبات المختلفات، فمن لم يوفق للغزو والجهاد، ولا لصيام الهواجر وقيام الليالي، فلا يفوتنه أن يعوض عن ذلك بلسانه.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عجز منكم عن الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن العدو أن يجاهده فليكثر ذكر الله.
ثامناً: الحرص على سلامة القلب، والحذر من أمراض القلب المعنوية، كالحسد، والرياء، والنفاق، والشك، والحرص، والطمع، والعُجْب، والكِبْر، وطول الأمل، وحب الدنيا، فإنها أخطر من أمراضه الحسية، وهي سبب لكل رزية.
تاسعاً: التقلب بين الخوف والرجاء، في حال الصحة والشباب يغلب جانب الخوف، وعند المرض ونزول البلاء وعند الاحتضار يغلب جانب الرجاء.
عاشراً: مزاحمة العلماء بالركب، والقرب منهم، والحرص على الاستفادة منهم، واقتباس الأدب والسلوك قبل العلم والمعرفة.
أحد عشر: دراسة السيرة النبوية، وتراجم الأصحاب والعلماء، يعين على تزكية النفوس والترقي بها، "فإن التشبه بالرجال فلاح".
الثاني عشر: الحرص على معاشرة الأخيار، فالمرء على دين خليله، والطيورعلى أشكالها تقع، قال تعالى:(الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ)[الزخرف: 67].
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل.
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة.
الثالث عشر: الإكثار من ذكر الموت وتوقعه في كل وقت وحين، فهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الرابع عشر: القناعة بما قسم الله، والرضا بذلك، والنظر إلى من هو دونك وليس إلى من هو أرفع منك في شأن الدنيا، أما في شأن الدين:"وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ".
الخامس عشر: الخوف والحذر من سوء الخاتمة.
السادس عشر: سؤال الله والاستعاذة به من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
السابع عشر: الاستفادة من الوقت، والحرص عليه، فما العمر إلا أيام، وساعات، وثوان.
الثامن عشر: تجديد التوبة والإنابة، مع تحقيق شروطها والحرص على أن تكون توبة نصوحاً.
(ما تتحقق به الإستقامة:
تتحقق الاستقامة بأمور:
الأمر الأول: أداء الفرائض والواجبات:
وهذه الفرائض والواجبات التي فرضها الله على عباده على مراتب:
أولًا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فالتوحيد هو أوجب الواجبات، وأعظم الحسنات، وأفضل الطاعات، فالتوحيد مقدمٌ على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشرك عمل، وهو أول ما أمر الله به عباده، وهو حقه عليهم، وهو مفتاح دعوة الرسل،، وتحقيق ذلك بعبادة الله وحده لا شريك له وإخلاص الدين له ويتبع ذلك تحقيق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك مقتضى الشهادتين.
ثانيًا: الصلوات الخمس: وهي قرينة التوحيد في الكتاب والسُّنَّة.
ثالثاً: الزكاة، والصيام، الحج، هذه أركان الإسلام.
رابعاً: الواجبات الأخرى كـ"الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحقوق العباد" كلها تدخل في الفرائض، فتكون مما يتحقق الاستقامة.
إذًا: الاستقامة إنما تتحقق بأداء حقوق الله، وحقوق العباد.
الأمر الثاني مما يحقق الاستقامة: النَّوافل.
ولاشك أَنَّ الْمُحَافَظَة عَلى النَّوافل مِنْ كمال الاستقامة، ومِنْ حكمة الله أَنْ شَرَّع لعباده نوافل الطاعات في جميع العبادات "الصلاة، الصدقة، الصيام، الحج" وسائر الطاعات التي فرضها الله على عباده، شرع من جنسها ما هو تطوع، والنوافل هي أحبُ ما يُتَقربُ به إلى الله تعالى بعد الفريضة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
الأمر الثالث مما يحقق: اجتناب المحرمات.
واجتناب المحرمات يكون بامتثال المأمورات، واجتناب المحظورات، فالتوحيد – مثلاً- لابد فيه مِنْ تَرك الشِّرك، والشِّرك أعظم الذنوب، وتأتي بعده كبائر الذنوب، وتأتي بعده ذنوب على مراتبها في القبح والتحريم التي لابد من تَوَقِّيْها لتحقيق الاستقامة.
ويدخل في الاستقامة ترك الحرام البَيِّن، وترك المتشابه! كما في الحديث الآتي:
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
كثيرٌ مِنْ النَّاس لا يبالي إذا لم يكن الشيء من الحرام البَيِّن، وممن يُقَال فِيهِ إِنَّ هذا حرام، أو يُفْتَى بِأَنَّه حرام فَإِنَّه لَا يَدَعَهُ!!
وهذا ينبئ عن ضعف الإيمان وضعف التقوى.
فإن صحيح الإيمان، وصحيح التقوى هو مَنْ تَجَنَّب الحرام، واتقى الوقوع في الشبهات، فضلًا عن الوقوع في الحرام؛ فاجتناب الذرائع، وما يُقَرِّبُ إلى الحرام مطلوب ((فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)).
الأمر الرابع: ترك المكروهات وترك فضول المباحات.
بعد ما علمنا أن حقيقة الاستقامة تشمل امتثال جميع المأمورات، واجتناب جميع المحرَّمات، ومن كمالها أداء النوافل، وهي أيضًا على مراتب في الفضل وفي التأكد، أيضًا من كمالها ترك المكروهات، وترك فضول المباحات.
وعلى ذلك: فأهل الاستقامة ليسوا على مرتبة واحدة، فيهم المقربون، وفيهم المقتصدون، وهم لا يخرجون عن وصف الاستقامة، أما الظالمون لأنفسهم فإنهم ليسوا من أهل الاستقامة المطلقة؛ لأنهم مُخَلِّطون ((خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)) [التوبة:102].
فلم يكونوا مستقيمين الاستقامة التي أمر الله بها، عندهم تفريط، وبهذا نعلم أن الاستقامة تتفاوت، ويتفاضل فيها أهلها.
الخامس: الاستمرار على طريق الاستقامة حتى الموت.
فمن المعلوم أن كثيراً من الناس ممن يسير على طريق طالباً لأمر يستطيل الطريق فلا يطيق السير وأضرب لهذا مثلاً في السير على الطريق الحسي فمن المعلوم قد ينطلق جَمْعٌ كثيرٌ من الناس للوصول إلى مطالب وحظوظ، فمنهم من يكون عنده صدق في الطلب، وعزم صادق، وعنده يقين بحصول المطلوب، وهو من مطالب الحياة، ومنهم من يكون ضعيف فيتقاعس، وربما رجع من الطريق، وربما سار ببطء، فمِن مفهوم الاستقامة التي أمرنا الله بها، وأثنى بها على المؤمنين الثبات والدوام حتى الممات، فالذي آمن، وسار على الطريق، ثم انحرف يمينًا، أو شمالًا بإفراط، أو تفريط، أو رجع فما استقام، لابد لتحقق الاستقامة من الاستمرار؛ لأن من تراجع لا يصل إلى مطلوبه، ولهذا أكَّد الله هذا بقوله:((وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ))، وفي الحديث، ((فلتأته مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) كما تقدَّم معنا.
بما يشتمل عليه اسم الإيمان من الأفعال أو التروك.
السادس: عدم الانحراف:
وتتضمن الاستقامة أيضًا ـ وهو مما يدخل في السير على الطريق ـ عدم الانحراف.
والانحراف: خلاف الاستقامة.
والانحراف في طريق الدين: إما أن يكون إلى إفراط أو إلى تفريط، وإما أن يكون هناك تجاوز لحدود الله "غلو، طغيان" وإما تفريط، وتقاعس، وتراجع، وانحراف.
فأما الإفراط: فإنه يكون بتعدي حدود الله، قال تعالى:((تلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا)) [البقرة:229].
هذا في الأوامر، ولا تتعدى المباح، ولا تتجاوز ما شَرَعَ الله إلى الغلو والابتداع في الدين.
ومن التفريط: الغلو في الدين في كل شرائعه، لابد من الوقوف عند الحدود، ((تلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا)) [البقرة:229].
وأيضًا: قال ((تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا)) [البقرة:187].
فالقُرب من حدوده التي نهانا عنها تفريط، وتعدِّي الحدود إفراط، وكلاهما خلاف الاستقامة.
فالاستقامة تقتضي الوقوف عند حدود الله التي أذن فيها من واجب، ومستحب، ومباح، وَتَجنُّب الحدود التي نهى الله عنها، فنهى عن القرب منها.
إذًا: السَّير إلى الله لابد أن يكون في الطريق الوسط، وهو الذي يُسمَّى في النصوص الصراط.
ما هو الصراط؟
الصراط: هو دين الله، هو الإسلام، هو القرآن.
دين الله هو الصراط الذي نَصَبَهُ الله للعباد طريقًا يسيرون عليه إليه سبحانه.
فالعبد في ضرورة إلى هداية الله، وهدايةُ الله لهذا الصراط يتضمن الاستقامة ((اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)) [الفاتحة:6].
اهدنا: أَوْجَبَ الله علينا أن نستهديه الصراط في كل ركعة، ((اهدِنَا)) هذا أوجب وأفضل وأنفع دعاء.
والهداية هنا تشمل نوعين:
(1)
هداية الدلالة والإرشاد.
(2)
هداية التوفيق، وهداية التوفيق تتضمن الثبات على الطريق.
(القوادح في الإستقامة:
لمَّا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، نهاه عن ضِدِّها، وهو الطغيان، والمَيْل إلى الكافرين والظالمين، والفاسقين والمنافقين، قال تعالى:(فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[هود: 112]
والطغيان ضد الاستقامة، تجاوز، وإفراط، وتعدِّي لحدود الله، وإمعان أيضًا في الباطل، قال:(وَلَا تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[هود: 112]
فقوله تعالى: ((إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فيه وعد ووعيد، وإذا كان سبحانه بصيراً بما يعمله العباد، فإنه سيجزيهم بما علمه، ورآه من أعمالهم التي وقعت منهم حقيقة، على الخير خيرًا، وعلى الشرِ بما يستحقون.
قال تعالى: ((وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)).
الركون: هو المَيْل، وهو أيضًا ضد الاستقامة.
والاستقامة تتضمن مفاصلة أعداء الله، وبُغْضَ أعداء الله، والحذرَ من طاعة أعداء الله، قال تعالى:((وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) [الأحزاب:48].
وطاعتهم من الركون إليهم.
قوله تعالى: ((فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)) [هود:113]. فيه وعيد شديد وتهديد لمن ركن إلى الظالمين وينبغي أن يُعلم أن أكثر ما يطلق عليه اسم الظلم في القرآن الشرك، قال تعالى:((وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ)) [يونس:106].
وقال: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13].
ويشمل الظلم أنواع الظلم، وقد يُراد به في بعض المواضع ما دون الشرك، مثل الآية التي أَشَرْتُ إلى معناها، قال تعالى:((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) [فاطر:32].
هذه الأصناف هي أصناف المؤمنين بالكتاب وبالرسول، منهم الظالم لنفسه المُخلِّط، ومنهم المقتصد وهو المتوسط، ومنهم السابق بالخيرات وهم المقربون.
(مرض نقص الاستقامة:
(خطورة مرض نقص الاستقامة:
إن مرض نقص الاستقامة داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل،، إن تأثير مرض نقص الاستقامة على النفس أسوء من مرض نقص المناعة على الجسد، فإن الأشياء الجسدية ابتلاء، أما الأشياء التي تكون في الدين؛ فإن مصيبة الدين لا تعدلها مصيبة، إن مرض نقص الاستقامة أودى بالإيمان في وادٍ سحيق، مرض نقص الاستقامة هو الذي شَوَّه صورة الإسلام وشوَّه جمال الإسلام في أعين الناظرين إلى بعض الذين يزعمون التدين، مرض نقص الاستقامة هو الذي سبب الانتكاس حقيقة، والارتداد على الأعقاب، والنكوص على الأدبار، مرض نقص الاستقامة هوالذي أوجد عناصر مُشَوَّهة تزعم الانتساب إلى الدين، وليس عندها منه إلا النزر اليسير، مرض نقص الاستقامة هوالذي جعل بعض الناس يقولون: نحن نلتزم بالإسلام إلى حدٍ معين لأنه لا طاقة لنا بأخذ الدين كله، والذين يقولون: ما عندنا استعداد لتقديم التضحيات.
(صور مرض نقص الاستقامة:
مرض نقص الاستقامة له عدة صور منها ما يلي:
(1)
عدم الاستعداد لتقديم التضحيات:
أيها الإخوة! الذي يسير معك ثم يقول: ليس عندي استعدادٌ لإكمال المشوار، أنت تطالبنا بأمورٍ لا طاقة لنا بها، والحقيقة أنك تطالبهم بالدين، ليس عندنا استعداد للتضحية والتقديم والعمل لهذا الدين، نحن نريد أن نكون طيبين في أنفسنا، مصلين مزكين صائمين نحج ونعتمر، نذكر الله وندعو، لكن أن نقدم تضحيات لهذا الدين ليس عندنا استعداد، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونتحمل الأذى ليس عندنا استعداد .. هل هؤلاء فعلاً أصحاب تدين حقيقي؟ إذا احتاجت الدعوة إلى الله إلى إنفاق وبذل أموال وبذل أنفس وبذل جهد وبذل الأعمار تراجعوا، فقالوا: إن أموالنا نحتاج إليها، وأوقاتنا نحتاج إليها، إننا لا نصبر على الأذى، ولا نتحمل ولا نطيق، حتى الأذى الكلامي لا يريدون سماعه، ثم يقولون: نحن متدينون، هذا الالتزام البارد وهذه الاستقامة الناقصة لا تغني شيئاً، فإذا كَثُرَ الخبث هلك الناس وفيهم الصالحون بنص السنة الصحيحة كما في الحديثين الآتيين: (
(حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله.
فأين النوعية المصلحة التي تكفل الله بإنجائها إذا حلَّ العذاب بأهل القرى: قال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)[الأعراف:165].
(2)
الرياء والنفاق في الأعمال:
إن الذين يتحركون بعباداتٍ جسدية ليس فيها إخلاص ولا روح ولا توجه لله، بل إن الكثير من أعمالهم يغشاها الرياء والنفاق، هؤلاء يجب أن يعودوا إلى الله ويتوبوا إليه من هذا الخطر العظيم وهذا السوس الذي نخر عظامهم من الداخل، والذي أودى بعباداتهم وقلل أجرها أو أعدمها بالكلية، الذين لا يصلون إلا مع الناس، ولا يطيلون الصلاة والخشوع إلا أمام الناس، الذين لا يتعلمون العلم إلا للمباهاة، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم:
وتأمل في الأحاديث الآتية لتعلم مدى خطر الداء العِضال والمرضِ القتَّال (الرياء) على العمل:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث جندب بن عبد الله في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي الله به.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ". قالوا: بلي. قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل.
(3)
عدم مقاومة للنفس وهواها:
الذين يقولون: إننا مستعدون للالتزام والاستقامة على الأمور التي لا مغالبة للنفس فيها ولا مقاومة، نحن نطلق اللحى ونقصر الثياب، ولا نشعر أن هناك شهوة نريد أن نقاومها، لكن لا تطلب منا غض البصر عن المرأة الأجنبية؛ هذا أمرٌ صعب، لا تطلب منا ترك الغناء؛ لأنه شيءٌ قد تأصل في نفوسنا .. هل هؤلاء الناس صابرون على منهج الله؟!! أين الصبر بأنواعه؟ أليس الصبر على طاعة الله نوع، والصبر عن معصية الله نوعٌ آخر، والصبر على أقدار الله وقضائه نوعٌ ثالث؟ أم أنهم لا يصبرون عن الأشياء التي فيها شهوات ومقاومة على النفس، ويقولون: الأمور التي فيها سهولة نعملها من الدين، والأمور التي فيها مشقة وصعوبة نتركها، هل هؤلاء الناس صادقون في استقامتهم أم أنهم مرضى؟!
(4)
الخلل في معيار الحرام:
إن الذين يفعلون أنواعاً من المحرمات وقد فقدوا معيار الحرام بدرجاته، فيرون أشياء كبيرة وعظيمة وهم يعملون أكبر منها وأعظم، الذين يرون ـ مثلاً ـ أن حلق اللحية أمرٌ خطير، وهو أمرٌ خطير فعلاً ومحرم في الشريعة، لكنهم يتساهلون جداً في الغيبة وهم يعلمون مدى خطورته كما في النصوص الآتية:
قال تعالى: (وَلَا يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ)[الحجرات / 12]
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حبكَ من صفية كذا وكذا – تعني قصيرة – فقال: لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته.
*معنى مزجته: أي خالطته مخالطةً شديدةً يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها، وهذا من الزجر.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه اعتل بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب أعطيها بعيرا فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال ما يبكيك؟ فقالت قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك ثم قال اتقي الله يا حفصة.
(حديث سعيد ابن زيد في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربى الربا الاستطالة في عِرض المسلم بغير حق.
(حديث أبي برزة في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم، فمن اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته.
(حديث أنس في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما عرج بي ربي عز و جل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجههم و صدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم.
(حديث المستورد ابن شداد في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم و من اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله يكسوه مثله من جهنم و من قام برجل مسلم مقام سمعة و رياء فإن الله يقوم به مقام سمعة و رياء يوم القيامة.
(ما يصنع من سمع غيبة أخيه؟
(حديث أبي في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة.
(حديث أسماء بنت يزيد في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ?من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار.
(حديث جابر في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته و ما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته.
فكم الذين يقعون في الغيبة ويستطيلون في أعراض إخوانهم وهم يزعمون أنهم أهل صلاح وتدين؟ يأكلون لحم إخوانهم كالذي يأكل لحم أخيه ميتاً، وأسوؤهم على الإطلاق، وقد ظهرت نابتة في عصرنا هذا كما ظهرت في عصور الإسلام السابقة، وهم الذين يقعون في أعراض الدعاة إلى الله وأهل العلم، فيستطيلون في أعراض الدعاة إلى الله ويتهمونهم بشتى التهم بحجة الإصلاح، ويلبسون الغيبة لباس النصيحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل:(من عادى لي ولياً؛ فقد آذنته بالحرب) كما في الحديث الآتي: (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
فإذا قام يعادي أولياء الله، الذين قاموا لله بالحجة، ونصحوا الأمة، وحذروا وبينوا يُقام عليهم بالتشهير والشتم والتنقص ويُترك أعداء الله سالمين، هؤلاء معادين لأولياء الله، هل هم مستقيمون على الشريعة فعلاً أم أن عندهم مرضاً داخلياً مستشرٍ مثل السرطان يأكل الخلايا من الداخل؟! الذين يتساهلون في النميمة، ولا يعدون خطورة النميمة كخطورة أمرٍ آخر مثل الإسبال، فيرون الإسبال شيئاً كبيراً وهو كبيرٌ فعلاً عند الله، فالله يحرق من الإنسان الجزء الذي يكون أسفل من كعبه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار.
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم: المسبل إزاره و المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه و المنفق سلعته بالحلف الكاذب.
فالمسبلون تحت المشيئة إذا كانوا من أهل التوحيد، لكن النظر إلى هذا الأمر على أنه أمرٌ خطير، والنميمة ونقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم لا يعتبرونه أمراً خطيراً، فهؤلاء أناسٌ مغفلون عندهم جهلٌ أو هوى. الذي يزعم أنه متمسك بالشريعة في الظاهر هو مفلسٌ أشد الإفلاس، وتأمل في الحديث الآتي لتتطلع بنفسك على خطورة المفلس:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
إذاً هناك أناس يذهبون إلى مكة فيحجون ويعتمرون ويقرءون القرآن ويبكرون ربما إلى المساجد لكن في الوقت نفسه عندهم من أنواع الظلم لإخوانهم وللمسلمين ولعباد الله عموماً ما يأكل حسناتهم أكلاً، فيأتون يوم القيامة من المفلسين.
(5)
ومظاهر نقص الاستقامة سوء الخلق:
هؤلاء الذين يقولون: نحن متدينون، لكن عندهم من سوء الخلق ما أفسد عليهم تدينهم، لديهم أخلاق سوقية فهم يتعاملون مع الناس بشراسة وعناد وقبح وفحش، عندهم من الكبر في أنفسهم ما هو أكثر من كثيرٍ من المعاصي والموبقات والفواحش، عندهم عنجهية واحتقار للخلق، هؤلاء وإن كان مظهرهم حسناً لكن الله سبحانه وتعالى سيحاسبهم على سوء الخلق ن وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل بنص بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا و من كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
هؤلاء الذين يعاملون آباءهم وأمهاتهم بفضاضة وغضاضة، ويعاملون زوجاتهم أسوأ المعاملة، ويظلمون أولادهم، كيف يكون هؤلاء متدينون ومستقيمون فعلاً وهم بهذه الطريقة؟ لقد قلنا: إن السفهاء من الناس إذا رأوا هؤلاء يقولون: هذا هو التدين المطلوب الذي تقولون لنا عنه وتأمروننا به؟! فيكون سيئ الخلق من الذين يصدون عن سبيل الله، الذي يزعم أنه مستقيم على الشريعة ولكنه ظالمٌ للناس .. للعمال، للخدم، للمراجعين، للزملاء، اتقوا دعوة المظلوم فإنها غايةٌ في الخطورة كما في الأحاديث الآتية: (
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(6)
من مظاهر نقص الاستقامة الكذب وخلف الوعد والفجور في الخصومة.
الذي يقول: إن عنده تدين واستقامة؛ لكنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، والذين يكذبون في الحديث كثرٌ جداً، وبعضهم مع الأسف قد يكون عنده من لبوس التدين ما عنده، لكنه يكذب في الحديث، بل قد يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذب على العلماء، وقد علمنا أن من هؤلاء من يجلس في المجالس ويقول: هذا حديث صحيح أخرجه فلان وفلان، وقال فيه فلان كذا، وهو كذاب ما في كلامه حرفٌ واحدٌ صحيح، أو الذين يجترئون على العلماء في المجالس ويقولون: الشيخ الفلاني أفتى بكذا، وقال: إنها حلال، والشيخ الفلاني حرمها، وقال: إنها حرام، وهو كذاب ما سمع الفتوى من الشيخ، ولم يتثبت منها وليس عنده طريقٌ صحيح من العالم، ومع ذلك ينقل على لسان الشيخ ما ينقل. الذين يكذبون في الفتوى ويكذبون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينسبون الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم ليسوا متأكدين فعلاً من صحتها، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة أم أن عندهم مرضاً خطيراً هو مرض نقص الاستقامة؟ وهذا الذي إذا وعد أخلف، يخلف وليس عنده عذر، ويخلف دون اعتذار، ماذا يسمى؟ والذي يتخلف عن الموعد بدون عذر، والذي لو وعدك الساعة السابعة يخرج من بيته الساعة السابعة، وإخلاف الموعد درجات، فقد يخلف بالكلية، وقد يخلف جزءاً منه، لماذا تعد؟ وإذا وعدت لماذا لا تثبت على الموعد؟ وإذا لم تستطع لماذا لا تعتذر؟ أليس هذه من صفات المنافق بنص السنة الصحيحة؟
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان.
(حديث عبد الله ابن عمرو في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعٌ من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر.
هذا الكذاب الذي يقول لك أشياء لم تحصل، ويقول لك من القصص ما يخترعه، هذا هو الكذاب الذي يكذب فتبلغ كذبته الآفاق، إن الذين إذا أتوا أهل الخير جلسوا معهم، وأعطوهم من الكلام الطيب ما يقنعونهم به أنهم مثلهم وأنهم على طريقتهم وأنهم متدينون فعلاً، ثم إذا ذهبوا إلى أهل الشر جلسوا معهم وشاركوهم، وقالوا لهم من الكلام ما يدل على أنهم مثلهم ومن شيعتهم، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة؟! أليس هذا هو ذي الوجهين الذي حذَّر النبي منه كما في الأحاديث الآتية: (
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار.
(حديث أبي هريرة في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً.
(هؤلاء الذين يلعبون على الحبلين ويظنون أنهم حكماء، وأنه من الذكاء والفطنة والحنكة أن تسايس أهل الدين وتسايس أهل الفسق، وأن تكون مع هؤلاء بالألفاظ الطيبة والكلام الحسن والسمت الحسن، ثم تذهب إلى أهل الشر، فتكون مثلهم وتشاركهم في منكراتهم، هؤلاء الذين إذا ذهبوا إلى أهل الشر قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] نحن إنما نأتي هؤلاء المتدينين ما يناسبهم، تجد أحدهم من سوء التعامل أنه إذا حدث بينه وبين أخيه خصومة؛ فجر في الخصومة، ثم هجر أخاه المسلم هجراً تاماً، لا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجلس معه في مجلس، ولا يزوره ولا يرد سلامه مع أنه مسلم مثله، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب بدعة؛ لقلنا: أحسنت، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب منكر ظاهر؛ لقلنا له: في الله هجرت، لكن من أجل الدنيا يهجرون إخوانهم المسلمين ويقطعونهم قطعاً، ويبتونهم بتاً، هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله أم أن عندهم مرضاً في الاستقامة؟
أين هم من تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من هجر المسلم:
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
(حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُفتحُ أبواب الجنة يوم الاثنين و يوم الخميس فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا.
فإذاً الذين يقطعون حبال الوصل مع إخوانهم المسلمين في الله هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله فعلاً؟ وبالمناسبة نقول: إنه لو انقطعت أخبار أخيك عنك لا لشحناء ولا لبغضاء، وانقطعت صلتك به لانشغالك وليس لعداوة؛ فإنك لا تكون هاجراً له، لكن احرص على وصل أخيك المسلم، لكن من أجل الدنيا تقطع أخاك المسلم فتهجره سنين ولا تسلم عليه! وهذا متفشٍ وكثير، ودقق في أحوال الناس واستمع للأخبار تجد ذلك عياناً بياناً.
(7)
من مظاهر نقص الاستقامة: الكبر:
تجد الذين عندهم كبر يحرصون على صدور المجالس ولا يجلس حيث انتهى به المجلس، فيرتكبون أمراً حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله:(اتقوا هذه المذابح أي: المحاريب، حضور المجالس، تواضعوا لله)
(حديث ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا هذه المذابح ـ يعني المحاريب ـ.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(اتقوا هذه المذابح) جمع مذبح قال في الفردوس وغيره
(يعني المحاريب) أي تجنبوا تحري صدور المجالس يعني التنافس فيها، ووقع للمصنف أنه جعل هذا نهياً عن اتخاذ المحاريب في المساجد والوقوف فيها وقال: خفي على قوم كون المحراب بالمسجد بدعة وظنوا أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه ولا في زمن أحد من خلفائه بل حدث في المائة الثانية مع ثبوت النهي عن اتخاذه ثم تعقب قول الزركشي المشهور أن اتخاذه جائز لا مكروه ولم يزل عمل الناس عليه بلا نكير بأنه لا نفل في المذهب فيه وقد ثبت النهي عنه انتهى، أقول وهذا بناء منه على ما فهمه من لفظ الحديث أن مراده بالمحراب ليس إلا ما هو المتعارف في المسجد الآن ولا كذلك فإن الإمام الشهير المعروف أي بابن الأثير قد نص على أن المراد بالمحاريب في الحديث صدور المجالس قال ومنه حديث أنس كان يكره المحاريب أي لم يكن يحب أن يجلس في صدور المجالس ويرتفع على الناس انتهى. واقتفاه في ذلك جمع جازمين به ولم يحكوا خلافه منهم الحافظ الهيثمي وغيره وقال الحراني: المحراب صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة جهد وفي الكشاف في تفسير {كلما دخل عليها زكريا المحراب} ما نصه: قيل بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت في أشرف موضع في بيت المقدس وقيل كانت [ص 145] مساجدهم تسمى المحاريب انتهى وقال في تفسير {يعملون له ما يشاء من محاريب} المحاريب المساكن والمجالس الشريفة سميت به لأنه يحامى عليها ويذب عنها وقيل المساجد انتهى وفي الأساس مررت بمذبح النصارى ومذابيحهم وهي محاريبهم ومواضع كتبهم ونحوها المناسك للمتعبدات وهي في الأصل المذابح انتهى، وفي الفائق المحراب المكان الرفيع والمجلس الشريف لأنه يدافع عنه ويحارب دونه ومنه قيل محراب الأسد لمأواه وسمي القصر والغرفة المنيفة محراباً انتهى بنصه. وفي القاموس المذابح المحاريب والمقاصير.
بيوت النصارى والمحراب الغرفة وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الإمام من المسجد والموضع ينفرد به الملك، وقال الكمال ابن الهمام في الفتح بعد ما نقل كراهة صلاة الإمام في المحراب لما فيه من التشبه بأهل الكتاب والامتياز عن القوم ما نصه لا يخفى أن امتياز الإمام مفرداً مطلوب في الشرع في حق المكان حتى كان التقدم واجباً عليه وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان ولا أثر لذلك فإنه بنى في المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم تبن لكانت السنة أن يتقدم في محاذاة ذلك المكان لأنه يحاذي وسط الصف وهو المطلوب إذ قيامه في غير محاذاته مكروه وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام ولا بدع فيه على أن أهل الكتاب إنما يخصون الإمام بالمكان المرتفع كما قيل فلا تشبه انتهى.
وهاك النصوص الواردة في ذم الكبر لتحترز منه:
قال تعالى: (تِلْكَ الدّارُ الَاخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ)[سورة: القصص - الآية: 83]
وقال تعالى: (وَلَا تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[سورة: لقمان - الآية: 18]
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس.
بَطَرُ الحقِ: التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس: احتقارهم وازدرائهم
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بَطَرا.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لا ينظر إليهم و لهم عذاب أليم: شيخ زان و ملك كذاب و عائل مستكبر.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: العزُ إزاري والكبرياءُ ردائي فمن نازعني عذبته.
اجلس حيث ينتهي بك المجلس، هذا الذي مهما كانت هيأته ومظهره .. هذا الذي يجد في نفسه حنقاً لو أنه لم يقم له في صدر المجلس ليجلس، فأين يكون موقعه من الاستقامة؟ ولو كانت سيماهم سيماء أهل الخير، لكنه يرتكب منكراً ومعصية. إن الذين عندهم نوع من الكبر يظنون أن نوعاً معيناً خاصاً من الدماء يجري في عروقهم، وأنهم من نسلٍ غير نسل آدم، وأنهم من طبقة من البشر ليست كباقي طبقات الناس الذين لو جاءهم خاطبٌ يخطب منهم احتقروه، وقالوا: كيف تتجرأ أصلاً أن تطرق بابنا وأنت تعلم أننا أصحاب حسب ونسب وشرف وأنت حقير؟ هؤلاء ما هو موقعهم من الاستقامة مهما كانت أشكالهم وصورهم،
وأين هم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي) قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ، فَزَوّجُوهُ. إلاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسَادٌ عَرِيضٌ» .
إذا كنت تخشى مفاسد وقطيعة داخل العائلة؛ إذاً اعتذر بأدب، أما أن يحتقر خلق الله لماذا يتقدم أصلاً للزواج؛ لأنك ترى في نفسك خاصية من دون عباد الله، وكأنك لست لآدم الذي هو من تراب:(كلكم لآدم وآدم من تراب) فهذه النوعية من البشر أين موقعهم من الاستقامة؟
(8)
من مظاهر نقص الاستقامة: أذية الجار:
إن الذين يشتكي منهم جيرانهم من أنواع الأذى التي يعاملونهم بها ويؤذونهم بها، هل هؤلاء مؤمنون حقاً، أين هو من وصية النبي بالجار وتحذيره من أذى الجار:
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِثُه.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل: يا رسول الله ومن؟ قال: الذي لا يأمن جارة بوائقة "
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
(9)
من مظاهر نقص الاستقامة أذية المصلين في المساجد:
إن الذين يضايقون خلق الله في المساجد بالروائح الكريهة من روائح البصل والثوم ونحوه، أو يتنخم في المسجد نخامة تصيب بدن أخيه أو ثوب أخيه، كيف هو؟
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله تبارك و تعالى ما دام في مصلاه و لا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا و ليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها.
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تنخم أحدكم وهو في المسجد فليغيب نخامته لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه.
حتى هذه الأشياء الإسلام يراعي فيها مشاعر المسلمين.
(10)
من مظاهر نقص الاستقامة ظلم الزوجة:
إن الذي تكون عنده زوجة فيظلمها ويأكل حقها، فلا يدع لزوجته شيئاً من راتبها إلا ويأخذه في آخر الشهر، حتى رواتب الصيف ومكافئة نهاية الخدمة يأخذها بدون رضاها وهو ما اشترط عليها في العقد شيئاً، فيأخذ مال أخيه المسلم بغير حق، هذا كيف يكون حاله؟ هؤلاء الذين يظهرون بالبشاشة في وجوه إخوانهم، ثم يكونون من أسوء خلق الله في التعامل مع زوجاتهم. الذي يكون عنده أكثر من زوجة وهو يهمل إحداهن ويغيب عنها، ويتركها ولا ينفق عليها، ويقول: أنت موظفة أنفقي على نفسك، كأن الشريعة قالت: إذا كانت الزوجة موظفة فالنفقة عليها، والشريعة ما قالت هذا، وربما أدخل أولاد هذه في مدارس خاصة، وترك أولاد تلك ونحو ذلك، تفريط بدون سبب شرعي، وقد ورد النكير الشديد في السنة الصحيحة على من كان له زوجتان فمال إلى أحدهما كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له امرأتان فمال إلا إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل.
جزاءً وفاقاً لظلمه لزوجته، وكذلك الزوجة التي تظلم زوجها، فترفض خدمته وتتعالى عليه أو تقول: راتبي أكثر من راتبك، و شهادتي أعلى من شهادتك، وتطلب الطلاق منه من غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة، ومهما كان حجابها وشكلها؛ فإن استقامتها ليست بكاملة.
(11)
من مظاهر نقص الاستقامة مماطلة الأجراء:
إن الذين يستأجرون الأجراء ويماطلونهم و لا يعطونهم حقوقهم، ويخصمون عليهم من الرواتب والمستحقات والبدلات، ويقف في طريقه إذا أراد أن يعف نفسه، أين هم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.
هؤلاء استقامتهم ليست بكاملة. إن الذين يقترضون الأموال ويستدينون، وهم يعلمون أنهم لن يؤدوا هذه الأمانة، ويتساهلون في الاستدانة، مهما كانت أشكالهم وصورهم ومظاهرهم، أين هم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه.
وبعض الناس الآن يتساهلون في الدين وهو يعلم أنه لن يرد، وإن كان عنده مال يماطل ويقول: لا أريد أن تنزل مدخراتي عن مستوى كذا، إذا ارتفعت فوق كذا؛ رددت إليك مالك، هؤلاء المماطلين عليهم أن يعلموا أن استقامتهم ناقصة مهما كانوا.
(12)
من مظاهر نقص الاستقامة عدم أخذ الدين بالقوة:
ونحن أيها الإخوة! نعاني و نعاني كثيراً من عدم أخذ الدين بالقوة كما أمرنا الله، نعاني من تسيبات، حتى على مستوى الصحوة توجد أنواعٌ من الغثائية والتفريط، فهذا إغراق في الضحك، وتضييع للأوقات في النكت والطرائف وليس نكت بمعنى الفوائد لكنها نكت بمعنى آخر فيه إغراق في الضحك، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا بأن كثرة الضحك تميت القلب، فأين استشعار المسئولية تجاه هذا الدين؟ وأين حديث:(لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). نحن اليوم نعاني على مستوانا الداخلي من أنواع التسيب وعدم الجدية في طلب العلم، فهناك من الشباب من لا صبر له على القراءة ولا اهتمام له بحضور حلق الذكر والعلم، ولا دافع عنده للسؤال عن الأحكام الشرعية وتعلم دين الله، ولو سئل عن دليلٍ شرعيٍ في حجاب المرأة ما عرفه، أو في حكم الزنا ما أثبته، وكل كلامه: أو كما قال أو كما قال. والذين يشتغلون ببعض أنواع الملهيات من الألعاب وغيرها ويجعلون جُل وقتهم فيها ويتركون العمل لهذا الدين والسعي لنصرة الدين والدعوة للدين، فهؤلاء فقههم في دين الله ضعيف. إن واقع المجالس اليوم التي نجلس فيها مع أنواع القضايا التي تثار في هذه المجالس والمواضيع التي تطرق تحتاج إلى مراجعة كبيرة، ليتهم يتناقشون في مسائل في العلم، أو يعرضون شيئاً من أحوال المسلمين، أو يفكرون في حلول مشكلات المجتمع، أو يتداولون الخبرات، أو يذكرون شيئاً؛ ليزدادوا به إيماناً! وإنما مجالسهم لهوٌ ولعب وسهر وتضييع لصلاة الفجر .. ساعات طويلة تنفق من العمر. إن مرض نقص الاستقامة قد أصاب مجالسنا إصابات بالغة، وجعل هذه المجالس قليلة الخير نادرة الفائدة، ولو كان هناك استقامة صحيحة لصارت المجالس مثمرة.
(13)
من مظاهر نقص الاستقامة تمييع الأخوة الإسلامية:
إن مرض نقص الاستقامة قد انعكس كذلك على مفهوم الأخوة الإسلامية فميعه، وصارت العلاقات كثيراً ما تكون استئناسات وترويحات وتبادل للألفاظ العاطفية، وخلطة زائدة، وأضرار سلبية، وانخفاض إيمان، وتعلق بغير الله، ووصول إلى درجات العشق .. و نحو ذلك وإعراض عن الجلوس مع من يستفيد منهم، ومع من يكون عندهم علمٌ نافع، وإنما التقوقع على فلانٍ واحدٍ أو اثنين أو أكثر وترك البقية والحرمان -حرمان النفس من فوائد جمة- وإنما هي شجين وعواطف تنطلق بلا حساب.
(14)
من مظاهر نقص الاستقامة التهاون في السنن والمستحبات:
إن مرض نقص الاستقامة قد أدى إلى حصول تهاونٍ بالسنن والمستحبات، وهناك قسمان: نقص الكمال الواجب ونقص الكمال المستحب، فأما نقص كمال الاستقامة الواجب فقد ذكرنا أمثلة منه كثيرة، ولكن ينبغي أن ننتبه لمرض نقص كمال الاستقامة المستحب. الكمال كمالان: كمال واجب لا بد أن يؤتى به، وكمال مستحب ولكن التفريط والتضييع أدى إلى الوقوع في أنواع من التهاونات. فأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إلى الاستهانة بالسلوك، حتى السواك ورص الصفوف التي يعتبرها بعض الناس أشياء ثانوية وجانبية، أي: أنهم يمكن أن يهملوها، مع أنك يا أخي المسلم لو تتبعت الأحاديث الواردة في السواك لرأيت أمراً عجباً، وقد صنف بعض العلماء كتباً في السواك فقط، والذي يتتبع هذا الأمر يخرج بانطباع أن الشريعة تريد تكميل المسلم وإحاطته من جميع الجوانب، وأن تجعله في أحسن صورة، لكن بعض الناس يصرون على الإهمال والتضييع لهذه السنن، ويقولون: هذه قشور، اترك وابتعد، نحن لم نقل: اجعلها أولويات في الدعوة، أو قدمها على ما هو أعظم منها من الأعمال، لكن ألا تعملها وتتركها نهائياً، والذي حصل من أنواع التأخرات والتهاونات في السنن أدى إلى أشياء سيئة، فمثلاً: التهاون في النوافل وهو أمرٌ غاية في الخطورة والتفريط فإن النوافل من الأسباب الجابهة لمحبة الله تعالى ثم هي مِنةٌ من الله تعالى لتكميل نقص الفريضة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح و أنجح و إن فسدت فقد خاب و خسر و إن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك.
[ثم يكون سائر عمله على ذلك] أي: لو نقص من الزكاة؛ يكمل من الصدقة، لو حدث رفث وفسوق وجدال في الحج؛ يكمل من حج النافلة، فكيف نضيع النوافل إذا كانت النوافل مهمة في تكميل النقص الحاصل في الصلوات الواجبة والفرائض؟ وكذلك التهاون في الصدقات وصيام النافلة وغيرها من العبادات. ومن الأشياء التي تحدث في هذا الجانب أيضاً: التكاسل عن التبكير للصلاة، وخاصة صلاة الجمعة وصلاة الجماعة، ولقد هدد النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تقدموا فأتموا بي و ليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل.
(حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احضروا الذكر وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها.
وكذلك يوقع في أخطاء، فمن الأخطاء التي يوقع فيها مثلاً: الإسراع أثناء الحضور إلى المسجد إسراعاً يخل بالخشوع، مع أن السنة الإتيان إلى المسجد بالسكينة والوقار: كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال ما شأنكم؟ قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
فلماذا يركض؟ ولماذا يستعجل؟ ولماذا يجري فيدخل في الصف لاهثاً لا يلتقط أنفاسه إلا بصعوبة، فيفوت عليه الخشوع وحسن القراءة؟ قد نقع في أخطاء من جهة التطويل في الإمامة مخالفين قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى لنفسه فليطوِّل ما شاء.
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في الصحيحين) قال، قال رجل يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان فما رأيت رسول الله أشد غضباً من يومئذٍ فقال يا أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل فكأن معاذاً تناول منه فبلغ ا لنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(فتانٌ فتانٌ فتانٌ) أو قال (فاتناً فاتناً فاتناً) وأمر بسورتين من أوسط المفصل.
والمقصود التطويل غير الشرعي، أما أداء الصلاة كما أمر الله وإتقانها كما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من اتباع السنة.
ومن الأمور التي يحصل فيها تفريط أيضاً في قضايا المستحبات: عدم التورع عن المشتبهات والوقوع في الشبه، وهذا يؤدي إلى الوقوع في الحرام، وهذا يقول لك: هذا مطلي بالذهب، وهذا يقول: هذا كذا، وموقفنا الصحيح إن كان فعلاً عندنا استقامة جادة على الشريعة أن نترك هذه المشتبهات
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا بينكم و بين الحرام سترا من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه و دينه و من أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه و إن لكل ملك حمى و إن حمى الله في الأرض محارمه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(اجعلوا بينكم وبين الحرام ستراً) أي وقاية
(من الحلال) وهو واحد الستور قال الزمخشري: من المجاز رجل مستور وهتك الله ستره اطلع على مساويه وفلان لا يستتر من الله بستر أي لا يتقي الله فإن (من فعل ذلك) أي جعل بينه وبين الحرام ستراً فقد (استبرأ) بالهمز وقد تخفف طلب البراءة (لعرضه) بصونه عما يشينه ويعيبه وفي المختار الاستبراء عبارة عن التبصر والتعرف احتياطاً (ودينه) عن الذم الشرعي والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان كما قاله بعض الأعيان قال الزمخشري: تقول اعترض فلان عرضي إذا وقع فيه وتنقصه ومن زعم كالشهاب ابن حجر الهيثمي أن المراد هنا الحسب وما يعده الإنسان من مفاخره ومفاخر آبائه فكأنه نقله من لغة غير ناظر إلى ما يلائم السياق في هذا المحل بخصوصه ومقصود الحديث أن الحلال إذا خيف أن يتولد من فعله خور شرعي في نفسه أو أهله أو سلفه تعين تجنبه ليسلم من الذم والعيب والعذاب ويدخل في زمرة المتقين (ومن أرتع فيه) أي أكل ما شاء وتبسط في المطاعم والملابس كيفما أحب يقال رتعت الماشية أكلت ما شاءت قال الزمخشري: من المجاز رتع القوم أكلوا ما شاءوا في رغد وسعة (كان كالمرتع) بضم الميم وكسر التاء (إلى جنب الحمى) أي جانبه من إطلاق المصدر على المفعول أي المحمي وهو الذي لا يقربه أحد احتراماً لمالكه. قال الراغب: وأصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعمال سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال.
وقال الزمخشري: حميت المكان منعته أن يقرب فإذا امتنع وعز قلت أحميته أي صيرته حمى فلا يكون حمىإلا بعد الحماية ومن المجاز حميته أن يفعل كذا إذا منعته (يوشك) بضم المثناة تحت وكسر المعجمة مضارع أوشك بفتحها وهو من أفعال المقاربة وقد وضع لدنو الخبر مثل كاد وعسى في الاستعمال فيجوز أوشك زيد يجيء وأوشك أن يجيء زيد على الأوجه الثلاثة معناه هنا يسرع أو يقرب (أن يقع) بفتح القاف فيه وفي ماضيه (فيه) أي تأكل ماشيته منه فيعاقب والوقوع في شيء السقوط فيه وكل سقوط شديد يعبر عنه به فكما أن الراعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد لاستلزام القرب الوقوع المترتب عليه العقاب فكذا حمى الله أي محارمه التي حظرها لا ينبغي قرب حماها ليسلم من ورطتها ومن ثم قال الله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} فنهى عن المقاربة حذراً من المواقعة إذ القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى الشرع، وقد حرمت أشياء كثيرة لا مفسدة فيها لكونها تجر إليها (وإن لكل ملك) من ملوك العرب (حمى) يحميه عن الناس فلا يقربه أحد خوفاً من سطوته كان الواحد من أشرفهم إذا أراد أن يترك لقومه مرعى استعوى كلباً فما بلغه صوته من كل جهة حظره على غيره (وإن حمى الله في الأرض) في رواية في أرضه (محارمه) معاصيه كما في رواية أبي داود من دخل حماه بارتكاب شيء منها استحق العقوبة ومن قارب يوشك أن يقع فيه فالمحتاط لنفسه ولدينه لا يقاربه ولا يفعل ما يقربه منه وهذا السياق من المصطفى صلى الله عليه وسلم إقامة برهان عظيم على تجنب الشبهات. أهـ
إن كثرة النزول إلى الأسواق، وما فيها من المنكرات وغشيان أماكن الاختلاط لغير حاجة ما هو إلا نقص في الاستقامة فإن أبغض البلاد إلى الله أسواقها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب البلاد إلى الله مساجدها و أبغض البلاد إلى الله أسواقها.
(15)
من مظاهر نقص الاستقامة حصول الطفرات والانتكاسات:
وأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إليه حصول الطفرات التي ليست مؤسسة على تقوى من الله ورضوان، وحماس على غير أساس، فينقطع الطريق بالإنسان ولم يؤسس نفسه كما يريد الله عز وجل، ولذلك ترى الرجل حين يصعد فجأة من عالم الجاهلية إلى عالم الدين والعبادة، ثم يهبط فجأة وتهوي به ريح الانتكاس في وادٍ سحيق، وسبب ذلك: أن تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى وسط إسلامي .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى إخوة في الله يجالسهم .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى حلق ذكر يغشاها .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية جماعية وفردية .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تناصح بيننا، ولذلك فهؤلاء الذين تحدث عندهم نوع من الحماسة بعد الخطبة أو محاضرة أو شريط يستمع إليه يخفق في الوصول إلى الهدف وينكص و يرجع؛ لأنه لم يعرف كيفية تحصيل الاستقامة الكاملة ولا الطريق إلى ذلك، هو الذي يريد أن يكون فرداً لا صلة بينه وبين إخوانه، ولا يريد أن يكون مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة.
(16)
من مظاهر نقص الاستقامة عدم التفاعل مع قضايا المسلمين:
ومن آثار نقص الاستقامة ألا نتفاعل مع قضايا المسلمين، ولا نعرف أخبار إخواننا المسلمين، ولا نمد يد العون لإخواننا المسلمين! مسلمون يشردون وآخرون يقتلون وفئة يسجنون وغيرهم يعذبون، ونحن حتى الدعاء بخلنا به، فهل هذه الاستقامة صحيحة؟ وأين مفهوم الجسد الواحد الذي حثَّ عليه الإسلام؟ ونحن نتكئ على الأرائك نتبرد ونأكل من الملذات، فهذا واحد لا يأتي بالحلوى إلا من البحرين، وعنده مشاوير خاصة من أجل الحلوى، ولو أخذت وقتاً طويلاً أو قصيراً فالأمر عادي، ولو ضاعت صلاة الجماعة فذلك ليس مهم، يعني: أحياناً نضرب في تحصيل لذائذنا أكباد الإبل، ونمتطي ونرحل، ولأجل صلاة أو حلقة علم لا نبذل شيئاً من الوقت فهذا من نقص الاستقامة.
(17)
من مظاهر نقص الاستقامة التعلق بالدنيا:
إن التخلي عن الزهد والاهتمام بالمظهر والثياب والعطور والأرياش والتنعم والتحف في البيوت من الأشياء المشغلة؛ لأنها تؤدي إلى التعلق بالدنيا، والتعلق بالدنيا ينافي الاستقامة، فمفهوم الزهد أيضاً ناقص، والذي تكون استقامته كاملة يكون زهده كبيراً، فعندنا اهتمام بالمظاهر .. إسراف .. تضييع أموال .. كماليات، هذا يقول: أشتري قارباً بثلاثين ألفاً، من أجل إذا كانت هناك تمشية أتمشى .. هل هذا فكر مرة أخرى وراجع نفسه هل القرار هذا صحيح؟ أليس هناك مجالات أحسن وأفضل وأكثر أجراً لتضع فيها هذه الأموال؟ إذاً: هناك قضايا كثيرة تحصل ولكن محاسبة النفس ضعيفة، ولأجل ذلك فإنه تخترقنا كثيرٌ من سهام الشيطان.
(18)
من مظاهر نقص الاستقامة بقاء رواسب الجاهلية عند الإنسان:
من نقص الاستقامة أن توجد عند الإنسان رواسب من الجاهلية لا يسعى لتخليص نفسه منها، ولذلك فانحرافه من أسهل ما يكون، فقد تكون له علاقات محرمة لا يقطعها، وصور موجودة لا يتلفها، وأفلامٌ سيئة لا يتخلص منها، وأرقام هواتف لا زال يحتفظ بها، كل ذلك من أثر مرض نقص الاستقامة، ولو أنه جلس في مجلس فظهرت على الشاشة مباراةٌ لكرة القدم؛ لانخرط في التشجيع وانهمك به، واتخذ جانباً معيناً وصارت القضية قضية مهمة عنده، هذا لنقص استقامته، وأقرب نوعية للانتكاس هي هذه النوعية.
(19)
من مظاهر نقص الاستقامة عدم القيام بواجب الإصلاح والإنكار:
من آثار نقص الاستقامة عدم الاهتمام بالبيت وإصلاح البيوت، ويكون هذا الإنسان الذي يزعم الاستقامة شبه معطل ليس عنده طاقات يبذلها لله .. لا إنكار منكرات، ولا قيام لله بواجب الذب عن شريعته، وربما لو أن المجلس حصل فيه اتهامٌ للإسلام أو طعنٌ في الدين ما قامت له قائمة ولا تحرك له رمشٌ ولا اختلج فيه عرق؛ لأن من الخذلان ـ والعياذ بالله ـ ما يمنعه عن الدفاع عن بيضة الدين وحفظ هذه الشريعة. أن تمر بالمنكر فلا تنكره، لماذا؟ أتخشى الناس؟! فالله أحق أن تخشاه:(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:175] أين إنكار المنكر ولو بالكلام؟ إن لم تستطع باليد فبالكلام، وماذا يضرك لو تكلمت؟ ثم إننا مطالبون بالنصيحة والكلام والصبر على الأذى:(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان:17]. إلقاء التبعات على العلماء والخطباء والقول إنهم مسئولون عن تصحيح الانحرافات .. أنا مسلم عادي ما عندي شيء مقصوص الأجنحة لا أستطيع أن أفعل شيئاً، من قال ذلك؟ أنت يمكن أن ترى منكرات لا يراها أولئك العلماء والخطباء، وأن تكون في بيئات لا يأتي إليها العلماء والخطباء، وأنت تجلس في أوساط ومجالس لا يغشاها أولئك القوم؛ فعليك المسئولية والتبعية، فلماذا التخاذل عن إنكار المنكر؟ لماذا الاستسلام للدعة والخشية من أن يرد عليك أو يقال فيك كلمة؟ أين النصيحة؟ (الدين النصيحة) النصيحة لله أن تذب عن دينه وشريعته .. أن تقوم له سبحانه .. النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم .. النصيحة لكتاب الله، أين النصيحة لكتاب الله وهم في المجلس يتكلمون على الإسلام وأنت ساكت؟ أين أنت من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الآتي:
من مظاهر نقص الاستقامة: ضياع الأوقات في الأسفار.
وكذلك نعاني أيضاً من ضياع الأوقات في الأسفار التي لا طائل من ورائها، وحياة الاصطياف التي يعملها كثيرٌ من الناس لا مصلحة شرعية فيها، بل فيها كثيرٌ من المضرة وإنفاق الأموال الكثيرة، ويحصل فيها من قسوة القلب ورؤية المنكر ما يجعل الإنسان مختل الإيمان .. ينزل إيمانه إلى الحضيض .. يرجع من الإجازة لم يزدد إيماناً وإنما نقص إيمانه ونقص دينه وفرط في أشياء كثيرة.
(20)
مظاهر أخرى مخالفة للاستقامة:
ينبغي أن تكون استقامتنا على الدين استقامة صحيحة كاملة واعية، أن نمسك بهذا الدين فعلاً، لا نترك إلقاء السلام على الناس بحجة أنهم غير متمسكين، وأن عندهم نوعاً من الفسق؛ بل أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وابتسامتك في وجه أخيك صدقة، دع الغيبة التي تكون بخلاف النصيحة، ودع التظاهر بالانشغال وليس عندك شيء لتبدي نفسك شخصاً مهماً، واترك الضعف والوهن، ودافع عن عرض أخيك المسلم، أليس من السوء كل السوء أن كافراً يستهزئ بمسلم مثلاً وتضحك أنت مشاركةً لهذا الكافر؟ أليس من الخلل في الاستقامة أن يكون عندنا السرعة في الحكم على الآخرين وانطلاقه من الهوى والعاطفة؟ أليس بخلاف الاستقامة أن نحكم بالنيات بالفساد ولا يعلم النيات إلا الله، ولم يظهر لنا هذا الرجل شيء؟ وينبغي أن نحمل أمر أخينا المسلم على أحسنه، أليس مما ينافي الاستقامة إهدار الأموال العامة من المياه والكهرباء وغيرها ولو كنت أنت لا تدفع الفواتير؟ أليست هذه ملك لبيت مال المسلمين في الأصل وإن فرط فيها من فرط وضيع فيها من ضيع، فهل أنت تشارك المفرطين والمضيعين؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن نتشدد مع من تحتنا من الناس بشيء لا تأمر به الشريعة بحجة الحزم في العمل، وننفر الناس من أهل الدين مع أن المسألة لا تساوي كل هذا الأمر من الحملة والعقاب؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن يتأخر الإنسان من عمله ويخرج قبل الوقت ويتكلم مع بقية زملائه، والمراجعون يقفون في الطوابير، فيترك العمل ويعطل العالم؟
(أسباب الاستقامة:
للاستقامة أسباب جوهرية منها ما يلي:
(1)
من أهم أسباب الاستقامة إرادة الله لهذا العبد الهداية:
وهي هداية التوفيق والتي هي بمعنى خلق الهداية في قلب العبد وشرح صدره للإسلام، وتوفيقه للطاعة والعمل الصالح، وهذه الهداية لا يملكها إلا الله تعالى وحده، لا يملكها نبيٌ مُرسل ولا مَلَكٌ مُقَرَب، قال تعالى:(إِنّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[القصص: 56]، و تأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (
(حديث سعيد ابن المسيَّب عن أبيه الثابت في الصحيحين) قال لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغبُ عن ملةِ عبد المطلب؟، فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملةِ عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك فأنزل الله تعالى:(مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)[سورة: التوبة - الآية: 113]
مسألة: ما الحكمة من عدم هداية أبي طالب على يدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الحكمةُ في عدم هدايةِ أبي طالب على يدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حكمةٌ بالغةٌ قضاها الله تعالى يستوجب الحمد على اقتضاها وهي أن يوقن العباد أن هداية التوفيق التي بمعنى خلق الهداية في قلب العبد لا يملكها إلا الله تعالى، فهي إليه سبحانه مصروفة وعلى مشيئته موقوفة قال تعالى:(مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مّرْشِداً)
[الكهف /17]
و قال تعالى: (لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[البقرة / 272]
وقال تعالى: (إِنّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[القصص/56]
ولو كان أحدٌ غير الله تعالى يملك هداية التوفيق لكان أولى بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الأنبياء والمرسلين، وهذه نقطة عقدية في غاية الأهمية لمعالجة مسألة هامة وهي (أن لا نجعل للنبي صلى الله عليه وسلم منزلةً فوق منزلته ولا منزلةً هي من خصائص الله تعالى) فمن اعتقد أن أحداً غير الله يملك هداية التوفيق فهو أضلُ من حمار أهله.
(2)
صحة الإيمان واليقين:
لأن الانحراف والفتور والتراجع ينشأ عن ضعف اليقين، كلما كان الإيمان أقوى كلما تحققت الاستقامة، وتكاملت، وتمت، قال تعالى:((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ)) [الروم:60].
فاليقين يحمل على الصبر، والصبر هو قاعدة الاستقامة، فكل من الصبر واليقين عماد للاستقامة.
فالاستقامة والسير على الطريق، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي تفتقر إلى اليقين والصبر.
فما يُؤْتَى الإنسان إلا من ضعف إيمانه، ومن ضعف يقينه، ومن ضعف صبره.
(3)
الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة:
وهما شرطا قبول العمل المتلازمين، قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ
وقال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(البينة: الآية: 5).
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به.
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ.
(4)
محاسبة النفس:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[سورة: الحشر - الأية: 18]
[*] (قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم. اهـ.
فالمحاسبة تحفظ المسلم من الميل عن طريق الاستقامة.
(5)
حفظ الجوارح عن المحرمات:
وأهمها: اللسان فيحفظه عن الكذب والغيبة والنميمة وغيرها، ويحفظ بصره عن المحرمات، وليكن نصب عينيه قوله تعالى:(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
(حديث عقبة بن عامر في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك.
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا.
(حديث أبي بكر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيء من الجسد إلا و هو يشكو ذرب اللسان.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال الفم والفرج.
(حديث معاذ في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال قلت يا رسول الله أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال لقد سألتني عن عظيم و إنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤتي الزكاة المفروضة و تصوم رمضان و تحج البيت ; ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و صلاة الرجل في جوف الليل ; ألا أخبرك برأس الأمر وعموده و ذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام و عموده الصلاة و ذروة سنامه الجهاد ; ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا - و أشار إلى لسانه - قال: يا نبي الله! و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! و هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
(6)
معرفة خطوات الشيطان للحذر منها:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلََكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[سورة: النور - الأية: 21]
(7)
طلب العلم الشرعي:
والمقصود به علم الكتاب والسنة، لأنه الوسيلة لمعرفة الله تعالى وكتابه والعلم بما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة والتبصر فيهما، التدبر لهما، تدبر القرآن يُورِث معرفة بما أمر الله به وبما نهى عنه، وفي القرآن الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالعلم بهذه النصوص واستشعارها واستحضارها من أسباب الاستقامة، أن تَعْلَم أن الله أمرك، أن تعلم عاقبة الطاعة، وعاقبة المعصية وعاقبة تركها، فالعلم بذلك واستشعاره من أسباب الطاعة.
والانحراف إما أن يكون لعدم العلم أو لعدم اليقين، وعدم الإيمان التام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ))
…
كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن.
الزاني المسلم ما يَكْفُر بزناه، لكنه يفتقد الإيمان الوازع، فالزاني ما زنى والشارب ما شرب والسارق ما سرق إلا عندما زال عنه الإيمان الرادع، الذي يحمل على الكفِّ، فقد يتوفر هذا الإيمان فتحصل الاستقامة باجتناب ما حَرَّمَ الله، وهكذا في المأمورات، فالإيمان هو الوازع، وهو يقوم على العلم.
(8)
الدعاء:
فيسأل الإنسان ربه الثبات "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم اهدني الصراط المستقيم" فالدعاء الواجب والمستحب يتضمن سبب من أسباب الاستقامة.
ومن الأدعية:
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قل اللهم اهدني وسددني.
فسؤال الهداية، وسؤال الثبات، واستمداد العون من الله هي من أسباب الاستقامة
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
فبدون هداية الله وعونه وتوفيقه لا يصل الإنسان إلى شئ، ولا يقوى على شيء، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(9)
اختيار الصحبة الصالحة:
لأن الجليس الصالح يعين صاحبه على الطاعة وعلى طلب العلم، وينهيه على أخطائه، أما الجليس السيء فعلى العكس من ذلك تماماً، قال تعالى:(الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ)[سورة: الزخرف - الأية: 67]
فالصحبة الصالحة الذين يُذَكِّرون الإنسان إذا نسي، ويأمرونه بما يجب عليه، وينكرون عليه إذا انحرف، ويعينونه إذا كَسُلَ، قال تعالى:((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) [التوبة:71].
والجليس الصالح كله منافع كما في الحديث الآتي: (
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة.
ولا تنسى أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن المرء على دين خليله كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل.
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
(10)
الارتباط بالقرآن تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا:
قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الإسراء: 9]، أي: إن هذا القرآن يهدي للحالة التي هي أقوم الحالات، وإلى الطريقة التي هي أعدل الطرق.
وأكد الله على هذا المعنى في موضع آخر من كتابه فقال: (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)[التكوير:27، 28]، فهذا القرآن بيان وهداية للناس من أراد منهم الهداية والرشاد والاستقامة، قال الله تعالى:(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[الأنعام:36].
وهذا حذيفة رضي الله عنه ينادي فيقول: (يا معشر القراء، اسْتَقِيمُوا، فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (6739).
(ثمار الاستقامة ونتائجها:
جعل الله لمن استقام على دينه فضائل عظيمة ومنازل كريمة، قال سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت:30 - 32].
(1)
تتنزل عليهم الملائكة:
مستفاداً من قوله تعالى (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ)، تتنزل بالبشرى من عند الله بالسرور والحبور في مواطن ثلاثة، قال وكيع:"البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث".
(2)
الطمأنينة والسكينة:
مستفاداً من قوله تعالى (أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا)، لا تخافوا مما أنتم مقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال، وقال عطاء:"لا تخافوا ردّ ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم".
(3)
البشرى بالجنة:
مستفاداً من قوله تعالى (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، ويا لها من منزلة عظيمة ونعمة جسيمة.
(4)
مغفرة الذنوب:
مستفاداً من قوله تعالى (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)، قال ابن كثير:"غفور لذنوبكم، رحيم بكم، حيث غفر وستر ورحم ولطف".
(5)
سعة الرزق وهناء العيش:
مستفاداً من قوله تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن:16]، الغدق: هو الكثير، وهو سعة الرزق. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(أينما كان الماء كان المال).
وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[الأعراف:96].
(6)
السعادة في الدنيا والآخرة:
فأهل الإيمان هم في نعيم في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.
[*](كما قال ذلك ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) [الانفطار:13].
نعيم في الدنيا؛ بما يجعله الله في قلوبهم من السرور وقرة العين، والفرح بالإسلام، وبالإيمان وبالقرآن، وفي البرزخ يفتح للمؤمن باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويصير عليه قبره روضة من رياض الجنة، وفي الآخرة في جنات النعيم، في نعيم مقيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
(7)
نعيم القلب:
أخي لو رأيت أهل الاستقامة بين ساجد لله وراكع، وذليل مخمول متواضع ، منكس الطرف من الخوف خاشع ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع ..
[*] (قال بعض السلف " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ".
وقد تمثلت في حياة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فقال " أنا جنتي وبستاني في صدري أنى رحت فهي معي ، إن قتلي شهادة وسجني خلوة وإخراجي من بلدي سياحة ".
(8)
التسليم:
فأهل الاستقامة مسلِّمين أمرهم لله تعالى يؤدون واجباتهم في الأرض ، ويتوكلون على الله في السماء، يستعلون على الدنايا ويتركون مصيرهم إلى الله ، يسعون للرزق بكل ما أوتوا من قوة ويتركون النتيجة لله. وينفقون مما أعطاهم الله ، ويتركون حساب الغد إلى الله ، ويسيرون مع الأقدار ، مؤمنين بأنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم ، ويحتملون الشدة ويصبرون على الضراء ، في سبيل الله ، ويرجون من الله الخير.
(9)
الرضا بالمقدور:
المستقيمون رسخ الإيمان بالقدر في نفوسهم فيعلمون أن ما قَدَّره الله عليهم فإنما هو لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها ، فيرضون تمام الرضا بالمقدور.
كان عروة بن الزبير رحمه الله في سفر فظهرت غرغرينة ثم ترقى به الوجع. وقدم على الوليد وهو في محمل ، فقال يا أبا عبد الله اقطعها ، قال دونك الطبيب. فقال اشرب المرقد – الخمر – فلم يفعل. فقطعها من نصف الساق ، فما زاد أن يقول: حس حس ، فقال الوليد ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا
…
وأصيب عروة بابنه محمد في ذلك السفر ، ركضته بغلة في اصطبل ، لم يسمع منه في ذلك كلمة.
فلما كان بوادي القرى قال: " لقد لقينا من سرنا هذا نصبا " اللهم كان لي بنون سبعة ، فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة ، وكان لي أطراف أربعة ، فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة ، ولئن ابتليت لقد عافيت ، ولئن أخذت لقد أبقيت.
(10)
سلامة الصدر:
ومن ثمرات الاستقامة على دين الله سلامة الصدر ، وعدم حمل الغل والبغضاء لعباد الله المؤمنين ، فهو يحب لهم ما يحب لنفسه.
وانظر إلى سلامة صدر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حيث قال عن المعتصم يوم فتح عمورية "هو في حل من ضربي" وقال:"كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً وقد جعلت أبا إسحاق في حل، ورأيت الله يقول: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم". وأمر النبي صلى اله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بالعفو في قصة مسطح. ثم قال:" وما ينفعك أن يعذب الله أخاك في سبيلك؟! ".
(11)
البصيرة في الدعوة إلى الله:
قال تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108]
والبصيرة هي: قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة. فمن استقام على دين الله رزق البصيرة في الدين والدعوة فصار يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان وعلم
(12)
القدرة على الحب الخالص:
نعم فالحب الخالص سمة بارزة وثمرة يانعة من ثمرات الاستقامة على دين الله "
وتأمل في الحديث الآتي:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ومن حبه للناس أنه يحب الخير لهم، ويدعوهم إلى الخير. إنه حين يأمر وينهى ويصنع ذلك لأنه يحب للناس الهدى ويحب الخير لهم، وهو كريم ذو مروءة تنفعل نفسه بآلام الناس فيسرع إلى نجدتهم.
(درجات الاستقامة:
الاستقامة على ثلاث درجات كما يلي:
(الدرجة الأولى (الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد):
الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد. لا عادياً رسم العلم، ولا متجاوزاً حد الإخلاص، ولا مخالفاً نهج السنة [منازل السائرين ـ ص 43]
هذه درجة تتضمن ستة أمور:
(1،2) عملاً واجتهاداً فيه، وهو بذل المجهود.
(3)
اقتصاداً، وهو السلوك بين طرفي الإفراط، وهو الجور على النفوس، والتفريط بالإضاعة.
(4)
وقوفاً مع ما يرسمه العلم لا وقوفاً مع داعي الحال.
(5)
إفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص.
(6)
ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة.
فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتهم. وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة: إما خروجاً كلياً، وإما خروجاً جزئياً.
والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيراً ـ وهما الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنة ـ فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة: أخرجه عن الاعتصام بها. وإن رأى فيه حرصاً على السنة، وشدة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة. والزيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه. حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج هذا الحد. فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.
(وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم. وقراءتهم مع قراءتهم. وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة. لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة. والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف، وكلاً من الإفراط والتفريط في السوءِ سواءا.
[*] (قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان.
وتأمل في الحديث الآتي ـ الذي يدعو إلى الاقتصاد في العمل ـ بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لكل عمل شِرَّة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك.
قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل، فكل الخير في اجتهاد باقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع.
وقوله صلى الله عليه وسلم (شِرَّة) الشرة: بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء أي حرصا على
الشيء ونشاطاً ورغبة في الخير أو الشر.
وقوله (لكل شرة فترة) الفترة بفتح الفاء وسكون التاء أي وهنا وضعفاً من الفتور،
والمقصود أن من سلك طريق التوسط والاعتدال نجا وأفلح لأنه يمكنه الدوام على ما ابتدأ من العمل، ومن غلا واشتد أولاً ثم فرط و أعرض أو أفرط فجاوز الحد الشرعي فقد هلك.
وهذا الحديث أصلٌ في الوسطية والاقتصاد في العمل من غير إفراطٍ ولا تفريط، والسنة طافحةٌ بالحث على ذلك منها ما يلي: (
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن هذا الدين متين) أي صلب شديد
(فأوغلوا) أي سيروا
(فيه برفق) من غير تكلف ولا تحملوا على أنفسكم ما لا تطيقونه فتعجزوا وتتركوا العمل والإيغال كما في النهاية السير الشديد والوغول الدخول في الشيء أهـ
والظاهر أن المراد في الحديث السير لا يفيد الشدة إذ لا يلائم السياق وقال الغزالي: أراد بهذا الحديث أن لا يكلف نفسه في أعماله الدينية ما يخالف العادة بل يكون بتلطف وتدريج فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبدل فإن الطبع نفور ولا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلا شيئاً فشيئاً حتى تنفصم تلك الصفات المذمومة الراسخة فيه ومن لم يراع التدريج وتوغل دفعة واحدة ترقى إلى حالة تشق عليه فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوباً عنده ممقوتاً وما كان مكروهاً عنده مشرباً هنيئاً لا ينفر عنه وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق وله نظير في العادات فإن الصبي يحمل على التعليم ابتداء قهراً فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم حتى إذا انفتحت بصيرته وأنس بالعلم انقلب الأمر فصار يشق عليه الصبر عن العلم. أهـ
قال بعض الصحابة: اقتصاد في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم.
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم، و كل غال مارق.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(صنفان من أمتي) أي نوعان
(إمام ظلوم) أي سلطان كثير الظلم للرعية
(وكل غال) في الدين
(مارق) منه.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيرُ الأعمال أدومها وإن قل.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألم أُخبر أنك تقوم الليل وتصومُ النهار؟ قال إني أفعلُ ذلك، قال فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونَفَهَتْ نفسك وإن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً فصم وأفطر وقم ونم.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال ما هذا؟ قالوا هذا حبلٌ لزينب فإذا فترت تعلقت، قال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) كانت عندي امرأةٌ من بني أسد فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذه؟ قلت فلانة لا تنام من الليل – تذكر من صلاتها - فقال مَهْ؟ عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل الله حتى تملوا.
{تنبيه} :مَهْ كلمة نهي وزجر بمعنى ما هذا؟
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يُدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر و لن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شيء من الدلجة.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر أبداً، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
(حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً.
{تنبيه} :المتنطعون المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد.
(حديث ابن عباس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الحنيفية السمحة) أي الشريعة المائلة عن كل دين باطل
قال ابن القيم: جمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة فهي حنيفة في التوحيد سمحة في العمل وضد الأمرين الشرك وتحريم الحلال وهما قربتان وهما اللذان عابهما اللّه في كتابه على المشركين في سورة الأنعام والأعراف.
(حديث حنظلة بن الربيع الأُسيدي الثابت في صحيح مسلم) قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات.
وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة. والفتور والتواني يخرجه عنها أيضاً.
(الدرجة الثانية (استقامة الأحوال):
استقامة الأحوال، وهي شهود الحقيقة لا كسباً، ورفض الدعوى لا علماً، والبقاء مع نور اليقظة لا تحفظاً [منازل السائرين – ص 43]
يعني أن استقامة الحال بهذه الثلاثة.
أما "شهود الحقيقة" فالحقيقة حقيقتان: حقيقة كونية، وحقيقة دينية، يجمعهما حقيقة ثالثة، وهي مصدرهما ومنشؤهما، وغايتهما، وأكثر أرباب السلوك من المتأخرين: إنما يريدون بالحقيقة الحقيقة الكونية، وشهودها هو شهود تفرد الرب بالفعل، وأن ما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله، فهو كالحفير الذي محل لجريان الماء حسب.
وعندهم أن شهود هذه الحقيقة والفناء فيها غاية السالكين.
ومنهم: من يشهد حقيقة الأزلية والدوام، وفناء الحادثات وطَيَّهَا في ضمن بساط الأزلية والأبدية، وتلاشيها في ذلك، فيشهدها معدومة، ويشهد تفرد موجدها بالوجود الحق بالحق، وأن وجود ما سواه رسوم وظلال.
فالأول: شهد تفرده بالأفعال، وهذا شهد تفرده بالوجود.
وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر، فإنه في مشهد الأمر والنهي، والثواب والعقاب، والمولاة والمعاداة، والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه، فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام ـ فضلا عن مقام الإحسان ـ إلا به.
فالمعرض عنه صفحاً لا نصيب له في الإسلام البتة، وهو كالذي كان الجنيد يوصي به أصحابه، فيقول:"عليكم بالفرق الثاني" وإنما سُمِّي ثانيا، لأن الفرق الأول: فرق بالطبع والنفس، وهذا فرق بالأمر.
والجمع أيضاً جمعان: جمع في فرق، وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد، وجمع بلا فرق، وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد.
فالناس ثلاثة: صاحب فرق بلا جمع، فهو مذموم ناقص مخذول.
وصاحب جمع بلا فرق، وهو جمع أهل الزندقة، والإلحاد، فصاحبه ملحد زنديق.
وصاحب فرق وجمع، يشهد الفرق في الجمع، والكثرة في الوحدة، فهو المستقيم الموحد الفارق. وهذا صاحب الحقيقة الثالثة، الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية. فشهود هذه الحقيقة الجامعة: هو عين الاستقامة.
وأما شهود الحقيقة الكونية، أو الأزلية، والفناء فيها: فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار، فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه، وأزليته وأبديته، فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه: فقد شهد الحقيقة.
وأما قوله "لا كسبا" أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة: أن شهودها لم يكن بالكسب، لأن الكسب من أعمال النفس، فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس، إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية، فلا بد من زوال ظلمة النفس، ورؤية كسبها، وإلا لم يشهد الحقيقة.
وأما "رفض الدعوى لا علماً" ف "الدعوى" نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنِّيَّتُك، فالاستقامة لا تصح إلا بتركها، سواء كانت حقاً أو باطلاً. فإن الدعوى الصادقة تطفئ نور المعرفة، فكيف بالكاذبة؟
وأما قوله "لا علماً" أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى، ومنافاتها للاستقامة. فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها. فيكون تاركاً لها ظاهراً لا حقيقة، أو تاركها لها لفظاً، قائماً بها حالاً، لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها، فيتركها تواضعاً، بل يتركها حالاً وحقيقة كما يترك من أحب شيئاً تضره محبته حبه حالاً وحقيقة، وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء كما قال الله عز وجل لخير خلقه على الإطلاق:(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ)[آل عمران: 128] ترك الدعوى شهوداً وحقيقة وحالاً.
وأما "البقاء مع نور اليقظة" فهو الدوام في اليقظة، وأن لا يطفئ نورها بظلمة الغفلة بل يستديم يقظته، ويرى أنه في ذلك المُنشغلُ بالله المأخوذ عن نفسه، حفظاً من الله له، لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه.
فهذه ثلاثة أمور: يقظة، واستدامة لها، وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك. فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه. بل بحفظ الله له.
وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب، وإنما هو مجرد موهبة من الله. فإنه قال في الأولى "الاستقامة على الاجتهاد" وفي الثانية "استقامة الأحوال، لا كسباً ولا تحفظاً".
ومنازعته في ذلك متوجهة. وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسباً يتعاطى الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام.
نعم الذي ينفى في هذا المقام: شهود الكسب، وأن هذا حصل له بكسبه. فنفي الكسب شيء ونفي شهوده شيء آخر.
الدرجة الثالثة (استقامة بترك رؤية الاستقامة):
استقامة بترك رؤية الاستقامة، وبالغيبة عن تطلب الاستقامة بشهود إقامة وتقويمه الحق.
هذه الاستقامة معناها: الذهول بمشهوده عن شهوده، فيغيب بالمشهود المقصود سبحانه عن رؤية استقامته في طلبه، فإن رؤية الاستقامة تحجبه عن حقيقة الشهود.
وأما "الغيبة عن تطلب الاستقامة" فهو غيبته عن طلبها بشهود إقامة الحق للعبد، وتقويمه إياه، فإنه إذا شهد أن الله هو المقيم له والمقوم، وأن استقامته وقيامه بالله، لا بنفسه ولا بطلبه: غاب بهذا الشهود عن استشعار طلبه لها.
وهذا القدر من موجبات شهود معنى اسمه "القيوم" وهو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد، وقام كل شيء به. فكل ما سواه محتاج إليه بالذات، وليست حاجته إليه معللة بحدوث. كما يقول المتكلمون. ولا بإمكان، كما يقول الفلاسفة المشاءون، بل حاجته إليه ذاتية، وما بالذات لا يعلل.
نعم الحدوث والإمكان دليلان على الحاجة، فالتعليل بهما من باب التعريف. لا من باب العلل المؤثرة. والله أعلم.
(متعلقات الاستقامة:
الاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات، فالاستقامة فيها، وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله.
[*] (قال بعض أهل العلم: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالب بالاستقامة.
والاستقامة للحال بمنزلة الروح من البدن، فكما أن البدن إن خلا عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضاً ونورها وذكاؤها بها، فلا ذكاء للعمل ولا صحة بدونها.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "من هُدِيَ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هُدِيَ هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته دار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط، ولينظر العبد الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم؛ فإنها الكلاليب التي بجنتي ذاك الصراط تخطه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا، وقويت فكذلك هي هناك:} وما ربك بظلام للعبيد.
(أقسام الاستقامة:
إن الاستقامة تشمل الدين كله، ودونك أقسامها:
(القسم الأول) استقامة السرائر:
(القسم الثاني) الاستقامة في الأصول:
(القسم الثالث) الاستقامة في العبادات:
(القسم الرابع) الاستقامة في اجتناب المعاصي:
(القسم الخامس) الاستقامة في العادات:
(القسم السادس) الاستقامة في المعاملات:
(القسم السابع) الاستقامة في تزكية النفوس:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(القسم الأول) استقامة السرائر:
يتعلق باستقامة الأعمال الباطنة كالنية والإخلاص والتزام التقوى ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والتوبة إلى الله عز وجل واليقين به والرضا بما قدر والصبر على البلاء وااشكر عند الرخاء والتوكل على الله والقناعة والزهد والخوف والرجاء.
(القسم الثاني) الاستقامة في الأصول:
يضم الاستقامة فيما يتخذ المؤمن من منهاج ودليل عمل يستند إلى المعرفة بالله تعالى. فعلى المؤمن أن يعتبر القرآن مصدره الأول ثم سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك يأتي الاجتهاد ولزوم الجماعة وعدم إطاعة مخلوق في معصية الله تعالى وأن لا يكون إمعة ويجتنب البدع وسبل المشركين والمنافقين. وعلى المؤمن أن ييسر ولا يعسر وأن يتقن عمله ويستغل أوقاته ويتسامح مع من خالفه فيما اختلف فيه الفقهاء وأهل العلم ويستخير ربه في أمور دنياه وآخرته.
(القسم الثالث) الاستقامة في العبادات:
هو باب العبادات والتي تأتي في مقدمتها الصلاة والصيام والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا، وليست العبادات تلك فحسب، فالطهارة عبادة وتلاوة القرآن عبادة وطلب العلم عبادة، وكذلك الذكر والدعاء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والتفكر في خلق الله والشكر على نعمائه .. كل هذه من العبادات.
(القسم الرابع) الاستقامة في اجتناب المعاصي:
ويتضمن اجتناب المعاصي التي نهى عنها الله ورسوله وأسس تحديد الإثم. فالكبائر التي حرم الله تعالى كعقوق الوالدين وقطع الأرحام وأكل مال اليتيم وقتل النفس التي حرم الله والخمر والميسر والزنا وقول الزور والسحر وقذف المحصنات والتخنث ولبس الذهب والحرير للرجال وتشبه النساء بالرجال وتركهن الحجاب والخيانة والكذب والظلم والغش واللعن والاحتكار.
(القسم الخامس) الاستقامة في العادات:
ويتضمن مكارم الأخلاق من صدق وحسن خلق وحياء وحفظ اللسان وتواضع وغض للبصر وسخاء ورحمة لعباد الله وترك الجدال وما لا يعني.
(القسم السادس) الاستقامة في المعاملات:
ويتضمن أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وحب الصالحين وبذل النصح والعدل بالحكم والإحسان إلى الجار وذوي الأرحام والرفق في كل شيء وخاصة للمرء مع أهل بيته وطاعة المرأة لزوجها ورعايتها لولدها وأداء الأمانات والإيفاء بالوعود.
(القسم السابع) الاستقامة في تزكية النفوس: