المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة التفكر:

ويتضمن تزكية النفوس، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. فاجتناب التكبر والرياء ومحاسبة النفس وترك الحسد وسوء الظن وذكر الموت.

‌(فصلٌ في منزلة التفكر:

[*] (عناصر الفصل:

(تعريف التفكر:

(أقسام التفكر:

(فضل التفكر:

(صورٌ مشرقة من تفكر الصحابة رضي الله عنهم:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:

(تعريف التفكر:

- التفكر لغة: مأخوذ من مادة- ف ك ر -التي تدل كما يقول ابن فارس رحمه الله من علماء اللغة: على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبراً، ولفظ التفكر مصدر، وفكر مصدرها التفكير، والفكر هو التأمل وإعمال الخاطر في الشيء، فالتفكر هو تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب ..

- أما التفكر شرعا:

[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة:

قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)[يونس: 101]

إخواني ليس المراد بالنظر إلى ما في السموات والأرض ملاحظته بالبصر وإنما هو التفكر في قدرة الصانع.

[*] (وأورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن أم الدرداء رضي الله عنها أنها قالت تفكر لحظة خير من قيام ليلة وقيل لها ما كان أفضل عمل أبي الدرداء قالت التفكر، وقال ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة، وقال الحسن ما زال أهل العلم يعودون بالتفكر على التذكر وبالتذكر على التفكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالحكمة وضربت الأمثال، فأورثت العلم وقال الفكر مرآة تُريك حسناتك وسيئاتك وقال من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو.

(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

وجاء في تفسير قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ)[الأعراف: 146]

قال أمنع قلوبهم من التفكر في أمري وكان لقمان يجلس وحده ويقول طول الوحدة أفهم للتفكر وطول التفكر دليل على طريق الجنة، وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرىءٍ قط إلا علم ولا علم إلا عمل، وبينما أبو شريح العابد يمشي جلس فتقنع بكسائه وجعل يبكي فقيل له ما يبكيك قال تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي، وبينا داود الطائي في سطح داره في ليلة قمراء تفكر في ملكوت السموات والأرض فوقع إلى سطح جاره فلما أفاق قال ما علمت بذلك.

ص: 110

[*] (ووضع الإمام ابن القيم رحمه الله قاعدة جليلة في التفكر: أصل الخير والشر من قبل التفكر فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض وأنفع الفكر ما يلي:

(1)

الفكر في مصالح المعاد.

(2)

وطرق اجتلابها.

(3)

وفي دفع مفاسد المعاد .. ،

(4)

وفي طرق اجتنابها .. ،فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار ويليها أربعة هي ما يلي:

(1)

فكر في مصالح الدنيا ..

(2)

وطرق تحصيلها ..

(3)

وفكر في مفاسد الدنيا ..

(4)

وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.

قال: ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها يثمر له ذلك الرغبة في الآخر ة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التفكر في كتابه مقروناً بذكر الأمثال والنعم و المخلوقات وكذلك ما نراه في هذا الكون من قدرته عز وجل وهذه بعض الآيات التي فيها الأمر بالتفكر أو مدح المتفكرين أو أنه خلق أشياء للمتفكرين ..

(قال تعالى: (أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الَايَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ)[البقرة: 266] فهذا الرجل قلبه متعلق بالبستان من حيث:

(1)

أنه جنة وليس مزرعة صغيرة.

(2)

أن فيها أشجار متنوعة .. نخيل وأعناب.

(3)

أن فيها أشجار نفيسة وأعلاها قيمة وقدراً .. النخيل والأعناب.

(4)

أن الماء الذي في هذه الجنة لا يستخرج من الآبار بالمجهود الكبير بل إن هناك أنهار تجري في هذه الجنة.

(5)

أصابه الكبر .. والإنسان إذا أصابه الكبر يحتاج إلى شيء يعود إليه بالمال دون أن يتعب فيه كثيراً.

(6)

له ذرية ضعفاء صغار مرضى فهو يخشى أن يموت والأولاد أين مصدر رزقهم .. لا يوجد إلا هذه الجنة.

ص: 111

فدرجة تعلقه بهذه الجنة كبير جداً، فكيف يكون شعوره وخيبة أمله والإحباط إذ أصابها إعصار فيه نار فاحترقت .. ؟ .. كبير جداً .. ، فكر لماذا ضرب المثل ولأي شيء ساق هذا المثل .. ؟

إنه مثل ضربه الله للذي يعمل أعمالاً كثيرة .. صدقات وغيرها ولكنه يرائي .. ، يوم القيامة يأتي في غمرة الأهوال وهو محتاج إلى كل حسنة فيرى أعماله التي عملها في الدنيا وأمامه النار من تلقاء وجهه والشمس دانية من رأسه وفي العرق والصراط مضروب على جهنم ولا ينجو إلا بعمل صالح فجعل الله أعماله كلها هباءً منثوراً في وقت هو أحوج ما يكون إلى الحسنات فكيف يكون إحباطه وذله وخيبة أمله في ذلك الوقت .. ، ما الذي ينشئ الانقياد والسعي للإخلاص في العمل؟ التفكر في مثل هذه الآيات ..

قال تعالى: (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لَايَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ * رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[آل عمران 190: 192]

(قال تعالى: (إِنّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالأنْعَامُ حَتّىَ إِذَآ أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُهَآ أَنّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الَايَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ)[يونس: 24]

(قال تعالى: (اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى يُدَبّرُ الأمْرَ يُفَصّلُ الَايَاتِ لَعَلّكُمْ بِلِقَآءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرعد: 2]

ص: 112

(قال تعالى: (هُوَ الّذِي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ فِي ذَلِكَ لَايَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ * وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالْنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنّجُومُ مُسَخّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لَايَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَايَةً لّقَوْمٍ يَذّكّرُونَ * وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل 10: 14]

(قال تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ)[النحل: 44]

يتفكرون في القرآن والتبيان السنة، فيتفكرون في القرآن والسنة.

(قال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ مّا خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمّى وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ * قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[الروم: 9]

فالحاصل أن التفكر في النفوس والتفكر في مصائر الأقوام البائدة مجال آخر للتفكر.

(قال تعالى: (لَا يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ)[الحشر 20: 21].

ص: 113

فليتفكر الإنسان في هذا القرآن وقوته لو أنزل على جبل لَنْهَدّ فماذا ينبغي أن يكون أثره على نفسه؟

وكان النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى في التفكر وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

لما قام من الليل ينظر في السماء ويقرأ، فقراءة الآيات من سورة آل عمران في الليل سنة قبل صلاة الليل، وهذه من السنن المهجورة

(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد، فنظر إلى السماء فقال:{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} . ثم قام فتوضأ واستن، فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح.

(وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب المعرفة لأنه إذا اجتمع في القلب اجتمعت المعلومات الأساسية وازدوجت على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى، فالمعرفة نتاج المعرفة، فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل نتاج آخر! .. فالعلماء من أين أنتجوا انتاجهم وأحاكم الفقه والأحكام المستنبطة والتفسير .. ؟ جزء كبير خرج من التأمل في آيات الله والتأمل في الأحداث والوقائع .. !

(الأمور المشكلة والمستعصيات كيف حُلّت .. ؟!

أبو حنيفة قالوا له هذا شخص وهذا أخوه عقدنا لهما على أختين لما صارت الدخلة بالخطأ دخل الأخ الأول على زوجة الثاني ودخل الأخ الثاني على زوجة الأول و وطئها تلك الليلة و لم يكتشفوا ذلك إلا في الصباح، الحل يحتاج لتفكر وتدبر، تعال يا فلان هل أعجبتك المرأة التي دخلت بها؟ رضيت بها؟ نعم، وأنت يافلان؟ نعم، يا فلان طلق فلانة التي عقدت عليها ويا فلان طلق فلانة ثم عقد لكل منهم على الأخرى!

(والجمع بين النصوص كيف حُلّت .. ؟!

كيف نجمع بين قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ)[الزمر: 7] وبين قوله صلى الله عليه وسلم (الميت يعذب ببكاء أهله عليه)(بما نيح عليه) .. ؟!!

فيفكر العلماء .. يقولون هذا خاص بالكافر مثلاً .. هذا إذا كان راضياً بالنياحة و هو يعلم بما يفعلون بالعادة و لم ينههم قبل موته .. وهكذا ..

ص: 114

(من وسائل زيادة الإيمان التفكر في آيات الله في الكون .. في الآفاق .. في النفس .. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ مّا خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمّى وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ)[الروم: 8] ..

فيما خلق الله .. ، فهذه الميادين في التفكر مهم جداً للإنسان المسلم والتفكر رأس المال وينتج بضاعة عظيمة جداً ..

(فالثمرة الخاصة للتفكر هي العلم .. وإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب .. وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح .. ، فالعلم تابع للفكر فالفكر هو المبدأ ينتج علماً والعلم ينتج حال في القلب من الخشية والإحساس بالتقصير في حق الله والرغبة والجد .. ينتجها العلم فيؤدي إلى زيادة أعمال الجوارح لأن القلب يأمر الجوارح بالعمل .. ، فيصلح الإنسان ويعلو شأنه ويتحسن حاله من نتيجة التفكر ..

(ومحبة الله تحصل من التفكر في النعم .. لأن النفس مجبولة على محبة من أحسن إليها .. وكذلك فإن التفكر وسيلة لفهم الشريعة ووسيلة للفقه في الدين (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .. وهكذا تحصل البصيرة بالتفكر ..

مسألة: ما هو التفكر في النفس .. ؟

الجواب: أن التفكر في النفس يشمل أن يتفكر في خلق الله كيف خلق نفس الإنسان وجسده، والتفكر في النفس أيضاً يشمل التفكر في عيوبها وهذا مهم جداًً ولا يمكن عمل تقويم وتصحيح وتعديل وتحسين إلا بعد التفكر، وإذا كان فكره صحيحاً عرف العيوب واكتشف الأخطاء وبالتالي يمتنع عن الوقوع فيما وقع فيه سابقاً من الأخطاء ويجتهد في تحصيل ما يستر به عيوب نفسه .. غضب شديد .. حاد الطبع .. عجول .. متهور .. عصبي .. جبان .. خواف .. ظلوم .. معتدي .. باغي .. متعدي .. يفري بلسانه في أعراض الخلق .. وهكذا .. ، كذلك يفكر في حال عائلته وأسرته وأولاده كيف يحسن من أحوالهم ما هي الثغرات فيه؟

لو أردنا أن نصلح أحوال المسلمين .. المصلحين الكبار والمجددين الذين مروا على العالم الإسلامي ماذا فعلوا؟ .. بالتأكيد أول ما فعلوا هو النظر في حال المسلمين .. ماذا ينقصهم؟ أين الخلل؟ ما هي الثغرات؟ .. ثم شمروا في تحصيل أسباب القوة والارتقاء بحال المسلمين و سد الثغرات .. جهل .. شرك .. معاصي ..

ص: 115

(ومن التفكر .. التفكر في خلق الله تعالى .. فإن فيه من العجائب والغرائب الدالة على حكمة الله وقدرته وجلاله شيء يهون الناظرين والمتفكرين والموجودات منقسمة إلى أشياء معروفة و غير معروفة .. ، ومجال العلم التجريبي والدنيوي أن يكتشف الأشياء غير المعروفة وهي موجودة مما خلق الله عز وجل: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 8] ..

وقال تعالى: (سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لَا يَعْلَمُونَ)[يس: 36]

و قال تعالى: (عَلَىَ أَن نّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الواقعة: 61] ..

(والتفكر في مخلوقات الله قد أمر الله به وأنه سبحانه وتعالى مدح عباده قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران190:191]

وأمر في التفكر وحث عليه قال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ)[الروم: 9]

مسألة: لماذا يتفكرون في خلق السموات والأرض .. ؟

[*] قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:

" ليستدلوا بها على المقصود منها ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين فإذا تفكروا عرفوا أن الله لم يخلقها عبثاً فيقولون {ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك} يعني نزهناك عن كل ما لا يليق بك"، بعض الناس تفكره فقط إلى حد إتقان الصنعة وأنها صنعة جميلة لكن المقصود الأعظم ليس فقط التعجب من دقة الصنع بل لشيء وراء ذلك ..

(وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على التفكر في آلاء الله كما في الحديث الآتي:

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(تفكروا في آلاء اللّه) أي أنعمه التي أنعم بها عليكم قال القاضي: والتفكر فيها أفضل العبادات

ص: 116

(ولا تفكروا في اللّه) فإن العقول تحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلاله كبصر الخفاش بالإضافة إلى الشمس فلا يطيقه البتة نهاراً ويتردد ليلاً لينظر في بقية نور الشمس فحال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس فإنه يقدر على نظرها ولا يطيق دوامه فإنه يفرق البصر ويورث الدهش فكذا النظر إلى ذات اللّه يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذاته وصفاته لأن أكثر العقول لا

(تنبيه) قال الراغب: نبه بهذا الخبر على أن غاية معرفة الإنسان ربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة ويعرف أثر الصنعة فيها وأنها محدثة وأن محدثها ليس إياها ولا مثلاً لها بل هو الذي يصح ارتفاع كلها بعد بقائه ولا يصح بقاؤها وارتفاعه ولما كان معرفة العالم كله يصعب على المكلف لقصور الأفهام عن بعضها واشتغال البعض بالضروريات جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالماً صغيراً أوجد فيه مثال كل ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر عن كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها حضراً وسفراً وليلاً ونهاراً فإن نشط وتفرغ للتوسع في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم فيطلع منه على الملكوت ليقرر علمه وإلا فله مقنع بالمختصر {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} أهـ.

وقد أمرك الله في التدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال: قال تعالى: (وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21]

وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة قال تعالى: (قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ * ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ)[عبس 17: 20]

و قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ)[الروم: 20]

و قال تعالى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ * ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ)[القيامة 37: 39]،

و قال تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * إِلَىَ قَدَرٍ مّعْلُومٍ)[المرسلات 20: 22]

ص: 117

و قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ)[يس: 77] و قال تعالى: (إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)[الإنسان: 2] ثم ذكر كيف جعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً كما قال سبحانه: و قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مّن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[المؤمنون 12: 14]

فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليُسمَع لفظه ويترك التفكر في معناه .. !

انظر إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة لو تُرِكت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب؟ و كيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم؟ وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق و جمعه في الرحم ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وربا و كيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء المضغة و هي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدوّر الرأس وشقّ السمع والبصر و الأنف والفم وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص، ومقدار مخصوص، لعمل مخصوص، ثم كيف قسم كل عضو من الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار وهكذا ..

ص: 118

فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة ثم جعلها قواماً للبدن وعماداً له ثم قدرها بمقادير مختلفة و أشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل مستدير و مجوف ومصمت وعريض ودقيق ولما كان الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه لم يجعل عظمه عظماً واحداً بل عظاماً كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الأخرى حفراً غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها و تنطبق عليها فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعطل عليه ذلك ..

فتلك النعمة العظيمة (على كل سلام من أحدكم صدقة) ثلاث مائة وستون مفصل تجزيء عنها ركعتي الضحى> .. فلننظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها وقد ركبها من خمسٍ وخمسين عظم مختلفة الأشكال والصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس كما ترى، وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها فإن هذا علم قليل يعرفه الأطباء والمشرحون إنما الغرض أن ينظر في مدبرها وخالقها كيف قدرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحداً لكان وبالاً على الإنسان يحتاج إلى قلعه ولو نقص منها واحداً لكان نقصاناً يحتاج إلى جبره، فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها، وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا على جلالة خالقها ومصورها فشتّان بين النظرين .. ، وكذلك التفكر في أمر هذه الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين و عددها ومنابتها وانشعابها فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه، فترى به من العجائب والصنعة ما يقضى به العجب وكل ذلك صنعه الله في قطرة ماء قذرة، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السموات وكواكبه؟ وما حكمته في أوضاعها و أشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها .. ؟

(فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السموات تنفك عن حكمة بل هي أحكم خلقاً وأتقن صنعاً:

قال تعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا)[النازعات: 27]

ص: 119

و قال تعالى: (لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[غافر: 57]،

فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وما صارت إليه ثانياً وتأمل أنه لو اجتمعت الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً أو يخلقوا فيها عظماً أو عرقاً أو عصباً أو جلداً أو شعراً .. هل يقدرون على ذلك؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته لربما عجزوا عن بعضه! < والذي يعملونه في الاستنساخ هو تلاعب بخلق الله قال تعالى: (وَلأَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً)[النساء: 119]

ص: 120

وحتى الذبابة فلا يستطيعون أن يخلقوها من عدم فصارت قمة تطورهم الطبي التلاعب في الخلق، وزرع بويضة ملقحة لإنسان في قرد أو كلب و زرع بويضة ملقحة لكلب في رحم امرأة .. هذه هي التجارب الطبية! فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصوّر على حائط، تأنّق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان وقال الناظر إليها كأنه إنسان، تعجبت من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم في قلبك محله مع أنك تعرف أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد وأن كل ما فعله أنه جعل الصبغ على هذا الحائط على ترتيب مخصوص وأنت تستعجب من النقاش والرسام فكيف بالذي جعل من النطفة القذرة التي كانت معدومة فخلقها في الأصلاب والترائب وأخرج منها هذا الشكل الحسن وقدرها فأحسن تقديرها وصورها فأحسن تصويرها ورتب عروقها وأعصابها وجعل لها مجاري لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعل البطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس جامعاً للحواس وهكذا جعل في الأذنين وجعل في الأنف حاسة الشم ليستدل صاحبه باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته و يميز الطيب من الخبيث .. ، وهكذا إذا تأملت في الشفتين و حسن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسد منفذه و ليتم بها حروف الكلام وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت وخرج اللسان قدرة للحركات والتقطيعات لتتقطع الأصوات في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق لكثرتها، ثم خرج الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر حتى اختلفت بسببه الأصوات فلا يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقاً حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة .. إلى غير ذلك من الآلاء والنعم ..

(ثم تفكر في ما يحدث في خلق الجنين في الرحم في ظلمات ثلاث .. ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد البصر لرأيت التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئاً فشيئاً ولا ترى المصوّر و لا آلته فهل رأيت مصوراً أو فاعلاً لا ترى آلته ومع ذلك يتشكل خلقه سبحانه وتعالى ..

ص: 121

ثم من تمام رحمته أنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكّس و انقلب وتهيأ للخروج وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه، ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي، ثملما كان بدنه سخيفاً لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في اللبن اللطيف المستخرج بين الفرث والدم شيئاً سائغا خالصاً، وكيف خلق الثديين وجعل فيهما اللبن و أنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي .. قدر الحلمة على قدر فتحة الفم في الصبي ثم فتح في حلمة الثدي ثقباً ضيقاً جداً حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجاً فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل ثم كيف هداه إلى الامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع، ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخّر خلق الأسنان إلى تمام الحولين، لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف، و يحتاج إلى طعام غليظ ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن فأنبت له الأسنان في وقت الحاجة .. فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة في تلك اللثاة اللينة ثم حنن قلوب الوالدين عليها للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزاً عن تدبير نفسه .. ، فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه، ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجاً .. حتى يتكامل فيصير مراهقاً ثم شاباً ثم شيخاً إما شاكراً أو كفوراً.

قال تعالى: (هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً * إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً)[الإنسان 1: 3]

ص: 122

(فتأمل وتفكر في عظمة الرب سبحانه وتعالى وهذا في شيء واحد من مخلوقاته وهو الإنسان وفي الإنسان أشياء كثيرة أخرى وكثير منها غير معلوم للآن فما بالك فيما جعل في الأرض في أكنافها وأنهارها وجبالها وهيأ السكن للساكن و جعل الأرض فراشاً وكيف جعلها كفاتاً وأنه أرساها بالجبال الرواسي وأودع فيها المياه وفجر العيون وأسال الأنهار و جعل خزانات جوفية {و ما أنتم له بخازنين}، وهكذا ترى في البوادي والأزهار والثمار والمعادن والجواهر وانقسامها إلى خسيس و ثمين وهكذا جعل منها ما يصنعه الإنسان من حاجته وحتى الحلي والنفط والكبريت و القار وحتى الملح الذي يحتاجه لتطييب طعامه و ما في هذه الحيوانات من الأمور العظيمة والتناسب الدقيق الهندسي فترى العنكبوت يبني بيته على طرف نهر فيطلب أولاً موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونها حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يبتديء ويلقي اللعاب الذي هو خيطه على جانب ليلتصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانياً وثالثاً ويجعل بعد ما بينهما متناسباً تناسباً هندسياً حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسدى اشتغل باللُحمة (الكسوة)، فيضع اللحمة على السدى ويضيف بعضه إلى بعض ويحكم العقد على مواضع التقاء اللحمة بالسدى و يراعي في جمع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البقّ والذباب و يقعد في زاوية مترصداً لوقوع الصيد في الشبكة فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفي الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقي منكساً في الهوا ء ينتظر ذبابة تطير، فإذا طارت رمى بنفسه إليها فأخذه ولفّ خيطه على رجليه وأحكمه ثم أكله وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى .. ، أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه؟ أو تكون من نفسه؟ أو علمه آدمي؟

فإذاً البصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ما تتحير فيه الألباب والعقول فضلاً عن سائر الحيوانات، وإذا رأيت حيواناً غريباً ولو دوداً تجدد التعجب .. وقال سبحان الله .. !

والإنسان أعجب من الحيوانات .. ومع ذلك إذا رأى حيواناً عجيباً تعجب وليس يتعجب من نفسه .. !

وهكذا ما خلقه الله في البحار وما يكون في قيعانها وفي السحاب وما يجتمع فيها من المطر وكيف ينزل وفي ملكوت السموات والأرض .. ،

ص: 123

(والتفكر في أمور الآخرة من الأمور المهمة جداً، وحيث أننا ما رأينا الآخرة ولا عشنا فيها ولا عندنا الآن من ثمار الجنة شيء ولا سلاسل النار شيء، لكن عندنا من النصوص الشرعية ما يصف لنا بدقة بالغة كيف سيكون الحال يوم القيامة وهذه الأوصاف والتفاصيل من رحمة الله حتى نجد شيء نتفكر فيه، فلذلك كلما ازداد علمك بتفاصيل ما في اليوم الآخر كلما ازدادت حركة القلب في التفكر في هذه التفاصيل، ولذلك لما سأل ابن المبارك ذاك لما رآه يتفكر قال له أين بلغت؟ قال: الصراط .. ، التفكر كان يأخذ وقت طويل جداً عند العلماء والأولياء بل كانوا يقدمون التفكر على صلاة الليل ..

[*] قال يوسف بن أسباط:

قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة- الإناء الذي يتوضأ به- فناولته، فأخذها بيمينه ووضع يساره على يده فبقي مفكراً ونمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي .. فقلت هذا الفجر قد طلع .. فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الساعة ..

لماذا ذكر الله أشراط الساعة .. ؟

لتكون مجالاً للتفكر .. لا بد أن تشغلنا هذه القضايا دائماً و هذا من الخلل الموجود فينا أننا لا نتأمل .. المشكلة أن مجالات التفكر اليوم يا في الحرام والعشق والحب والغرام أو في الدنيا فقط .. طغت الحياة الدنيا على الناس .. فصار التفكير نادر في القضايا المهمة التي عليها مدار السعادة ..

[*] وجاء عن سفيان الثوري:

أنهم كانوا جلوساً في مجلس فانطفأ السراج فعمّت الظلمة الغرفة فبعد ذلك أشعلوه فوجدوا سفيان رحمه الله دموعه انهمرت كثيراً فقالوا مالك؟ قال: تذكرت القبر ..

فنظراً لأن قلوبهم حية ممكن أي مشهد أوحدث يصير في الواقع يربطه مباشرة بالآخرة والقبر ..

[*] وأحد السلف كان على تنور فرن خباز فوقف ينظر في النار التي في التنور .. ثم جعلت دموعه تنهمر فبكى بكاء حاراً .. فقيل له مالك؟ قال: "ذكرت النار" ..

[*] قال ابن عباس:" ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب" ..

[*] قال عمر بن عبد العزيز:" الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادات" ..

[*] وبكى عمر يوماً فسئل عن ذلك فقال:" فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادّّكر" ..

فمن رحمة الله أنه جعل لذات الدنيا مهما عظُمت فيها تنغيص وتكدير حتى لا يستسلم العباد إليها ومع ذلك يستسلمون إليها!

ص: 124

[*] وسأل عبد الله بن عتبة أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: "التفكر والاعتبار" ..

نور الإيمان التفكر .. أفضل العمل الورع والتفكر .. تفكر ساعة خير من قيام ليلة ..

[*] كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: " اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه" ..

[*] وعن محمد بن كعب القرظي: " لئن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بإذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلي من أن أهذ القرآن ليلتي هذّاً أو أنثره نثراً" ..

[*] قال وهب: " ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم وما علم امرئ قط إلا عمل" ..

[*] قال فضيل: " الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك" ..

عودوا قلوبكم البكاء وقلوبكم التفكر ..

ولله درُّ من قال:

إني رأيت عواقب الدنيا

فتركت ما أهوى لما أخشى

فكرت في الدنيا وعالمها

فإذا جميع أمورها تفنى

وبلوت أكثر أهلها فإذا

كلُ امرئٍ في شأنه يسعى

أسمى منازلها وأرفعها

في العز أقربها من المهوى

تعفو مساويها محاسنها

لا فرق بين النعي والبشرى

وقد مررت على القبور

فما ميزت بين العبد والمولى

أتراك تدري كم رأيت

من الأحياء ثم رأيتهم موتى؟

فالإنسان عليه أن يديم التفكر ويطيله لأنه يوصل إلى مرضاة الله وانشراح الصدر وسكينة القلب ويورث الخوف و الخشية من الله ويورث العلم والحكمة والبصيرة ويحيي القلوب و يصير هناك اعتبار واتعاظ من سير السابقين .. هذا التفكر .. العمل القلبي العظيم .. نسأل الله أن يجعلنا من الذين يتفكرون ومن الذين يعقلون ومن الذين يتدبرون ..

(أقسام التفكر:

[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة:

واعلم أن التفكر ينقسم إلى قسمين أحدهما يتعلق بالعبد والثاني بالمعبود جل جلاله.

(فأما المتعلق بالعبد فينبغي أن يتفكر هل هو على معصية أم لا فإن رأى زلة تداركها بالتوبة والاستغفار ثم يتفكر في نقل الأعضاء من المعاصي إلى الطاعات فيجعل شغل العين العبرة وشغل اللسان الذكر وكذلك سائر الأعضاء ثم يتفكر في الطاعات ليقوم بواجبها ويجبر واهنها ثم يتفكر في مبادرة الأوقات بالنوافل طلباً للأرباح ويتفكر في قصر العمر فينتبه حذراً أن يقول غداً يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ثم يتفكر في خصال باطنة فيقمع الخصال المذمومة كالكبر والعجب والبخل والحسد ويتولى الخصال المحمودة كالصدق والإخلاص والصبر والخوف وفي الجملة يتفكر في زوال الدنيا فيرفضها وفي بقاء الآخرة فيعمرها.

ص: 125

[*] (وأورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن النضر بن المنذر أنه قال لإخوانه «زوروا الآخرة في كل يوم بقلوبكم، وشاهدوا الموت بتوهمكم، وتوسدوا القبور بفكركم، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة فمختار لنفسه ما أحب من المنافع والضرر، أيام حياته»

(وأما المتعلق بالمعبود جل جلاله: فقد منع الشرع من التفكر في ذات الله عز وجل وصفاته كما في الحديث الآتي:

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(تفكروا في آلاء اللّه) أي أنعمه التي أنعم بها عليكم قال القاضي: والتفكر فيها أفضل العبادات

(ولا تفكروا في اللّه) فإن العقول تحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلاله كبصر الخفاش بالإضافة إلى الشمس فلا يطيقه البتة نهاراً ويتردد ليلاً لينظر في بقية نور الشمس فحال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس فإنه يقدر على نظرها ولا يطيق دوامه فإنه يفرق البصر ويورث الدهش فكذا النظر إلى ذات اللّه يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذاته وصفاته لأن أكثر العقول لا

(تنبيه) قال الراغب: نبه بهذا الخبر على أن غاية معرفة الإنسان ربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة ويعرف أثر الصنعة فيها وأنها محدثة وأن محدثها ليس إياها ولا مثلاً لها بل هو الذي يصح ارتفاع كلها بعد بقائه ولا يصح بقاؤها وارتفاعه ولما كان معرفة العالم كله يصعب على المكلف لقصور الأفهام عن بعضها واشتغال البعض بالضروريات جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالماً صغيراً أوجد فيه مثال كل ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر عن كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها حضراً وسفراً وليلاً ونهاراً فإن نشط وتفرغ للتوسع في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم فيطلع منه على الملكوت ليقرر علمه وإلا فله مقنع بالمختصر {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} أهـ.

[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة تعليقاً على قول النبي صلى الله عليه وسلم تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله:

ص: 126

فإنكم لن تقدروا قدره فلم يبق إلا النظر في الآثار التي تدل على المؤثر وجميع الموجودات من آثار قدرته وأعجب آثاره الآدمي فإنك «إذا تفكرت في نفسك كفى وإذا نظرت في خلقك شفى» أليس قد فعل في قطرة من ماء ما لو انقضت الأعمار في شرح حكمته ما وفت، كانت النقطة مغموسة في دم الحيض ومقياس القدرة يشق السمع والبصر خلق منها ثلاثمائة وستين عظماً وخمسمائة وتسعاً وعشرين عضلة كل شيء من ذلك تحته حكمة، فالعين سبع طبقات وأربعة وعشرون عضلة لتحريك حدقة العين وأجفانها لو نقصت منها واحدة لاختل الأمر، وأظهر في سواد العين على صغره صورة السماء مع اتساعها وخالف بين أشكال الحناجر في الأصوات وسخر المعدة لإنضاج الغذاء والكبد لإحالته إلى الدم والطحال لجذب السوداء والمرارة لتناول الصفراء كلها والعروق كالخدم للكبد تنفذ منها الدماء إلى أطراف البدن، فيا أيها الغافل ما عندك خبر منك فما تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل وتشبع فتنام وتغضب فتخاصم، فبماذا تميزت على البهائم؟!

ارفع بصر فكرك إلى عجائب السموات فتلمح الشمس في كل يوم في منزل فإذا انخفضت برد الهواء وجاء الشتاء وإذا ارتفعت قوي الحر وإذا كانت بين المنزلتين اعتدل الزمان والشمس مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، وأصغر الكواكب مثل الأرض ثماني مرات، ثم اخفض بصرك إلى الأرض ترى فجاجها مذللة للتسخير فامشوا في مناكبها وتفكروا في شربها بعد جدبها بكأس القطر، وتلمح خروج النبات يرفل في ألوان الحلل على اختلاف الصور والطعوم والأراييح، وانظر كيف نزل القطر إلى عرق الشجر ثم عاد ينجذب إلى فروعها ويجري في تجاويفها بعروق لا تفتقر إلى كلفة، فلا حَظَ للغافل في ذلك إلا سماع الرعد بأذنه ورؤية النبات والمطر بعينيه، كلا لو فتح بصر البصيرة لقرأ على كل قطرة ورقة خطاّ بالقلم الإلهي تعلم أنها رزق فلان في وقت كذا، ثم انظر إلى المعادن لحاجات الفقير إلى المصالح فمنها مودع كالرصاص والحديد ومنها مصنوع بسبب غيره كالأرض السبخة يجمع فيها ماء المطر فيصير ملحاً، وانظر إلى انقسام الحيوانات ما بين طائر وماش وإلهامها ما يصلحها، وانظر إلى بعد ما بين السماء والأرض كيف ملأ ذلك الفراغ هواء لتستنشق منه الأرواح وتسبح الطير في تياره إذا طارت، وانظر بفكرك إلى سعة البحر وتسخير الفلك فيه وما فيه من دابة.

ص: 127

قال يحيى بن أبي كثير خلق الله ألف أمة فأسكن ستمائة في البحر وأربعمائة في البر واعجبا لك لو رأيت خطأ مستحسن الرقم لأدركك الدهش من حكمة الكاتب وأنت ترى رقوم القدرة ولا تعرف الصانع فإن لم تعرفه بتلك الصنعة فتعجب كيف أعمى بصيرتك مع رؤية بصرك.

(فضل التفكر:

الحمد لله الذي ارتفع فوق العالمين ذاتاً وقدراً .. وتمجد فوق خلقه وعلاهم عزة وقهراً .. وأمر بإعمال التدبر في آياته ومخلوقاته قلباً وفكراً فصارت قلوب الطالبين في بيداء كبريائه حيرى .. كلما اهتزت لنيل مطلوبها ردتها سُبحات الجلال قسراً .. وإذا همت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبراً صبراً .. ثم قيل لها أجيلي في ذل العبودية منك فكراً .. وإن طلبتِ وراء الفكر في صفاتكِ أمراً .. فانظري في نعم الله تعالى وأياديه كيف توالت عليكِ تترى .. وجددي لكل نعمة منها ذكراً وشكراً .. وتأملي في بحار المقادير كيف فاضت على العالمين خيراً وشراً ونفعاً وضراً وعسراً ويسراً وفوزاً وخسراً وجبراً وكسراً وطياً ونشراً وإيماناً وكفراً وعرفاناً ونكراً .. ، والحمد لله الذي جعل لنا فيما خلق تفكراً وأمراً عظيماً وأنعامه تتوالى علينا وتترى .. والصلاة على محمد سيد ولد ابن آدم وإن كان لم يعد سيادته فخراً .. صلاة تبقى لنا في عرصات القيامة عدة وذخراً .. وعلى آله وصحبه الذين أصبح كل واحد منهم في سماء الدين بدراً .. ولطوائف المسلمين صدراً .. وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد ..

فإن التفكر من أعمال القلوب العظيمة وهو مفتاح الأنوار ومبدأ الإبصار و شبكة العلوم والفهوم وأكثر الناس قد عرفوا فضله ولكن جهلوا حقيقته وثمرته وقليل منهم الذي يتفكر ويتدبر وقد أمر الله تعالى في التفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى و أثنى على المتفكرين قال تعالى: (الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ)[آل عمران: 191]

ص: 128

(حديث عبيد بن عمير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه قال لعائشة رضي الله عنها أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فسكتت ثم قالت لما كان ليلة من الليالي قال يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي، قلت والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت فلم يزل يبكي حتى بل حِجْرَه، قالت وكان جالسا فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته،

قالت ثم بكى حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لَايَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ) [آل عمران: 190]

ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.

[*] وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت: "كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر".

[*] قال الحسن:" تفكر ساعة خير من قيام ليلة".

[*] قال الفضيل:" الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك".

قيل لإبراهيم إنك تطيل الفكر فقال:" الفكرة مخ العقل".

[*] قال سفيان بن عيينة: "إذا المرء كانت له فكرة؛ ففي كل شيء له عبرة".

(وقال أيضاً: التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أنه يتفكر فيتوب.

[*] وقال الحسن: "من لم يكن كلامه حكمة فهو لهو، و من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو".

وفي قوله تعالى: قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ)[الأعراف: 146]

قال: أمنع قلوبهم التفكر في أمري.

وكان عدد من أهل العلم والحكمة يطيلون الجلوس والتفكر.

[*] وقال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن عدي لما رآه ساكتاً متفكراً: أين بلغت؟ قال: الصراط!

[*] وقال بشر:" لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل".

[*] وقال ابن عباس: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".

وبينما كان أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي فقيل له ما يبكيك؟ قال:" تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي".

[*] وقال أبو سليمان: "عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر".

ص: 129

[*] وقال:" الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة و عقوبة لأهل الولاية، والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحي القلوب. ومن الذكر يزيد الحب ومن التفكر يزيد الخوف".

[*] وقال ابن عباس: "التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه. وإذا كان هم العبد وهواه في الله عز وجل جعل الله صمته تفكراً وكلامه حمداً".

[*] وقال الحسن:"إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة".

[*] وكان داود الطائي رحمه الله على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويبكي حتى وقع في دار جار له، فوثب صاحب الدار من فراشه وبيده سيف ظن أنه لصّ، فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال من ذا الذي طرحك من السطح، قال: ما شعرت بذلك.

وأشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في التأمل في أسماء الله وصفاته، وجنته وناره، و نعيمه وعذابه، وآخرته وآلائه وآياته المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه وما خلق سبحانه و تعالى، وما ألذ هذه المجالس وما أحلاها وما أطيبها لمن رزقها،

[*] وقال الشافعي رحمه الله: استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر. وكان الشافعي رحمه الله: من أقوى الناس عقلاً وأجودهم استنباطاً، ومن القلائل الذين مروا في الأمة الإسلامية بهذه المنزلة،

(وقال أيضاً: صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور والعزم على الرأي سلامة من التفريط والندم والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة و مشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة، ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم.

(وقال أيضاً: الفضائل أربع، إحداها الحكمة وقوامها الفكرة والثانية العفة وقوامها التغلب على الشهوة والثالث القوة و قوامها التغلب على الغضب، والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس.

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بصر العينين من الدنيا، وبصر القلب من الآخرة، وإن الرجل ليبصر بعينه فلا ينتفع ببصره وإذا أبصر بالقلب انتفع.

ص: 130

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يوسف بن أسباط: قال لي سفيان الثوري وأنا وهو في المسجد: يا يوسف ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته، فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت إليه فإذا المطهرة في يده على حالها، فقلت: يا أبا عبد الله قد طلع الفجر، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة.

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم قال: المؤمن مشغول بخصلتين، والمنافق مشغول بخصلتين، المؤمن بالعبر والتفكر، والمنافق مشغول بالحرص والأمل.

(صورٌ مشرقة من تفكر الصحابة رضي الله عنهم:

(تفكر الصحابي أبي ريحانة رضي الله عنه:

أخرج ابن المبارك في الزهد عن ضَمْرة بن حبيب عن مولى لأبي ريحانة الصحابي رضي الله عنه أن أبا ريحانة قفل من غزوة له، فتعشى ثم توضأ وقام إلى مسجده فقرأ سورة، فلم يزل في مكانه حتى أذَّن المؤذن، فقالت له امرأته: يا أبا ريحانة غزوت فتعبت، ثم قدمت أفما كان لنا نصيب؟ قال: بلى والله، لكن لو ذكرتك لكان لك عليَّ حق، قالت: فما الذي شغلك؟ قال: التفكر فيما وصف الله في جنته وذاتها حتى سمعت المؤذن. كذا في الإصابة.

(تفكر أبي ذر رضي الله عنه:

وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن محمد بن واسع: أن رجلاً من البصرة ركب إلى أم ذرَ رضي الله عنها بعد وفات أبي ذر رضي الله عنه يسألها عن عبادة أبي ذر، فأتاها فقال: جئتك لتخبريني عن عبادة أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قالت: كان النهار أجمع خالياً يتفكَّر.

(تفكر أبي الدرداء رضي الله عنه:

ص: 131