الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبارات منقولة عن السلف في الوقف
وقد جاء عن السلف رحمهم الله عبارات في الوقف على بعض الآيات، من ذلك قول الشعبي:(إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تسكت حتى تقرأ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]).
وقد صححه عن الشعبي الإمام ابن الجزري (1).
وقال أبو نهيك الأسدي (2) رحمه الله تعالى: (إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] (3) فانتهى
(1) رواه أن أبي حاتم كما في الدر المنثور (6/ 143) وينظر النشر (1/ 225).
(2)
عثمان بن نهيك تابعي مقرئ روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ولشهرته بالكنية يجعله بعض الحفاظ ممن لا يعرف إلا بكنيته ولا يعرف اسمه ثقات ابن حبان (5/ 582) والكاشف (3745) وتهذيب التهذيب (7/ 156).
(3)
علمهم إلى قولهم الذي قالوا أ. هـ (1).
ومراده أن الوقف تام على {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} ثم يبتدأ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} فهم لا يعلمون تأويل المتشابه ولكنهم يكلون علمه إلى الله تعالى (2)، وعليه فـ"الواو" لاستئناف خبر عن الراسخين في العلم وليست عاطفة، و (الراسخون) على هذا مبتدأ خبره (يقولون آمنا به) والقول بأن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه هو الصحيح، وهو مروي عن أبي كعب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعائشة وعبد الله بن عباس في رواية طاووس عنه (3)، وهو الصحيح عنه (4)، وبه قال أكثر السلف، منهم عمر بن عبد العزيز والحسن وعروة وقتادة والضحاك (5).
(1) تفسير الطبري (3/ 183) والدر المنثور (2/ 7) وسيأتي إن شاء الله الكلام عليها مفصلاً.
(2)
سأفضل القول هنا في هذا الوقف وشهرته.
(3)
ينظر: الإيضاح في الوقف والابتداء لابن الأنباري (2/ 568) وتفسير الطبري (3/ 175، 183) والقطع والاستئناف لابن النحاس (212، 213) وتفسير البغوي (2/ 10) وزاد المسير (1/ 178) وتفسير القرطبي (2/ 287) وسيأتي في القول الثاني الكلام على رواية مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
تفسير السمعاني (1/ 295).
(5)
ينظر: تفسير الطبري (3/ 175 - 183) وتفسير ابن عطية (1/ 403) والبرهان للزركشي (2/ 199) والدرر المنثور (2/ 7).
قال ابن النحاس: (رويناه عن نيف وعشرين من الصحابة والتابعين والقراء والفقهاء وأهل اللغة)(1).
وقد اختاره مالك (2)، والفراء (3)، أبو عبيد وابن الأنباري والخطابي (4)، الداني (5)، والسمعاني (6)، والبغوي (7)، وفخر الدين الرازي (8)، وأبو حيان (9)، والسيوطي (10)، والشوكاني (11)، وشهاب الدين الآلوسي (12)، واختاره أيضًا القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى وقال:(إنه أشبه بأصولنا)(13)، وقال ابن
(1) القطع (213).
(2)
تفسير الطبري (3/ 175).
(3)
معاني القرآن له (1/ 191).
(4)
الإيضاح في الوقف والابتداء (2/ 568).
(5)
معالم السنن (7/ 125).
(6)
المكتفي في الوقف والابتداء (195، 196).
(7)
تفسير السمعاني (2/ 10).
(8)
تفسير البغوي (2/ 10).
(9)
التفسير الكبير (7/ 153).
(10)
البحر (2/ 385).
(11)
الإتقان (2/ 3).
(12)
فتح القدير (1/ 317).
(13)
روح المعاني (3/ 87).
النجار: (إنه الأصح المختار)(1)، وقال المرداوي (2):(وهو المختار وهو قول السلف)(3)، وقال الخطابي:(هو مذهب أكثر العلماء)(4)، وهو الراجح لوجوه:
منها: أن في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم ما يرجح ذلك ففي قراءة أبي (5)، وعبد الله بن عباس:(ويقول الراسخون في العلم آمنا به)(6)، وفي قراءة ابن مسعود:(إن تأويله إلا عند الله)(7)، وهذه القراءات
(1) العدة في أصول الفقه (2/ 690).
(2)
ابن النجار محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي (ت: 972هـ) شرح الكوكب المنير (2/ 150).
(3)
التحرير شرح التحبير (3/ 1408).
(4)
معالم السنن (7/ 125).
(5)
نقلها ابن جرير (3/ 182، 183) والبغوي (2/ 10) وابن الجوزي (1/ 187) وغيرهم.
(6)
وسندها عن ابن عباس على شرط الشيخين فقد رواها عبد الرزاق في تفسيره (1/ 383)(377) من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه ورواها أيضًا الحاكم (2/ 289) والطبري (3/ 182) والداني في المكتفي (195، 196) مع قصة وينظر الدر (2/ 6).
(7)
أخرجها ابن أبي داود في المصاحف ص (95) وذكرها ابن جرير على وجه الجزم: (3/ 182).
احتج بها العلماء لهذا القول وهو استدلال صحيح وإن لم تكن متواترة فإنها على أقل الأحوال كالتفسير الثابت عن كبار الصحابة ولذا قال الحافظ ابن حجر والسيوطي في قراءة ابن عباس:
(أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم قوله في ذلك على من دونه) أ. هـ (1).
ولا شك عندي أنها أقوى من التفسير لأنها خبر صحيح عن قراءة صحابة أجلاء علماء، فهم قد تلقوا ذلك .. وفي الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه منفرد بعلم تأويل المتشابه (2) منها: أنه تعالى ذم متبعي المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء معرفة تأويله، فلو كان ابتغاءهم تأويله ممدوحًا ما ذمهم بذلك ثم سكت عن التفصيل في موضع يحتاج الخلق فيه للبيان.
وهذه الآية الكريمة مفصلة لحكم صنفين من المسلمين، الراسخون في العلم، وغيرهم، فأهل الرسوخ أخبر الله عن مقالتهم أنهم يقولون:(آمنا به كل من عند ربنا) فالمحكم
(1) فتح الباري (8/ 210) والإتقان (2/ 4).
(2)
الروضة لابن قدامة (68).
والمتشابه من عند ربنا ونحن نؤمن بهما. ولأن المعنى على الوقف على (إلا الله) أظهر إعرابًا وأقيس في العربية (1) فـ (الراسخون في العلم) مبتدأ خبره:
(يقولون آمنا به) كما تقدم. وهذا الإعراب هو الظاهر وإن جعلت الواو عاطفة فيقولون حال، وقيل: خبر والمبتدأ محذوف (2).
قالوا: ولم يقل الله تعالى (والراسخون في العلم يقولون علمنا به) وجرى هذا مجرى قول القائل: ما يعلم ما في البيت إلا زيد وعمر ويقول: آمنا به، ومعناه أنه مصدق له، ولا يقتضي مشاركته في العلم بما في البيت (3).
القول الثاني:
أن يصل القارئ ثم يقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] وعليه فالراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه ويقولون آمنا به، وهم بذلك داخلون في الاستثناء وهذا قول مجاهد ورواه عن ابن عباس قال: (إنا
(1) ينظر تفسير البغوي (2/ 10) والبحر (2/ 384) والتحرير شرح التحبير للمرداوي (3/ 1414).
(2)
إعراب القرآن لابن النحاس (1/ 356) والبحر (2/ 384).
(3)
العدة لأبي يعلي (2/ 690) وشرح الكوكب المنير لابن النجار (2/ 150).
ممن يعلم تأويله) (1). وبه قال: محمد بن جعفر بن الزبير والربيع بن أنس وابن قتيبة وعلي بن سليمان الأخفش وأبو سليمان الدمشقي واختاره أيضًا: الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه وابن الحاجب والنووي (2).
وقد نسب القول به إلى طائفة يسيرة من أهل السنة (3)، وتكلم في صحة هذا القول عن مجاهد، قال ابن الجوزي: قال ابن الأنباري: (الذي روى هذا القول عن مجاهد، ابن أبي نجيح (4)،
ولا تصح رواية التفسير عن
(1) تفسير الطبري (2/ 203).
(2)
ينظر: القطع ص 213 والفقيه (1/ 63) وزاد المسير (1/ 354) وشرح صحيح مسلم (16/ 434) والإتفاق (2/ 2، 3) وتنبيه الغافلين (125، 126).
(3)
المصادر السابقة.
(4)
عبد الله بن أبي نجيح واسمه: يسار الثقفي المكي مولى الأخنس بن شريق الثقفي المكي سمع مجاهدًا وطاووسًا روى له الجماعة وهو من الثقات، وثقه ابن معين وأحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، وقد رمي بالقدر، ووُصف بالتدليس.
وروايته للتفسير عن مجاهد اختُلف فيها: فسفيان ابن عيينة يقول (تفسير مجاهد لم يسمعه من إنسان إلا من القاسم بن أبي بزة) تاريخ يحيى بن معين (ترجمة: 426) ويحيى القطان يقول: (لم يسمع التفسير كله من مجاهد سمع بعضه من القاسم ابن أبي بزة)(ت: 132هـ) وقيل: (ت: 131هـ)(طبقات ابن سعد 5/ 483، وتاريخ الدوري عن ابن معين (2/ 334) والجرح والتعديل (5) ترجمة (497) والثقات لابن حبان (7/ 5) وتهذيب الكمال (16/ 215 - 218) وميزان الاعتدال (2/ 555) وسير أعلام النبلاء (6/ 125) ومراسيل العلائي: ترجمة (406) وتهذيب التهذيب (6/ 54).
مجاهد) أ. هـ (1) وعزي هذا القول إلى أكثر المتكلمين (2)، ونصره أبو البقاء العكبري (3) كما عزي إلى ابن عطية (4)، وقد فصل في تفسيره في المسألة و اختار أنه لا يعلمه على الكمال إلا الله تعالى، وقال: (هذه المسألة إذا تأملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آيات الكتاب قسمين: محكمًا ومتشابهًا فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر، ولا يتعلق به شيء يلبس، ويستوي في علمه الراسخ وغيره، والمتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد
(1) زاد المسير الموضع السابق.
(2)
التفسير الكبير للرازي (7/ 153) والبحر المحيط (2/ 384) قد قيل هو قول عامة المتكلمين: شرح الكوكب المنير (1/ 155).
(3)
إملاء ما منَّ به الرحمن (1/ 124) وشرح الكوكب المنير (2/ 153).
(4)
البحر المحيط (2/ 384، 385).
المغيبات التي قد أخبر الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيتأول تأويله المستقيم) أ. هـ (1)، قل: هذا حسن في الظاهر لكن دخل من بعض أبوابه أهل الكلام والمبتدعة بتأويلات اخترعوها لم يقلها السلف، وهي درجات في الخطأ والبدعة
…
واحتجوا بأدلة:
1 -
أن الخطاب بما لا يعلم معناه بعيد .. وأجاب الأولون عن الدليل الأول: بأن الله تعالى يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله ليختبر طاعتهم، قالوا كما اختبرهم بالحروف المقطعة مع أنه لا يُعلم معناها (2) على الصحيح.
2 -
أنه لو لم يكن الراسخون يعلمون تأويله لم يكن لهم فضيلة على غيرهم، لأن الجميع يقولون آمنا به، وأجابوا عن الثاني: بأن المزية ثابتة لهم بمعرفة غيره من الأحكام فهم راسخون في العلم لمعرفتهم معاني المحكم، وعملهم بما علموا، وتورعهم عن القول فيما لا يعلمون.
(1) المحرر الوجيز (1/ 404).
(2)
التذكرة في القراءات لأبي الحسن طاهر بن غلبون (399) هـ والنشر (1/ 241).
3 -
أن ذلك يفضي إلى أن يتعبد بالشيء المجهول، وأجابوا عن هذا بأن التعبد بالشيء المجهول غير ممتنع كما تعبدنا بالإيمان بالملائكة وبالرسل وإن لم نعرف جميعهم وتعبدنا بالإيمان بالكتب وإن لم نعرف ما فيها.
4 -
ولأن الله لم ينزل في كتابه شيئًا إلا وقد جعل للعلماء طريقًا إلى معرفته (1)، وأجابوا عن هذا: بأن الله تعالى أنزل أشياء وليس إلى معرفتها سبيل كمعرفة كنه صفاته سبحانه وكيفيات أفعاله وغير ذلك وهذا الأخير بمعنى الدليل الأول (2).
ومن الأدلة التي ذكرت لهذا القول قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قالوا على قولكم ليس في القرآن بيان المشكل. وهذه الآية يجاب عنها بالجواب المشهور وأنها لا تقتضي جميع الأشياء كما قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] ولم تؤتَ مثل ذكر الذكر ولحيته ولا ما أوتي سليمان في ملكه، وهذا معروف في لغة العرب فلا يطول بتفصيله (3).
(1) غاية الاختصار في قراءة العشرة أئمة الأمصار (522).
(2)
ينظر: النشر (1/ 238 - 243) وإتحاف فضلاء البشر للدمياطي (61 - 63).
(3)
ينظر العدة (2/ 692) وأصول الفقه لأبي الوفاء ابن عقيل (4/ 18).
ومن الأدلة التي ذكرت لهذا القول قول الزركشي:
(إن الكل قائلون به لأننا لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا متشابه بل أمروه على التفسير حتى فسروا الحروف المقطعة) أ. هـ (1).
وقد يجاب عن هذا الإيراد: بأن العلماء وإن كانوا لم يتركوا آية من القرآن إلا وكلموا عليها إلا أنه لا يعلم أي الوجوه المحتملة هو الحق إلا الله فتعيين المراد من هذه الوجوه لا يعلمه إلا الله قال الإمام الوزير الصالح عون الدين يحيى بن هبيرة: (ما من آية من القرآن إلا وقد فسرها العلماء، لكن لا يعلم المراد من تلك الوجوه المحتملة إلا الله).أ. هـ (2).
بشيء من الاختصار.
وأعظم أسباب اختلاف العلماء في هذه المسألة مبني على
(1) البرهان: (2/ 202).
(2)
ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/ 272) وابن هبيرة عون الدين يحيى بن هبيرة وزير صالح مشهور بالفقه والزهد كان ينفق على أهل العلم ويجالسهم ويراجعم مسائل الفقه وكان أول أمره فقيرًا وله كتاب مشهور شرح به الصحيحين وهو الإفصاح عن معاني الصحاح مطبوع، أثنى عليه العلماء. ومنهم ابن الجوزي الثناء الكثير ترجمته في (ذيل الطبقات):(1/ 251 - 289).
اختلافهم في المحكم والمتشابه وأي شيء أريد بهما (1)، وذلك للاشتراك اللفظي في لفظ التأويل (2).
ومن العلماء من فصَّل في هذا المقام، وقال التأويل يطلق في القرآن ويراد معنيان:
أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء التي يئول إليها أي يرجع إليها، ومنه قوله تعالى:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فعلى هذا الوقف على "إلا الله" لأن حقائق الأمور لا يعلمها على الجلية إلا الله.
ويرد التأويل بمعنى التفسير والبيان، كما قال تعالى:{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] يعني تفسره، فالوقف على هذا على:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ما خوطبوا به على هذا الاعتبار (3).
(1) فتح القدير (1/ 317).
(2)
مجموع الرسائل الكبرى لشيخ الإسلام (2/ 17).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 355) وينظر ما قاله في هذا شيخ الإسلام في الفتاوى (16/ 228) الطبعة الجديدة لمكتبة العبيكان (1418) هـ ومجموع الرسائل الكبرى (1/ 6) وما بعدها.
وعلى هذا إن حمل المتشابه على ما استأثر الله بعلمه كوقت قيام الساعة ونحو ذلك فالوقف على: (إلا الله) وإن حمل على ما لا يتضح معناه إلا بمزيد فحص فالوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1) لكن هذا التنويع هنا نظري لا عملي بمعنى أن الوقف لا بد فيه من ترجيح أحد الوجهين وكذلك المعنى. وهل يعقل أن يقول عالم من علماء المسلمين إن الراسخين في العلم يعلمون ما استأثر الله بعلمه؟ أو يعلمون وقت قيام الساعة ونحو ذلك؟ هذا معلوم، ولكن يقال: من فهم من معنى التأويل التفسير، جعل الوقف على (إلا الله) ومن فهم من معنى: التأويل: الحقيقة التي يئول الكلام إليها، فهو يقف عند قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} .
ولكن نسبة ذلك إلى السلف فيه تحكم فإن من قال بذلك من السلف لم يقولوا قلنا بالوقف على: (إلا الله) لأننا نرى أن معنى التأويل: ينصرف إلى الحقيقة التي استأثر الله بعلما لا بمعنى التفسير، لأنه قد اشتهر في كلامهم إطلاق التأويل على المعنى والتفسير فيمكن أن يكونوا فهموا من التأويل: التفسير والبيان أو الحقيقة التي يئول إليها الشيء.
وقد ثبت عندنا اختيارهم الوقف على (إلا الله) وأنه لا
(1) تنبيه الغافلين: (125، 126).
يعلم تأويل المتشابه إلا الله، وقيل إن الخلاف في ذلك لفظي، فإن من قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله أراد به أنه يعلم ظاهره لا حقيقته ومن قال: لا يعلم أراد به لا يعلم حقيقته وإنما ذلك إلى الله تعالى (1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لم يقل في المتشابه: لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، وإنما قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع، فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو والوقف هنا كما دل عليه أدلة كثيرة .. ولكن لم ينفِ علمهم بتفسيره .. والله ورسوله إنما ذم متبعي المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله تعالى .. ) أ. هـ باختصار (2).
وفي المسألة مذهبان آخران غير مشهورين وهما ضعيفان:
الأول منهما: أن الوقف على (إلا الله) ويعلمه
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب (255) وشرح الكوكب المنير (2/ 153).
(2)
مجموع الرسائل الكبرى (2/ 9).
الراسخون، وإنما امتنع العطف لمخالفة علم الله لعلم الراسخين (1).
والقول الثاني: القول بالوقف فلا يجزم بأحد هذه الأقوال لتعارض الأدلة (2)، ومعلوم أن هذا القول لا يمكن العمل به في الوقف، لأنه إن وصل فقد عطف الراسخين في العلم، وأشركهم مع الله تعالى في معرفة تأويل المتشابه، فإن وصل القارئ ووقف على قوله تعالى:{آمَنَّا بِهِ} فالوقف عليها صالح كما قاله صاحب المرشد، فإنه قال:(الوقف على {آمَنَّا بِهِ} صالح على المذهبين).أ. هـ (3).
والراجح أن الخلاف في الأصل ليس بلفظي لأن المتشابه مختلف في المراد به وعلى هذا الخلاف ينبني الخلاف في الوقف كما تقدم.
وقول أكثر العلماء وهو أن الوقف على لفظ الجلالة أصح، وهذا القول يؤيده ظاهر النظم القرآني، والأدلة التي تقدمت عند ذكره قوية، ولو لم يكن فيها إلا القراءات الثابتة
(1) عزي هذا إلى أبي إسحاق الشيرازي الشافعي والسهيلي عبد الرحمن بن عبد الله الضرير (ت: 851) شرح الكوكب الموضع السابق.
(2)
عزي إلى القفال الشاشي ينظر: البحر المحيط للرزكشي (3/ 1046) والتحرير للمرداوي (3/ 1412) وشرح الكوكب المنير (2/ 153).
(3)
المقصد (22).
عن الصحابة لكان فيها دلالة قوية على ترجيحه، فكيف وقد انضاف إلى ذلك غيرها مما تقدم، هذا مع أنه لم يثبت عن الصحابة غيره.
ورواية مجاهد عن ابن عباس معارضة برواية طاووس وهي أصح كما قاله السيوطي (1).
بل حكى الإمام أبو المظفر السمعاني أن الصحيح رواية طاووس وتقدم قول ابن الأنباري في ذلك وتضعيفه لرواية ذلك عن مجاهد نفسه، وبينت أنه مسبوق إلى الطعن في رواية ابن أبي نجيح التفسير عن مجاهد، ولكن الراجح أنها صحيحة لأن ابن أبي نجيح ثقة وإن كان سمعه من القاسم بن أبي بزة، فالقاسم ثقة أيضًا (2) فقد علمنا الواسطة بينه وبين
(1) الإتقان (2/ 3).
(2)
القاسم بن أبي برة واسمه نافع ويقال يسار ويقال نافع بن يسار المكي أبو عبد الله ويقال أبو عاصم القارئ مولى عبد الله بن السائب المخزومي قيل: إن أصله من همذان روى عن أبي الطفيل وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعنه ابن جريج وشعبة وجمع، وثقه ابن معين والعجيلي والنسائي. وروى له الجماعة: ت114هـ، وقيل: 115هـ وقيل 125هـ قال المروزي: (والأول أصح) أ. هـ (الجرح والتعديل)(7) الترجمة (697) وتهذيب الكمال (23/ 338) والكاشف (4503) وفي التقريب ثقة (2/ 116).
مجاهد في التفسير، فيكون قد دلسه عن القاسم بن أبي بزة، فإن ابن أبي نجيح معدود في المدلسين كما تقدم، لكننا في هذا الموضع نرجح رواية طاووس إذ لم يكتنفها ما اكتنف رواية مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقال الإمام السمعاني أيضًا في كتابه قواطع الأدلة:(ونقل بعضهم ذلك عن مجاهد ولا أعلم تحققه) أ. هـ.
بل زاد على ذلك بأن جعل قول بعض العلماء في اختيار هذا الوقف كبوة من كبوات الجواد (1)، كذا قال رحمه الله تعالى، ولا يبلغ الأمر ذلك، ويزاد على هذه الأدلة، ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ *} [آل عمران: 7].
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه
(1) قواطع الأدلة في الأصول للسمعاني: (1/ 265).
منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم» أ. هـ (1).
فهذا الحديث دال على ذم متبعي المتشابه كالآية (2).
وذلك يدل على مدح من فوضوا علم المتشابه إلى الله تعالى وقد توسع السيوطي رحمه الله تعالى بعض التوسع في ذكر أحاديث وآثار بهذا المعنى تراجع في كتابه وهي دالة كهذا الحديث على ترجيح قول الجماهير (3).
ومعلوم أنَّ القائلين من أهل السنة والجماعة بالقول الآخر، لا يقصدون بعلم الراسخين للمتشابه أنهم يعلمون ما استأثر الله بعلمه كوقت قيام الساعة ونحو ذلك. ولكن يبقى أمور من المتشابه عند بعض العلماء كالحروف المقطعة، وبعض الآيات المتعارضة في الظاهر التي يختلفون في الجمع بينها ولا يوجد مرجح ينقطع به النزاع، ونحو ذلك.
وهذه الآية من الآيات التي ينبغي على كل طالب علم أن
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري كتاب التفسير: سورة آل عمران باب منه آيات محكمات (3547)(8/ 209) وصحيح مسلم مع شرح النووي كتاب العلم: باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه (6717)(16/ 433، 434) والمسند (6/ 48، 256).
(2)
فتح الباري الموضع السابق والإتقان (2/ 3).
(3)
الإتقان (2/ 3، 4).
يمعن النظر في أقوال السلف ثم الأئمة المحققين في بيان معناها.
والكلام عليها لا بد فيه من بيان معنى المحكم والمتشابه ومعنى التأويل فلا يصلح أن نهمل ذكره هنا لمسيس الحاجة إليه. وقد انجر الكلام على معنى الآية من باب إيضاح المثال المذكور قبل في الوقف.
قال الإمام الطبري: (وأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن، وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام ووعد ووعيد وثواب وعقاب وأمر وزجر وخبر ومثل وعظة وعبر وما أشبه ذلك، ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب، يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين، والفرائض، والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم، وآجلهم وإنما سماهن أم الكتاب، لأنهن معظم الكتاب وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب تسمى الجامع معظم الشيء أمًّا له فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها) أ. هـ (1).
(1) تفسير الطبري (3/ 170).
وقال أيضًا: (وأما قوله {مُتَشَابِهَاتٌ} فإن معناه متشابهات في التلاوة مختلفات في المعنى كما قال جل ثناؤه: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] يعني في المنظر مختلفًا في المطعم وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] يعنون بذلك تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه، تأويل الكلام إذن أن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات، بالبيان هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين، وإليك مفزعك، ومفزعهم، فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام، وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني (1) أ. هـ.
والتأويل لغة: (تفسير الكلام الذي تختلف معانيه، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه) ذكره الأزهري وبدأ به (2).
وقيل: أصل التأويل من آل الشيء يئول إلى كذا أي رجع.
وقال ثعلب: التأويل والتفسير بمعنى واحد.
(1) تفسير الطبري (3/ 172).
(2)
تهذيب اللغة (15/ 459) ولسان العرب (1/ 246) مادة: أول.
ويقال لعبارة الرؤيا: تأويل (1).
والتأويل المراد في الآية: إما التفسير وإما الحقيقة التي يئول الأمر إليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قد ذكرنا في غير موضع، أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يئول الأمر إليه، وإن كان موافقًا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر، ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه، وإن كان موافقًا له وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره، ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين، فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى بل يريدون بالتأويل المعنى الأول أو الثاني، ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
(1) لسان العرب (1/ 264) مادة: أول، وينظر مجمل اللغة:(1/ 107) وتاج العروس (7/ 215) وقيل: من الإيالة وهي السياسة كأن المؤوّل للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه: الإتقان: (2/ 1189).
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أريد به هذا المعنى الاصطلاحي الخاص واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} لزم من أن يعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها، وأن ذلك المعنى المراد بها لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن وهو جبريل ولا يعلمه محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الأنبياء أ. هـ (1).
وقال: (لفظ التأويل مجمل يراد به ما يئول إليه الكلام فتأويل الخبر نفس المخبر عنه وتأويل أسماء الله وصفاته المقدسة بما لها من صفات الكمال ويراد بالتفسير التأويل وهو بيان المعنى المراد وإن لم نعلم كيفيته وكنهه كما أنا نعلم أن في الجنة خمرا ولبنا وماء و عسلا وذهبًا وحريرًا وغير ذلك وإن كنا لا نعرف كيفية ذلك ويعلم أن كيفيته مخالفة لكيفية الموجود في الدنيا، ويراد بلفظ التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح وهذا لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين وأما خطاب الصحابة والتابعين فإنما يوجد فيه الأولان) أ. هـ (2).
(1) درء تعارض العقل والنقل: (1/ 14).
(2)
الصفدية (1/ 289) وينظر (1/ 291).
واستعمال التأويل بمعنى تفسير الكلام وبيان معناه والمراد منه كثير في لغة السلف ومعروف لغة، وقد سمى الطبري كتابه:(جامع البيان عن تأويل القرآن) وأكثر فيه من استعمال كلمة تأويل، مريدًا بها معنى الكلام وتفسيره، وممن يستعمل التأويل بمعنى التفسير من مشهوري العلماء المتقدمين أبو عمر بن عبد البر (1).
ومن استعمال الصحابة للتأويل بمعنى تفسير القرآن ومعناه قول جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم: "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدى بصري من بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به" أ. هـ (2).
فتأمل قوله في وصف أفعال النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله".
وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال: (تسرت امرأة
(1) ينظر على سبيل المثال: التمهيد (1/ 147)(2/ 313).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (8/ 170) والمسند (3/ 320) ومسند الطيالسي (1/ 232) وعون المعبود (5/ 254).
غلامًا لها فذكرت لعمر، فسألها ما حملك على هذا؟ فقالت: كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين، فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: تأولت كتاب الله تعالى تأويله، فقال عمر: لا جرم والله لا أحلِّك لحُر بعده أبدًا، كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها، وأمر العبد ألا يقربها) (1).
وقد اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال:
1 -
إن المحكم هو المعمول به وهو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ المتروك العمل به، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود، وروي أيضًا عن قتادة والربيع والضحاك وقد رواه الطبري عنهم، ولفظ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة عنه (المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به. قال:{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} والمتشابهات منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به (2).
(1) مصنف عبد الرزاق (12818) ومعلوم أن قتادة لم يدرك عمر لكن القصة مروي معناها عن عمر من وجوه.
(2)
تفسير الطبري (3/ 172).
2 -
إن المحكم ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم عند التكرير في السور، ومثل لذلك بقصة موسى وتكررها مع اختلاف الألفاظ، قاله عبد الرحمن بن زيد (1).
قلت: وهذا في حقيقه إن قُبل إنما هو تمثيل لنوع من المتشابه، ولا مانع من أن يكون ذلك أحد أوجه المتشابه؛ لأن الله لم يخص متشابهًا دون متشابه، ولهذا ضل بهذا التشابه في عصرنا بعض من درس قصص القرآن الكريم، ولم يوفق للفهم، فزعم أن ما في القرآن من قصص ليس حقيقة في نفسه ولهذا اختلفت عباراته من سورة إلى سورة، وزعم أن ذلك قصص فني، والعياذ بالله، كما فعل صاحب رسالة:(الفن القصصي في القرآن)(2).
3 -
إن المحكم ما علم العلماء تأويله، وفهموا معناه، والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل ما استأثر الله بعلمه دون
(1) المصدر السابق.
(2)
هو الدكتور محمد أحمد خلف الله، وقد نقدها: أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في مناقشة الرسالة وهو الاستاذ أحمد أمين ونشر نقده في مجلة (الرسالة) ينظر كتاب بلاغة القرآن للأستاذ محمد خضر حسين (94) ومباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان (308).
خلقه، وهذا رواه الطبري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ورجحه وبه قال الشعبي وسفيان الثوري وغيرهم، ومن أمثلة هذا، وقت قيام الساعة، ووقت خروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، والحروف المقطعة في أوائل السور، ونحو ذلك.
وقد روي أن اليهود طمعوا أن يعرفوا من قبل الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور مدة الإسلام وأهله ويعلموا نهاية أجل محمد وأمته، ورجحه القرطبي وقال:(هذا أحسن ما قيل في المتشابه).
4 -
إن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تُشتبه معانيه، والمتشابه ما تشتبه معانيه، وهذا قول مجاهد.
5 -
إن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهًا. قاله محمد بن جعفر بن الزبير وعبارته في تفسير الطبري: (منه آيات محكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، وأخر متشابهة في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام لا يصرفن إلى الباطل ولا
يحرفن عن الحق) (1).
وهو قول ابن الأنباري (2)، وأبي الحسن الكرخي من الحنفية (3)، وأبي بكر الجصاص الحنفي (4) والواحدي (5) وابن عطية (6)، وقال:(إنه أحسن الأقوال).أ. هـ.
6 -
إن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى الاستدلال، والمتشابه ما لم يقم بنفسه واحتاج إلى نظر واستدلال، وهذا القول اختاره ابن النحاس وقال: (أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات، أن المحكمات ما كان قائمًا بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابهات نحو قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} يرجع فيه إلى قوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} وقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 - 116] وهذا يرجع عندي إلى القول بأن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجه
(1) تفسير الطبري (3/ 175).
(2)
الوسيط للواحدي (1/ 413).
(3)
حكاه عنه أبو بكر الجصاص ينظر: أصول الفقه للجصاص: (1/ 205).
(4)
المصدر السابق.
(5)
الوسيط (1/ 413).
(6)
تفسير ابن عطية (1/ 403).
القول الذي قبله.
8 -
هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لم يتضح معناه لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره، اختاره الإمام الشوكاني في تفسيره وهو قريب من القول الذي قبله، فهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة هكذا عدها جماعة من العلماء ومن تأملها علم أنها ترجح إلى قول واحد لكن القولين الأخيرين فهما زيادة إيضاح.
9 -
أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة كأعداد الصلوات واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان (1).
وأرجحها في نظري القول بأن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهًا لأن معنى الإحكام والتشابه لغة يدل على ذلك ولأنه تعالى قال في وصف المحكمات {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وذلك دال على أن المحكمات أصل يرد إليهن غيرهن ولو لم يكن المحكم كذلك
(1) ينظر تفسير الطبري (3/ 171 - 175) وإعراب القرآن لابن النحاس: (1/ 355) والحاوي في فقه الإمام الشافعي للماوردي (16/ 71، 72) والبرهان (2/ 199 - 201) وفتح الباري (8/ 210، 211) والإتقان: (2/ 2، 3) وفتح القدير للشوكاني (1/ 317).
لما أمكن رد المتشابه إليه.
وقد فصَّلتُ القول هنا في هذه الآية لظهور دلالتها على أهمية وفضل علم الوقف والابتداء، ولشدة الحاجة لمعرفة أقوال العلماء فيها، وتركت التوسع أكثر في تفسيرها مراعاة لمقصد هذه الرسالة. فأعود لذكر مثال آخر من كلام السلف في علم الوقف والابتداء.
قال ابن النحاس: (سئل علي، رضي الله عنه، عن قول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وقد رأينا الكافر يقتل المؤمن: فقال: اقرأ ما قبلها: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141] قال ابن النحاس: (لما اتصل الكلام بما قبله تبين المعنى وعرف المشكل أ. هـ (1)).
وهذه الآية من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
(1) القطع (91).
وقول علي رضي الله عنه رواه الثوري في تفسيره (1) وعبد الرزاق في تفسيره من طريقه (2)، وابن جرير (3) والحاكم في المستدرك (4) جميعهم من طريق الثوري عن الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي: (جاء رجل إلى علي ابن أبي طالب فقال كيف تقرأ هذه الآية {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وهم يقتلون؟ فقال علي رضي الله عنه: اُدنُه، ثم قال:{فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أ. هـ.
فهذه الآية لا يظهر معناها إلا بما قبلها، وقد أجمع المفسرون على هذا (5).
تنبيه: مصنفات المتقدمين في الوقف والابتداء ربما سميت بكتب (التمام) وبـ (المقطوع والمفصول).
(1) تفسير الثوري (98).
(2)
تفسير عبد الرزاق (1/ 480).
(3)
تفسير ابن جرير (9/ 327).
(4)
مستدرك الحاكم (2/ 309).
(5)
تفسير القرطبي: (5/ 419) والبحر لأبي حيان (3/ 376) وتفسير ابن كثير (2/ 437).