المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر من اسمه عمر - قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان - جـ ٤

[ابن الشعار]

الفصل: ‌ ذكر من اسمه عمر

/139 أ/

‌ ذكر من اسمه عمر

[525]

عمر بن المظفر بن سعيد بن مكي بن يوسف، أبو الفتح القرشيُّ المعروف باللغوي.

من أهل الإسكندرية.

كانت ولادته بها إما في سنة ثلاث أو أربع وستين وخمسمائة، وموطنه بمصر. شاعر مجيد محكم الكلام، متفنن النظم جزل الشعر، يفوق شعراء وقته بجودة المعاني وفصاحة الألفاظ، طويل النفس في ابتداع القريض ذويد باسطة في صناعته، كثير المديح. له ذكر مشهور، وصيت متتابع بالديار المصرية.

وذكر لي الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمود أنَّه كان شيخًا كيسًا لطيفًا مليح المحاضرة /139 ب/ كثير الحفظ لأيام الناس وحكاياتهم ووقائعهم، له معرفة تامة بالأدب واللغة.

انشدني الشيخ الحافظ محبّ الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن البغدادي، قال: أنشدني القاضي الأجل أبو الفتح عمر بن المظفر بن سعيد القرشي لنفسه: [من الطويل]

متى يهتدي ساري السُّلوِّ لسرِّه

وقد أشكلت سبل الغرام بصدره

وشاب وما شاب الهوى بملامه

ولا شبَّ عمرو الوجد عن طوق صبره

ولا غيَّر الدَّهر الخؤون وفاءه

ولا خدشت في وجهه يدغدره

ورشَّد قاضي الحبِّ في الوجد قلبه

على أنَّه ما انفك من تحت حجره

ص: 172

أسكان قلب كالغصا لم نأيتم

مع القرب من عين تفيض لحرِّه

وعدتم ووصل الطَّيف إن نام طرفه

وأغريتموه والمنام بهجره

أعاذل لا والله ما أنت منصفٌ

بلومك من لم تدر مؤلم ضرِّه

محالٌ بأن يهوى اختيارًا متيمٌ

ووزرٌ بأن يثنيه لاح ....

وبالصَّبِّ رفض العذل أحرى لأنَّه

يزيد إذا حلو الغرام بمرِّه

وما اللَّوم إلَاّ كالهواء إذا خبا

لهيب الهوى أذكاه ....

وعيني رمت قلبي وأجرسي دموعها

مقاصصة حمرًا حرارًا كجمره

/140 أ/ أأحبابنا رفقًا بقلب لديكم

أسير هوى لم يستطع حمل أسره

إلى م تجنَّيتم عليه وصبره

على قدم البلوى وحادث دهره

تظافرتم والدَّهر والعدل والهوى

على دمه من غير هاد لهدره

ألم تعلموا يا ظالميه وحسبه

عناية مولانا الوزير بأمره

وأنَّ نظام الملك قلّد جيده

صنائع لم يطمح لها طرف فكره

أما جوده منسيه أول مرَّة

أما هو بعد الله محسن نشره

ومن هو بعد الموت محييه لم يكن

ليهمله ما عاش باقي عمره

وهل غير عبد الله يرجى ويتَّقى

لما شاء من نفع القضاء وضرِّه

قديرٌ عظيمٌ يرهب الدَّهر بأسه

وأراف خلق الله مع عظم قدره

تورَّع عن دنيا خوى كلُّ خيرها

ليوم وقاه الله محذور شرِّه

ولمَّا أحبَّ الله دينًا أحبَّه

وانطق أفواه المولك بسكره

وزيرٌ أنام الملك جذلان جدّه المؤرِّق طرف الجد في شدِّ أزره

بعزم يقرُّ العاصفات رواكدًا

وحزم يردُّ السَّيل عن مستقرِّه

أقام منار الشَّرع شرقًا ومغربًا

بأخباره الحسنى وإحسان خبره

هو العين يوم العدل من عمر ومن

يناويه واو الوهم في حكم عمره

/140 ب/ له العمل المبرر يرضي كبيره الإله ويحظى الخلق طرّاً بجهره

فبالعدل والإحسان لم يبق شاكيًا

لظم ولا من .... لفقره

به اخضرَّ عود الجود وامتدَّ ظلُّه

وأهدى إلى الآمال يانع ثمره

ينادي ندى ناديه في جمع وفده

إلى ابن عليَّ دونكم جمَّ وفره

ص: 173

هو البر والبحر المحيط بفضله

المبين على برِّ الوجود وبحره

وأنشدني أيضًا، قال: انشدني لنفسه، وذكر أنه كان ببات الصاحب فدخل فخر الدين عثمان والجمال علي بن أبي منصور على الصاحب، وبقي هو على الباب فعمل بيتين ارتجالاً وسيّر بهما إلى الصاحب؛ فأذن له في الدخول وهما:[من البسيط]

مولاي لازلت مأمولاً ومقتدرًا

ترجى وتخشى ليوم النَّفع والضَّرر

هذا عليُّ وعثمانٌ قد اجتمعا

فكيف تعتل يا مولاي عن عمر

وانشدني، قال: أنشدني لنفسه من قصيدة: [من الطويل]

لقد شبَّ عمرو الصَّبر عن طوق ما ألقى

وأنفد منِّي الجهد أضعاف ما أبقى

وقد عظمت دعوى الخطوب بباطل

عليَّ ولم أعلم لها قبلي حقَّا *141 أ/ ومنها:

ولم تحمد الأيَّام حظِّي بغبَّله

خلا أنَّها لا تجمع الحظَّ والحذقا

وما استقبححت منِّي اللَّيالي سجيةً

سوى قول قوم إنَّه يحسن النُّطقا

وحسن لغات الطَّير يقضي بحبِّها

فيا ليتهم يجرون لي مثلها رزقا

يد الدَّهر في ضرِّي ضياعٌ وإنَّها

لخرقاء في نفعي إذا رقَّعِّت خرقا

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من السريع]

لا تغبط المخلص في دولة

خصَّ من السُّلطان بالقرب

واذكر أبا مسلم فيما مضى

بالشَّرث والشِّيعيَّ بالغرب

وقال: [من الطويل]

إلى م ثوائي في خمول المنى كذا

وأغصُّ لشربي رنق عيشي على قذى

وأمد قومًا قد حرمت عطاءهم

وهم يبتغون المنع بالمنِّ والأذى

[526]

عمر بن مودود بن أبي الغزِّ بن أبي الفرج بن أبي عليٍّ الدقوقيُّ التغلبي، أبو حفص.

من أهل دقوقا – بليدة من البلاد العراقية.

ص: 174

له شعر، أنشدني الصاحب /282/ شرف الدين أبو البركات المستوفي باربل، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد الأزري، قال أنشدنا عمر بن مودود التغلبي لنفسه:[من الطويل]

نمتي الكماة الغرُّ من آل تغلب

إلى الذِّروة العلياء والخير والفضل

حماةٌ إذا نودوا ليوم كريهة

أجابوا سراعًا غير ميل ولا عزل

وإن ركبوا يوم الوغى الخيل واعتزوا

رأيت قدور الحرب أبردها يغلي

هم الضَّاربون الهام في حومة الوغى

ببيض خفاف الضَّرب محكمة الصَّقل

وهم طاعنوا قلب الكماة بذبل

طوال لدى الهيجاء خطِّية عسل

وهم قاتلوا الأملاك هدرًا ....

وعمرو بن هند ذا الأيادي والبذل

فلست إلى قوم سواهم بمعتز

ولا طالبًا أهلاً سواهم وهم أهلي

بنو تغلب العلياء خير بني أب

سوى هاشم خير الأنام أولي الفضل

وبعدهم شيبان ثم جفينةٌ

وقيسٌ وتيم اللَاّت ثمَّ بنو ذهل

وإبنا زمان بن صعب بن يشكر بن بكر أولو العلياء ثمَّ بنو عجل

/142 أ/ أولئك حيَّا وائل وبهم علت

نزارٌ وعزَّت في حراز عن الذُّل

[527]

عمر بن محمد بن عبد الله، أبو حفصٍ الباجسريُّ الخطيب.

من أهل باجسرا قرية كبيرة مشهورة من قرايا بغداد.

كان يعلم الصبيان ويؤدّبهم بها، وله طبع في إنشاء الشعر وعمله.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود بن محمد بن يوسف الربعي الدوري، قال:

انشدني الخطيب عمر بن محمد الباجسري لنفسه من أبيات، يمدح بها بني النجيح:[من البسيط]

السادة الغرُّ من آل النَّجيح وقد

لالا على الروُّض من أحسابهم نور

لقد مضى لي بهم والله يعلمه

يومٌ على سائر الأيَّام مذكور

ص: 175

ومنها في الصيد يصف الغزالة:

إن حاولت نظر أنَّى لها نظرٌ

ووجهها بجناح الصَّقر مستور

أو .... فبكفَّيه قد الجمها

فصوتها حين تبغي المدَّ مقصور

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه فيهم أيضًا وقد مات لهم ولد /142 ب/ من قصيدة اولها: [من البسيط]

الشَّجو دائك لا أدري أم الطَّرب

أين الدُّموع الَّتي تجري فتنسكب

أما لطوقك لا ينجاب أسوده

كما محا أسودي الدَّمع والنُّوب

ومن آخرها:

أحلام عاد وحكَّامٌ إذا جلسوا

مسدَّدين وفرسانٌ إذا ركبوا

أهل السَّماحة إن أعطو وإن وعدوا

قوم الفصاحة إن قلُّوا وإن

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه من قصيدة أولها يمدح بني النجيح أيضًا:

[من المتقارب]

ذكرت صباحًا بليل أهل

مشيبٌ بدا وشبابٌ أفل

ومنها:

هنيئًا مريئًا لآل النَّجيح

مقامٌ تسامى إليه الأول

فللضيف ما عزَّ من نائب

وللمجتدي عندهم ما سأل

ولو حاول الموت جارٌ لهم

لكادوا يردُّون عنه الأجل

[528]

عمر بن إبراهيم بن عليِّ /143 أ/ بن أبي بكر بن رخامٍ، أبو حفص الكاتب الخوجستانيّ الأصل، الدنيسريُّ المولد.

أخذ طرفًا من الأدب على الشيخ أبي العباس أحمد بن مسعود بن محمد القرطبي

ص: 176

الخزرجي. وكان شاعرًا لطيفًا ذكيًا مطبوعًا كاتبًا خطاطًا، لذيد المحادثة، طيب المفاكهة.

استكبه نظام الدين البقش بن عبد الله القطبي، المتولي بماردين، وأقام بسنجار مدّة يعلم أبناء رؤسائها بيت يعقوب الخط. وله فيهم مدحٌ حسنة، وديوان شعره موجود وأكثره استفرغه في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والسخف، وغير ذلك.

وكان حسن الصوت في إنشاد الشعر، صاحب مداعبة ونوادر وجد وهزل.

وكانت وفاته في المحرم سنة ستٍّ وستمائة.

أنشدني أبو الحسن علي بن يوسف بن محمد المارديني بإربل في شهر صفر سنة ثمان وعشرين وستمائة، قال: أنشدني عمر بن إبراهيم بن رخام لنفسه: [من الطويل]

اأحبابنا بالشعب من جوِّ مارد

ترى يسمح الدّضهر الخؤون بلقياكم

عدمنا وجوه النَّاس يوم وداعكم

وما النَّاس إلَاّ أنتم لا عدمناكم

/143 ب/ وسافرت أبغي الفضل من عند غيركم

وما عرف النَّاس الفضيلة لولاكم

كانّضكم كنتم شباب زماننا

فقد شابت الأيَّام منذ فقدناكم

وانشد، قال: أنشدني أبو حفص لنفسه: [من الطويل]

تراني أرى أعلام قلعة مارد

إذا ما علا من فوق مرقبها نار

وتبدو نسيمات الشُّعيب كأنَّما

يفتقِّها من جانب الغور عطَّار

وأنهلمن ماء النَّبيع ويشتفي

صدى مهجة فيها من الحرن الدار

أحنُّ إلى النَّار

تشوُّقًا

إذا بردت من آخر اللَّيل أسحار

وإنِّي غريبٌ ما له نحو أرضه

ولو ملك الدُّنيا حنينٌ وتذكار

إذا كان أقصى غاية المرء حفرةٌ

فسيان إن شطَّت وإن دنت الدَّار

وإن كانت الأرزاق قسمة قاسمٍ

فلا قلَّ مقلالٌ ولا زاد مكثار

وإن كانت الآجال حكمة حاكم

فلا مات مقدامٌ ولا عاش خوَّار

ص: 177

[529]

عمر بن محمد بن عليِّ بن أبي نصر بن محمد بن يحيى بن أبي بكرٍ، أبو حفصٍ الموصليُّ، المعروف بابن الشحنة.

الاديب الشاعر من أهل الموصل ومن شعرائها /144 أ/ المقدمين وفضلائها المتميزين

قرأ القرآن العظيم بوجوه القراءت على الشيخ أبي بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي المقريء، واشتغل بالأدب والعربية على أبي الحسن علي بن عبد الرحيم المعروف بابن العصار اللغوي البغدادي.

وحصل من كل علم طرفًا صالحًا كعلم النّحو واللغة ومعاني الشعر والأنساب والتواريخ. وكان شاعرًا مجودًا كثير السرقة، سليط اللسان، كثير الهجاء لأرباب الدول والرؤساء، لم يسلم أحد من صدور ذلك الزمان من هجائه. كان يتجرأ عليهم. وكان معاقرًا للشراب مشغوفًا به. وكان يتزيا بزي الأجناد في عنفاون أمره، ورحل إلى حضرة الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي – رضي الله عنه – قاصدًا وامتدحه بالقصيدة القافية التي استحسنها الأدباء، واستجادها الفضلاء؛ فأحسن صلته عليها.

ثم عاود الموصل فمكث بها مدّة، فأبلغ نور الدين أتابك أرسلان شاه بن مسعود أنَّه تعرض لهجوه فشهره وصفعه، ثم اعتقله في السجن إلى أن مات /144 ب/ خامس عشر شوال سنة ثمان وستمائة، بقلعة من قلاعها تسمى الجديدة، وقيل أنه توفيسنة ستٍّ وستمائة. وألف في السجن كتابًا يدخل في مدلدة سمّاه:"نفثة المصدور وأنّه المأسور" وهو مجموع حسن ضمنه أشياء من الأخبار المليحة والأشعار الفصيحة؛ رأيته بخطه، عمله لسرقجاء المجاهدي. وكان مجاوره في السجن ومن جملة خطبته يقول:"فلم أفق من خمار حمرتها إلَاّ وقد بلّت بكل قريب بعيدًا، وبكل وصل صدودا، فالصغر يفتر والأحشاء تحترق".

ص: 178

وأشعاره تفرقت بأسرها ولم يوجد منها إلَاّ اليسير، وهذه القصيدة القافيَّة أنشدنيها أبو الطليق معتوق بن أبي بكر بن سعد الخزاعي الموصلي الشاعر، قال: أنشدني الأديب أبو حفص عمر بن علي بن الشحنة لنفسه يمدح صلاح الدين يوسف بن أيوب –رضي الله عنه: [من الطويل]

سلام مشوق قد براه التَّشوُّق

على الحيِّ من وادي الغضا إذ تفرَّقوا

يرنِّحه وفد النَّسيم إذا سرت

كتائبه والبارق المتألِّق

/145 أ/ أجيراننا كيف التَّداني وركبكم

غدا مشئمًا حقًا وركبي معرق

أبثكم أنِّي إذا قيل قد دنا

وشيك النَّوى ....................

وإنِّي إذا نهنهت وجدس أذاعه

كمين أسى بين الحيازم محرق

فقلبٌ بإثر الظَّاعنين مولَّه

أسيرٌ ودمعٌ في المنازل مطلق

ولولا ولوع الطَّرف منكم بنظرة

لما كنت أدري حبُّكم كيف يعلق

يحرِّض شوقي إن تغنَّت بذي الغضا

مفجَّعةٌ ورقاء واللَّيل أورق

لها معصمٌ من دمعها متخصِّبٌ

وجيدٌ بجلباب الحداد مطوَّق

بكت شجوها والصُّبح ....

ولا شاب من فرط الدُّجنة مفرق

ويقتادني نحو التَّصابي ملاعبٌ

هويت بها إذا أبرق الحزن أبرق

حواها رسمها وهو صامتٌ

وجدَّد عهدي عهدها وهو مخلق

فما الوجد إلا زفرةٌ بعد زفرة

يكررها أو عبرةٌ تترقرق

وما الشِّعر إلَاّ مدح قوم هم الألى

بهم يفتح الذكر الجميل ويغلق

معاشر ليس المد عنهم بعازب

ولا ذكرهم إن أخلق الدَّهر يخلق

إذا وعدوا أوفوا وإمَّا تواعدوا

غزتهم أناةٌ حلمها يتدفق

فوجه المعالي مسفرٌ بعلاهم

سرورًا وغصن الجود فينان معذق

/145 ب/ وشمل الثَّنا والحمد فيهم مجمعٌ

وإحسانهم في العالمين مفرَّق

وآملهم بين الأنام مؤمِّلٌ

ومادحهم فيما يقول مصدِّق

أقول لسار يقطع البيد كلَّما

طوى سملقا في سيسره جاء سملق

ينازع عن تعريسه الصبح عصبةٌ

آمال طلاهنَّ النُّعاس المرنِّق

رويدك مغنى للنَّدى فيه مسمعٌ

ودونك

للعدا فيه مشرق

ص: 179

بحيث صفيَّات الوعود عتيدةٌ

هناك وأبكار المواعيد فرَّق

وناد صلاح الدِّين والملك الذي

به يمنح الله العباد ويرزق

وعنِّ بذكراه المطايا فإنَّها

إذا سمعت ذكراه تخدي وتعنق

أيا ملكًا لولا نداه وفضله

لما علمت أفواهنا كيف تنطق

دعاني نداك المستفيض ودلَّني

عليك شعاعٌ بين عينيك مشرق

وقاد زمامي نحو ربعك نفحةٌ

من الجود ظلَّت بين عطفيك تعبق

وقالت لي الآمال إن كنت نازلاً

بأبناء أيُّوب فأنت الموفَّق

يجود ندى للمعتفين إذا

..................

إذا نطقوا أغصى الأنام مهابة

لديهم فلم ينبس هنالك منطق

فأقعدني عن فرض حجِّك خيفةٌ

إذا حطرت كادت لها النَّفس تزهق

/146 أ/ ولو كنت أسطيع القرار لما ثنى

زمام زماعي عنك بينٌ مفرِّق

وإنِّي امرؤٌ أحببتكم لمكارم

سمعت بها والأذن كالعين تعشق

سميَّ ابن يعقوب ألم تر أنني

أهابك أن ادعو بإسم وأشفق

فلولا أتِّقاء الله ناديت معلنًا

حنانيك لي يا من يميت ويخلق

لقد أشعرت منك النُّفوس مهابة

تكاد لها صمُّ الجبال تشقَّق

إذا يمَّمت أرضًا كأبك أوشكت

لؤطأتها تلك المواطن تصعق

فما بين كفَّيك المنَّية والمنى

كذاك السَّحاب الغمر يروي ويغرق

بزغت ونجم الجود في النَّاس خافقٌ

..... المطالب مخفق

وربع المعالي والمآثر مقفرٌ

وباب الأيادي والسَّماحة مغلق

فأصبحت لاوجه الأماني آسفٌ

لديك ولا صدر المكارم ضيِّق

تروح المنى صفر إليك فتغتدي

لها عارضٌ من سيبك الجمِّ متأق

وعندك يضحى كاسد الحمد نافقًا

عزيزًا وأغصان المدائح تورق

تؤلِّف شمل المكرمات فيفتدي

غراب النَّدى في شمل مالك ينعق

تكلَّفت آجال البرايا ورزفهم

فبأسك يحميهم ونعماك تورق

فلم يغن إلَاّ من نداك يجوده

ولم يحي إلَاّ من له منك موثق

/146 ب/ إذا ما لسان الحمد حلَّ نطاقه

فأنت بما يتلوه أحرى وأخلق

ص: 180

عدلت فلم تترك عن الحقِّ عادلاً

وجدت فلم يوجد على الأرضمملق

وأسهرت طرفًا في رضا الله لم يكن

يؤرِّقه في اللَّهو طيفٌ مؤرِّق

وقوَّمت زيغ الدَّهر والدَّهر أصعرٌ

وحسَّنت منه خلقة وهو أخرق

ولو رنِّقت عينام عن مورد الهدى

طروقًا لأمسى وهو طرقٌ مرنَّق

كتيبتك الَّهباء باليمن سيرها

ورايتك الَّفراء بالنَّصر تخفق

إذا سارتا سار القضاء مبادرًا

يؤمُّهما من كل أوب ويحدق

وربَّ مقام قد رفعت لأهله

سماء لها بالموت وبل وريِّيق

تكشَّف عن طود بحللمك راسخ

وأسفر عن بدر بوجهك يشرق

لدى موطن يضحى الأكس كأنَّه

بأرجائه من شدَّة الرَّوع أروق

إذا بستم فيه الَّوارم كلَّحت

لها أوجهٌ كانت من البشر تشرق

فإن أظلمت آفاقه ضحكت به

لهنَّ ثغورٌ فانثنى وهو أبلق

وإن برقت فيه الأسَّنة أصبحت

عيون الرَّدى والحتف منهنَّ تبرق

تحوك حوامي الجرد فيه وشائعًا

من النَّقع

تارة وتسرق

تخال بها شمس الظهيرة مقلة

بها حول في طرفها حين ترمق

/147 أ/ تجشَّمته والموت فيه مدلَّةٌ

وقاب المنايا خيفة فيه تخفق

ولم ترع للنَّفس الكريمة ذمَّةٌ

كأنَّك منها طالب الثَّأر محنق

بفيلق عزم لا يفل عديده

يؤازره من نصر ذي العشر فيلق

وكل كميٍّ يستحرُّ به الوغى

يشيَّعه قلبٌ إلى الموت شيِّق

يهون عليه الخطب والخطب مفظعٌ

ويوري زناد والحرب والحرب مغدق

بكلِّ صقيل ثغره متبسمٌ

وكلِّ قطوب بشره مترقرق

وفي تلِّ حطِّين حططت على العدا

من الذُّل

آيس يفرق

رميت بألحاظ الجياد جيادهم

فضاف بهم رحب الفضاء ....

وعاطيتهم كأسًا من الموت مرَّة

"إذا ذاقها من ذاقها يتمطَّق"

وغادرتهم صرغى أسالت طلاهمٌ

حدود المواضي لا الرَّحيق المعتَّق

مآدب تضحى الضَّاريات تؤمُّهم

كتائب منها دالفٌ ومحلِّق

ص: 181

فألوى بمن أفنيت عنقاء مغربٌ

وخامر من أبقيت مسٌ وأولق

وأبت وثغر الدِّين جذلان ضاحكٌ

أنيقٌ وطرف الشرك خزيان مطرق

وطوَّقت أعناق البريَّة منَّة

ينافسهم فيها الحمام المطوَّق

فذا الجود والبأس اللَّذان انتحاهما

سجيس اللَّيالي حاتمٌ والمحرٍِّق

/147 ب/ فلولا القرى في الدَّار مبِّين لا ستوى

جريرٌ على علَاّته والفرزدق

وفي يوم بغراس غرست صنائعًا

يحيِّيك منها نورها وهو مونق

ومن معقل البرزين أبرزت عنوة

غطاريف شوسًا لم .... الرتقٌ

وقدَّست أرض القدس من كل مارق

... في دوحة الشِّرك معرق

ولاءمت بالبيت العتيق انصداعه

وما كاد لولا صدق عزمك يعتق

ويوم بعثت البأس منك لكوكب

خبا كوكبٌ من عزِّة متألِّق

وحدَّثت الآمال أهليه أنَّه

سيعصمهم منه ملاذٌ مرفَّق

وما علموا أنَّ سوف تشعره الرَّدى

ولو أنَّه بالشِّعريين معلَّق

وإن ترم سورًا سورةٌ منك تردها

ولم يحمها سورٌ مشيدٌ وخندق

فدونكها إنَّ القضاء مساعفٌ

وعزمك ماض والإله موفِّق

يصلِّي على أفعالك الله دائمًا

ويثنى عليهنَّ الكتاب المصدِّق

امولي البرايا ها مساعيك غضَّةٌ

وها مدحي فيها تروق وتونق

وها أنت مفقود القرين وها أنا

لعضب لساني فيك حدٌّ مذلَّق

وما اعتمت فيك الحمد إلَاّ رأيتني

بفكري في روض العلا أتأنَّق

يجوب موامي النُّطق طول ترنُّمي

وأفتق أبكار المعاني وأرتق

/148 أ/ ولمَّا التقى شعري وجودك ألفَّا

لنفسي رجاءً شعبة متفرِّق

وأصبحت لا صوتي لديك مخفَّضٌ

ذليلٌ ولا سمعي بناديك أفوق

فما شاء فليبخل ومن شاء فليجد

كفاني كفاني سيبك المتدفِّق

فكم من حسود ودَّ أنَّ مطالبي

تكدَّ من جدواك ثمَّ ترنَّق

أتيتك لمَّا غالني الدَّهر واعتدى

أديمي بظفر النَّائبات يمزَّق

ص: 182

وألقيت آمالي بأبلج خلته

بفعل النَّدى لم يلف فيه تخلُّق

يصور إليه الحمد والحمد آبقٌ

ويبعد عنه الذَّام والذَّام مونق

فعال إلى حبِّ القلوب محبَّبٌ

ووجهٌ إلى لحظ العيون معشَّق

ولمَّا غدا نحو المكارم سابقًا

غدوت إلى شأو المحامد أسبق

يرجَّى الحيا من بشره وهو ضاحكٌ

ويخشى الرَّدى من بأسه حين يطرق

ارحت غليه عاز الحمد فاغتدى

يغرِّب في الآفاق ثمَّ يشرِّق

ومازلت مذ عامان أقرع غربه

مخافة واش وهو في الغمد يقلق

أعدني إلى أهلي بنعمى يقلُّها

كميتٌ يزيل اللِّبد عنه ويزلق

أأنتم من أبناء الوجيه ولاحق

أصمّ الحوامي شأوه ليس يلحق

وأدهم يفري اللَّيل منه بغرة

كأنَّ سناها كوكبٌ يتألَّق

/148 ب/ سليم الشَّظا عبل الشَّوى لا مثَّبط

أرحُّ ولا واهي الظَّنابيب أطرق

شديد المطا نهد القصرى مقلِّصٌ

سرابيله غاري النَّواهق أعتق

دفووقٌ أجشُّ الصَّوت أمَّا إهابه

فرحبٌ وأمَّا خلقه فموثِّق

إذا رمقته مقلة العين مقبلاً

فظبيٌ وأمَّا استدبرته فنقنق

يكون لدعوى الغداة مبيِّناً

وشاهد عدل لي بنعماك يصدق

بقيت لإبقاء المكارم إنَّه

على الدَّهر نورٌ ما بقيت ورونق

وأنشدني أبو الفضل مودد بن مسعود الإربلي، قال: أنشدني عمر بن الشحنة لنفسه يستدعي صديقًا له وأنشأ ذلك إرتجالاً: [من البسيط]

سبتٌ ودجنٌ وكانونٌ وميلاد

وماجنٌ لرياض اللَّهو ميعاد

وقهوةٌ كميحَّا من كلفت به

أو كاعتقاد خليع فيه إلحاد

راقت فرقَّت فخلنا أنَّها شفقٌ

.... من نواحي الكأس وقَّاد

صاغ الحباب بأعلى رأسها عجلاً

تاجًا لآلؤه مثنى وإفراد

ومجلس ظلَّ محفوفًا بأربعة

تخالفت فهي للأرواح أضداد

ص: 183

فالغيث منسجمٌ والبرق مبتسمٌ

والورق نائحةٌ والعصن ميَّاد

/149 أ/ فوافنا ودع التَّحويف تحظ لها

.... همّه نسكٌ وإرشاد

وأيقظ اللَّهو والأيَّام راقدةٌ

ففي الشَّبيبة إسعافٌ وإسعاد

ولا يصاحبك من هذا الورى أحدٌ

إلا خليعٌ وخمَّارٌ وقوَّاد

عصابةٌ رغبت فيما يعجِّله

لها السرور وفيما قيل زهَّاد

وأنشدني أبو الحسن علي بن محمد التلعفري، قال أنشدني أبو حفص بن الشحنة لنفسه في يوسف بن بركة بن عراج الشيباني التلعفري الشاعر. وكان يلقب بالنجم:[من الوافر]

مبني شيبان إن ذكرت فعالٌ

لكم في كلِّ مخزية علاء

وجوهٌ من سمات اللؤم ملآى

مذمَّمةٌ وأفئدةٌ هواء

إذا سفكت على كرم دماءٌ

يسيل لهم على اللُّؤم الدِّماء

وعهدي بالنُّجوم لها ضياءٌ

وليس لنجمكم هذا ضياء

وأنشد [ني] أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن حمدان العروضي الموصلي، قال: أنشدني أبو حفص لنفسه يصف الشقائق: [من البسيط]

/149 ب/ هذه الشَّقائق قد أبدت محاسنها

إلى العيون عيون كلُّها دعج

إذا توقَّد ما بين الرِّياض ضحى

يخاله من رآه أنَّه سرج

كأنَّه فوق ساق من زمرُّدة

مداهنٌ من عقيق حشوها سبج

وأنشدني، قال: أنشدني فيها لنفسه: [من البسيط]

ضربٌ أنيقٌ يروِّي العين منظره

أتاك في خير وقت خير منعوت

كأنَّما الطَّل في أوراقه سحرًا

لآليء نثرت في صحن ياقوت

وأنشدني، عبد الكريم بن الزكي بن شبانة المعلم الحظيري، قال: أنشدني عمر لنفسه: [من الطويل]

يحرِّض أشواقي إلى من اودُّه

سنى بارق بالرَّقمتين يلوح

وهاتفةٌ بالبان تملي من الجوى

صحائف لم يعلم لهنَّ نزوح

تغنَّت فأبكتني جوًا ولقلَّما

بكى من غناء الأعجميِّ فصيح

ص: 184

فقلت وفي الأحشاء من لاعج الهوى

صبابة وجد تغتدي وتروح

كلا شجنينا واحدٌ غير أنَّني

أكتِّم ما ألقاه وهي تبوح

وصيَّرني ههذا الهوى وفنونه

أعلِّم ذات الطَّوق كيف تنوح

ونقلت من خطة قصيدة طويلة /150 أ/ مدح بها أتابك نور الدين أبا الحارث ارسلان شاه بن مسعود بن مودود –رضي الله عنه أولها قوله: [من الكامل]

طربًا أقول إذا الحمام ترنَّما

عيشٌ لنا بالأبرقين تصرَّما

قصرت مسافته فكان لزائرٍ

وافاك في سنة الرُّقاد مسلِّما

أشكو تباعده بعين كلَّما

نهنهت فيض دموعها فاضت دما

فاعص اللَّوائم في هواك فإنَّما

رشد الميتَّم أن .... اللُّوَّما

واشرب على زهر الرَّبيع سلافة

كالشَّمس يبدي المزج منها انجما

أفما ترى نوَّاره فكأنَّه

نشوان أصبح باكيًا متبسِّما

رقد النَّسيم بجانبيه فنبَّهت

أنفساه منه عيونًا نوَّما

وسرى بنمنم وشيه فحسبته

وافى بأخبار الأحبَّة نعَّما

صقلت حواشي روضه فكأنَّه

من حسنه قد همَّ أن يتكلمَّما

تشدو فيخبر مغرمٌ عن مغرمٍ

منها ويفصح معرب عن أعجما

بدع أبدع في السماح .... كالغيث أنجد في البلاد وأتهما

/150 ب/ أضحت أغضَّ من الصِّبا والذَّمن

شكوى المحبًّ إلى حبيب أنعما

بهج الزَّمان بها فخلنا أنَّه

من نور نور الدِّين ألبس أنعما

ملكٌ له المجد القديم وكلَّما

قدمت مباني المجد أصبح ....

متواضعٌ وأقلُّ ما يعتدُّه

منه التَّواضع أن يكون معظَّما

إن ضاق دهرٌ كان مسرح همِّه

رحابًا وإن عبس الزَّمان تبسَّما

فإذا ارتقى في قلَّة من سؤدد

هتفت به أخرى لكي يتقدمَّا

صدقت مخايله اللَّواتي لم أزل

قدمًا لبارق أفقها متوسِّما

وعلمت أنَّ البرق عند وميضه

يهدي تألقه الغمام المثجما

ص: 185

كهل الأناة فتى .... إذا انتحى للخطب كان

والقشعما

هزَّته معضلةٌ فلاقت صلَّباً

حطمٌا يردُّ وشيجها متحطِّما

سفرت خلائقه فكنَّ مشارقًأ

وسمت فجاوزت السُّهما والمرزما

وإذا ترفَّع في المناسب عدَّ من

شرف الأبوَّة ما يباهى الأنجما

يتجشم الجلَّى ومن يبغ الَّذي

يبغى يهون عليه أن يتجشَّما

راض الصِّعاب الجامحات فأصبحت

وأعاد مناد الزَّمان مقوَّما

قد ألفت فيه القلوب فما ترى

منهنَّ إلَاّ مثنياً ومعظمِّما

/151 أ/ تتلو وقائعه الصَّوارم والقنا

غبَّ الوغى معلولة ومحطما

أحيت صنائعه أباه وذو العلا

من ظلَّ يحيى بالصنيع الأعظما

فلو أنَّ زنكيًا رآه لقال من

طرب شبيهك من يقال له ابن ما

لله منجيةٌ غذته فإنَّها

كانت أبرَّ المنجبات وأكرما

في كلِّ أرض قد أقام لنصره

عرسًا ومن رزء الأعادي مأتمًا

تلك النَّواحي من نصيبين اغتدت

عبري وأنُّ البشر ثكلى أيمِّما

والجو أكلف والجناب لحربه

محلٌ وضوء صبحاها قد أظلما

وأرى القباب المستهلَّ أصبحت

ولها تعضُّ بنانها والمعصما

وافيتها فرأت بناطر زغبها

نارًا مضرّضمة وبحرًا خضرما

ما رزء عموريَّة بأشدَّ من

رزء أصابت من يديك وأعظما

جمحت بفضل لجامها وتذلَّلت

لمَّا رأتك لطرف بأسك ملجما

يا وقعة حبطت عداك فقلقلت

من كان منهم منجدًا أو متهما

أطلعت فيهم من عقابك أنجمًا

تأبى بغير نفوسهم أن تنجما

وصحبتهم بكتائب كتبت لهم

بأنامل الخرصان سطرًا معجما

جيشٌ لمنفسح الفضاء ترى له

في كلِّ أرض منهجًا أو معلما

/151 ب/ ضوضاؤه زجل الحديد وقبله .. ز دعوى فوارسه هلمَّ وأينما

خلنا الجبال تسير عند مسيره

أنِّى استقلَّ بها وأنَّى يمَّما

ص: 186

نظروه شزرًا فانثنت أبصارهم

من خوفه فكأنَّما حشيت عمى

ولقيت جمَّاعًا صدمت خميسهم

بخميس جمع كنت فيه مقدَّما

خضت المياه إليهم بفوارس .... تركته بالركض نقَّعًا أسحما

كانت منمنمة الرِّياض فغصنها

روضًا بنوَّار الدِّما متبسِّما

رتعت بها بهم العدوِّ فصادفت

مستوبلاً من رعيها متوخِّما

وأتيتها مبيضَّة فسكوتها

بردًا بمودِّ القتام مسهَّما

قدت الجياد على الجياد شوازبًا

سرعًأ .....................

من كلِّ أشوس لا .....

إلَاّ صقيلاً أو سنانًا لهدفا

يتقاتلون على المنون كأنَّما

................... مغنما

ما كان إلا لحظةً حتَّى ثووا

في ذلك الضَّحضاح صرعى حوَّما

................... وهاربٌ

فرقٌ ومرتثٌ ينوء مكلَّما

وطعنت ثغره كيدهم بعزيمة

كانت ........ إليهم سلَّما

يا يوم تلِّ أبي خشير والرَّدى

حرَّان يفغر بالمنون له فما

/151 أ/ يومًا هدمت به الرؤوس عن الطُّلى

وبنيت مجدًا كان أمس مهدَّما

كنت المسعِّر ناره والمصطلي

بضرامه والمخمد المتضرِّ ما

خرست شقاشق أهله لما غدا الخطَّي في أقطاره متكلِّما

يا أيَّها الملك الَّذي أيَّامه

أضحى بها نقص الزَّمان متمَّما

فتحٌ ونصر وافيا لك فاغتدى

ثغر العلا يفترُّ عنه وعنهما

كانا كمثل البطشة الكبرى التي

عن ذكرها القرآن جاء مترجما

با جامع الآمال وهي شواردٌ

ينشدن مغنى للندى ومخيَّما

جنيًا إليك نجوب كلَّ تنوفة

قفر وتجتاب الظَّلام الأقتما

تزجي ركائب همَّة لو أنَّها

عيسٌ ..... الجديل وشدقما

ترجو أيادي من إغارتك التي

كانت على الأعداء سيلاً أبهما

جدلي بأجرد إن تعرض خلته

سيدًا تمطَّر في الدُّجى فتقحَّما

ص: 187

إمّا بأدهم [ك] الدُّجى ذي غرَّة

كالنَّجم يشرق أو بأشقر أرقما

ينمى إلى آل الوجيه ولاحق

متلاحق الأقراب ليس بأهضما

مثل الظليم إذا تهادى مدبرًا

والظَّبي إن لاقيته مستقدما

..... الأذنين تحسب أنَّه

بهما يحاول أن يرى أو يعلما

/152 ب/ هزج الصَّهيل كأنَّما ترجيعه

ترجيع نشوان غدا مترنِّما

عاري النَّواهق مشرف حجباته

سامي التَّليل إذا استلف محمحما

نهض الحصى فتخاله في إثره

بردًا هوى أو وابلاً قد أرزما

وقال أيضًا: [من الكامل]

ومهفهف ثمل القوام كأنَّه

غصنٌ تميِّله الصَّبا فيميل

قد أسقمتنب صحَّةٌ في طرفه

وأمرَّ عيشي ريقه المعسول

أعتاده بالعتب عند مغيبه

فإذا بدا لم أدركيف أقول

نادمته واللَّيل قد حلَّت عرى

ظلمائه ورواقه مسدول

في روضة نوَّارها متبسِّمٌ

عجبًا ودمع غمامها مطلول

نثر النَّدى فيها لآليء عقده

فغدا لها من نثره إكليل

يهتز من ولع النَّسيم كأنّما

دارت عليه بالشِّمال شمول

وله من قصيدة: [من المديد]

كم بذاك الشِّعب من دنف

وسليم ماله راقي

وصريع من مدام هوى

عصرت من وجنة السَّاقي

قمر لولا محاسنه

قامت الدُّنيا على ساق

/153 أ/ كلَّما حاولت سلوته

ردَّني شوقي وإشفاقي

[530]

عمر بن عليِّ بن عبد العزيز بن المفرض، أبو حفص الحمويُّ

شخص إلى الديار المصرية واستوطنها إلى أن مات بها، ومن شعره:

[من الخفيف]

ص: 188

أخبرتنا عن دنِّها المختوم

خبر الكهف مسندًا والرَّقيم

زوجة الماء أم لهو عروس

وأبوها العنقود بنت الكروم

وقرأنا ما أعلمت فتعوَّد

إن طغى الهمُّ بالسَّميع العليم

خاطبتني أن ادن منِّي فلمَّا

أن تبدَّت آنست نار الكليم

قلت هذا الخليل في نار نمرود سليمٌ من العذاب الأليم

فإلى بائع المدامة هل لي

من صديق أو من شفيع حميم

فاسقنيها جهرًا ودعني من قول عتُّل من بعد ذاك زينم

أنا لمَّا نذرت سفك دم الزِّقِّ رجاً للأجر والتَّعظيم

قال خمَّارها وقد جاء بالبشرى وعتقي من كفِّ رقِّ الهموم

قد صدقت الرُّؤيا فإنَّا فديناك بزقٍّ فابشر بذبح عظيم

/153 ب/ إنَّ دين اللَّذات منِّي على خمسٍ فخذها عن مذهب مستقيم

زمن الورد والشَّباب وتبرٌ

والحبيب الوافي وبنت الكروم

هو من أهل الديار المصرية، أصله من الشام الشيخ النبيل المتفنن في جميع العلوم الدينية والأدبية. وكان من الشعراء المتوسعين في الكلام، المتقدرين على إنشائه في عصرنا، مطيلاً في قصائده وربما بلغت قصيدته ثمانمائة بيت؛ وذلك لقوته في النظم، وغزارة مادته، واتساع باعه، وسرعة خاطره في نحت القوافي. وكان عالمًا بصناعة الشعر ومعانيه، ولم يمدح لأحد إلَاّ كان يقوله نظريًا لنفسه، ولم يقبل من أحد جزاء لشرف نفسه وعزتها. وكان مع ذلك رجلاً من عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين؛ زاهدًا عما في أيدي الناس، سالكًا طريقة السلف الصالح، ويذهب مذهب /154 أ/ التصرف. يقنع بما رزقه [الله] تعالى:

وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بالقاهرة المعزيَّة.

ص: 189

[531]

عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله –ويلقب عمُّويه- بن سعد بن الحسن بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن القاسم [بن محمد] بن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه، الشيخ أبو عبد الله، وقيل ابو حفص، الصوفيُّ السُّهرورديّ الواعظ.

كانت ولادته سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بسهرود، وقدم بغداد شابًا بعد وفاة أبي وأبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، وعمُّه أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله السُّهروردي؛ وعنه أخذ التصوف والوعظ، وكان شيخ العراق في وقته، عالمًا متقدمًا ذا لسان بكلام القوم ناطق، وقدم في الطريقة ثابت.

سافر في صباه /154 ب/ الكثر على قدم التجريد؛ ثم عاد إلى بغداد فصار غمام عصره، وأوحد زمانه، وممن يشار إليه في علم الحقيقة والطريقة موصوفًا بالعقل والدين، وكثرة العبادة والاجتهاد. وقريء عليه الحديث. وتولى ببغداد عدّة ربط للصوفيّة، وأنفذ للديوان العزيز رسولاً إلى عدَّة جهات. وله تصانيف، منها: كتاب "عوارف المعارف" فيما يتعلق بالتصوف وآدابه وأحوال المتصوفة، وكتاب، "بغية البيان في تفسير القرآن" وكتاب "رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانيّة" صنَّفه ردًا على أصحاب البدع والحكماء والمنجمين، وتهجين أقوالهم.

ولي منه إجازة.

ص: 190

وخبرت أنَّه توفي في المحرم سنة إثنتين وثلاثين وستمائة ببغداد بجانبها الشرقي في رباط المأمونية –رضي الله عنه.

أنشدني أبو الكرم محمود بن يسف بن صاعد بن عبد الواحد الخوارزمي، وأبو علي عبد الله بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن أحمد الطوسي، قالا: أنشدنا سلطان المشايخ/ 155 أ/ السُّهرودي لنفسه: [من مخلّع البسيط]

تصرَّمت وحشة اللَّيالي

وأقبلت دولة الوصال

وصار بالوصل لي حسودًا

من كان من هجركم رثي لي

ونظرةٌ منكم بروحي

إن رمتم لم يكن بغالي

وحقكم بعد إذ حصلتم

بكلِّ ما فات لا أبالي

وقال أيضًا: [من المتقارب]

أيا صاحبي قد سئمت السُّرى

فمن لي بعين تذوق الكرى

أرى نارهم والهوى سائقي

وقد هيَّج الشّضوق من أسهرا

وقد دار في القلب كأس الهوى

فذو الوجد لاشكَّ أن يسهر

وقد دار في القلب كأس الهوى

فذو الوجد لاشكَّ أن يسهرا

ولوعي بسكَّان دار العقيق

رخيصٌ بروحي أن يشترى

فلا عرفت مهجتي سلوة

ولازلت في الحبِّ مستهترا

فيا قلب مالك لا ترعوي

ولا ترتضي طيفهم إن سرى

فوهم عينك وصل الحبيب

وطيف يزورك كل القرى

تمتَّع ففي الحبِّ مستمتعٌ

فإلمامه جلَّ أن يذكرا

برامة ريمٌ يثير الجوى

ويصطاد بالقهر أسد الشَّرى

ص: 191

[532]

/155 ب/ عمر بن الحسن بن عليِّ بن محّمد بن فرح بن خلف بن قومس بن مزلال بن ملَاّل بن أحمد بن بدر بن دخية بن خليفة بن فروة الكلبيُّ، صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم

هكذا نسب نفسه. ويقول أيضًا: سبط أبي البسّام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن عليِّ بن محمد بن عليِّ بن محمد بن عليَّ بن الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب –رضي الله عنه.

يكنى أبا الخطّاب بن أبي عليٍّ، ويعرف بذي النسبين. كذلك يكتب بخطّ يده في الكتب.

وهو فقيه شافعي المذهب، محدّث حافظ إمام فاضل عارف بالقراءات واللغة، وتفسير القرآن الكريم، فصيح في إيراده.

رحل في طلب الحديث إلى الشام والعراق وخراسان وغيرهما من البلاد، وصنّف كتابًا سماه:"مرج البحرين" فيما يتعلق بالحديث للملك الكامل ناصر الدين

ص: 192

أبي المعالي محمد بن أبي بكر بن أيوب.

قدم بعد عوده من البلاد الخراسانية مدينة إربل، واتصل بسلطانها الملك المعظم مظفر الدين أبي سعيد كوكبوري. /156 ا/ ابن علي بكتكين –رضي الله عنه قبالغ في إكرامه وانعم عليه إنعامًا عظيمًا. وصنف له كتابًا سماه:"كتاب التنوير في مولد السراج المنير" يتضمن ذكر ولاده النبي –صلى الله عليه وسلم وشدّة شعفه بذلك، وإصغائه إليه. وذلك أنَّ الملك المعظم مظفر الدين –قدّس الله روحه- إنفرد بشيء ما سبقه أحدٌ إليه من الملوك الماضين، والخلفاء المتقدمين واختصّ به دونهم تبركًا بولادته –عليه السلام فأنه كان يأمر بنصب القباب من الخشب متصَّلة منتظمة من الخانقاه التي تحت القلعة المحروسة إلى الخانقاه التي تقرب من دار السلطنة بالمدينة، منذ مستهل شهر صفر، وتزيَّن في العشرين منه بالات الثياب، وأنواع السلاح، والأقمشة الفاخرة، وتعلق فيها التعاليق، ويغني فيها المغنون وأرباب الطرب، ويقصدها الناس للتفرج من أقطار البلدان، فلم يزل كذلك ثاني عشر بيع الأول؛ وهو مولده –صلى الله عليه وسلم ثم ترفع القباب ويخلع على الوعاظ. /156 ب/ والعلماء والقراء، ويخرج الصدقات على الفقراء والغرباء الواردين البلد من الصوفية وغيرهم من بلاد شتى، وينفق على ذلك أموالاً جمّة، ولم يسمع في قديم الزمان وحديثه من الملوك السالفة، والسلاطين الغابرة، من انتدب لهذا الأمر، وبالغ فيه سوى هذا السلطان الملك المعظم؛ فرضي الله عنه وأرضاه، وبلغه في آخرته ما يتمناه، وأجزل ثوابه، وأحسن منقلبه ومآبه بمحمد وآله أجمعين، الأبرار الطاهرين.

وهذا كتاب التنوير كنت احد من سمعه على الملك المعظم مظفر الديم –نوَّر اللخ ضريحه- في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وستمائة برباط الصوفية المعروف برباط المناظرة، قريبًا من القلعة المنصورة، بحقَّ روايته عن مصنفة الإمام أبي الخطاب. وفي مقدمته هذه الأبيات يمدح بها الملك المعظم –رضي الله عنه:

[من الكامل]

ملكٌ يلوح عليه من شمس الضُّحى

سيما ومن بدر التَّمام مخايل

لا يقتني عزَّ الثَّنا ذخراً ولا

يفني لديه المال إلَاّ النَّائل

ص: 193

أنظر لإربل صاح قد لبست به

ظلاًّ كما وشت الرِّياض خمائل

لو تستطيع لصافحته يمينها

لمَّا أتاها منه مزنٌ هامل

/157 أ/ فأفاض منها العدل

سلسلاً

تروى المنى فيه وهنَّ هواطل

بشرى لها فلقد تخلَّد ملكها

ملك حلاه مكارمٌ وفواضل

ومواهبٌ وسلاهبٌ ورغائبٌ

ومقانبٌ وكتائبٌ وجحافل

يا ويح أرض الرُّوم سوف يزورها

من نجل زين الدِّين هولٌ هامل

وتظلُّ دار الِّرك ....

فيه وشاحٌ للكتائب حائل

ويطيف فيها للأسار وللحصار دمالجٌ وأساورٌ وخلاخل

لازال كالَّمس المنيرة في الضَّحى

وعداه في الهيجاء ظلٌ زائل

وله من التصانيف كتاب "الإمدادات" وهو في مجلدين سماه "بمرج البحرين في فوائد المشرقين والمغربين" وكتاب "العلم المشهور في فوائد الأيام والشهور" في فوائد الأيام والشهور"، وكتاب "النبراس في ذكر خلفاء بني العباس"، وكتاب "جمع العلوم الكليات في قوله الأعمال بالنيات"، وكتاب "الارتقا إلى أفضل الرقى"، وكتاب "الابتهاج في أحاديث المعراج"، وكتاب "من ألقم الحجر/157 ب/ إذ كذّب وفجر"، وكتاب "نثر الدرر في فضل من تمسّك بسُّنة سيد البشر"، وكتاب "آداب ما وجب في بيان وضع عمّا في رجب"، وكتاب "المستوفي في شرف المصطفى"، وكتاب "المطرب في أشعار أهل المغرب"، وكتاب "الآيات البينات فيما خصّ الله تعالى به أعضاء نبيه من المعجزات"، وكتاب "وهم الجمر في تحريم الخمر".

ثم سكن باخرة مصرة والقاهرة المعزية، وبنى له الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب دار حديث، ولم يزل يسمع الحديث فيها، ويفيد الناس بالعلوم والجاه والمال، ويكرم الواردين عليه من البلدان شرقًا وغربًا وعجمًا وعربًا، إلى ان توفي ليلة الأربعاء آخر الليلة الرابعة عشرة [ة] من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وكانت له جنازة عظيمة، ومناد ينادي أمام نعشه: هذا الَّذي كان يذبُّ الكذب عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم.

ص: 194

كذلك أخبرني الشيخ عبد الله بن أحمد بن يوسف الغرماي اللخمي، وقال: /158 أ/ كانت ولادته في سنة أربع وأربعين وخمسمائة بأغمات من أعمال مراكش، ونشأ بسبتة، وولي القضاء ببرّ الأندلس بمدينة دانية. ثم رحّل عنها إلى المشرق.

حدثني القاضي الإمام بها الدين أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن الخشاب –أسعده الله تعالى-، قال: جمع أبا اليمن الكندي، وأبا الخطاب بن دخية مجلس. وكان بينهما عداوة فتهاترا فيه، فقال له ابن دحية: أنت ممن يزنُّ بالهنات! ، فقال له أبو اليمن مجاوبًا: اخسأ أنت نسبت إلى كلب فنبحتّ، فعل إبن دحية كتابًا [سماه]:"بالمهدي إلى ضلال الكندي".

وحدثني القاضي أبو القاسم –أيده الله تعالى- قال: ابن دحية كان يسمّى نفسه "بذي النسبين بين دحية والحسن". ذكر أنه من بني دحية الكلبي من أهل المغرب من مدينة سبته، وذكر أنه ولي قضاءها.

وهو شيخ فاضل، له معرفة باللغة والنحو، حافظ للحديث ومعانيه ورجاله، فقيه متقن. كان يقول: -أحفظ صحيح مسلم جميعه وقرأته من حفظي بالمغرب على بعض الشيوخ.

خرج /158 ب/ من المغرب، وحجّ ودخل إلى بلاد العجم، وسمع بها صحيح مسلم من أصحاب الفراوي. ثم عاد إلى بغداد ورحل إلى الشام، وقدم علينا حلب، وسمعنا عليه موطأ مالك بن أنس رواية يحيى بن يحيى وغيره.

ثم تردّد بعد ذلك مرارًا إلى لب آخرها، بعد أن تقدّم بالديار المصرية وسيّر رسولاً مرّ بها مجتازًا، وحصل له حظوة عظيمة، وتقدم .... بمصر عند الملك الكامل.

قال: وأخبرني أبو الروح الحميري الأندلس، قال: هذا ابن دية ليس بصحيح

ص: 195

النسب وأصله يهودي. وكان يلقب الكوّة. وكان في صغره يرمى بما لا يجوز، وأبوه حسن كان يلقب بالزعبطور، والزعبطور هو المشوَّه الخلق، الالعظيم الخلقة بلغة الاندلس المقطع .... ابن علي، ويلقب بالقنوط لفراغه وقلة عقله يريد القصبة الفارغة، ابن يوسف ولقبه الجميل تصغير الجمل بلغة العامة.

قال ابن دحية، عقب كتاب صنفه للملك الكامل صاحب الديار المصرية، ختم آخره، واسم الكتاب " من ألقم الحجر، إذ كذب وفجر، وأسقط عدالة من الصحابة ماله أهجر". ثم قال بعد كلام طويل: وهذه مسئلة بديعة /159 أ/ النظام مستوفية شروط التمام والكمال، قد أشرقت شمس الفصاحة في أرجائها، وفاقت أفق البلاغة بما تضمنته من الذبِّ عن الصحابة على اكفائها؛ فهي روضة تتنزه مقل الخواطر في أنحائها. [من الطويل]

.يحكي عيونًا ووردها

خدودًا جرت أجفان عشَّاقها دما

وإن هبَّ معتل النَّسيم تأرجَّجت

وفاح بمسك نشرها وتنسَّما

وذلك بفضل الله وطوله وسعادة من استنبطت من أجله

أعمُّ الورى جودًا وأرفعهم ذرى

وأرجحهم عقلاً وأمنعهم حمى

وأعظمهم ملكًا وأنداهم يدًا

وأجدرهم عفوًا إذا ما تحكَّما

وأتقى أنقى سيرةً وسريرةً

وأجمل بل أبهى وأعلى معظمَّا

وصنّف كتابًا سمّاه: "العلم المشهور في فوائد فضل الأيام والشهور". وذكر في آخر هذا الكلام المنثور المسجوع، وهي مناجاة: "عندما رمت إلى الحج رحال الركاب برسول الله المبعوث إلى الأسود والأحمر، والمخصوص بطهارة /159 ب/ نهر الكوثر، قريبك بلعبدك ذو النسبين أسرع به إلى بيتك المعظم، وإلى قبرك المكرم الشوق، ويقعده وجود الشاخة وعدم الطوق، وإذا رحل المستطيع، وبادر المتمثل المطيع، ذرفت دموعه انسكابا، وود لو قد عمل إلى الكعبة المعظمة، والتربة المكرّمة أقلامًا او ركابًا؛ ولمّا ظعن الركب واستقلّوا، ورحلوا بعد ما حلّوا. تشبثت بهم تشبث الغريق بما يجد، وودعتهم وأنا منهل المدامع مصدوع الكبد، فكم ليلة بتّ بذينك الحرمين، قرير العين، فطاولت .... وأنا أنشد في ذلك بين المأزمين:[من البسيط]

ص: 196

لمَّا رأيت مناديهم ألمَّ بنا

شددت مئزر إحرامي ولَّبيت

وقلت للنَّفس جدِّي الآن واجتهدي

وساعديني فهذا ما تمنَّيت

لو جئتكم قاصدًا أسعى على بصري

لم أقض حقّاً وأيَّ الحقِّ أدّّيت

ولما مسّني الآن الكبرة والشاخة، وأناخ الزمان عليَّ أيَّ إناخة، خاطبت قدمي لو سبقت قلمي، واشتدادي يتمنى لو يعدم ملاذي، ونفسي تحرص على أن تعاجل طرسي، لكن الكبرة أبت فكان /160 أ/ قصاراي عين دمعت، وكفٌ كنفت.

وقد ألفت هذا الكتاب محتسبًا للأجر، ومستبقيًا به للسلطان الملك الكامل أجمل الذكر، فأودعته من العلوم ما ينتفع به صاحب كل شان من حديث، وفقه، ولغة، ونحو، وأصول، وتاريخ، وشعر، وحساب، وبيان. وقصدنا تأليف كتاب في معنى .... بمعان حتى ينشط قارؤه بخروجه من لون إلى ألوان، وينوب له عن كلِّ حديثة وبستان، ففيه تذكرةً لأهل الإيمان، وفقه لأهل اللب والرجحان، مما يعز وجود نظمه في تأليف واحد، وتوجد فنونه مجموعة في تصنيف واحد؛ وإنما ذلك بعون الله الكريم وطوله وسعادة من ألف من أجله. وأمعنت في الشرح والتفسير، ولم أرض باللمح اليسير.

ثم انشد بعد خبر أسنده إلى الإمام الشافعي –رضي الله عنه هذه الأبيات يمدح بها الملك الكامل الَّذي صنَّف الكتاب لأجله: [من الكامل]

هذا كتاب ليس تبصر مثله

بمثقَّف من أجله ومقيَّد

الفَّته لك من فؤاد أنت في فؤاد أنت في

أثناء أضلعه تروح وتغتدي

تختال بين مفصَّل وموصَّل

ومطرَّز منظَّم ومنضَّد

/160 ب/ ولكلِّ جزء حكمةٌ أو منجدٌ

او بدعةٌ لمرمِّل ومقصِّد

قتريك كلَّ بديعة في نوعها

لم تخترع وغريبة لم تعهد

ما شئت من شعر أرقَّ من الصَّبا

وخطابه أزهى من الزَّهر النّدي

عزّش الملوك أبي المظفَّر ذس النَّدى

وسميِّ خير العالمين محمَّد

أوليس من قومٍ غدوا بفخارهم

بيض المغاني في الزَّمان الأسود

ص: 197

يروي سواه فخاره عن مرسل

أبدًا ويروي عن صحيح مسند

ويكاد يعلم فطنةً وتيقظًا

في نومه من حادثٍ ما في غد

يحيى علومًا إذا يميت جهالةً

ويعيد برًا في الأنام ويبتدي

ملكٌ لعافيه يملّكه النَّدى

وله ملوك الأرض دون الأعبد

سحَّاح منهل كلِّ منهلِّ الحيا

ضافي رداء الأمن صافي المورد

بحرٌ إذا اشتدَّ الاوام لآيبٍ

بدرٌ إذا امتدَّ الظَّلام لمهتدي

تجلى دياجير الخطوب بعرًّة

من وجهه كالكوكب المتوقِّد

ذو أخمص عقدت مواقع عزِّه

بمعاقد القمرين هام الفرقد

ياخير من عزَّت به فئة الهدى

عدلاً وذل له الزَّمان المعتدي

/161 أ/ قدَّست ذاتك بالكمال وصنتها

عن قدح معترض وذمِّ مفنِّد

وسمت إلى أفق العلا بك همَّةٌ

أزرت بكلِّ معظَّم وممجَّد

ورعيت أحوال الرَّعية موحدًا

بصلاحهم إعدام روح المفسد

ورفعت منك منار كل فضيلة

برداء نورك في الممادج ترتدي

وغدا بك الإشراك بعد غياثه

في قبضة الإسلام معلول اليد

وسعيد للعلياء في تخليدها

لمَّا رأيت الشَّخص غير مخلَّد

أنا طوع كفِّكَّ نيَّتي لك نيَّتي

فيما تحبُّ ومقصدي لك مقصدي

ولما فرغ من كتاب "النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس" إنتهى به إلى ذكر الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء لأمر الله، أنشد لنفسه:

[من الكاملي]

ترتاح أنديَّة النَّدى والباس

من ذكر مولانا أبي العبَّاس

نجل الخلائف وابن عمَّ محمدَّدٍ

خير البريَّة من جميع النَّاس

وأنشدني الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي، قال: قرأت على أبي الخطاب

ص: 198

/161 ب/ من شعره يمدح الملك المعظم مظفر الدين – قدّس الله روخه-:

[من مجزء الرجز]

لولا الوشاة وهم

أعداؤنا ما وهموا

وفاض دمعي وهمي

بالدَّمع لمَّا فهموا

فخاطري مضطربٌ

وناظري مضطرم

يكتب دمعي كلَّما

له الفؤاد يكتم

هل يتساوى السَّاهرون في الهوى والنُّوم

ومنها:

يا معرضًا عن مقبل

في الحبِّ لا يتهم

سلوُّه منفصلٌ

وصبره منفصم

إن كنت لا تنصف في

حكم الهوى من تظلم

فالله يقضي بيننا

والملك المعظَّم

مظفَّر الِّدين الَّذي

يمناه بحرٌ مفعم

ملكٌ عميمٌ طوله

وفيه طول عمم

يشقى المواري بسطاه والموالي ينعم

/162 أ/ وجوده وجوده

ما منهما لي عدم

ترى قوفي الشِّعر في المدح له تختصم

لو لم يصفه واصفٌ

دلَّت عليه الشِّيم

وقال عنه السيف ما

يعجز عنه القلم

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من البسيط]

ألا ترى كلَّ من عادات في قلت

عليه من سيمياء الذُّل ألان

قد ضمَّه الجذع ضمَّ المستهام به

فمنه قبره والجوُّ اكفان

وأنشدني، قال: أنشدني قوله: [من الطويل]

ص: 199

بفتحك جاء السَّعد من كلِّ جانب

وأقبل إقبال الذَّلول براكب

عليمٌ بتدبير الامور موفَّقٌ

يرى بـ .... الفكر ما في العواقب

ومنها يقول:

ويلبس للهيجا ثياب أساود

من الرُّقش حاطتها عيون الجنادب

وأنشدني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن يوسف الغرباي، قال: أنشدني الإمام أبو الخطاب لنفسه.

/162 ب/ وكتبها إلى الملك الكامل ناصر الدين أبي المعالي محمد بن أبي بكر بن أيوب: [من الوافر]

فديتك هل علمت بمن رجاكا

وأمَّك في ذراك وفي ذراكا

وأنشد بعد بين واشتياق

أتأذن لأبن دحي أن يراكا

وكتب إلى الملك في صدر كتاب صنعه له: [من الطويل]

قوالله ما أدري وإنِّي لشاعرٌ

إلى أيِّ معنى في مديحك أقصد

وجدت النُّهى والبأس والقضل والنًّدى

إذا ذكر الأملاك نحوك تسجد

وإن قيل: من للعلم والحلم والعلا

ومن لقراع الخيل، قيل: محمَّد

وعدلك في الدُّنيا يبسط لأهلها

على أهلها منه رواقٌ ممدَّد

وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن النصيبي بحلب، قال: أنشدني الإمام أبو الخطاب بن دحية لنفسه: [من الرمل]

إيُّها السُّلطان فاسمع قول من

قوله في كلِّ خطو يتبع

أمة الزَّهراء بنت المصطفى

والَّذي في النَّاس حقّاً يشفع

/163 أ/ وأبوه مشبهٌ جبريل في

صورة منه عليه يخلع

مازجت جسم المعالي روحها

حبَّذا الجسم وروحٌ تجمع

حسبه مدحك فخرًا دائمًا

أذن الخلق له تستمع

أنت سلطان الورى قاطبة

بك يسمو النَّاهض المضطلع

ص: 200

كلُّهم من شكر كفَّيك غدوا

في رياض من صفات ترتع

فإذا .... النَّاس حلا عن ملوك صنعوا ما صنعوا

فليزخرف كلُّ شيء حدَّثوا

أنت أنت الدَّهر لا ما أسمعوا

فابق واسم في سعود مالها

من أفول في نجوم تطلع

دائمًا ما تعالت قينة

فرع أيك وسط روض تشجع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقال هذه الكلمة:

/163 ب/ "من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، سلالة أهل البيت الطاهرين، أهل مهبط الوحي، ومصعد الأمر والنهي، ومدار أفلاك العلا، ومزار أملاك السما، وموطن التنزيل، وموطيء الروح الأمين جبريل، ومقرّ الخلافة والإمامة، وموضع الكرامة، ولنا تحج ملوك الأرض، وذلك أوجب عليهم وجوب الفرض. فأن شرفنا بالسبق وفات، وهيهات دانٍ يدرك شأونا هيهات.

كلّ ذلك ببركة ابن عمنا، الذَّي يالبركة عمنا، الإسماعيلي النسب، الإبراهيمي المنتسب، المنيف الطرفين، الشريف السلفين، الملتقي بالرسالة، للأداء والدلالة، المبعوث إلى الأحمر والأسود، سيد ولد آدم وما ولد، الَّذي أيد بكتاب أنزل من الملكوت الأعلى عليه، وأوصل يدي الروح الأمين إليه. أعجز الأنس والجن حين تحداهم برهانه، وأعجب الجن لما سمعوا بيانه، فيه تبيان كل شيء وتفصيله، وبرهان كل شيء ودليله، قد فصلته آياته بتقديس وتوحيد، ووعيد، وحكم وأحكام، ونقض وإبرام، وقصص وأخبار، /164 أ/ وسير وأسرار، والحض على العمل الَّذي هو سبب دخول الجنّة، والتحذير من العمل الَّذي هو سبب دخول النار؛ فهو بحر لا تفنى

ص: 201

عجائبه، ولا تنفد غرائبه.

والذي بشرت به الأنبياء، وهتفت بمبعثه الكهّان، وقام على صدقة البرهان، وردً الله ببركته عن مكة الفيل، وأرسل على الملك الَّذي جاء وعلى أصحابه طيرًا أبابيل، والذي خمدت ليلة مولده نار فارس ولم تخمد قبل ذاك بألف عام، وكانت تعبدها المجوس كعبادة الكفار الأوثان والأصنام.

ورأت أمًه حين ولدته نورًا أضاء قصور بصرى من أرض الشام، وانسق أيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وهو القصر الأبيض الباهر بحسنه أبصار المبصرين، ونزلت الملائكة من الأفق المبين، ورجمت بالشهب جميع الشياطين، وغاضت بحيرة ساوة، وذهب ماؤها المعين، وفاض وادي السماوة، آية حصل بها لمن حام الشك اليقين، والذي يظلله ظلّ الغمام، ويخاطب البهم بفصيح الكلام. وسلّم عليه بالنلوة الأحجار، وتسجد له الأشجار، ويدعو الشجر فيأتي إليه ثم يأمره بالرجوع /164 ب/ فيرجع سامعًا مطيعًا بقدرة من أعانه عليه، ويسبِّح الطعام عند أكله له، وذلك أنه خصّه الله بها وفضله.

والذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلاً، وجرر على المجرّة في درج المعراج ذيلاً، على دابة يقال لها "البراق"، لا يستطاع ركوبها ولا يطاق؛ إلَاّ لمن سخرها له الإله الخلاق، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة، حيث تعنو وجوه الملائكة الطائعة، ويغشاهم سنى الأنوار الساطعة. فسار –صلى الله عليه وسلم مسيرة سبعة آلاف سنة، صاعدًا ونازلاً في بعض ليلة بجسده وروحه من غير نوم ولا سنة، واستوى بمستوى تسمع فيه صرير الأقلام على الألواح، وعاد إلى مضجعة عندما كاد جبين الشرق يوشح بنور الصباح.

ص: 202

وأصبح يحدّث أخبار الملوك في أم القرى، سنده عن حفظ ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى. والذي انشق له القمر المنير، ونبع من بين يديه مراراً عدّة الماء النمير، وزكابيمن يمينه الطعام اليسير، فأكل منه الجم الغفير. وقد جعل الله في /165 أ/ كل عضو منه آية، وذلك دليل على مكانه عند ربه وأنَّ له به عناية، والذي حذره الذراع المسموم عن أكله، ثم لم يعد عليه بعدما أكل منه لقمة لعصمة الله في ذلك كلّه. والذي حنَّ الجذع اليابس إليه وسمع له صوت كأصوات العشار، وهذه آية نظرت بعين الصحة وطارت بجناح الانتشار، ورجف به وبخلفائه الجبل فراضه برجله، وقال: أسكن فسكن وامتثل، وبث له شكوى الجمل.

والذي قرن الله –تعالى- اسمه باسمه. وأعلن به الدنيا في كل مكان، وأجرى ذكره بأنواع المحامد على كل لسان؛ والذي كان ينصر ويؤيد في الحروب، بريح الصَّبا وهي ذات الهبوب، فهزمت ليلة الأحزاب جميع أعدائه. وكانوا قد حاصروه في عدّة ألوف، فاقتلعت الخيام، وأكفات القدور وزحزحت جميع الصفوف. ز ونصر بالرعب مسيرة شهرين بين يديه، ونزلت السكينة من الله عليه؛ وانكسر سيف عكاشة بن محصن يوم بدر فاعطاه عرجونًا أو عودًا فصار بيده سيفًا يومئذ يفري الجماجم، ويبري /165 ب/ الأعضاء والبراجم. وكذلك انقطع سيف عبد الله بن جحش يوم أحد فأعطاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم عرجون نخلة، فصار في يده سيفًا، يقال إنّ قائمة منه، ولم يزل يتناول حتى بيع من بغًا التركي بمائتي دينار. وهذه معجزة قد بقيت بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم وهي واضحة المنار.

ص: 203

والذي خصّه الله بالحوض والشفاعة، وأخبر بما كان وما يكون إلى قيام الساعة. وهذا الحوض هو نهر الكوثر المفعم الملآن، الَّّذي ساحته من بصرى إلى عمان أو من صنعاء إلى عمَّان، وماءه أشدّ بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل في المذاق، وأباريقه على عدد نجوم السماء ذوات الإشراق.

والذي زوى الله له الأرض فأراه مشارقها ومغاربها، وأعطاه كنوزها ومطالبها وأخبر –جلّ وعلا- أنَّ ملك أمته سيبلغ ما زوى لهم منا، ولقي ربه جلّت قدرته وهو معرض إعراض الزاهدين عنها، وقبص –صلى الله عليه وسلم بعد أن خيّره الله في الدنيا؛ فاختار لقاء ربه، لرغبته فيما بين يديه وحبِّه. فجمع الله له بين ملك الدارين الدنيا والآخرة، واسبغ عليه جزيل النعمتين الباطنة والظاهرة. وكسر بدعوته /166 أ/ شوكة الأكاسرة، وجبر الدين وقصم ظهور الجبارة، فغشت دعوته في المشارق والمغارب كما وعد وشاعت، وأخبر عن الله –عز وجل أنَّه يستخلف في أرضه من يؤمن به. فكان ذلك كذلك.

وهذه معجزة راعت، فاستخلف الله أصحابه وأهل بيته من بعده، فسمعت الأمة لهم وأطاعت. فكانوا خلفاء الخلق، وفتحت الغرب والشرق؛ يقاتلون عبدة الأوثان والنيران عزلاً. وطارت قلوب الملوك رعبًا منهم، وطاشت وخفقت أفئدتهم خوفًا من ذكر محمد –صلى الله عليه وسلم وجاشت وتمنّت أنّها إلى زمنه ما عاشت. فبهذا النبي أفاخر من يفخر، وأكابر من تقدّم وتأخر؛ صلى الله عليه عدد الرمل ومدد النمل، وعلى أهل بيته الكريم، الجدراء بالتقديم والتعظيم:

إلى دهمى عظيم الهند، وركن .... السند، شرح الله صدره للإسلام، وجعله ممن دعى إلى دار السلام، واتبع سبيل المؤمنين، وقال: {وجهت وجهي للّذي فطر السموات والأرض

ص: 204

حنيفًا وما أنا من المشركين}.

/166 ب/ أما بعد: فأنّه وصل كتابك حاكيًا عرائس خصائصك علينا، وجالبًا نفائس خصائلك إلينا، ففضضنا عن الجواهر منه ختامًا، وأمطنا عن الأزاهر منه كمامًا، واستجلينا من معاينه ما لو كانت خدودًا لكانت مضرَّجة، أو ثغورًا لكانت مفلَّجة، واستدللنا بفحوى خطابه على ما تضمره لنا من مودَّة لا كذب فيها، ومحبَّة نيطت بعرى الصدق أواخيها؛ فأمَّا ما صدرته في كتابك من تعظيم ملكك، ونفيس ذخائرك، وطيب رائحة قصرك وفخرك وفخر آبائك. فإنَّك فخرت بأعراض الجواهر الفانية القليلة البقاء، وزخارف الدنيا التي لا يحصل الواثق منها على غير النصب والشقاء. ومالكها وإن عظم دوامه سحابة صيف، ومالكها وان طال مقامه فعجالة ضيف؛ فإنَّا لا نفاخرك بأمثاله مما ملكناه من سهل الأرض وجبالها، واحتوت عليه خزائننا مما أخذناه بسيوفنا من ذخائر الملوك وأموالها. وإنَّما الفخر بتقوى الله وطاعته، والإيمان بهذا النبي الأمي، خاتم الأنبياء، وأفضل من مشى تحت /167 أ/ السماء، والتزم شريعته والعدل في الرعية، والحكم بالسوية؛ بين القوي والضعيف، والشريف والمشروف. وذلك التزام شيعة رسول الله –صلى الله عليه وسلم والعمل بمقتضاها، وأن يتقي كتابًا عند الله {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} ، فكيف كفيت عن البصيرة إذ سطع نور البرهان، جنحت على ما أوتيت من فطنة ذكية، وفطرة زكية إلى عبادة الأوثان، واتخذت الندّ المصنوع لصانع الموضوعات ندّاً، ولم تر لك منه تقليدّا لمن سلف من الآباء بدّا، وأنا أدعوك دعاء المشفق الناصح، إلى سلوك السنن الواضح، وخلع الأنداد، ومفارقة ديانة الأنداد،

ص: 205

والتوجه لمن وجه وجهه إليه إبراهيم الخليل، وقام على وجوده ووجوب وجدانيته الدليل، فزين الدنيا بزينة الكواكب، وأظهر في الأرض أنواع العجائب.

والإقرار بنبوة من ظهرت على .... ذكرنا آنفًا من الآيات الخارقة للعاداتت؛ فإنّه لا يسمع به أحد ولا يؤمن به إلَاّ كان من أصحاب النار، وحقَّت عليه كلمة العذاب في دار البوار.

/167 ب/ فأسلم تسلم أيها الملك، ويكون لك مالنا وعليك ما علينا. فإنَّ إسلامك إن منَّ الله عليك به من أسنى التحف الواصلة إلينا.

وأما ما أتحفتنا من هدية، واطرفتنا به من طرفة سنية؛ فما آتانا الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون، إلَاّ أنا اتبعنا لنبينا –صلى الله عليه وسلم في قبوله للهدية، لما جبله الله عليه من الخلق الكريم، وطمعًا في أن يهديك الله بلطفه الصراط المستقيم. قابلناها بالقبول، وثنينا عنان النظر إليها، واقتدينا بان عمّنا –صلى الله عليه وسلم في الإنابة عليها.

وبعثنا إليك كتابًا .... يسمى: "بستان الألباب" يفتر عن جواهر الحكم وزواهر الآداب، ومطالعتك له تطلعك على أنَّ اسمه لمسماه موافق، ونعته لمعناه مطابق، .... بما تيسر تناوله علينا، من الخزائن الحاضرة لدينا؛ معتذرين لديك من النقص، ومقابلة مجلسك بالنزر اليسير، لكن الملوك لو تهادت على قدر أقدارها، وعظم أخطارها لضاقت من ذلك أحوالها، .... وفنيت أموالها.

وإنّما الهدية وإن /168 أ/ قلت دليل الاحتفال بالمهدي إليه والإقبال. والسلما على من اتبع الهدى، وقال: {إنَّي من

ص: 206

المسلمين}، و {لحمد لله ربّ! ِ العالمين} ، والعاقب للمتقين وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين، والسلام عليه وعليهم إلى يوم الدين".

[533]

عمر بن أحمد بن أبي بكر بن مهران، الإمام أبو حفص الضرير النحويُّ العيسفنيُّ.

شيخنا.

كان مولده بقرية من سواد العراق تسمى موهرر، وقدم صغيرًا إلى عين سفنة قرية من نواحي الموصل، فسكنها مدَّة فنسب إليها.

ثم ورد مدينة الموصل، وحفظ كتاب الله –تعالى- وطلب العلم، وجدّ في الاشتغال، ولازم الشيخ أبا الحرم مكي بن ريان بن شبة الماكسيني النحوي. وبرغ فيما قرأ عليه حتى صار أنحى أهل زمانه، وأعلمهم بالنحو والعروض والقوافي والتصريف واللغة ومعاني الشعر وسائر فنون الأدب؛ فلمّا توفي شيخه أبو الحرم قام مقامه، وجلس مكانه وأقرأ الناس النّحو والآداب.

/168 ب/ وتصدّر وأفاد خلقًا كثيرًا، وانثال عليه جماعة كثيرة ممن هو في طبقته من أصحاب الشيخ أبي الحرم، وأخذوا عنه حتى أقرَّ له كلَّ عالم، واعترف بفضله كل أديب.

وكان مفرط الذكاء، وسريع الحفظ، قوي النفس وقت القراءة عليه، لم يقبل من أحد جزاءً وولا ثوابًا. وكان له يد في علوم أخر؛ كعلم الحساب، والفقه على مذهب الإمام الشافعي –رضي الله عنه. ومع ذلك لم يكن في عمل الشعر كبير يد. وكان يرفع نفسه عن نظمه؛ وربّما وقع له معنى فيقول فيه أبياتًا يسيرة لم يظهر عليها طلاوة.

وكانت وفاته يوم عيد الفطر بالموصل سنة ثلاث عشرة وستمائة، ودفن ظاهر

ص: 207

البلد غربيَّة بمقبرة المعافى بن عمران –رضي الله عنهما.

أنشدني أبو يعقوب إسحق بن مروان بن سمكان الموصلي النحوي العروضي، قال: أنشدني شيخي الإمام أبو حفص الضرير لنفسه، وقد سأله بعض الرؤساء، أن يصنع أبياتًا يضمنها هذا البيت:

تشاغلتم عنَّا بصحبة غيرنا

واظهرتم الهجران ما خكذا كنَّا

فأنشأ أبو حفص هذه الأبيات، أولها:[من الطويل]

/169 أ/ إلى م أقاسي لاعج الشَّوق والحزنا

ويضني هواكم والجفا جسدي المضنى

أأحبابنا إن حلتم عن عهودنا

قلإنَّا على تلك المواثيق ما حلنا

رعى الله أيَّامًا تقضَّت بقربكم

فما كان أحلاها لديَّ وما أهنا

أحنُّ إليها بالأصائل والضُّحى

وما ينفع الصَّبَّ الكئيب إذا حنَّا

يككاد لما يلقى من الوجد والأسى

يحنُّ اشتياقًا في الظًّلام إذا جنَّا

إذا لم يكن لي عندكم مثل مالكم

بقلبي فلا أجدى الحنين ولا أغنى

فقد كان يغشى النوم عيني بقربكم

فمذ غبتم ما صافح الغمض لي جفنا

وأحسنت ظنِّي فيكم لاعدمتكم

فما بالكم اخلفتم ذلك الظَّنَّا

فإن كان أغناكم سوانا فإنَّنا .. على كلِّ ال لم نجد عنكم مغنى

[534]

عمر بن عبد الله بن المفرّج بن درع بن الحسن بن الخضر بن حامٍد، أبو عبد الله بن أبي القاسم التكريتيُّ.

الفقيه المدرس الشافعيُّ الأديب الشاعر.

/169 ب/ حفظ الختمة الشريفة وأتقنها، واشتغل على أخيه بفنون من العلم الأدبيّة، وبضروب من علوم الفقه والقرآن والشعر. وسافر إلى الموصل في سنة ستِّ وستين وخمسمائة فلقي بها جماعة من المشايخ والعلماء؛ كالشيخ أبي الفصل يونس بن محمد بن منعة المدرس الإربلي، والشيخ أبي المظفر منصور بن يحيى البشكري، ووالده يحيى والشيخ عمر النساج، والشيخ عمر بن محمد بن الخضر

ص: 208

الملاّ، وأبي بكر القرطبي وغيرهم من المشايخ.

ثم عاد إلى تكريت، وأقام بها واشتغل وسمع بها ما على جماعة من المشايخ من أهلها، وممن قدمها. ولما توفي ابن عمّه أبو النجيب عبد الرحمن [بن] أحمد بن المفرّج ببلدة ماردين أنفذ إلى تكريت وطلبه، فتوجه إليه في سنة سبع وستين. وأقام عنده بالمدرسة وفوّض إليه أمرها، والنظر في أحوالها، ورتبة إمامًا يصلي بها وقرّر في كل شهر دينارين.

واشتغل هناك بما كان يذكره أبو النجيب من الدروس في الأصول والخلاف والمذهب، وتكلّم مع الفقهاء وباحث ولقي بها جماعة من الفضلاء، وأنفذه صاحب ماردين /170 أ/ في رسالة إلى بلد خلاط

في سنة سبعين وخمسمائة؛ فرأى بها جماعة من أهل الفضل.

ثم عاد في هذه السنة إلى ماردين، ولم يزل مقيمًا مع أبي النجيب، إلى أن كثر شوق الشيخ أحمد والد أبي النجيب هذا، فترك أبو النجيب ما كان إليه، وتوجَّه هو وأبو عبد الله في جمادى الآخر في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ووصلا إليها في يوم الجمعة من شهر رجب من السنة المذكورة.

ثم تولى أبو النجيب القضاء بمحروسة تكريت، فاستناب أبا عبد الله في الفصل بين المترافعين إليه في التاريخ، ولم يزل معه مساعدًا له ونائبًا؛ إلى أن توفي أبو النجيب يوم الإثنين رابع المحرم من سنة ست وسبعين وخمسمائة، فعتولّى القضاء بعده ابن عمّه القاضي تاج الدين أبو زكريا، فاستناب أخاه أبا عبد الله في فصل الحكومات، وفوّض إليه بعد ذلك أمر الخطابة بجامع تكريت فخطب بها يوم الجمعة الخامس والعشرين من شوال من سنة ست وسبعين وخمسمائة، بعد عجز الخطيب أبي القاسم علي بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن الحارث بن أبي تمام التكريتي، وفرض له على ذلك الإيجاب والإطلاق. وله تواقيع من جماعة من الأمراء بتكريت /170 ب/ بذلك.

وسافر إلى بيت الله الحرام حاجًا يوم العشرين من شوال سنة إدى وثمانين وخمسمائة، وصحبة جماعة من أهل تكريت، وعاد هو الجماعة معه في صفر سنة اثنتين وثمانين إلى تكريت، وأقام بها.

ص: 209

ثم تزوج المباركة خديجة ابنة الشيخ نعمان بن أبي منصور بن عثمان، شيخ تكريت، وأولد منها خمسة اولاد؛ فمات له ولد اسمه عبد الله في دمشق. كان سافر إليها في تجارة، ودفن بها فجزع عليه أبو عبد الله.

وكان في كل وقت يذكر لأخيه تاج الدين عزمه على ترك القضاء والتلبس به، ويطلب منه أن يعفيه عن ذلك، وكان يذكر له ما في الصبر على ذلك من ثواب الإنصاف والعدل، عن ذلك، وانقطع إلى المسجد الطلحي مشتغلاً بنفسه، منقطعًا عن مخالطة الناس؛ يصرف زمانه في طاعة الله –تعالى- وتصنيف العلوم، وغير ذلك.

وانحدر إلى مدينة السلام في أوقات إقامة أخيه تاج الدين بها مرارًا، ولقي بها جماعة من المشايخ والعلماء، وحج .... وولديه في شوال من سنة اثنتي عشرة وستمائة، /171 أ/ وعاد إلى تكريت وأقام بمسجد من مساجدها يعرف بالطلحي، ولازم الإمامة به، واشتغل عليه جماعة من أهل تكريت، وعملوا بفتواه وأخذوا بقوله. وأقرأ القرىن وختم جماعة. وحدّث وسمع عليه من أهل تكريت ومن المجتازين بها.

وله مصنفات ومنظومات في أنواع من العلوم، وأجوبة عن مسائل وردت عليه. وعمّر في المسجد الطلحي عمارات كثيرة، وبنى في باطنه في الصحن الأول منه رواقات محيطة به، وأظهر الخير في المسجد المذكور، ورتَّب أحواله ترتيبًا جميلاً.

وانعكف جماعة من أهل الرأس الأسفل على الصلوات الخمس، وفي ليالي المواسم وإذا قدم متميّز أو واعظ حضر عنده، وجلس بالمسجد .... معه وأحسن إليه بما يقدر عليه؛ ومازال يقيم شعار الدين في هذا المسجد.

وهذا ذكر مصنفاته، منها: كتاب "ديوان الخطب" وهو مشتمل على خطب الجمع والأعياد والاستقاء والكسوف، وعلى فصول وأدعية وغير ذلك. وكتاب "نظم لباب الفقه" تأليف الإمام أبي القاسم أحمد بن محمد المحاملي –رحمة الله تعالى- سأله الشيخ أبو الحسن علي بن الدروي المقريء نظمخ فنظمه في سنة ثمانين وخمسمائة في نحو من اثني عشر ألف [بيت].

ص: 210

171 ب/ ونظم أيضًا كتاب "الناسخ والمنسوخ" تأليف هبة الله بن سلامة المفسّر، ونظم أيضًا العقيدة المعروفة بالقدسية.

كان مولده بتكريت ليلة الخميس نصف الليل سابع عشر شوال سنة أربعين وخمسمائة. وتوفي بها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وكان من الفقهاء الشافعية؛ فاضلاً شاعرًا مقتدرًا على النظم يدرس الفقه وبفتي. وكان إمام زمانه، حسن النظر في العلم؛ ذا بديهة حاضرة في الشعر.

نظم عدد أي القرآن، وذكر اختلاف القارئين فيها، ونظم أيضًا كتاب "اختلاف القراء في إذبات إلا .... وحذفها"، ونظم أيضًا معجزات النبي –صلى الله عليه [وسلم]- ونظم أيضًا "لمحة النحاة ومنحة الرواة" في العوامل، وذكر أيضًا كتاب "مخارج الحروف" على ترتيب الخليل بن أحمد، ونظم أيضًا كتاب "ذكر منازل القمر وغيره"، ونظم أيضًا كتاب "معرفة الضرب في الصحاح والكسور"، ونظم أيضًا كتاب "ذكر صفات السادة الفتيان ومدح الناصر لدين الله".

/172 أ/ وصنَّف كتاب "مناسك الحج" ونظم أيضًا كتاب "طبقات الفقهاء" للشيخ أبي اسحاق الشيرازي، وصنَّف كتاب تاريخ مولده ومتجددات أحواله، وجمع أيضًا كتابًا فيه فنون من منظوماته ورسائله ومكاتباته، ويشتمل على عشرة أبواب.

وقد ذكرت في هذا الكتاب بعض منظوماته وإن كانت مدوّنة في كتب مفردة لئلا يخلو هذا الكتاب من ذكر شيء منها، وليعلم بذلك ما عنده من وفور الفضل والعلم وقوة التمكن في النظم والنثر واقتداره في صناعته.

ومن شعره ما كتبه إلى اخيه تاج الدين في جواب مكتوبه إليه: [من البسيط]

يا حبَّذا نفحات الطِّيب من قلم

أسدت يدًا قلَّ عنها ما يجازيها

قد كان بشَّرني طيف الخيال بها

فظلت من فرح في النوم أبكيها

حتى بدت في سطور زلزلت جسدي

بالشوق لمَّا تراءت في معانيها

فقلت والعين من شوق ومن ترح

تسحُّ بالدَّمع سحّا من مآقيها

ترى يعود لنا شملٌ نسرُّبه

فتأخذ العين حظًا من أمانيها

ص: 211

وكتب إلى أخيه أيضًا: [من الخفيف]

/172 ب/ كلُّ يوم يمرُّ يدني سروري

لدونوِّ اللِّقاء بالأحباب

وإذا ما تزايد الشوق أرسلت

زفير الُّلوع طيَّ الكتاب

يا رسولي إلى المؤمَّل تاج

الدِّين ذي الفضل والأيادي العذاب

قل له معلنًا ثنائي وشكري

واذكاري لفضله السَّكَّاب

طال يوم الغراق واشتدَّ شوقي

فمتى ينقضي بيوم الإياب

وله في مكاتبة إلى بعض أصحابه بالنظامية: [من الوافر]

ألا أبلغ مجير الدِّين عنِّي

بأنِّي لا أحول عن الوداد

وكيف أحول أم هل كيف أسلو

وقد سلبت محبته فؤادي

أتذكر ليلة قصرت علينا

بفكر موضح سبل الرَّشاد

تواصل بالمسائل تبتليني

وأعطيك الجواب على السَّداد

وبعد فلو ذهبت لشرح شوقي

لآفني كاغدي وفنى مدادي

فدم واسلم وقم واغنم ولا تسأم

ففي العقبى تنل كلَّ المراد

وله في معنى الحديث المروي عن النبي –صلى الله عليه- في صنعة أخلاق اهل الجنة، وأخلاق أهل النار:[من البسيط]

/173 أ/ أهل الجنان لهم حالٌ تخصُّهم

في القول والفعل والأخلاق والأدب

وجهٌ جميلٌ وخلقٌ واسعٌ حسنٌ

ولطف نطق يسرُّ النَّاس محتلب

ورحمة القلب لافظ ولا مقتٌ

ولا عبوسٌ وهذا غاية الحسب

وللشَّقيِّ خلال مثل عدًّتها

في ضدِّها فاستمع قولاً بلا كذب

ففي القساوة والعصيان يتبعها

سوء ظن وبخل النَّفس بالنَّشب

وعابس الوجه لا ينفكُّ ذو صخب

خاب الشَّقي وباع الجدِّ باللَّعب

كذا روينا عن المختار سيِّدنا

أعني النَّبيَّ نبيَّ العجم والعرب

وقال في المواعظ: [من الكامل]

وإذا اللَّبيب غدا يفتِّش نفسه

نطقت شواهدها بصدق الحال

إنَّ النفوس ودائعٌ ورهائنٌ

في مدَّة الدُّنيا لوشك زوال

ص: 212

فالعاقل النِّحرير من وافى بها

مقرونة بصوالح الأعمال

والعافل المغرور من يلقي بها

في قعر مظلمة الدُّجى مضلال

تعس أمرٌ يسعى ويجمع جاهدًا

مالا سيتركه لدى التِّرحال

وإذا الفتى لم يدَّخر لمعاده

زادًا فسوف يؤول شرَّ مال

فاعمل لنفسك أيُّها المعنى بها

عملاً تفوز به من الأهوال

8173 ب/ ودع التَّعلل بالمنى فلقلَّما

تجدي عليك عواقب الآمال

وقال أيضًا: [من المجتث]

يا من خلا بالمعاصي

خف يوم شيب النَّواصي

خف يوم تأتي البرايا

بذلَّة وانقماص

خف يوم تبدو الخطايا

ويوم أخذ القصاص

غدًا عليك ينادى

هذا جزا كلَّ عاصي

هذا جزا عبد سوء

مجاهر بالمعاصي

اما تخاف أذى من

يراك بين الخصاص

فتب إليه وبادر

تفز بعزِّ الخاص

ولا تبهرج عليه

ما التِّبر مثل الخلاص

وأنشدني أبو محمد عبد السلام بن الحسن، قال: أنشدني عمر لنفسه:

[من مجزوء الرمل]

كلُّ حي عن قليل

فإلى الموت يصير

ليس يبقى ذو افتخار

يسار وفقير

سوف يسقون كؤوساً

شربها شربٌ عسير

/174 أ/ وسيلقاهم غداً يومٌ

عبوسٌ قمطرير

وقال أيضًا: [من الطويل]

لعمرك ما الدُّنيا لخابر حالها

بصافية فاسأل بذاك خبيرا

ص: 213

تريك سرور ثمَّ تعقب ترحة

كأنَّك فيها ما عهدت سرورا

وقال: وأنشدني أبو محمد عبد السلام بن يحيى، قال: أنشدني عمي لنفسه أبو عبد الله عمر: [من مجزوء الكامل]

كن ميِّتا بين الورى

وانظر لعينك واعتبر

كم من مؤمِّل عيشة

بينا يؤمِّلها قبر

يرجو البقاء وكيف

يطمح فيه مخلوقٌ قدر

ماذي بدار إقامة

فأبغ التزوُّد وابتدر

إنَّ البطالة راحةٌ

لكنَّ عقباها صبر

وقال أيضًا وأنشد فيه أبو محمد: [من مجزوء الكامل]

أكتب بكفِّك ما يسرُّك

أن تراه في القيامه

/174 ب/ واحذر مقارفة القبيخ

فذاك يورثك الملامه

واخش البيات فإنَّما

هلك امرؤٌ ظنَّ السَّلامه

واذكر مقامك حيث لا

يغني التَّأسف والنَّدامه

وقوله أيضًا: [من البسيط]

علم م تحزن في الدُّنيا وتحترقٌ

ونحن فيها إلى الآجال نستبق

يا غافلاً وسهام الموت ترمقه

لا تأمنن ختلها ما سرَّك الرَّمق

وقال أيضًا: [من مخلع البسيط]

يا أيُّها النَّاس هل أدلكم

على فعال يفوز من فعله

دعو فضول الكلام كم بطل

لسانه بالفضول قد قتله

واقتعوا باليسير واعتبروا

كم جمامع للكثير ما أكله

وزيِّنوا بالتُّقى نفوسكم

فذو النُّهى زان بالتُّقى عمله

وأنشد أيضًا القاضي أبو محمد عبد السلام التكريتي ببغداد في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وستمائة، قال: أنشدني عمي أبو عبد الله عمر لنفسه: [من الوافر]

/175 أ/ أيا أبن الأربعين تروم لهوا

وأنَّى اللَّهو بعد الأربعينا

أيا إبن الميِّتين أبًا وجدًا

ستلحق في غد بالمِّيتينا

ص: 214

تؤمِّل أن تعيش قرير عين

وكم قد أبكت الدُّنيا عيونا

تظنُّ العيش فيها أن سيصفو

وك قد اخلفت فيها الظنونا

تزوّد من سنيك بخير زاد

ولا تغترَّ .... السِّنينا

ومن شعره يرثي ولده عبد الله، ومات بفلسطين وأنفذه ليكتب على قبره، انشدنيه عنه أبو القاسم ابن أخته بتكريت في شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة:

[من الطويل]

ألا إنَّ عبد الله ثاويًا

بأرض فلسطين إلى موقف الحشر

سيأتي إلى تكريت نعي مصابه

ويأتي أيضًا سابق الدِّين من مصر

فتى كان مثل البدر حشو ثيابه

إذا ما انثنى أو كان أزهى من البدر

وقد كانت الآساد تخشى لقاءه

فقد طمعت في خدِّه دودة القبر

سلامي عليك .... ما ذرَّ شارقٌ

وما ثوَّب الدَّاعي إلى نسك الفجر

وقال أيضًا: [من المتقارب]

/175 ب/ أرى الطَّير يحنو على فرخه

إذا كان في عشِّه لم يطر

فإن طار ينقره حبَّة

ليلقط إذ كان لا يدَّخر

تنبَّه لذا السرِّرِّ يا صاحبي

وكن فطنًا يقظًا واعتبر

بنيَّ فدونك كسب العلوم

صغيرًا فما الشَّيخ بالمدَّكر

إذا لم يكن حصل الذكر في زمان الصِّبا وهو لم يعتبر

فما شرف المرء في نفسه

بابائه حينما يفتخر

ولكن بما فاض من فضله

على من إلى فضله يفتقر

ومن ذلك ما رأى في منامه، كأنَّ رقعة ألقيت إليه، وفيها خط ولده المتوفى، وفيها أبيات لم يحفظ منها سوى بيتين:[من الطويل]

فما لي من أشكو إليه صبابتي

ولي عند موتي أنَّةٌ وحنين

وما كنت أدري أين تقضى منيَّتي

ولا أنَّ هذا الامر كيف يكون

ص: 215

فأجاب عنها بهذه الأبيات: [من الطويل]

/176 أ/ أيا مهجتي يا قرَّة العين إنَّني

عليك على طول الزَّمان حزين

يعزُّ على عينيَّ أن غبت عنهما .. وكلُّ عزيز يابني يهون

وما في نعيم العيش بعدك لذَّةٌ

وأيُّ التذاذ لي وأنت دفين

سلامٌ على صفو الحياة وطيبها

وا دمع عيني بالبكاء رهين

وقال أيضًا يرثيه: [من الوافر]

أقول وليلتي تزداد طولاً

كأنَّ الصُّبح لجَّ به اللَّجاج

إلى الرَّحمن أشكو ما بقلبي

عسى همِّي يبدِّله انفراج

نديمي زفرتي ودموع عيني

شرابي والنَّجيع لها سراج

وبي سقمٌ وأفكارٌ وحزنٌ

أمورٌ ليس يبرئها علاج

ألفت الحزن بعدك في المغاني

فلا فرحٌ يزور ولا ابتهاج

وكنت لنا سراجًا في اللَّيالي

فمذ أوديت أظلمت الفجاج

تبدَّل كلُّ حسن لدينا

وحتَّى الربع بدله العجاج

تكدَّر صفو عيش كان عذبًا

وحل محلَّه مقرٌّ أجاج

أمرُّ وقد سفا الافي عليه

فيغلبني بكاءٌ وانزعاج

وكان به سراج الوصل يكفي

فقد أمسى وقد طفئ السِّراج

/176 ب/ فلا وثراك لا ينفك دمعي

يجود وليس يمنعه رتاج

[535]

عمر بن عبد النور بن ماخوخ بن يوسف بن ليان بن باديس بن صولي بن بلول الهواري، أبو حفصٍ اللَّزنيُّ البجائي الصَّنهاجي.

كان فقيهًا شافعيًا، مناظرًا أصوليًا، كاتبًا شاعرًا؛ له يد باسطة في علم الأدب

ص: 216

والعربية

انشدني أبو القاسم بن أبي النجيب بن أبي زيد التبريزي، قال: أنشدني عمر بن عبد النور لنفسه: [من الكامل]

ومعقرب الُّدغين خلت عذاره

نؤيًا أثافي رسمه الخيلان

فوقفت أبكيه بعيني عروة

حزنًا عليه كأنَّني غيلان

وأنشدني، قال: أنشدني من شعره في غلام اسمه إبراهيم: [من الطويل]

كستني ولم أشعر جفونك سقمها

ومن قبل لم أعرف وصالاً ولا صدَّا

وأبقيتني في نار شوقٍ كأنَّني

سميُّك لكن لا سلامًا ولا بدرًا

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]

/177 أ/ عصَّ المصلَّى لا لزهد إنَّما

صنم الصَّبابة عظمت أبناؤها

أين استقلَّ استقبلته أوجه

فالظذَبي شمسٌ والورى حرباؤها

عبتم على التَّتر السُّجود إذا بدت

شمس الضُّحى وسبتكم نظراؤها

وقال أيضًا: [من الكامل]

هبني صبوت كما ترون بزعمكم

وظفرت فيه بلثم خدٍّ أزهر

إني اعتزلت فلا تلوموا غنَّه

أضحى يقَّابلني بخدٍّ أشعر

وقال في غلامين تحاّبا أحدهما يعرف بابن صقر، والآخر بابن فهد:

[من الطويل]

أليس عجيبًا جارحان تصايدا

وذلك شيءٌ لا يكاد يرام

يقال ابن صقر بأبن فهد متيمٌ

فكيف على أنَّ الفهود تنام

وقال في الشيخ العلامة كمال الدين أبي المعالي موسى بن يونس الفقيه المدرس، وهو يلقى الدرس بحضرة المتطيلسين ارتجالاً

ص: 217

بالموصل: [من الطويل]

/177 ب/ كمال كمال الدِّين للعلم والعلا

فهيهات ساعٍ في مساعيك يطمع

إذا اجتمع النُّظار في كلِّ موطن

فغاية كلِّ أن تقول ويسمع

فلا تحسبوهم عن عناد تطيلسوا

ولكن حياءً واحترافًا تقنَّعوا

وقال فيه أيضًا: [من الوافر]

تجرُّ الموصل الأذيال فخرًا

على كلِّ المنازل والرُّسوم

فجلة والكمال هما شفاءٌ

لهيم أو لذي نهمٍ سقيم

فذا بحرٌ تدفَّق وهو عذبٌ

وذا بحرٌ ولكن من علوم

وقال: [من الطويل]

أأإغراك زورٌ من مجدٍّ ومازح

فتقبل قول الكاذب المتواقح

هواك حشا الأحشا وأظهر غيرةً .. فقل في إناء لا بما فيه راشح

وعيشك ما أبديت حبًا وإنَّما

تجيش ببحر الشّوق فيك قرائحي

فيلحظني الحسَّاد فيك كأنَّها

بغاثٌ أتت تخشى انقضاض الجوارح

ويفحص عن ودِّي وإنِّي لكاتمٌ

ولكنَّ طرفي في الصَّبابة فاضحى

فقلبي خفَّاقٌ وجسمي ناحلٌ

وغيني تمري بالدمُّوع السَّوافح

ولولاك لاستعصيت كبرًا وإنَّما

يذل الفتى إضمار شوق الجوانح

/178 أ/ وكنت أبَّي النَّفس صعبًا مقادتي

فراض جماح القلب صيد الجوارح

وقد صان إحساني شعار قناعة

وقد ضنت إلا عنك وجه مدائحي

وكنت لعمري أملأ القلب رعبةً

وأسحب ذيلي فوق قمَّة رامح

فما زال بي حبَّيك يوقد جمرةٌ

على الوجد من نيران وجد لواقح

فأغرق طورًا في بحور مدامعي

فها انا أطفوا بين أنفاس كاسح

ص: 218

فإن كنت تهوى ان أموت فحبَّذا

وإن كنت تهوى أن أيش فصالح

[536]

عمر بن الخضر بن اللّمش بن الدرزمش، أبو حفص الدُّنيسريُّ التركيُّ.

كان يعتني بالطبّ وسماع الحديث، ويتفقه على مذهب الإمام الشافعي –رضي الله عنه وله شعر حسن في الغزل.

أنشدني أبو القاسم التبريزي، قال: أنشدني عمربن الخضر لنفسه: [من الكامل]

بلغ الغرام به إلى غاياته وتحكَّمت أحكامه في ذاته

صبُّ أصابته الصّبابة في الصَّبا

قهر أفلم يعطف على صبواته

كلفًا بمن هو في الملاحة واحدٌ

متفرِّدٌ والحسن بعض صفاته

/178 ب/ فالبدر مفتقرٌ إلى أنواره

والغصن مضطرٌ إلى حركاته

والسِّحر من ألحاظه والدُّرُّ من

ألفاظه والورد من وجناته

يهوى المحبُّ العذل فيه لاسمه

ويرى اسمه في العذل من لذَّاته

من رام يعرفه فأوَّل لفظه

معكوسة التَّصحيف من أبياته

وأنشدني أبو الحسين احمد بن الحسن المارديني. قال: أنشدني عمر بن الحضر بن اللمش لنفسه: [من البسيط]

أفدي الَّذين لهم في مهجتي دار

فهم بها الدَّهر سكَّانٌ وحضَّار

مذ فارقوا لم أزل مضنى الفؤاد بهم

ومنطقي بهم نثرٌ وأشعار

بي منهم قلقٌ والقلب محترقٌ

والدمع مستبقٌ في الخدذِ مدرار

ص: 219

والجسم في سقم يحكي شبا قلمٍ

والرُّوح في نقم من حيث ما ساروا

فالعين تطلبهم والقلب يرقبهم

والبين يحجبهم والدَّهر غدَّار

ساروا على عجل والقلب في وجل

وفي سويدائهم من مائه نار

لم أنس أنسي بهم أيَّام وصلهم

وهم على الهجر أعوانٌ وأنصار

ونحن في صفو عبش لا يكدِّره

من الرَّقيب مقالاتٌ وأكدار

حتى رماني النَّوى منهم بما عجزت

عنه القوى ورثى لي الأهل الجار

/92 أ/ وأنشدني، قال أنشدني لنفسه:[من الوافر]

تولَّت بهجة الدُّنيا بقوم

لسوء الحظِّ جاء بهم قران

إذا مارمت علمًا نلت جهدًا

لديهم حيث يعتبر العيان

وإن حاولت منهم صدق قومٍ

فكلُّهم إذا حاولت خانوا

كلامهم كلامُ في فؤادي

فليتهم من الاقطار بانوا

ولد هذا عمر سنة سبعين وخمسمائة، وتوفي سنة عشرين وستمائة بماردين. وكان إليه عمالة وقف الجامع بماردين. وكان طبيبًا فيلسوفا منجمًا، وروى الحديث ورحل في طلب الحديث، وسمع شيئًا كثيرًا. وصنف لدنيسر كتابًا سمّاه:"حلية السريين في خواص الدنيسريين". وصنف كتابًا آخر سماه: "رموز الكنوز في علم النشأة" وسماه علم الحق. وصنّف كتابًا في الحديث سمّاه: "الثمانيات" روى كثيرًا من كتب القراءات. وكان شافعي المذهب.

[537]

/92 ب/ عمر بن محمَّد بن عمر بن محمد بن أبي نصرٍ، أبو حفصٍ الفرغانيُّ.

هو من مدينة يقال لها "أندكان" من بلاد فرغانة.

ص: 220

كان شيخًا فقيهًا حنفيًا صوفيًا، يعرف الأصول والخلاف، ويفهم النّحو والعربية.

رحل إلى مدينة السلام فولاه أمير المؤمنين المستنصر بالله تدريس المدرسة الجديدة التي أنشأها على دجلة، وجعلها على الأربعة المذاهب. يدرّس فيها فقه الإمام أبي حنيفة –رضي الله عنه وذلك في رجب سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ولم يزل يدرّس بها إلى أن مات يوم السبت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن بجانب الشرقي في مقابر أبي حنيفة؛ وهو أول من درس فيها الفقه على المذهب الحنفي.

وروى شيئًا من الحديث على الحافظ أبي بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الحازمي الحافظ، وغيره. وكان يقول شعرًا متوسطًا ينظمه في أغراض يتفق وقعها، أو أسباب مختلفة، وأحوبة كتب /93 أ/ كانت ترد عليه من أصدقائه وأخوانه الذي يكاتبونه؛ ولم يكن من المسترفدين بالشعر، ولا صنعه لأجل جائزة أبدًا. وكان يتجول في الأقطار، ويخترق البلدان ويكثر الإقامة في المدن. أذهب جدَّة عمره في السفر. وكان كل مدينة ينزل بها يقبل عليه أماثلها وصدورها وأعيانها ويقربونه ويستفيدون منه ويكرمونه؛ فلذلك لا نجد في شعره إلَاّ مكاتبة كتاب ورد عليه من صديق أو .... به في سماع كان يحضر مع هؤلاء، فيقول على ذلك

ز أما ما يقارن تلك الأجناس ويناسبها.

وله ديوان يدخل في جلد استفرغه في المعاني التي سبق ذكرها آنفًا. وكان متفننًا في كل فضل، فقيهًا حنفيّا نحويًا فاصلاً أصوليًا.

أنشدني أبو الثناء محمود بن فضل الله بن أحمد بن أسعد الهمذاني الصوفي، قال: أنشدوني أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني لنفسه: [من الرجز]

يا صاحبي إلى م أتت صاحي

من سكر هوى وسكر راح

لا تحل من الصَّبوح يومًا

من خمر مراشف الصِّباح

/93 ب/ العشق طريقه التَّرقي

والسُّكر حقيقة الفلاح

ص: 221

لا تعتقدنَّ فسادًا

هذا هو غاية الصَّلاح

وأنشدني جعفر بن محمد الخسرسابوري، قال: أنشدني عمر بن محمد الفرغاني لنفسه: [من الرمل]

(أترى يقنيه عن قسوته

خذُّه الذَّائب من رقَّته)

ويروِّى غلَّة من عاشق

بالزُّلال العذب من ريقته

ويداوي علَّة من وامق

من أساراه وفي ربقَّته

(قمرٌ لا فخر للبدر سوى

أنَّه صيغ على صورته)

يا لطيفًا حيَّرت ألطافه

قلبي المجبور في غربته

أعط من أهواه ما أهوى له

من دوام العمر في دولته

وأنل من أشتكى قسوته

رق تثنيه عن قسوته

وأنشدني القاضي الإمام ابو القاسم عمر بن أبي الحسن الحلبي –أيده الله تعالى- قال: أنشدني أبو حفص الفرغاني لنفسه يتشوق بعض الأخوان: [من الكامل]

الله يعلم أنَّني مشتاق

شوقًا تضيق له بي الآفاق

/94 أ/ لو رمت أشرح بعضه بصحائفي

لاستنفد الأقلام والأوراق

أرجو وأحيا بالرَّجاء تلافيًا

ما تنطفي إلا به الأشواق

لازلتم للمكرمات شموسها

حتَّى يدوم بكم لها الإشراق

وعليكم مني تحايا عاشق

ما يقتدي إلَاّ به العشَّاق

وله وقد دخل عليه محمد بن الرفاعي، فصبّحه، وكان مساءًا غلطًا، فقال ارتجالاً:[من الطويل]

أتاني مساءً نور عيني ونزهتي

ففرَّج عنِّي كربتي وأزاحا

فصبحته عند المساء لأنّه

بطلعته ردَّ المساء صباحا

وقال أيضًا: [من الكامل]

ص: 222

عاد الحبيب كما بدا متعطفًا

وأنار نور جماله ظلم الجفا

وأعاد روح وصاله روحي إلى

جسم أضرَّ به الفراق وأتلفا

جارت عليَّ الحادثات لجوره .. في ظلمهنَّ وأنصفت إذ أنصفا

فله المحامد ما ترنَّم طائرٌ

وشكا الجفاء متيَّم ألف الوفا

وقال أيضًا بديهة في صديق له على سبيل البسط والتأنيس وقد دخل /94 ب/ عليه، ويلقب بالنجم. وكانوا في بستان صفي الدين بن الموفق:[من الطويل]

رجمنا أكاذيب الظُّنون بصادق

من العلم صاف لم يشب صفوه الرَّجم

وصرنا هداة مهتدين إلى الهدى

وكنَّا حيارى بعدما طلع النَّجم

وأصفى صفيُّ الدِّين منَّا قرائحًا

...... على ورَّادها النَّثر والنَّظم

وأضفى علينا أنعما جلَّ قدرها

عظامًا تولَّى شكرها اللَّحم والعظم

وقال أيضًا فيه: [من السريع]

فضللت هذي العلم بعد الهدى

مذ غاب عن ناظري النَّجم

وهكذا الساري بظلِّ الهدى

إن غاب عن ناظره النَّجم

وقال يرثي الزعيم المغنّي: [من الكامل]

مات الزَّعيم ومات بعد مماته

وجدٌ وجدت حياته بحياته

شاد لطيف النَّعت في سكناته

حاد خفيف الرُّوح في حركاته

ذو نغمة تحيي النفوس كأنَّما

أنفاس عيسى أودعت نغماته

اللُّطف كلُّ اللُّطف بعض نعوته

والظَّرف كلُّ الظَّرف بعض صفاته

بلغ النِّهاية في الغناء وكان أعظم آية لله من آياته

/95 أ/ مذ أخلق الأيَّام جدَّته غدا

يذري عليها باكيًا عبراته

مازال يبكي حسرةً لشبابه

حتَّى أتاه الموت من حسراته

كم عاش أخوف خائف من موته

من مات آمن آمن لوفاته

فسقى الإله ثراه سفيا رحمةٍ

وأحلَّه الفردوس من جنَّاته

وقال من صدر مكاتبة: [من الكامل]

يا معرقين تحمَّلوا حييتم

عنِّي تحيَّة مشئمٍ مشتاق

ص: 223

ألف السُّهاد جفونه إلف الكرى

جفن الميتَّم أعين العشَّاق

وقال وقد خرج يومًا إلى ضواحي الجزيرة العمرية، فمّر بواد يعرف بسقلان، وهو واد ذو أبنية وأشجار وانهار، فتذكر من كان فيه من القدماء، وأنشد بديهًا:

[من الهزج]

سبى قلبي سقلَاّن

فما لي عنه سلوان

مكانٌ فيه أهنى العيش لو ساعف إمكان

وواد فيه أشجارٌ

وأنهارٌ وغدران

/95 ب/ وأزهارٌ وأنوارٌ

وأطيارٌ وألحان

ومنثر ونسرينٌ

وحوذانٌ وريحان

ومسلاةٌ عن الأوطان لو شاقتك أوطان

وملهاةٌ عن الأشجان إن الهتك أشجان

وأصحابٌ واحبابٌ

وإخوانٌ وخلَاّن

ولكن أين أقوامٌ

به من قبلنا كانوا

تذَّكرناهم فيه

عماراتٌ وبنيان

فكم ضاعت لهم فيهنَّ أوقاتٌ وأزمان

وآمال وأموالٌ

وأعمال وأعيان

فأحياهم وحيَّاهم

ملثُّ القطر هتَّان

وعمَّهم من الرَّحمان غفرانٌ ورضوان

وقال فيه أيضًا: [من الهزج]

سقى وادي سقلَاّن

حيًا يهمي كأجفاني

على ناء عن العين ومن قلبي الشَّجا داني

على من هجره باق

ولكن وصله فاني

/96 أ/ أتاني طيفه وهنا

فأحياني وحيَّاني

وقال في الغزل: [من السريع]

يا مخلفَّا بالوصل ميعادي

ومنجزًا بالهجر إبعادي

ص: 224

أسقيت بالمبعد يا مسعدي

بالقرب إن آثرت إسعادي

خوفي من الحسَّاد أن يشمتوا

لا تشمتن بالله حسَّادي

أصبحت من مرضاك أرضى بأن

تصبح يومًا بعض عوَّادي

فديت من أصبح في أسره

وليس لي من أسره فادي

ودِّي أن أحظى بتقريبه

وودُّه طردي وأبعادي

وحضر في سماع، فأنشد المغني:[من السريع]

نديمتي جاريتي ساقيه

ونزهتي ساقيةٌ جاريه

فسئل إجازته، فقال مرتجلاً:[من السريع]

في روضة أبهج أقطارها

أزهارها الزَّاهرة الزَّاهيه

وجنَّةٌ زيَّن أشجارها

ثمارها السانعة الدَّانيه

شائدة أركان عيشي بها

ألحان أطيار بها شاديه

راضيةٌ شاركةلإ ربَّها

ساكنها في عيشة راضيه

/96 ب/ ماضيةٌ أحكام أخوائها

بالسَّعي في أيَّامها الماضيه

قاضيةٌ أن ليس يقضى على

من حلَّ فيها أبدًا قاضية

وأنشده الأمير شمس الدين تابكين –حين ودّعه بالبصرة- البيتين الأخرين، فقال مجيزًا لهما:[من الوافر]

بنفسي من .... سيأتي .... في ملكه .... عناني

وبشرني بشاشته ضحّى

وبلَّغني بلاغته الأماني

فريدٌ في الفصاحة والبيان

وحيد ماله في النَّاس ثاني

يبدِّد جوده بدر العطايا

وينظم لفظه درَّ المعاني

توحده بأنواع المعاني

عنان .......................

وبدَّل بالسرور مقيم غمَّي

وخوفي من زماني بالأماني

فشكر عطائه .........

ونشر ثنائه قد صار شاني

وكنت أعظِّم الأخبار عنه

فصغَّر ما سمعت به عياني

عنه وقلبي

أسسير هواه في معناه عاني

ص: 225

وودَّعني وأودعني غرامًا

يقصِّر عن حكايته لساني

وأنشدني وقد أزف التنائي

وحار بغربها شمس التَّداني

/97 أ/ أودعكم وأودعكم جناني

وأنثر ادمعي نثر الجمان

وإتَّي لا أطيق لكم فراقًا

ولكن هكذا حكم الزَّمان

وقال، وكتب بها إلى الملك العظيم مظفر الدين –صاحب إربل- مصدر شفاعة لبعض الاخوان:[من الخفيف]

يسأل الله خاضعًا في سؤاله

مخلصًا في دعائه وأبتهاله

رافعًا كفَّ ذلَّة وخضوع

وإنكسار إلى جناب جلاله

أن يلقِّي مظفَّر الدِّين في الدِّين ودنياه منتهى ىماله

المليك الَّذي الملوك جميعًا

من مماليكه وبعض عياله

ويوقِّيه ما يخاف ويخشى .. من أذاه في حاله وماله

ويجازيه عن جميع مساعيه لمرضاته جزيل نواله

وبرقِّيه من منازل زلفاه ذراها مع النَّبي وآله

وقال وهو صدر كتاب، كتبه شفاعة في حق بعض أصدقائه: -[من الرمل]

/97 ب/ ...... أيَّامًا مضت

ولا حكام المنى فيما مضى

ولياليها التَّي ....

من تكاليف الحياة الغرضا

في اجتماع لسماع نشره

ينشر الموتى ويشفي المرضا

ما وجدنا مذ فقدنا ....

عن لذيذ العيش فيه عوضًا

وسقى دارًا سقانًا أهلها

من مراضي الله كاسات الرَّضا

وأرانا بعد يوم أسود

بالنَّوى للقرب يومًا أبيضا

وحسامًا للمنى أغمده البين بالوصل المهنَّا المنتضى

وقال في العيد: [من السريع]

قد ذهب الغمُّ وجاء السُّرور

وأقبل الكأس علينا يدور

كأسًا كست ....

من بعد ثوب الغم ثوب الشُّرور

إذا جلوها في ظلام الدَّجى

كانت لهم فيه ضياء ونور

ص: 226

ينشرهم موتى شذا نشرها

كأنَّ يوم النَّشر يوم النُّشور

ودَّعنا الصَّوم وداع الرِّضا .. وعاد بالأفراح عيد الفطور

فانتهزوا فرصة إمكانكم

وبادروا فيها انقلاب الأمور

واعتنموا غرَّة دنياكم

فإنَّما الدُّنيا متاع الغرور

/98 أ/ وقال يتشوق بعض أخوانه: [من الكامل]

طال الفراق وطالت الأشواق

وامتدَّ نحو لقائك الأعناق

يا نور أحداق الورى لا فارقت

أنوارها بفراقك الأحداق

يا شمس آفاق العلا لا أظلمت

يومًا بغيبة شمسها الآفاق

لازلت مشرق شمس رأي مشرق

الشَّمس من إشراقه إشراق

ونفيت بالبأس المخوف وبالنَّدى

في كفِّك الآجال والأرزاق

ما سرَّ من بعد الفراق تواصلٌ

أو ساء من بعد الوصال فراق

وقال في الربيع وارتياحه بأزهاره: [من الكامل]

قدم الرَّبيع قدوم من تهواه

حيَّاه محيي قطره حيَّاه

وجلا على أسرارنا أنواره

إذا أشرقت أنوار من تهواه

وافترَّ مبسم كلِّ نور ضاحكًا

فرحًا بعابس من به وبكاء

وأعاد ميت التُّرب حيَّاً ناطقًا

سبحان منطقه ومن أحياه

وكتب صدر كتاب إلى أهله، وهم بالعراق:[من الكامل]

/98 ب/ أحبابنا لا تحسبونا بعدكم

..........................

فلقد حللتم بالسَّرائر منزلاً

ما حل فيه ولن يحلَّ سواكم

أبكم من الشَّوق المبِّرح ما بكم

حاشاكم ممَّا بنا حاشاكم

وترى يجود ماننا بوصالكم

فتروننا بعيونكم ونراكم

لابدَّ أن نرعى رياضًا أمرعت

بعد التَّنائي في حريمٍ حماكم

وقال وقد غنى المغنى أبياتًا في المعنى، فسئل إجازتها: -[من الرمل]

أيُّ سرِّ لي ما اظهره

شادنٌ سفك دمي أضمره

وسبى قلبي ولم أدر به

طرفه السَّاحر ما أسحره

ص: 227

طلَّ خداه دمي واعترفا

ما يخاف الله من أنكره

مستحلٌ دم من يعشقه

مؤمنًا بالله ما أكفره

كل سكران يرجَّى صحوه

غير صبَّ حبُّه أسكره

كيف أنساك حبيبًا قدره

جلَّ أن أنساه أو أذكره

قال في غرض له: [من الكامل]

هل عائدٌ زمن الوصال الماضي

حتَّى أنال بعوده أغراضي؟

/99 أ/ وتقرُّ عيني بالاحبَّة نظرةً

فرحي بها يشفي به أمراضي

ويعيد سعدى مقبلاً إقبالهم

من بعد طول الهجر والإعراض

ويعود قلبٌ شاحطٌ ببعادهم

ووداعهم بالقرب منهم راضي

لابدَّ أن يقضي وإن طال المدى

بتواصل بعد التَّفرق قاضي

وأرى ركوبي مع مريع جنابهم

يرعون هونًا ممرعات رياض

وقال وقد ورد عليه كتاب من أصدقائه من إربل إلى الجزيرة العمرية:

\ [من البسيط]

وافى كتاب أخ واف تذكُّره

باقٍ على العهد مأمونٌ تغيره

صافي الوداد على طول البعاد بلا

غش

أو غلِّ يكدِّره

مصدَّقٌ فعله المشكور فاعله

قولاً يقول لذي سمع ويخبره

وافى فقرت به عيني وسرَّبه

قلبي وأصبحت أطويه وأنشره

وقال غزلاً على ما اقترح عليه بعض الأخوان: [من الرمل]

لي حبيبٌ قد سلا في حبِّه

قلبي المغرى به كل حبيب

لم يغب غنِّي مذ شاهدته

ذكره في مشهد أو في مغيب

/99 ب/ خدَّ خدِّي بدم فجَّره

عشق خدِّ بدم الصَّب خضيب

يتبدَّى صاحكًا يضحكني

ثمَّ يخفي شق جيوبي

وشقائي وعنائي وبلائي

وبكائي [وعويلي] ونجيبي

وعذابي ومصابي واضطرابي

واكتئابي وانتحابي ولهيبي

ولهت روحي بروحي ولهًا

فيه فضوحي ولهيبي ولهي بي

ص: 228

وبه يزداد دائي ولدائي

هو إن شاء شفائي وطبيبي

صيَّر الصَّبَّ مصابًا من رماه بسهم [من] معانيه مصيب

يا غريبًا لي إليه دائمًا

شوق ناء نازح الدَّار غريب

جعلتنا نسبًا غربتنا

فغريبٌ لغريب كنسيب

وعجيبًا شأنه أوفعني

حسنه المعجب في شأن عجيب

وقريبًا من بعيد عنه نأي ناله كل بعيد وقريب

وجلاء لعيون رمدت

مذ جفاها وشفاء لقلوب

بدَّل العشق شبابي بمشيب

شبابي لمشيب

لا تراخذني بذنب قد مضى

أنت يا مولاي غفَّار الذنوب

[538]

عمر بن بدر بن سعيد /100 أ/ بن محمّد بن بنكير، أبو حفصٍ الكرديُّ الحنفيُّ الموصليُّ.

قال القاضي الإمام أبو القاسم: قدم علينا حلب، وسافر إلى البيت المقدَّس، فولاّه الملك المعظم عيسى بن الملك العادل رواية الحديث بمدرسته التي أنشأها بالبيت المقدّس، وولاه مملوكه عز الدين إيبك مدرسته التي أنشأها لأصحاب أبي حنيفة. وبقي مدرسًا بها؛ واجتمعت به فيها بالبيت المقدس في سنة [621].

ص: 229

ثم رحل إلى البيت المقدّس، حين خرج الفرنج إلى دمياط، قبل أن يخرب بمدّة، وسار إلى الموصل وأقام إلى سنة إحدى وعشرين وستمائة. ثم قدم علينا حلب في هذه السنة؛ وسمعنا عليه أجزاءً من أمالي ابن مللّة الحافظ.

سألته عن مولده، فقال، في جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وخمسمائة بالموصل. سمع ببغداد أبا الفرج بن كليب، وابن الصابوني وابن الجوزيّ. ثم سكن دمشق، وتوفي بها في سنة اثنتين وعشرين وستمائة ليلة السبت في التاسع والعشرين من رمضان. أخبرني بذلك أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار البغدادي. هذا كلام أبي القاسم.

ورأيت له كتابًا في الحديث جارى فيه. /100 ب/ أبا عبد الله الحميدي في كتابه: "الجمع بين الصحيحين"، وله كتاب سمّاه:"العلم في أطراف البخاري ومسلم" وكتاب "العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة".

أنشدني أبو الفضل العباس بن بزوان الموصلي، قال: أنشدني أبو حفص لنفس، وقد طلب منه الإجازة:[من الوافر]

أجزت لمدركي عصري ليرووا .. سماعي والمناول والمحازه

وتصنيفي وما أرويه طرًا على الشَّرط المراعى في الإجازه

وهذا خطَّه عمر بن بدر

وحمدل ثمَّ صلَّى حيث جازه

[539]

عمر بن محمّد بن الحسين، أبو حفصٍ الواسطي

فقيه عالم بالمذهب من حملة القرآن الكريم، راوية للحديث.

أنشدني أبو الفضائل جعفر بن محمد الواسطي، قال: أنشدني أبو حفص لنفسه من أبيات: [من البسيط]

ناديت لمَّا رأيت الحيَّ من سكني

عفا وجدَّ به سيرٌ فأخلاه:

ص: 230

يا معهد الحبِّ هل عهدٌ فتهبرنا

عن الحبيب متى زمَّت مطاياه

[540]

/101 أ/ عمر بن أبي الفتح التكريتي. من أهل حماة، أبو حفص.

كان رجلاً قصيرًا من الرجال يلبس الشرنوش والقباء، ويتزيا بزي الجند، وخدم بحلب جنديًا في دولة الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب بن غازي –رحمه الله تعالى- وأنفذ رسولاً إلى مدينة السلام في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فأكرم إكرامًا وافرًا. وأرادوه إلى الديوان العزيز ليخدم كاتبًا في ديوان الإنشاء، فاستعفى من ذلك وأصبح بسبب .... لا مراع لها ينظر فيها، ويتولى مصالحها، فأعفي عنه. وتوفي سنة إحدى عشرة وستمائة عن سنّ عالية.

وكان شاعرًا مجيدًا كثير الشعر، كاتبًا فصيحًا كامل الفضائل بارعًا في فنه، نبيها أريبا. يعدّ من الكتاب المترسلين، صاحب بلاغة في الإنشاء نظمًا ونثرًا، مشتهر الأمر في وقته.

أنشدني غازي بن مورود الطفسي الحموي، قال: أنشدني عمر بن أبي الفتح لنفسه حين ورد مدينة السلام/101 ب/ رسولاً إلى الإمام الناصر لدين الله –رضي الله عنه: [من الطويل]

شكوت إلى نفسي صروف زمانها

فقالت: حروب الدَّهر تأبى إلى الصُّلح

إذا كنت رأسًا في الزَّمان فلا تلم

جباه اللَّيالي إذ جبهنك بالنطح

ومذ نصر الله العظيم بنصره

فذلك نصرٌ جاء لابن أبي الفتح

[541]

عمر بن عليِّ بن سيارٍ، أبو حفصٍ السنجاريُّ.

شاعر من أهل سنجار، رائق الألفاظ، له في الغزل أشياء مستجادة.

ص: 231

أنشدني ابو الحرم مكي بن علي بن مكي الضرير الكوفي، قال: أنشدني أبو حفص عمر بن علي بن سيار لنفسه: [من الكامل]

وأعنَّ أسمر قدُّه كالأسمر

سلبت لواحظه جميل تصبُّري

يبدو قضيبًا مثمرًا مشمس الضُّحى

ناهيك من غصن بشمسٍ مثمر

يجني وآتيه اعتذرا في الهوى

ومتى أرد غفرانه لم يغفر

منع الوصال فلا خيالٌ زائرٌ

تحت الدُّجى إلَاّ بحلظٍ أزور

[542]

عمر بن أحمد بن هبة الله /102 أ/ بن محمّد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة –صاحب أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه- واسم أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عقيل –أبي القبيلة- بن كعب بن صعصةً بن معاويةً بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدِّ بن عدنان، أبو القاسم بن أبي الحسن القاضي المعروف باين العديم، العقيليُّ الحلبيّ.

ص: 232

صدر صدور الآية، وشمس علماء الأمة، حاز الفضائل بأسرها والمعاني بفخرها والمعالي بعزها، وعقبلة العلوم بحرزها. ذو الباع الأطول في علوم الشريعة، فارع حصونا ومعاقلها المنيعة وله البيت الأصيل والمجد الأثيل، والقدر الجليل.

نشأ في العلم، وترعرع في الفضل، وشبَّ في الزهد، وتكمّل في الورع. الفقيه الحنفي المدرس الكاتب المتفرد بعلم الكتابة والخط؛ وبيت أبي جراده كله أدباء فضلاء شعراء /102 ب/ رؤساء فقهاء نبهاء محدّثون مقدّمون عبّاد زهاد قضاة، يتوارثون الفضل كابرًا عن كابرٍ، وتاليّا عن غابر. وكل هؤلاء معظمهم من آبائه. ولي القضاء بحلب وأعمالها، وهم على مذهب أبي حنيفة –رضي الله عنه.

وأبو القاسم فأوصافه في الفضل كثيرة، وسماته بحسن الأثر أثيرة، فان الله كمل خلقه، وحسن خلقه، ووفر فضله، وكثر عقله، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور. وقد درس الفقه فأحسنه، وعني بفن الأدب فأتقنه، ونظم القريض فجوّده، وأنشأ النثر فسدده، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله وتأويله وفروعه وأصوله، والجرح والتعديل والعلم بالخلاف والجدل وغير ذلك من المعلوم.

ثم أنَّ له خطًا فاق به أبناء زمانه، وبلغ الغاية القصوى في جودته واتقانه؛ وينضاف إلى ذلك العفاق

والوقاؤ، وحسن السمت والجلال. المشهور عند الخواص والجمهور، وقد صنّف عدّة كتب منها: كتاب التاريخ /203 أ/ الذي صنعه لحلب، حذا فيه حذو تاريخ الخطيب أبي بكر بن ثابت، وكتاب "زبد الحلب في ذكر ولا حلب" واقتصر فيه على الملوك الذين ملكوها، وكتاب "في الجهاد" وكتاب "الكلم المستفادة في أخبار بني أبي جرادة" ضمنه أخبار أهله ومناقبهم، وما يستحسن من أشعارهم وفضائلهم؛ وغير ذلك من الكتب.

ص: 233

وفوّض إليه تدريس المدرسة النورية المدعوة بمدرسة الحلاوس مضافًا إلى مدرسة شاذبخت النوري. وصار له منزلة رفيعة من الدولة الناصرية الصلاحية –ثبتّها [الله] وأيدها. وأنفذ رسولاً إلى بلاد الروم عدّة مرات، وكذلك الديار المصرية اعتمادًا على وفور عقله ورزانته.

وكان مولده في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وكتب مصحفًا بخطه، ومجموعًا .... من خطّ ابن البواب وأهداهما إلى السلطان الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب؛ وكتب معهما رقعة بذهب فيها هذه الأبيات وزمَّكها على غاية الحسن، وأرسل الجميع إليه.

/203 ب/ وأنشدنيه بمدينة حلب، بمنزلة العمور ليلة الجمعة الثامنة عشرة من ربيع الآخر أربع ثلاثين وستمائة –أبقاه الله تعالى-:[من البسيط]

كلُّ الهدايا وإن جلَّت مواقعها

تباينت في نفيس القدر والغنم

وشابهت خطر المهدي وموضعه

وقصَّرت عن ندى ذي البرِّ والنِّعم

وإنَّ أنفس ما يهدى وأحمده

عقبى

القدر والهمم

هدَّيةٌ صدرت عن كاتب حسن

إلى أجلِّ ملوك الأرض كلهم

الأشرف الملك المأمول نائله

وخير من أسبغ النُّعمي على الأمم

كلام رب البرايا مصحف شهدت

كلُّ الهدايا له بالفضل والعظم

تظلُّ ترتع منه العين في زهر

وفي رياض هدى لم تشق بالدِّيم

قد جاء يحكيك يا من لا شبيه له

يا أشرف النَّاس من عرب ومن عجم

فيه صفاتك من عدل ومن خلق زاك

وبذلك النَّدى والجود والكرم

فاجعله خير جليس وأبق ما صدحت

حمامةٌ ودعت أخرى على علم

وقال أيضًا، وأنشدنيه:[من الطويل]

ص: 234

وأهيف معسول المراشف خلته

وفي وجنتيه للمدامة عاصر

/204 أ/ يسيل إلى فيه اللَّذيذ مذاقه

رحيقًا وقد مرَّت عليه الأعاصر

فيسكر منه عند ذاك قوامه .. فيهتزُّ تيها والعيون نواظر

كأن أمير النَّوم يهوى جفونه

إذا هم رفعًا خالفته المحاجر

خلوت به من بعد ما نام أهله

وقد غارت الجوزاء واللَّيل ساتر

فوسَّدته كفِّي وبات معانقي

إلى أن بدا ضوءٌ من الصُّبح سافر

فقام يجرُّ البرد منه على تقى

وقمت ولم تحلل لإثم مازر

كذلك أحلى الحبِّ ما كان مزجه

عفاقًا ووصلاً لم تشتنه الجرائر

وقال أيضًا وأنشدنيه: [من الطويل]

وساحرة الاجفان معسولة اللُّمى

مراشفها تهدي الشِّفاء من الظَّما

حنت لي قوسي حاجبيها وفوَّقت

إلى كبدي من مقله العين أسهما

فواعجبًا من ريقها وهو طاهرٌ

حلالٌ وقد أضحى عليَّ محرَّما

فإن كان خمرًا أين للخمر لونه

ولذَّته مع أنني لم أذقهما

لها منزلٌ في ربع قلبي محلُّه

مصونٌ به مذ أوطنته لها حمى

جرى حبُّها مرى حياتي فخالطت

محبَّتها روحي ولحمي والدِّما

تقول إلى كم ترتضي العيش هكذا

وقتنع أن تضح صحيحًا مسلمَّاً

/204 ب/ فسر في بلاد الله واطَّلب الغنى

تفز منجدًا إن شئت أو شئت متهما

فقلت لها: إنَّ الَّذي خلق الورى

تكفل لي بالرِّزق منه وأنعما

وما ضرَّني أن كنت ربَّ فضائل

وعلم عزيز النَّفس حرًا مكرَّما

إذا عدمت كفَّاي مالاً وثروةً

وقد صنت نقسي أن أحلَّ وأحرما

(ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي

لأخدم من لاقيت لكن لاخدما)

مضمن للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الأرجاني، ومنها قوله يفتخر بابائه:

سألزم نفسي الصَّفح عن كل من جنى

عليَّ وأغفو هفَّة وتحلُّما

ص: 235

وأجعل مالي دون عرضي وقاية

ولو لم يغادر ذاك عندي درهما

وأسلك آثار الألى اكتسبوا العلا

وحازوا خلال المجد ممَّن تقدمَّما

أولئك قومي المنعمون أولو النَّهى

بنو عامر فاسأل بهم كي تعلَّما

إذا ما دعوا عند النَّوائب إن دجت

أناروا بكشف الخطب ما كان أظلما

وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهم

بدور ظلامٍ والخلائق أنجما

وإن هم ترقَّوا منبرًا لخطابة

فأفصح من يومًا بوعظ تكلَّما

وإن أخذوا أقلامهم لكتابة

فأحسن من وشَّى الطروس ونمنما

/205 أ/ بأقوالهم قد أوضح الدِّين واغتدى

بأحكامهم علم الشَّريعة محكما

دعاؤهم يجلو الشَّدائد إن عرت

وينزل قطر الماء من أفق السَّما

وقائله يا أبن العديم إلى متى

تجود بما تحوي ستصبح معدما

فقلت لها: ‘نِّي إليك فإنَّني

رأيت خيار النَّاس من كان منعمًا

أبي اللؤم لي أصلٌ كريم وأسرةٌ

عقيليةٌ سنُّوا النّضدى والتكرُّما

وقال أيضًا: -[من البسيط]

قل للوزير أدام الله دولته

ولا تخطَّت بسوء نحوه قدم

يا أيها الصَّاحب الميمون طائرة

ومن أياديه لا تحصى ولا النَّعم

بقيت للدولة الغرَّاء تحرسها

بحسن رأيك يا من فضله ديم

ملكت رقَّ الرَّعايا بالجميل فقد

أضحوا عبيدك إن عزُّوا وإن عظموا

والله لو أنفقت كفَّاك ما ملكت

لما مللتهم بالبر .....

لكن ..... انلار غادرهم

بطول عمرك إذ يدعون ربَّهم

يدعونه بأبتها لا يغادره

إلَاّ التَّضرُّع والأغخبات ليلهم

أبردت منها قلوبًا طالما احترقت بظلمه وانبعاث الشرِّ نحوهم

أرسلت نحو قفاه أسهمًا خضعت

بالقول منك لها الأذقان والقمم

/205 ب/ تكاد تفعل في أرجاء هامته

من المذلة ما لا يفعل الأدم

أحرقت بالخائن الزنديق فانشرحت

لك الصدور فلا غلٌ ولا سقم

تثنى عليك بما اوليته حلبٌ

ويثربٌ وكذا البَّطحاء والحرم

كذاك يثنى رسول الله والملأ الأعلى عليك به والدِّين والكرم

ص: 236

وأنشدني أيضًا لنفسه ما كتبه إلى الصدر الكبير شهاب الدين أبي جعفر يحيى بن خالد بن القيسراني الكاتب: [من الخفيف]

ياكتابي عنَّي تحمَّل سلاما

يخجل الورد عرفه والخزامى

صنائعٌ نشره أجزت بدارين به أم مزجت فيه مداما

ثمَّ زر ساحة الوزير شهاب الدِّين والثم أبوابه إعظاما

ولج النزل الكريم وقابله وقبِّل يديه والأقداما

فهو مولى بالعلم قد زانه الله فأضحى للمتِّقين إماما

المعيُّ تراه إن أعمل الفكرة تلقى الأغراض منها سهاما

وإذا جرَّد اليراع لخطب

سلَّ منه على الأعادي حساما

/206 أ/ وله دانت البلاغة وانقادت وألقت إلى يديه الزِّماما

وإذا ما حللت في بطن كفٍّ

فيه تولي الورى الآيادي الجساما

ومتى فضَّ منك ختمك واستجلى محيَّاك حين أبدى اللِّثاما

حيِّه عن متيَّم ذي اشتياق

في هواه قد خاالف اللُّوَّاما

قل له: عبدك المحبُّ أبو القاسم يشكو لبعدك الآلاما

لوغدا شارحًا جميع الَّذي يلقى لأفنى المداد والأقلاما

مذ ترحَّلت نحو حارم أضحى

نومه وحشة عليه حراما

كان مستأنسًا بقربك منه

يتمنَّى النَّعيم والإنعاما

فغدا إذ رحلت حلف اكتئاب

دائم الفكر مدنفا مستهاما

فاحبه منك منعمًا بكتاب

تعل منه قدرًا وتشف أواما

وأبق في نعمة وابقى لك الله تعالى محمَّدًا والنِّظاما

وقل أيضًا: -[من الطويل]

أجنُّ إذا برق العوير تألقا

وأصبو إليه حسرةً وتشوُّقا

وأذكر أيَّامي بمنعرج اللِّوى

سقاها الحيا سحًا من المزن مغدقا

/206 ب/ ومحجوبة ما شئت قل متغزلاً

بها تلف أوفى النَّاس قولاً وأصدقا

إذا قلت: إنَّ الشمس تشبه وجهها

ترى وجهها أبهى وأحسن مشرقا

ص: 237

وإن قلت: غصن البان يحي قوامها

تجد خدَّها يزي على بانة النَّقا

وإن قست

ريقها بمدامة

مدحت إذا قست الرَّحيق المعتَّقا

يود نسيم المسك لو أنه حكى

ترائب منها إذ تضوغ ومفرقا

لها مبسمٌ عذبٌ وعينٌ كحيلةٌ

وخدٌ أسيلٌ فلًّ عزمي وفرقا

وجيدٌ يغير الظَّبي أبيض لونه

وشعرٌ يعير اللَّيل عن شاء قرطقا

أتت تتهادى بين بيض نواعم

يخمرن أطراف البنان من التُّقى

فحيَّيتها ثمَّ اشتكيت صبابتي

إليها فقالت: هكذا من تعشَّقا

فقلت: ارحمي من ذاب وجدًا وبادري

قتيل جوى غادرته في الهوى لقى

فقالت تجنَّب أن تزور فإنَّ لي

أبًا غائرًا مازال يخشى ويتقَّى

ولا تلجن يومًا عليَّ فإنني

أخاف إذا ما زرتني ان تمزَّقا

فعدت إلى الشَّكوى وأبديت ذلَّة

وأسبلت دمعًا جاريًا مترقرقا

فرقَّت لما بي ثمَ قالت لصحبها

أرى ذا الفتى في أسر حبِّي موثقًا

وأبرزت الوجه المنير وأصبحت

على العاشق المسكين أحنى وأشفقا

/207 أ/ وظت تجاذبني الحديث وإنني

لأمنحها مني الوداد المروقا

وله قد رأى في عارضه شعرة بيضاء، وعمره يومئذ أحد [ى] وثلاثون سنة، وأنشدنيه:[من الطويل]

أليس بياض الافق في اللَّّيل مؤذناً

بآخر عمر اللَّيل إذ هو أسفرا

كذاك سواد النَّبت يقرب بيسه

إذا ما بدا وسط الرِّياض منوِّرا

وقال أيضًا وأنشدنيه: [من الكامل]

إحذر من إبن العمِّ فهو مصحَّف

ومن القريب فإنَّما هو أحرف

فالقاف من قبر غدا لك صافرًا

والزَّاء منه ردى لنفسك يخطف

والياء ياس دائمٌ من خيره

والباء بعضٌ منه لا يتكلَّف

اقبل نصيحتي الَّتي أهديتها

إنِّي بأبناء العمومة أعرف

ص: 238

[543]

عمر بن عليِّ بن المبارك بن يوسف بن عليٍّ، أبو حفصٍ الموصليُّ، المعروف بابن النحَّال.

هكذا ذكر لي نسبه لما سألته عنه.

كان شيخصا طويلاً عانى نوع الأدب والخط والكتابة والتجويد لها، فتميّز في ذلك كلّه /207 ب/ ولازم الشيخ أبا الحرم النحوي، وأخذ عنه صدرًا حيِّداً من علم العربية والنحو.

ثم تردد إلى أولاد الأمراء بالموصل يعلمهم خطًا وأدبًا. وكان قبل ذلك مقلاً فأثرى وصار له رزق صالح وحرمة عندهم وقبول. لقيته عدّة مرات ولم ينشدني شيئاً من شعره.

ثم عثرت له بعد ذلك بقصيدة، فأنشدنيها وهي بخط يده نظمها في القاضي حجّة الدين أبي منصور المظفر بن عبد القاهر الشهرزوري، توفي يوم الأثنين رابع عشر المحرم من سنة إحدى وثلاثين وستمائة بالموصل:[من الطويل]

نه عجَّزت من دونها النَّظم والنّثرا

وأوضاح فضلٍ فاقت الانجم الزُّهرا

تسامت فلا نثرٌ تزداد به علا

وتاهت فلا نظمٌ تزان به ذكرا

فلو جاءها بالنَّثرة النَّثر لم يجز

مناقبها أو حفَّها الشِّعر بالشِّعرى

وهبني ملأت الأفق بالمدح أنجما

فهل يتغشَّى نورها الشَّمس والبدرا

بدا كمحيَّا الصُّبح من نوره سنى

وأبدى سحيق المسك من نشره عطرا

على أنَّ طيب الذَّكر أجدر بالفتى

وأعلى له قدرًا وأبقى له ذكرا

فإنَّ لأنفاس الخزامى تأرُّجًا

إذا ما نسيم الرِّيح ضوَّعها نشرا

/208 أ/ هجرت مديحًا في سواك تقيَّة

وصونًا فلا إفكا أقول ولا هجرا

فإنَّك قاضي النَّاس حجَّة ديننا

غياثٌ لمن وافى .... معترَّا

تخولِّله نعمى وتسعفه يدًا

وتلحفه ظلاً وتكنفه برَّا

صلاتٌ تراها كالصَّلاة فريضة

إذا عنّ منها الشَّفع أعقبها الوترا

ص: 239

لقد حزت فضلاً لم يحزه من الرى

سواك ملّكت السِّيادة والفخرا

ونلت محلاً في الآنام ورتبة

تجاوزت الجوزاء بالفخر وال ....

قدم حجَّة الدِّين الإمام على الورى

تنيل النَّدى جوداً وتصلي العدا الجمرا

ولازلت للعافين مأوى وملجأ

نزيل بك البأساء والضُّر والفقرا

[544]

عمر بن إسحاق بن هبة الله بن صدّيق بن محمود بن صالحٍ، المعروف بابن قاضي خلاط.

وقد تقدّم شعر أبيه وأخيه وكانت ولادته بخلاط في ليلة السادس من شعبان في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.

وانتقل مع أبيه وأخيه إلى مدينة إربل، ثم سافر عنها بعد موت أبيه في سنة سبع عشرة وستمائة إلى بلاد الشام؛ ثم نزل دمشق خدم أميرًا /208 ب/ بها، يعرف بكريم الدين إبراهيم. ثم خدم بعده الملك الصالح عماد الدين أبا الفداء إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي صاحب دمشق.

لقيته بحلب المحروسة بخانقاة القصر يوم السبت العشرين من جمادى من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وستمائة، وقد رودها رسولاً من قبل الملك الصالح مخدومة.

وهو شاب جميل حسن المنظر فاخر الملبوس، متزيٍ الاكراد؛ شعره

ص: 240

يضرب إلى كتفيه، جندي كيّس ذو طبع مؤات فيما يرومه من إنشاء العلم ولم يكن عنده شيء من العلم سوى نظم الشعر لا غير. فاستشدته فأنشدني هذه المقطوعات ما خلا هذه القصيدة البائية.

أنشدني عمر بن إسحاق لنفسه: [من الطويل]

ولَّما دنا ممَّن أؤمِّل قربه

بعادٌ أذاب القلب بين الجوانح

وسارت نواجي العيس عن أرض بارق

وكلُّ نضير الخدِّ للبدر فاضح

وعاينت وخد الرَّاقصات عشيِّة

ومر حدوج القوم بين الصَّحاصح

وألفيت أبناء الهوى شارفوا أسَّى

مناياهم ما بين باك ونائح

تيقنت أنِّي لا محالة واردٌ

حياض المنايا إثر بين الطَّلائح

/209 أ/ ربحت دنوَّ الدَّار دهرًا قبضته

وكنت غداة البين أحسن رابح

وأنشدني من شعره: [من السريع]

يا ليلة الحاجر هل عودةٌ

ترى لووصل النَّازح الهاجر

وهل يعيد الوصل قولي: ترى

هل عودةٌ يا ليلة الحاجر

أحبابنا بانوا فلم يكتحل

بالغمض من بعدهم ناظري

كان التمني فيهم أوَّلى

فصار يأسي منهم آخري

واربا من عاذل عادل

في الحكم عن إيضافه جائر

يأمرني بالصَّبر عنهم ومن

أين لقلبي جلد الصَّابر

أيا شقائي في الهوى إنَّني

أعيش إلَاّ تعب الخاطر

فيا مريقاً دم عشَّاقه

بصارم من طرفه السَّاحر

بالأسود الفاتر حتَّى متى

تفعل فعل الأبيض الباتر

أنشدني لنفسه: [من المجتث]

سبت فؤاد المعنَّى

لواحظٌ منك وسنى

يمرضننا حيث ترنو

وهنَّ أمرض منَّا

ص: 241

ما أكثر النَّاس حسنًا

أقلُّهم أنت حسنا

/209 ب/ ردَّ الرُّقاد لعلَّ .. الخيال يطرق وهنا

إلى متى ذا التَّجافي

جد بالتَّلاقي وصلنا

وقال أيضًا وأنشدنيه: [من الكامل]

سحرته ألحاظ الحسان كما ترى

وغذته البان الهوى فتحيَّرا

وغدا يصوب لذكر نَّجد دمعة

فلأجل ذلك ما جرى إلَاّّ جرى

يا طرف دع شكوى السُّهاد جهالة

أنت الَّذي في بحره غرق الكرى

وأنا الَّذي أصبحت أنزح ماءه

أبغي الغريق به وها أنا لا أرى

تشكو وأنت .... أسباب الهوى

حتى .... بها العذاب الأكبرا

ماكنت من خلدي لرائعة النَّوى

قبل الحمام .... ومصوَّرا

فدنا بها زمن أساء ولم يكن

من قبلها بنوى الأحبَّة أنذرا

وأبادني ببعاد أهيف خدُّه

كالورد أزهر فوق غصن أزهرا

فسرى الفؤاد وما أقام وحبُّه

بين الجوانح قد أقام وما سرى

وقال أيضًا وأنشدنيه: -[من الكامل]

ومهفهف رطب المعاطف ناعم

عذب المراشف طيِّب الأنفاس

جمع المحاسن وجهه فكأنَّما

هو روضةٌ راقت على .....

/210 أ/ فالنَّرجس الطَّرف المضاعف

لوعتي واقاعها ثغر جنى

والخدُّ يبدو محدقًا بعذاره

كالورد حفَّ به جنيُّ الآس

سبحان من أنشاه من إحسانه

حسنًا فأصبح فتنة للناس

[545]

عمر بن عبد الله، أبو حفص، الأنصاريُّ الواسطيُّ الفقيه.

نزل بغداد وتفقه على مذهب الإمام الشافعي –رضي الله عنه وصار معيدًا له؛ وله شعر رقيق.

أنشدني زين الدين أبو الفضل صدقة بن أبي إليه الشيرازي، قال: أنشدني عمر الأنصاري لنفسه: [من الطويل]

ص: 242

أواخر أشواقي إليك أوائل

وسائل دمعي لي إليك رسائل

وأيسر ما .... منك ..... قاتل

من الوجد والدَّاء الذي لا يزايل

وأسدُّ عن التَّعدال سمعي وإن دعا

غرامٌ فمغري بالإجابة مائل

وفي مذهب العشَّاق أنَّ أبن صبوة

سلى كان فيما أدَّعى وهو جاهل

وما أنا ممَّن يردع العذل قلبه

على كل حال فلتكفَّ العواذل

رضيت بقتل في هواك وراق لي

وأحلى الهوى للصبِّ ما هو قاتل

/210 ب/ لعمري لولا أن أؤمِّل أنَّه

إذا مرَّ عام جاء بالوصل قابل

لغارقت النَّفس الحياة وأصبحت

تنوح عليها النَّائحات الثّ واكل

ولولا سقام الجفن لم يلف مسقمٌ

ولولا نحول الخصر لم يلف ناحل

قطعت حبال الوصل لا عن جزيرة

وما النَّاس إلَاّ قاطعٌ ومواصل

فهلَاّ بعثت الطيف في سنة الكرى

لعلي أرى بعض الذس أنا أمل

فإنَّ الكرى في طرف كلِّ مسهَّد

لكلِّ خيال من حبيب حبائل

وهل عاذلٌ إذا حلّ عاقلاً

ولم تقتنصه باللِّحاظ العقائل

بواد بواد كالشُّموس بأعين

إذا ما رنت لم تحم منها المعاقل

رشقن بنبل السِّحر منَّا مقاتلاً

فما جاوزت تلك النبال المقاتل

فمن كان يروي السِّحر عن أرض بابل

فعن هذه الألحاظ ترويه بابل

[546]

عمر بن أبي بكر بن يحيى، أبو حفص البغداديُّ

حفظ كتاب الله –تعالى- ببغداد، وسمع الحديث على جماعة من شيوخها منهم؛ أبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن سكينة، وأبو الرِّضا بن العودي وغيرهما؛ وله /211 أ/ إجازة من أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي وغيره من أصحاب الحديث.

خرج من بغداد لضائقة لحقته متوجهًا إلى محروسة إربل، فنزل بدار حديثها المظفرية؛ وسمع حديثًا كثيرًا على شيخنا أبي الخير بن أبي المعمر التبريزي المحدّث وتولى بها الإمامة، يصلّي بجماعتها الصلوات الخمس. رأيته بها وهو شيخ كثير

ص: 243

الدرس للقرآن يته دائمًا آناء الليل وأطراف النهار.

اخبرني أنه [ولد] سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وبلغني أنَّه قتل بإربل حين دخلها التتار الملاعين –خذلهم الله تعالى- في شوال سنة أربع وثلاثين وخمسمائة –رحمة الله تعالى- وله مقطعات من الشعر.

أنشدني لنفسه؛ وكان قد مرض حتى أشرف على الهلاك، فمنَّ الله عليه وأنقذه من مرضه الَّذي ألم به:[من الرمل]

ذكره أنسي وأنسي ذكره

ليتني لم يخل من ذكر لساني

عجبًا لي كيف أنسى شكره

ومن الأمراض ربِّي قد شفاني

يا إلاهي كن لعبد مذنبٍ

دائمًا يدعوك في كلِّ مكان

إنَّ ربي قال في تنزيلة

انا من عبدي قريبٌ إن دعاني

/211 ب/ ربِّ فاغفر لي ذنوبي كلَّها

واعف عنِّي ثمَّ أصلح لي لساني

وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى علاء الدين أبي علي بن عمر بن صالح الإربلي، وهو يومئذ يتولّى الاشراف بالديوان المظفري –يشكو إليه من عمال دار الحديث، تشفعًا في استخلاص جامكيته منهم وقد عوقت عليه ومطلوه بها: -[من الخفيف]

أيَّها السَّيِّد العلاء أغثتي

وانتصر لي من هذه العمَّال

كم يعنُّون بالتَّردُّد والمطل

ولا ينظرون في سوء حالي

جهلوني فليتهم عرفوني

إنَّني كنت في زماني الخالي

بمدار وحنطة بغال

وبجاه وحشمة ودلال

فرماني قضاء ربِّي إليكم

يعدما ان عدمت جاهي ومالي

ليتني كنت قد قرب وما جئت إلى إربل رقيق الحال

إن تكن مسعدي عليهم فوالله يمينًا بكلَّهم ما أبالي

ص: 244

[547]

عمر بن عبد الكريم /212 أ/ بن عمر بن الرحيم بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن أحمد بن دوت داذ، البغداديُّ المولد والمنشأ، النيسابوريُّ الأصل، أبو المحاسن بن أبي سعدٍ.

من أبناء المشايخ المعروفين بالتصوّف وحسن الطريقة.

أخبرني أنه ولد في شهر ربيع الأول سنة تسعين وخمسمائة. وتوفي آخر نهار يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وستمائة. وصلِّى عليه برباط .... الشيخ أبي سعيد النيسابوري، ودفن يوم السبت بالجانب الغربي ببغداد في مقبرة باب البصرة تجاه جامع المنصور. وكنت ممن شهد الصلاة عليه –تغمده الله برحمته ورشوانه عنه وكرمه-.

وكان شابًا عفيفًا جميلاً، وموصوفًا بالعقل، حسن الأدب، ولم يعرف له منذ نشأ صبوة، تأكدت بيني وبينه صحبة ببغداد، وكنت كثير التردد إلى والده.

مما أنشدني لنفسه من قصيدة يناقض بها قصيدة أبي الفتوح بن البخاري التي تقدّمت، فقال أبو المحاسن:[من البسيط]

جنى ورد خدود العاتب الجانبي

إلى احتمال التجني من الجاني

/212 ب/ أحوى خوى الحسن في خلق وفي خلقٍ

فاق الخلائق حتَّى ماله ثاني

طلق المحيَّا لو استسقى الحيا لسقى

ولو تعذَّر نابت عنه أجفاني

ما عاين الإنس إنسانًا كصورته

لمَّا يصوِّره إنسان إنساني

في فيه راحي وروحي في يديه وفي

تقبيل وجنته روحي وريحاني

أغنت عن الغانيات الغر غرَّته

وشهد فيه عن الصَّهباء أغناني

والخمر ما خامرت عقلي ولا غفلت

عن المواقيت تسبيحي وقراني

أهوى العفاف كما أهوى شمائله. وللنُّهي عن تناهي الآمر ينهاني

واعتضت من راهبات الدَّير يا سكني

بسَّاكني الدُّور من حور وولدان

أحبب بهنَّ شموسًا لا شمامسة

قد توِّجوا بأكاليل وتيجان

ص: 245

ونحظر الدُّف والمحصور ننكرة

ولا نصيخ لنايات وعيدان

والزَّفن مضطربٌ للقوم من طرب

وليس ينكر عرف الحبِّ عرفاني

وفي المعنى لأرباب الهلوى أربٌ

لم يبلغوه بشمعون وشمعان

فالقسُّ لو كان قساً في فصاحته

لما انتصرت على غيٍّ بنصراني

مالي وللجاثليق الشَّيخ متَّزراً

بالصُّوف يزري على ديني وإيماني

فأبن البحيريِّ لما إن طغى وبغى

قال: اعذروني فالرَّبان ربَّاني

/213 أ/ ساء اعتقادًا فناجته عقيدته

هذا هو العيش إلَاّ أنَّه فاني

هذا إلى مالك مالت جوارحه

ونحن ملنا إلى روض ورضوان

أرجو من الله أن يغفو برحمته

ولم يكلني إلى ضعفي ونقصاني

فلست أنكر جرمي وهو يعرفه

ولا أصرُّ على إصري وعدواني

ولا أقول وعمري بل عامره: (عرِّج بدير حنينًا أيها الجاني)

[548]

عمر بن يوسف بن أبي بكرٍ، أبو حفصٍ القفصيُّ، المعروف بابن التبسىِّ.

وتبس مدينةٌ من مدن أفريقية.

حدثني القاضي أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة بحلب –أيده الله تعالى- قال: كان شيخًا حسنا دمت الأخلاق، طيب المحاضرة، اقام عندنا بحلب سنين عدّة. وكان يختلف إليها بعد ذلك.

وروى لنا شيئًا من شعر عبد المنعم الجلياني عنه، وأنشدنا مقطعات من الشعر له ولغيره. وكان له معرفة بالحكمة والهندسة.

وأخبرني أنّه ولد في العشر الأول من ذي الحجة سنة تسع وأربعين وخمسمائة،

ص: 246

قال: وجدته كذلك بخط/ 213 ب/ والدي، قال: وتوجه إلى ذبلاد الروم بعد العشرين والستمائة، فبلغني بعد ذلك أنه توفي بها. وأنشدني لنفسه:[من الطويل]

وقائله مالي أراك مغيَّرا

أمن فرط وجد صار لونك أصفرا

فقلت كليني ياهنيدة واعلمي

فلو أنَّ ما بي بالجلامد أثَّرا

فقالت: رعاك الله هل أنت مخبرٌ

بما هو أو ما كان قدماً وما جرى

لعلَّ برأي يحدث الله راحة

فإن الَّذي أبلى يفرِّج ما ترى

فقلت لها: صرف الزَّمان وجوره

احال على الأحوال حالي فغيَّرا

وشئت أحبابي وأذهب ثروتي

فصرت فقيرًا بغد ما كنت موسرا

تناءت دياري واضمحلَّت أحبَّتي

فهذا الَّذي أهدى لجسمي التَّغيرا

فدمعي سفوحٌ والجوى حلَّ في الحشا

وقلبي قتيل الحالتين مغفَّرا

ولا حاكمٌ يقضي فيحكم بيننا

ولا مسعد تلفي لنصري ميسَّرا

فمن مانعي من ظلم دهري وجوره

ولم ألق إلَاّ من إذا قال: قصَّرا

وقد حار وهمي من عظيم بليَّتي

فما خيلتي فيما سمعت وما ترى

[549]

عمر بن أسعد بن عمّار /214 أ/ بن سعد بن عمار بن عليِّ بن أبي العلاء بن أبي الفرج بن هذيل الأمير أبو حفص ابن أبي المعالي الموصليُّ.

من أبناء الأمراء وبيت الجاه والولاية والخدمة للملوك والسلاطين.

كانت ولادته فيما أخبرني به من لفظه ظهر يوم الأحد سادس جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة. سمع في حال صغره الحديث، وكتب خطًا رائقًا؛ وله معرفة حسنة بالتواريخ والسير وأيام الناس وأخبارهم، صاحب نظم حسن، ونثر لاباس به؛ وهو نعم الرجل دينًا وتواضعًا وفضلاً.

أنشدني لنفسه: [من الوافر]

إذا علقت من الديوان كفي

بأسباب العبودة والولاء

فلست أخاف أحداث اللَّيالي

إذا أصبحت منه بالفناء

ص: 247

وأنشدني أيضًا لنفسه: [من السريع]

هنِّيت بالخلغة يا من له

مجدٌ ووجه يخجل الشَّمسا

قد فقت أضرابك في كل ما

تأتيه في المصبح والممسى

وأنشدني أيضًا قوله: [من البسيط]

يامن له مقلو تسبى العقول بها

رفقًا بقلب حشاه الوجد أحزانا

/214 ب/ إن كانقصدك قتلي بالُّدود فقد

أضرمت في كبدي بالهجر نيرانًا

وأنشدني أيضًا من شعره: [من الطويل]

فأنت الَّذي عظَّمت للدِّين أمره

وشيَّدته مبنى ونوَّهته قدرا

سموت علوَّا وارتفاعًا وبسطةً

ونلت المنى في كلِّ حادثة قطرا

حسام أمير المؤمنين الَّذي انتضى

لجذِّ رقاب الصِّيد يبترها بترا

وأنشدني لنفسه: [من السريع]

صبِّحت بالإقبال والنَّصر

يا مالك الإحسان والأمر

وعشت ما ناحت على أيكة

قمريَّةٌ في غرَّة الفجر

وأنشدني أيضًا قوله: [من الوافر]

مثلت بخدمة الملك الهمام

أبي الأشبال واللَّيث المحامي

فأرعدت الفراص منه خوفًا

وآذن منه ظهري بانفصام

ألام على مهابة ليث بيد

عداه [] بالعضب الحسام

مليكٌ يكسب الضرغام بأسًا

وإقدامًا على الجيش اللُّهام

مليكٌ شأنه قمع الأعادي

وبذل ندّى كمنهل الغمام

وانشدني أيضًا لنفسه: [من الوافر]

/125 أ/ ألا يا أيُّها المولى الهمام

ويا ملكًا أياديه حسام

شأوت ملوك أهل الأرض طرّاً

وفتَّ العالمين فما ترام

إذا ضنَّ السَّحاب وأنت فينا

سقانا جود كفِّك والسَّلام

إذا رضي الكرام عليَّ منهم

فما آسى إذا سخط اللِّثام

ص: 248

ومن كلامه المنثور ما كتبه إلى بعض الولاة في معنى أملاك له أخذت منه: "شابت ذوائب الأمل في الوعود الكريمة، واتسع خرق الفاقة، وتضاءل الصبر واشتدّت فيه الحاجة، والإلحاح في السؤال، يؤدي إلى الملال، والإمهال، يؤذن بالإهمال".

[550]

عمر بن عليِّ بن محمّد بن الوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، أبو الفضل بن أبي الحسن الشيبانيُّ

وقد تقدم نسب مستقصىّ عند ذكر ابن عمه أحمد بن ظفر.

أخبرني أنّه ولد تقديرًا سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بدمشق، وهو من بيت الوزارة والرئاسة كان في خدمة /215 ب/ الملك المسعود مودود بن محمود بن محمد –صاحب آمد- وكاتب أسراره؛ فلما اخذ الملك الأشرف موسى آمد وملكها خرج الأمير أبو الفضل متوجهًا إلى مدينة إربل سنة ثلاثين وستمائة ليخدم سلطانها الملك المعظم كوكبوري بن علي بن بكتكين –رضي الله عنه.

وأنشدني لنفسه: [من الطويل]

سلامٌ على من ليس لي منهم بدُّ

وإن هجروا عن غير جرم وإن صدُّوا

سلامٌ كأنفاس الرِّياض تأرجت

سحيرًا وفي أرجائها البان والزَّند

أيا ساكني الزَّوار هل بعد بعدنا

تدان ففي الأحشاء من بينكم وقد

تناسيتموني واضمحلَّت مودَّتي

لديكم وقلتم غاله البين والبعد

وما عندكم أنِّي إذا هبَّت الصَّبا

عراقِّية من أرضكم هزَّني الوجد

وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الكامل]

من مبلغ الواشين لا نالوا المنى

عنِّى إليه صادق الأعذار

والله ما رقدت جفوني بعدها

إلَاّ لرقبة طيفها الزَّوار

ولما خزنت الدَّمع يوم وداعها

إلَاّ لحفظ ودائع الأسرار

ص: 249

وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى الصاحب /216 أ/ شرف الدين أبي البركات المستوفي:

[من البسيط]

أنَّي أعدُّ انقطاعي عن مقرِّكم

كيما أحقِّقه من أعظم الحرب

فإن تجاوزتم عنِّي فحلمكم

عن كلِّ صاحب جرم غير محجوب

ولي رسائل حمد أستغين بها

مستوهب المسك منها نفحة الطِّيب

زهت بكم إربل الغرَّاء وافتخرت

لمَّا عدت سلب الغرِّ المناحيب

كذا المبارك أنذَى حلَّ في بلد

كساه بالفخر فضفاض الجلاليب

وافي الصيِّام فلا زالت ميامنه

تنيله كلَّ مأمول ومطلوب

وانشدني لنفسه: [من الطويل]

ومن عجب أنِّي أرى ذا حشاشة

بوجه لئيم من دجى البخل كالح

يؤمل أن يثنى عليه بصالح

وهيهات أن يثنى عليه بصالح

وأنشدني أيضًا قوله: [من الخفيف]

لا يغرَّنكم تضاعف بشري

عند لقياكم وفرط ابتسامي

إنَّ للسيف حين يشهر للضرب بروقا فيهنَّ ومض الحمام

وانشدني قوله في إنسان أتلف له بغلة ثمينة، ثم أتبعها بضياع محفورة ثم هجره /216 ب/ عقيب ذلك، وتجنّى عليه حتى أنه كاد أن لا يكلمه:[من السريع]

إنِّي وإيَّاه حديثٌ غدا

أعجوبة بين الورى مثله

كنت أضافيه وأعتده

ذخراً على الأيَّام ما مثله

ما باله يجتاز بي معرضًا

عنِّي ويثني عامدًا نعله

كأنني ضيَّعت محفورة

منه وأتلفت له بغله

وأنشدني لنفسه، وكان مقيمًا بخلاط، والخوارزمي يحاصرها في النوبة الأولى؛ وكتبها إلى الأمير أسد الدين أبي العباس أحمد بن عبد الله بن عيسى المهراني الكردي وهو أسير في يده. وكانت بينهما صحبة ومحبّة تتجاوز حدّ الوصف: -[من الكامل]

أأبثَّك الأشواق أم أشكو الَّذي

أنا فيه من حذر ومن وسواس

هيهات لا إحداهما أنا قادرٌ

أنِّى أعبَّر عنه في قرطاس

ص: 250

ولقد سمعت من الكلام عجائبا

زادت على عدِّي وحدِّ قياسي

وتعرَّض الأعداء بي لمَّا رأوا

بيني وبينك ضجَّة الحرَّاس

/217 أ/ أولست تعلم أنَّني الخلُّ الَّذي

يتلو محاسنكم مع الأنفاس

وإذا اعترى أمرٌ وفاجأ فادح

يومًا يجود بروحه ويواسي

ولئن أتاح الله عودك سالمًا .. وأجاب فيك الدَّهر بعد شماس

فجميع ما لاقيت مغتفرٌ له

إلَاّ فراقك يا أبا العبَّاس

وأنشدني لنفسه أيضًا: [من الطويل]

إذا أنت حقَّقت المكارم في أمرئ

وأيقنت أنَّ المجد تحت ردائه

فزره ولا تخشى الملال فإنَّه

يرى لك حقًا في لزوم فنائه

[551]

عمر بن محمود بن أبي عليِّ بن عليِّ بن أبي عليِّ بن محمود بن الربيع، أبو حفص الإربليُّ

يعرف عند أهل بلده بابن الموازينيِّ.

شاب أزرق العينين أشقر، ذو خاطر مؤات في الشعر المتزن، وفطنة حسنة في إنشائه؛ استظهر القرآن الكريم، وأخذ من العربية ما يعصمه من اللحن. ومال إلى حفظ الأشعار. وهو سريع الحفظ، ينشد البيتين والثلاثة مرة واحدة فيحفظها في الوقت ولم ينسها.

/217 ب/ وكان مولده سنة ثلاث وستمائة بإربل، وبها توفي في المحرم سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.

أنشدني من شعره، يمدح الصاحب الوزير شرف الدين أبا البركات المستوفي –رحمة الله تعالى-:[من الخفيف]

هل إلى سالف الوصال وصول

أم بقرب الحبيب يشفى الغليل

بعدت شقَّة الوصال على المشتاق فالجسم منه مضني عليل

حرَّم الغمض جفنه فقصير اللَّيل في جنب ما يلاقي طويل

ص: 251

في هوى أهيف القوام له من

جفن عينيه صارمٌ مسلول

إن تبدَّى فيدرتم منيرٌ

أو تثنَّى فغصن بان يميل

هدَّ ظهري ثقلاً وأوهى اصطباري

منه ردفٌ واف وخضر نحيل

كحل الجفن بالسُّهاد وصدَّ النَّوم عن مقلتي طرفٌ كيل

يا عذولي في حبِّ من شرح أشواقي إليه إذا يعدُّ يطول

لا تلمني فمسمع الصَّب عن ثقل استماع الملام واه كليل

ياخليلي وقلَّ في الحبِّ أن بوجد للعاشق المعنَّى خليل

كان ظنِّي أنِّي مدى الدَّهر لا أسلو وعن عهد حبِّه لا أحول

علَّمتني أفعاله كيف أسلوه وماذا –إذا سئلت- أقول

/218 أ/ فتسلَّيت واسترحت من التَّعذيب في الحبِّ واستراح العذول

حسب جسمي يطيق حمل أيادي

شرف الدِّين فهو عبءٌ ثقيل

أنا من نائل المبارك ذي الإنعام في روضة النَّعيم أجول

لي من صوب راحتيه إذا أجدب ربعي سحاب جود هطول

ذو محيّا طلق وربع رحيب

فيه للقاصد المجدِّ مقبل

يظهر البشر حين يأتي يروم النَّيل من جود احتيه النزيل

فهو في المكرمات فردٌ في دفع الأعادي عن نازليه قبيل

عمَّ إحسانه الأنام فأضحى

وكثير الثناء فيه قليل

أسرع المعتفون يبغون جدواه وتأميلهم لديه دليل

غير بدعٍ يا إبن موهوب في ربع

معاليك نزِّل التَّننزيل

يا وزيراً أشباهه وعطاياه قليل هذا وهذا جزيل

لحمي ربعه حقيقٌ بأن تطوى إليه صحاصحٌ وسهول

خزَّنا عند مدحه طربٌ حتى كأنَّ المديح فيه شمول

فلإنشاده نميل كأنَّ الغصن هبَّت له صباً وقبول

فليعش ما أحبَّ في خفض عيش

فأمانيُّنا إليه تؤول

/218 ب/ وأنشدني لنفسه أيضًا يمدحه: [من الخفيف]

قم فقد آذن الدُّجى بالرَّواح

ودعا بالفلاح داعي الفلاح

ص: 252

وتولَّت عساكر اللَّيل واستولت على هزمها جيوش الصّّباح

واحبنا من رضاب فيك بخمر

ما علينا في شربها من جناح

فوق ورد من وجنتيك وآسٍ

من عذاريك نزهة الأرواح

واسقنيها أولاً فصهباء كرمٍ

خندريسًا تدعو إلى الأقداح

قرعتها يد المزاج وكانت

لم تدلَّس من قبل ذاك براح

برزت في الدُّجى فعاد نهارًا

فغنينا بها عن المصباح

يا نديمي قم نشرب الرَّاح صرفًا

فكذا شربها بطيب افتضاح

في رياض يهدي إليك أريج المسك منها منثورها والأقاحي

يتغنَّى الحمام فيها بألحان تسري الهموم عجم فصاح

لا تراني إلَاّ إليها مدى الدَّهر عدوى الًَّذي ....

أين قلب الخليِّ مما كرهته أسهم الأعين المراض الصحاح

فاغتنم لذة الزَّمان وحاذر

أن ترى يا أخا الخلاعة صاحي

لا تخف فاقة وقد بتَّ ترجو

شرف الدِّين ذا النَّدى والسَّماح

/219 أ/ أريحيا ما في يديه مباحٌ

وحمى العرض منه غير مباح

حجبته عن أن ينال بسوء القول سمر القنا وبيض الصِّفاح

يا أجلَّ الأنام قدرًا وأذكى النَّاس نشرًا ومن لديه نجاحي

حمد السَّائرون نحوك يرجونك سير الظَّلام عند الصَّباح

بات كفُّ الإعطاء منك لما خطَّته في الجود كف غيرك ماحي

فإلى وجهك البهي اشتياقي

وإلى جود راحتيك التياحي

لك ذل الورى فليس لمن بتَّ تروم انقياده من جماح

واستقادت لك المنون ..........

......................

فأبق فالعاملون ما لم تكن فيهم جميعًا أولو أياد شحاح

وأنشدني لنفسه يصف فصّ النرد: [من المنسرح]

وذي جهات ستَّ له جسدٌ

الجسم أمره وجبا

تجور في حكمه فتبذل في الطَّوع لديه اللُّجين والذَهبا

كأنَّه الدَّهر في تصرُّفه

متى حبانا استرَّ ما وهبا

ص: 253

وأنشدني قوله فيه أيضًا: [من الطويل]

وعاجي جسم نقَّط المسك جسمه

كصبح عليه للدُّجَّنة آثار

/219 ب/ مسدَّس شكل فيه ضرُّ وراحةٌ

تصرِّفه فينا .. أقدار

فلا تتعدَّى ما يقول وإن جنى

علينا وعقبى ما نسرُّ به النَّار

وأنشدني أيضًا لنفسه فيه: [من مجزوء الكامل]

جيشان من زنج وروم ذا على هذا يصول

يتجاولان ولا يطل دمٌ غيرهما القتيل

وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى بعض أصدقائه: [من البسيط]

أبلغ محمَّد عنِّي إن مررت به

قضيَّة تقلق الأحشاء مشتهره

أشكو إليك رعاك الله حادثة

يشبُّ منها لظى في النَّفس مستعره

ما بال عثمان ينهى عامدًا عمرًا

أن يستظلَّ وتحنو فوقه الشَّجره

يسطو عليه وينهاه ويزجره

كأنَّه لم يكن من جملة العشره

وقال أيضًا وأنشدنيه لنفسه: [من الكامل]

لم يفضل القدماء فيما ألَّفوا .. إلَاّ مؤلَّف درَّة التَّفصار

ما شئت من معنى بديع رائق

فيها ومن مستحسن الأشعار

فكأنني لمَّا أطالغ ....

منها ومن مستحسن الأشعار

فكأنَّني لما أطالع ....

منها أشاهد سائر الأمصار

/220 أ/ ولئن تقدَّمه أناس قبله

وتفطَّنوا في ذلك المضمار

فله الفضيلة حيث جاء بمائه

لم يشعروا من صحَّة الآثار

لولا اللَّجين وما يساوي لم يبن

للنَّاظرين فضيلة الدِّينار

[552]

عمر بن إبراهيم بن مسعود بن محمد بن إبراهيم، أبو حفصٍ الإربليُّ، ينعت بالخال.

وهو من بيت الشيخ الذس كانوا رؤساء إربل ومشايخها، وإليهم الرئاسة بإربل.

ص: 254

وأبو حفص هذا؛ كانت ولادته تقديرًا في سنة .... وتسعين وخمسمائة. يخدم جنديًا للأمراء، وله طبع في قرض الشعر، يقيم وزن البيت بذوق حسن ويقع

فيجيد رصفها إلَاّ أنه لم يعرف شيئًا من العربية، وإذا أنشد يلحن في إنشاده وربما اتى في شعره بلحن لكونه ما اشتغل بالأدب. وله أشعار تستطاب؛ لأنَّه يضمنها شرح حاله فتأتي مطبوعة خفيفة من غير تكلف. وهو الآن في خدمة الأمير ركن الدين أبي شجاع بن قرطايا الإربلي.

/220 ب/ أنشدني لنفسه، وكان في خدمة ركن الدين بن قرطايا ويشكو إليه من غلاء السعر وتعذر النفقة:[من الخفيف]

إنَّ برقا بدا من الأبرقين

هاج وجدي شوقًا وأسهر عيني

ودعاني إلى الشَّام وعيش

مرَّ رغداً بالدّضوح والجبلين

وفتاة بشفح عرشين إن لاحت تراها أبهى من القمرين

جعلتني بقصر عيسى مشوقًا .. طول ليلي أراقب الفرقدين

قد كواني حرُّ العراق ومالي

جلدٌ ثابتٌ على حرَّين

أين عيشٌ لنا رقيق الحواشي

بمغاني قويق والدَّارين

حبَّذا بالشَّام أبٌ وتموز وبرد النَّسيم في تشرين

يا مليكي اسمع شكاية عبد

من بني الشَّيخ معلم الطَّرفين

ماله ملتجًا سوى بابك المحروس في المشرقين والمغربين

نهبته الخيل العتاق وأفنت

ما حواه من كل جنس وعين

كل يوم لهم وللبيت يا مولاي قوتٌ يزيد عن دانقين

ويزيد العلام منِّي إذا سامح نقدًا في الشَّهر دينارين

/221 أ/ وكر الدار مع كرا الخان والصَّابون أفنى مالي و ....

هات قل لي من أين لي كل ذاك المال أصادفت مطلبًا من لحين

ولئن دام ذا عليَّ تراني

راجلاً قد قطعت رأس العين

أنت ذخري في النَّائبات وعوني

في الملمَّات واعتمادي وزيني

ص: 255

جعل الله نجم سورك محفوفًا بعزَّ يسير في الخافقين وأنشدني لنفسه، وقد نزل بقرية تعرف بأم عبيدة من أعمال واسط، وهي التي فيها بيت الرفاعي مشايخ هذه القرية يخاطب شيخها الزاهد أحمد الرفاعي:

[من الكامل]

يا شيخ أحمد إنَّني متمسكٌ

بكم وأنتم في البريَّة سادتي

ما جئت من أقصى الشَّام إليكم .. إلَاّ لاحظي في غد بالجنَّة

وأطوف من حول الضَّريح تطوُّعًا

وأعفر أطراف الرَّواق بوجنتي

تالله لولا صبيةٌ خلفتهم

بالشَّام بيكون الغداة لغيبتي

/221 ب/ جاورت أمَّ عبيدة وسكنتها

فلعلَّ فيها أن تكون منيَّتي

ما كنت أخشى من زفير جهنَّم

وبنو الرِّفاعي في القيامة عدَّتي

وأنشدني لنفسه، وقد نزل بالهرث –من أعمال واسط- وكان في خدمة الأمير ركن الدين أبي شجاع –حفظه الله- كتب إليه يشكو من البراغيث: -[الكامل]

أشكو إليك من البراغيث الَّتي

بالهرث قد أكلت جميع جوارحي

فكأنَّهم فقراء أمِّ عبيدة

يتراقصون على الفراش بطائحي

وأم عبيدة مجاورة الهرث وبها بيت الرفاعي المشايخ، وبها الفقراء ومذهبهم الرقص إلى عالي.

وأنشدني أيضًا لنفسه، وقد فارق الأمير ركن الدين من حلب ونزل دمشق لسبب جرى بينه وبين عمّه داود بن مسعود: -[من المنسرح]

يا أيُّها الملك الَّذي يده

تعرف بالسَّمهريِّ والجود

/222 أ/ غلامك الخال لم يدع حلبًا

إلَاّ لخوف من خيث داود

داود ما بين .... نكٌ

يرمى خصامًا وبين عنقود

لا تهجبوا إن أذاع سركم

نقل حديث وإبن مسعود

ص: 256

وأنشدني نفسه، وكان يخدم باربل لمالكها مظفر الدين، فعوق نواب الديوان حامكيته. فكتب إلى المستوفي أبي البركات يلتمس منه إستخلاصها:[من الكامل]

مولاي يا شرف الأنام ومن له

كفٌ تنوب عن السحاب إذا ونى

أنت الَّذي ما رام جودك آملٌ

إلَاّ انثنى عجلاً وقد نال المنى

مالي أرى الأجناد من ديوانكم

أخذوا جميع رقاعهم إلَاّ أنا

وأنشدني لنفسه: -[من الخفيف]

كفَّ عنِّي فما عليك ضماني

خلِّ شأن الدُّموع تجري وشاني

فلقد شاقني إلى الشَّام برقٌ

أين أرض الشَّام من جابان

مستهامٌ في هرث جابان يشتاق إلى النَّيربين فالميدان

وقصور بنهر باناس والولدان فيها تخالها كالجنان

/222 ب/ كلُّ حلو الدَّلال معتدل القامة يسبى بطرفه الفتَّان

وغناء الأطيار يعنيك فيها عن سماع النَّايات والعيدان

حبذا، حبَّذا! ليال تقضَّت

بينهم والشَّباب في العنفوان

حيث عقد اللَّذات منهم نظيمٌ

شمل عيشتي في تداني

وحبَّا الزَّمان طلقٌ وأيَّام التذَلاقي من النَّوى في أمان

وورود الوصال عذبٌ وأغصان المسرَّات دانيات المجاني

غدر الدَّهر فافترقنا وهل ينكر غدرٌ من حادثات الزَّمان

وكان في خدمة أمراء إربل، فكتب إليه:[من الوافر]

أيا مولاي ركن الدِّين من لي

سواك ومن بغيرك أستجير

أتعلم أنَّني في سوء حال

وقد أضحى يماطلني الأمير

وتمسي الصَّافنات مضمَّرات

فلا تبنٌ لهنَّ ولا شعير

لقد ضاقت على الأرض حتَّى

كأنِّي في بلادكم أسير

وأنشدني لنفسه من أبيات: -[من البسيط]

والله ما غرَّدت في الأيك طائرةٌ

ولا رأيت غريبًا فارق الوطنا

إلَاّ وقلت من الأشواق يا سكني

ترى تعود ليال قد مضين لنا

ص: 257

[553]

/223 أ/ عمر بن المظفر بن عبد الله بن المبارك بن عثمان المخزمي المعروف بالسيهبان.

وهو لقب لبعض أجداده.

[هو من قرية برطلَّة إحدى قرايا الموصل. كانت حرفته الحياكة، ثم صار له طبع فعمل منه قطعًا كثيرة، وعانى فن الطرب فصار مغنيًا يحضر السماعات ..... ؛ وربما أنشأ شعرًا ..... ]: [من الكامل]

شم بارقًا علوي نجد يخفق

يخبو وطورًا بالغصا يتألَّق

أسرى وقد أغفى الرَّباب على الحمى

والنَّجم في أفق السَّماء معلَّق

يحدو سحابات ......

منه العهاد مواردًا والأبرق

أمسى يروق لشائميه وميضه

ويريق أدمعه الغمام ويهرق

شرقت بوابله الأجارع غصة

لمّا سقاها درُّة المترقرق

فغدت به أطلال رامة تشرق

والزَّهر يرقص والجفار يصفِّق

والرَّوض يبسم والنَّسيم معنبرٌ

فكأنَّ مسكًا في رباها يسحق

أوساقيًا فضَّت خوابي حنتمٌ يده ودار بها عليّ معتق

فثملت حتَّى ظلت من طرب إلى

بان الحمى وغريبه أتشوَّق

وأنشدني لنفسه: [من الطويل]

ألمَّ خيالٌ من أميمة طارق

وقد بيَّنت منه المنى والحقائق

أتى زائرًا وهنا على بعد داره

وما صدَّه طول السرُّرى والعوائق

/223 ب/ عجبت له كيف اهتدى وأمامه

سجوف ظلام مانع وسرداق

سرى بغيابات الكرى متكتِّمًا

وقد هجع الواشون واللَّيل غاسق

ص: 258

فنمَّت به جرس الحليِّ عياده

وطيب رداء فاعترته النَّواشق

فأهلاً به طيفٌ سرى بعد هجعةٍ .. كما لاح في طيِّ السَّحابة بارق

وأنشدني أيضًا من شعره: [من الطويل]

تعرَّض وهنا والرِّكاب هجود

خيالٌ به عهد المزار بعيد

سرى من زرود بعد يأس ودونه

من الأرض بيد للمطيِّ تبيد

تخطَّى إلىَّ النَّائبات فليته

يعيد لبانات الهوى ويعود

وليت الدُّجى يمتدُّ طولاً كهجره

ولم يبد للصبح المنير عمود

فلم يبق في المشتاق غير حشاشة

لنار هوًى بين الضُّلوع وقود

وخافت أنفاس يصعِّدها الأسى

عليها عظامٌ نحَّلٌ وجلود

جرى دمعها دمعًا وغاض كلامها

فليس على هذا السَّقام مزيد

وأجحد أنِّي بالصَّبابة مولعٌ

وهل نافعٌ للعاشقين جحود

وأنشدني لنفسه: [من الطويل]

أهاج الهوى العذريَّ برقٌ تبسَّما .. بدا كغرار السَّيف وهنا على الحمى

سرى خافقًا واللَّيل مرخ ستوره

على ما حوته الخافقان مخيِّما

/224 أ/ بذكرني لمياء لم أنس عهدها

على ما خلا من وصلها وتصَّرما

وما شعفي بالبرق لو لم أظنُّه

وقد راقني ثغرٌ لسعدى توهُّما

أرقت له لكن أرقت مدامعًا

تجرَّعتها ماء فأجريتها دما

وبتُّ أودُّ الطيف لو بات زائرًا

ومن لي بمسراه إذا الرَّكب هوَّما

ومن لي بجرعاء العقيق وجيرة

تجرَّعت لمَّا قوَّضوا العيش علقما

عدمت وقد بانوا الكرى وتجلُّدي

ولا خير في عيش لمن كان معدما

ص: 259

[554]

عمر بن إسماعيل بن مسعود بن سعد بن سعيد بن أبي الكتائب بن أبي العشائر الفارقيُّ، الكاتب، الفقيه، الشافعي، المدرِّس.

شاب اجتمعت به بدمشق بقلعتها المحروسة يوم الاثنين ثاني عشر ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة.

أخبرني أنه ولد في تاسع شعبان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وأنه حفظ القرآن الكريم في ستة أشهر وعمره ست سنين، وقرأ مذهبًا وخلافًا وأصولاً على عدة من المشايخ منهم: أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني، وأبي الحسن علي بن علي الآمدي. وتميَّز فيما قرأ عليهم.

/224 ب/ وشدا طرفًا من الأدب على أبي عبد الله محمد بن حيدر النحوي الموصلي.

وخدم جماعة من بني أيوب ملوك الشام. وكان مبدأ خدمته لتاج الملوك أبي المكارم إسحاق بن الملك العادل؛ ثم لأخيه الملك الأمجد تقي الدين عباس، وبعده لأخيه شهاب الدين غازي؛ ثم للملك الأشرف شاه أرمن، [وصحبه إلى مدينة دمشق

ص: 260

في سنة ست وعشرين وستمائة، ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك الأشرف]، فاتصل بأخيه الملك الصالح أبي الفداء أسماعيل واستكتبه في ديوان إنشائه، وجعله مدرسًا في المدرسة الفلكية مضافًا إلى الكتابة. وهو أحد الكتاب المنشئين بدولته.

وأنشدني جملة من أشعاره، إلَاّ أنَّه إذا أنشد شيئًا منها يستغرق بالثناء عليها ويصفها ويعجب بها غاية الإعجاب، ويتعاطى أكثر مما عنده ويفرط في ذلك.

أنشدني لنفسه بدمشق المروسة بقلعتها يوم الإثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة يقولها للأمير شمس الدين أبي الفضل لؤلؤ بن عبد الله، المقيمة بمدينة حلب:[من الطويل]

حكيت سحاب البحتري معرِّجًا

على حلب فارتاحت الرُّح والنَّفس

فشاهدت بحر للنَّدى فيه لؤلؤٌ

وعاينت أفقًا للهدى وبه .........

//225 أ/ وأنشدني لنفسه أيضًا من قصيدة: [من البسيط]

خودٌ تجمَّع فيها كلُّ مفترق

من المعاني الَّتي تستغرق الكلما

عطت غزالاً سطت ليثًأ خطت غصنًا

ماجت كثيبًا رنت نبلاً بدت صنما

رأيت شعري في الشِّعري بمدته

لأنَّ مدحته علوى إذا نظام

أضاء شمسًا بدا بدرًا علا فلكًا

نما هلالاً سما نجمًا همى ديما

وأنشدني لنفسه: [من الطويل]

ومخطفة تسبي العقول وتخطف العيون كأنَّ السَّحر من جفنها يوحى

خطت وسط ظبيًا وليثًا وأسفرت

صباحًا وفاحت عنبرًا وبدت ....

وأنشدني أيضًا لنفسه وهما بيتان لا ثالث لهما: [من الكامل]

ص: 261

من غرس نعمته وناظم مدحه

بين الورى وسميِّه ووليِّه

يشكو ظماه إلى السَّحاب لعلَّه

يرويه من وسميه ووليَّه

وأنشدني أيضًا في الملك الصالح عماد الدين إسماعيل: [من المديد]

إنَّ إسماعيل بحر ندى

غمامٌ هاطل وكفا

/225 ب/ صالح في اسم وفي صفة

وعمادٌ للورى وكفى!

وانشدني أيضًا لنفسه في رجل اسمه عثمان، وقد رمدت عيناه، ثم شفيت وله ولد يدعى نور الدين وعمل ذلك إرتجالاً:[من الكامل]

قرَّت غيون النَّاظرين لأنَّها

نظرت إلى عثمان ذي النُّورين

نورٌ بعين لم تزل تستحقر الدُّنيا ونورٌ قرةٌ للعين

ص: 262