الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أثر الكتابة في حفظ العلم وقيمته:
كان للكتابة أثر كبير في الشريعة المطهرة من جهة الفوائد المترتبة عليها وظهر هذا في:
أ- تدوين القرآن الكريم وحفظه في المصاحف.
ب- تدوين السنة المطهرة وحفظها في الدواوين.
ج- تدوين العلم الشرعي بكافة تخصصاته وتشعباته العلمية.
فلولا التدوين لاندرست معالم هذا الدين، وضاعت معالمه، لأن أصحاب الصدور يفنون، وأما ما دونوه في السطور فلا يفنى.
ومما ينبغي ذكره ههنا أنه ليس بالتدوين فقط حُفِظ العلم وقامت به الحجة، فإنه لا قيمة للعلم المكتوب إلا باعتبار نقلته وكتبته إلينا، وأما وجوده في الكتب فلا قيمة له إلا إذا كان كتبته عدولاً ضابطين ومن نقل إلينا هذه الكتب كذلك، وأعني به خصيصة الأمة الإسلامية عن سائر الأمم وهي:
1-
البحث في أحوال النقلة من جهة العدالة والضبط.
2-
اتصال السند من أول سلسلته إلى منتهاها.
فإذا نقل الرواة إلينا العلم محفوظاً بالصدور والسطور معاً مع الخصيصتين السالفتين فقد كان هذا هو الغاية والنهاية في المحافظة، وإن نقل إلينا بأحدهما كفى هذا في الصيانة ما دامت الخصيصتان متحققتين معاً، وأما وجوده مكتوباً دون هاتين الخصيصتين أو إحداهما فلا قيمة للعلم الموجود، وكذلك انفراد أحدهما دون هاتين الخصيصتين أو إحداهما فلا قيمة له البتة، ولا نثق بأي شيء من المكتوب - إذا كان هذا حاله - لاحتمال تعرضه للتبديل والتحريف. فلينظر إلى التوراة والإنجيل مكتوبان نعم، ولكن وقع التحريف
والتبديل فيهما لما تجرد نقلتهم من العدالة والضبط، وانقطع سندهم إليهما من عصور تالية لنزولهما، بل يستطيع المسلم أن يجزم بأنهما مخالفان لأصلهما الذين نزلا عليه كما قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79](1) .
فالكتابة حينئذ وسيلة من الوسائل لحفظ العلم ولا يعني أن العلم إذا كتب يكون حجة بها، وأن صيانة الحجة متوقفة عليها، ألا ترى إلى كتاب الله جل وعلا وهو حجة الله على خلقه قد نزله على نبيه صلى الله عليه وسلم منجماً يتنزل به الروح الأمين عليه، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم بعصمة الله، فقامت به الحجة، ولم يحتج أن يتنزل به على النبي صلى الله عليه وسلم مكتوباً ليكون أبلغ في الحجة على الأمة إذ هو نبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، فأتاهم بما يعجزهم ولو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله.
وشريعة الدين العظمى وهي الصلاة لا يمكن لأحد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده، بل لا بد من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنه أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بقوله وفعله، ولو كانت الكتابة من لوازم الحجية لما جاز أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الخطير.
وخلاصة الأمر أن الكتابة لا تلزم بها الحجة وحدها، بل الأصل ما تقدم تقريره من حال النقل والنقلة (2) .
(1) انظر مجموع الفتاوى 17/435.
(2)
انظر الفصول الماتعة التي سطرها العلامة د. عبد الغني عبد الخالق رحمه الله في كتابة حجية السنة: 398 ـ 484.
وكون المرء كاتباً أو قارئاً لا يلزم منه أن يكون عالماً، فإنه لا تلازم بينهما البتة، ألا ترى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من الصحابة الكرام كانوا أميين لا يحسنون القراءة والكتابة، ومع ذلك فهم أعلم الناس، وانظر إلى كثير ممن يحسن القراءة والكتابة في هذا الزمان وله في ذلك درجات عليا في كثير من العلوم الدنيوية وهو لا يحسن قراءة القرآن، ومعرفة شرائع الدين، وتقدم ما قصَّه الله علينا من نبإ أهل الكتاب إذ هم يكتبونه ولا يعقلونه، فمن هنا يظهر أنها وسيلة من الوسائل لا تستقل بنفسها بل بما يحيط بها فبذلك تكون الحجة. وفي الأحكام العملية نرى أن الوصايا والأوقاف والطلاق ونحوها إذا كان مكتوباً دلت الأدلة على إنفاذه، ولكن هذا الإنفاذ متوقف على صحة نسبة الخط إلى كاتبه، وحصول العلم بذلك وليس بمجرد كونها مكتوبة والخلاف الذي حصل بعد ذلك لا في أن الكتابة المقترنة بالقرائن السابقة لا تقوم بها حجة بل للتوثق وإبراء الذمة فمنهم من يشترط الشهود والبينة ونحو ذلك، وهذا لتغير أحوال الناس واجتراء بعضهم على التزوير والكذب، وهذا لا يلغي أصل الحكم بثبوت العمل بها متى تحقق صحة نسبتها إلى صاحبها (1) .
وصحت الرواية بالمكاتبة عند جمهور أهل العلم عند حصول شروط القبول في المتكاتبين ومعرفة المكتوب إليه بخط الكاتب أو إشارته أو مختوماً بخاتمه، وأمانة ناقله ونحو ذلك (2) .
(1) أعلام الموقعين 4/265، الطرق الحكمية /299.
(2)
المحدث الفاصل /452، الكفاية /336، المقدمة /156، اختصار علوم الحديث /102، النكت للزركشي 3/544، فتح الباري 1/155، فتح المغيث 2/135.
ومثل هذا في الوجادة فقد مضى جماعة من أهل العلم على النقل بها وفي الصحيح جملة كرواية أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر، والشعبي عن جابر، وصحح العلماء رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ووهب بن منبه عن جابر، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، والحكم بن عتيبة عن مقسم، والحسن عن سمرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم.
فمن قبلها فبناء على ثقة الناقل وصحة السند إليه، ثم حصول العلم بوجود الكتاب الذي يرويه منه، وأنه ثابت عن كاتبه أو ممليه، وهذا حاصل في الأمثلة السابقة (1) .
فلم تكن الكتابة وحدها حجة بل بما يقترن بها، وهذا أمر مهم فهمه، مخرج للإنسان من بعض الشبه التي حاول منكرو السنة أن يثيروها.
(1) انظر الكتب السابقة مع العواصم والقواصم لابن الوزير 1/231، توضيح الأفكار 2/243.