الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: فهم المخالفين لأحاديث النهي والإباحة:
يبدو أن إيقاع الإشكال في كتابة الحديث والنهي والإباحة قديم جداً أثاره المناوئون للسنة حيث نقل ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ - عنهم قولهم: إنها أحاديث متناقضة وفيها اختلاف (1) .
وإذا كان قد تقدم بيان الحق في هذه الأحاديث وأنه لا تعارض بينها البتة فإن هذه المسألة قد وافقت هوىً في نفوس بعض الناس ولا سيما في هذا العصر فرأوا أن الثابت في هذا هو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة، وأن الصحيح أن نهيه ناسخ لإذنه لأمرين:
1-
استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
2-
عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره ولو دونوا ونشروا لتوافر ما دونوه (2) .
وهذا قول مردود لا شك في هذا بما يلي:
1-
ما تقدم سابقاً من أنه لا معارضة سواء قلنا إن حديث النهي معلّ بالوقف، أو قلنا إنه صحيح، لأن النسخ المطلق لا يصح أن يثبت بين هذه الأحاديث، وأن النهي مخصوص بكتابة شيء آخر مع القرآن في صفحة واحدة، أو أن النهي مخصوص إما عند الخوف من اختلاطه
(1) تأويل مختلف الحديث /286.
(2)
أضواء على السنة المحمدية /21 نقلاً عن رشيد رضا.
بالقرآن أو لكيلا تنصرف الهمم إلى تحصيل غير القرآن، فعلى الاحتمالين لا يصار إلى النسخ ما دام أنه لم يُذْكر تاريخ فيه أولم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلمأو الصحابة، فحينئذ إما رد أحدهما بحجة، وتقدم قوة قول من أعل الحديث الذي حمل النهي بالوقف، وإما قبولهما فيجمع بينهما بلا تعسف، وقد حصل الجمع والحمد لله.
2-
سلمنا بأنه يلزم النسخ فنظرة متأملة لأحاديث الباب يتضح بها تأخر الأحاديث التي فيها الإباحة بوجوه عدة:
أ- كتابة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم حصلت بعد السنة السابعة للهجرة، إذ إنه أسلم وهاجر حينذاك واستمر على كتابة الحديث.
ب- أبو هريرة رضي الله عنه شهد لعبد الله أنه كان يكتب وظاهر الحديث ومفهومه أنه استمر على الكتابة؛ بدليل جزم أبي هريرة بكثرة حديث عبد الله بسبب أنه كان يكتب (1) .
ج- همه صلى الله عليه وسلم بأن يكتب كتاباً في مرض موته، وقد اختلف في المراد بهذا الكتاب هل هو بيان اسم الخليفة من بعده أو هو كتاب يشمل الشرائع التي لا ينبغي الاختلاف فيها؛ وهو صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق، وعلى أي المعنيين فما يريد كتابته هو من سنته ووقت ذلك كان في أواخر أيامه، فكيف يكون النهي هو المتأخر؟ (2) .
(1) الكبرى /82، 9/500، سير أعلام النبلاء 3/91، الإصابة 2/351.
(2)
انظر حجية السنة /447.
د- الإجماع من الأمة القطعي بعد عصر الصحابة والتابعين على إباحة الكتابة وهو إجماع ثابت بالتواتر العملي عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول (1) . وهو يدل بصورة قاطعة أن الإذن هو الأخير.
هـ- تقدم أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما كان عنده صحيفة فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا علي بن أبي طالب ورافع بن خديج رضي الله عنهم وغيرهم كانت عندهم كتب، فلو كان النهي متأخراً لبادروا إلى محو ما في هذه الصحف امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم (2) .
وبهذا يتبين وَهْي هذا القول، وأما ما استدل به على أن النهي هو المتأخر:
1-
استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فسأورد على سبيل الإيجاز ما ورد عنهم ثم بيانه بياناً شافياً إن شاء الله بما يرد كلام هؤلاء.
أولاً عن أبي بكر رضي الله عنه:
أنه جمع الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيراً، قالت عائشة رضي الله عنها "فغمني"، فقلت:"تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك"؟ فلما أصبح، قال:"أي بنيه هلمي الأحاديث التي عندك" فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها، ثم قال "خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد تقلدت ذلك".
(1) الباعث الحثيث /112.
(2)
تهذيب السنن 1/245.
وزاد في رواية "فأكون قد تقلدت ذلك، ويكون قد بقي حديث لم أجده، فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبي على أبي بكر إني حدثتكم الحديث ولا أدري لعلي لم أتتبعه حرفاً حرفاً".
أخرجه الحاكم كما في كنز العمال (10/285) عن موسى بن حماد والغلابي والزيادة له. كلاهما عن المفضل بن غسان الغلابي عن علي بن صالح عن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن إبراهيم ابن عمرو بن عبيد الله التيمي ـ وفي رواية الغلابي ـ عمر حدثني القاسم بن محمد عن عائشة ـ وفي رواية الغلابي القاسم أو ابنه عبد الرحمن.
وهذا إسناد قال فيه الذهبي في التذكرة 1/5: لا يصح.
وقال ابن كثير كما في الكنز: غريب من هذا الوجه جداً وعلي بن صالح لا يعرف.
قلت: على بن صالح هذا شبه المجهول ذكره الخطيب في المتفق (3/1652) وقال: مديني أحسبه زبيرياً. أ. هـ.
ولو صح الخبر لم يكن فيه حجة على ما قال لأنه لو كان آخر الأمرين النهي عن الكتابة ما كتب أصلاً (1) .
وفعل أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما زعمه هؤلاء فقد كتب كتاباً لأنس رضي الله عنه وكان عامله على البحرين، بين فيه فرائض الصدقة وعليه ختم النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
(1) الأنوار الكاشفة /37، 38.
(2)
أخرجه البخاري في الزكاة باب العرض في الزكاة (1448) ، وفي باب لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع (1450) وفيه باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (1451) ، وفيه باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده (1453) ، في باب زكاة الغنم (1454) ، وفيه باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار (1455) ، وفي الشركة باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (2487) وفي فرض الخمس باب ما ذكر في درع النبي صلى الله عليه وسلم (3106) ، وفي اللباس باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر (5878) ، وفي الحيل باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة (6955) .
ثانياً عن عمر رضي الله عنه:
أراد أن يكتب السنن فاستفتى الصحابة في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال:"إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء".
أخرجه عبد الرزاق في جامع معمر (11/257) .
والخطيب في تقييد العلم (/19) عن الثوري كلاهما عن معمر عن الزهري عن عروة به، لكن عروة لم يسمع من عمر رضي الله عنهم كما في جامع التحصيل (/236) ، وفي سنده اختلاف كما بين الخطيب، ولا حجة في هذا الخبر للمخالف، لأنه لو كان النهي ناسخاً أو معلوماً لما استشار الصحابة ولما أشاروا عليه بها، وإن أعرض عن الكتابة بما ذكر علته في هذا الخبر، وكذلك ـ الأخبار الأخرى التي رويت عنه وهي ضعيفة ولو فرض صحتها لحملت على ما علله عمر رضي الله عنه إذ وردت فيها هذه العلة وقد ورد عنه ما يدل على كتابته للسنة فقد
كتب مجموعة من الأحاديث وأرسلها إلى بعض عماله منها ما أخرجه مسلم أن عمر كتب إلى عتبة بن فرقد وهو بأذربيجان وفيه: «وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا
…
الحديث:" (1) .
ثالثاً ابن مسعود رضي الله عنه:
اشتهر عنه نهيه عن الكتابة لكن من تأمل ما ورد عنه وجده ينهى عن الكتابة عنه، تارة لئلا ينكب الناس على الحديث ويدعون القرآن (2) ، أو أن هذه الكتب فيها أذكار مستحدثة وهيئات مبتدعة (3) ، أو أن هذه الكتب من كتب أهل الكتاب (4) . فلا يصح أن تحمل على النهي عن كتابة الحديث مطلقاً لأنه لم يعلل هذا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة بل بأمور أبانها لحظة تخلصه من هذه الكتب.
رابعاً أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:
فقد محى كتاباً خطه عنه ابنه أبو بردة بن أبي موسى رضي الله عنهما (5) ولم يعلل هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة عنه بل خشي أن يتكل
(1) أخرجه مسلم في اللباس باب تحريم الذهب والحرير على الرجال رقم (5411) عن عاصم الأحول ورقم (5413) عن سليمان التيمي ورقم (5415) عن قتادة ثلاثتهم عن أبي عثمان النهدي به وفي لفظ قتادة أن عمر صدر الكتاب بالحديث.
(2)
انظر جامع بيان العلم وفضله 1/278.
(3)
سنن الدارمي 1/124.
(4)
المصدر السابق 1/113.
(5)
أخرجه ابن سعد 4/105، وابن أبي شيبة 9/53، وأبو خيثمة في العلم رقم (153) والدارمي 1/122، والبزار 8/134، والرامهرمزي 1/381، والبيهقي في المدخل (738) ، والخطيب في تقييد العلم /40 بطرق عن أبي بردة عن أبيه وهو صحيح.
أبو برده على الكتاب ويهمل الحفظ وأمره بقوله احفظ كما حفظنا.
خامساً أبو سعيد رضي الله عنه:
وتقدم بيان مذهبه مفصلاً في المبحث الأول من هذا الفصل.
سادساً ابن عباس رضي الله عنهما:
فقد قال "لا نكْتُب العلم ولا نُكْتِبُه"(1) . وورد في بعض الروايات أنه لما ذكر أن هناك من يكتب عنه قام من مجلسه إنكاراً عليه.
وإذا تأملنا ما ورد عنه من نصوص نجده يعلل ذلك بأن ضلال أهل الكتاب جاء بسبب انكبابهم على كتب غير كتاب الله (2) .
ومع هذا فقد كان ابن عباس يكتب ويُكتب عنه وهو يرى وأمر بالكتابة عنه (3) .
وقد ورد مثل هذا النهي عن جماعة من الصحابة (4)، ومع تأملها وتأمل ما سبق نجدها لا تخرج عن أحد أمرين:
أ - إما أنه لم يصح عنهم، وفعلهم على خلاف ما ورد عنهم.
ب- أو صح عنهم ولكنهم لم يعللوا النهي بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة عنه، بل بأمور أخرى خارجة عنه.
(1) أخرجه عبد الرزاق في جامع معمر 11/285 عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وله طرق أخرى وهو صحيح.
(2)
الطبقات الكبرى 6/336.
(3)
دراسات في الحديث النبوي 1/117.
(4)
انظر دراسات في الحديث النبوي 1/95 فما بعدها.
فكيف يقال بعد هذا أن امتناع من امتنع من الصحابة عن الكتابة إنما هو بسبب ما توافر عندهم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ذكروه أن النهي هو آخر الأمرين لأن الصحابة لم يدونوا الحديث ولم ينشروه، وأن لو دونوه لتوافرت الدواعي على نشره.
فهذا قول من لم يمعن النظر في تواريخ الرجال وأحوال الرواة. ولو تأملنا الصحيحين فقط لوجدنا نسخاً كثيرة عن الصحابة اتفقا على إخراجها، أو تفرد أحدهما بها عن الآخر مثل:
1-
صحيفة الزكاة التي كتبها أبو بكر لأنس رضي الله عنهم.
2-
صحف أبي صالح وهمام بن منبه والمقبري وعبد الرحمن الحرقي عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
3-
صحيفة حميد الطويل وسليمان التيمي عن أنس رضي الله عنهم.
4-
صحيفة أبي سفيان والشعبي ومحمد بن علي الباقر عن جابر رضي الله عنهم.
5-
صحيفة رافع بن خديج رضي الله عنه.
6-
صحيفة سبيعة الأسلمية رضي الله عنها.
7-
صحيفة أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنهما.
8-
صحيفة سالم بن أبي أمية وعمر بن عبيد الله عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه.
9-
صحيفة سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
10-
صحيفة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما «الصادقة» وقد رواها عنه أناس.
11-
صحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
12-
صحيفة عمر لعتبة بن فرقد رضي الله عنه.
13-
صحيفة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
14-
صحيفة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
15-
صحيفة سمرة بن جندب رضي الله عنه (1) .
وغير ذلك كثير ولو تأملنا كتب السنة لوجدنا أضعاف ذلك، على أن هذا التدوين لم يكن رسمياً بل بحسب ما توافر لدى الرواة من رسائل الكتابة وانشغالهم بمدارسة القرآن، فقد كان للسنة حظ عظيم في التدوين وأما حجتهم الداحضة أن الكتابة من لوازم الحجية فمردودة بما سبق تقديمه في الفصل الثالث.
(1) المصدر السابق 1/92 فما بعدها.