الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الكتابة زمن البعثة النبوية
المبحث الأول: علاقة العرب زمن البعثة النبوية بالكتابة
كان المجتمع العربي الذي بعث الله تعالى فيه نبيه صلى الله عليه وسلم مجتمعاً ثقافته ومعرفته محدودتان بسبب طبيعة معيشته، إذ كان أكثرهم بدواً رحلاً منشغلين بالحل والترحال، أو حضراً مستقرين في حواضر بسيطة عماد معيشتها على تحصيل الحاجيات الضرورية عن طريق التجارة والزراعة والرعي والصناعة، فكانت كما وصفها الله جل وعلا أمة أمية في مواضع عدة من كتابه الكريم، وكانت منته الكبرى عليهم بأن بعث فيهم خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فنهض بها بعد أن كانت قعيدة، وملأها نوراً بالعلم والهداية بعد أن كانت تعيش في ظلمات الضلال والجهل والخرافة، وصارت به متبوعة عزيزة منيعة مرهوبة الجانب بعد أن كانت ذليلة ضعيفة، وجمعها بعد أن كانت مفرقة مشتتة، ومننه جل شأنه عليها به لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوامِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2] . وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الأميين بقوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"، وعقد الإبهام في الثالثة، "والشهر هكذا وهكذا"، يعني تمام ثلاثين" (1) .
(1) أخرجه البخاري في الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نكتب ولا نحسب" رقم (1913) عن آدم بن أبي إياس، ومسلم في الصيام باب وجوب صيام رمضان برؤية الهلال رقم (2511) عن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن الأسود بن قيس عن سعيد بن عمرو بن سعيد عن ابن عمر رضي الله عنهما به واللفظ لمحمد بن جعفر.
وهذا الوصف خرج مخرج الغالب من العرب، فقد وجدت القراءة والكتابة عند بعضهم، ولكن هذا لا ينافي وصف الأمة بأنها أمية (1) ، مثلما وجد منهم بعض الحنفاء ومن كان يتمسك بالكتاب الأول لم ينف أنها أمة جاهلية فالاعتبار للأغلب.
والجزيرة العربية قامت فيها مدنيات قديمة بائدة قبل عصور طويلة من زمن البعثة النبوية كالدولة المعينية (2) والقتبانية (3) والسبئي (4) والحميرية (5) وغيرها، وعن الأخيرة أخذ المناذرة (6) خط، ومن عاصمة تلك الدولة وهي الحيرة أخذه
(1) انظر أحكام القرآن للجصاص5 /335، فتح الباري 5/127 وقد قال جماعة من المفسرين إن المراد بالأمية أي لا كتاب عندهم ولا أثر لرسالة سماوية فيهم، ولا منافاة بين القولين ـ والله أعلم ـ لأن لفظ الأمي يشمل المعنيين، وقد يكون المرء أمياً من جهة ـ بمعنى لا يحسن القراءة والكتابة ـ وعالماً من جهة أخرى، كحال أكثر الأمة إبان تشرفها بحمل الرسالة، فهي أمية من الجهة الأولى، وعالمة من الجهة الثانية، وقد يكون المرء محسناً للقراءة والكتابة، وهو أمي باعتبار عدم علمه بما يقرأ كما قص الله علينا من نبإ بعض أهل الكتاب أن منهم أميين وهم يتلون الكتاب، انظر مجموع الفتاوى 17/434.
(2)
دولة قامت في اليمن 2000ق. م ونسبتها إلى عاصمتها معين الواقعة بين نجران وشمال حضرموت، وتوسعت حتى شمل نفوذها خارج الجزيرة العربية، وانتهت على يد السبئيين.
انظر دراسات في تاريخ العرب القديم /213.
(3)
من الدول القديمة في الجنوب العربي يرجع بعض الباحثين عهدها إلى 1100ق. م وقد تفردت بأنظمة تسير أمورها ومن أشهر مدنها قتبان وتمنع وحريب وغيرها.
المصدر السابق /247.
(4)
من أشهر الدول القديمة في اليمن قص الله شيئاً من نبئها في سورة سبإ والنمل ومن مدنها الشهيرة صرواح ومأرب.
المصدر السابق /271.
(5)
آخر الدول التي قامت في اليمن ملوكها التبابعة من مدنها ظفار وجرش ونجران، وانتهت على يد الأحباش.
المصدر السابق /335.
(6)
دولة كانت تتبع الفرس تسكن الحيرة إلى الغرب من الفرات استمر حكمها نحو أربعمائة وخمس وستين سنة من عام 268 ـ 633م وسقطت على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه.
المصدر السابق /557.
أهل الحجاز وتعلموا منهم الكتابة كما هو مشهور عند أكثر أهل العلم (1) ، وكان العرب يعظمون القراءة والكتابة ويعلون من شأن العالم بها، فكانوا يلقبون من أتقن الكتابة وأحسن العوم والرمي بالكامل (2) ؛ لأنهم يطلقون الكاتب على العالم، لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن يكون عنده علم ومعرفة (3) .
وإنما لم يكن النشاط الكتابي ظاهراً لأمور عديدة من أبرزها:
1-
أنهم كانوا أمة بدوية بسيطة مقتصرة في حياتها على الضروريات، وإتقان الكتابة والمعرفة بها تابع للمدنية التي يعيشها أصحابها، فمتى توافرت أسباب المعيشة الضرورية انتقلوا إلى تحصيل الكماليات والتوسع فيها مثل الكتابة وتعاطي العلم ونحو ذلك (4) .
2-
أنهم كانوا يعتمدون على الحفظ في الصدور لما آتاهم الله من قوة في الحافظة، وصفاء الطبع، وسيلان الذهن، وحدّة الخاطر فاستغنوا بها عن الكتابة (5) .
3-
ندرة تحصيل أدوات الكتابة من أقلام وصحائف فلم يكن هناك انتشار لهذه الوسائل، وعمدوا إلى وسائل بدائية للكتابة من أمثال العظام
(1) انظر فتوح البلدان /456، المصاحف /4، الأوائل /57، مقدمة ابن خلدون /428 والباحثون المعاصرون يختلفون اختلافاً شديداً في منشأ الخط العربي ومصدره بناءً على ما توافر من نقوش أثرية مؤرخة في عهد الدول السابق ذكرها وغيرها.
(2)
الطبقات الكبرى 3/502، 566، 573.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر 4/148.
(4)
مقدمة ابن خلدون /400.
(5)
هدى الساري/ 6، مناهل العرفان 1/286.
وألواح الخشب، وسعف النخيل والحجارة وتحصيل هذه الوسائل وإعداده صعب جداً، فاقتصروا في الاستفادة بها على الضروريات من وثائق ومكاتبات ونحوهما (1) .
ويمكن أن تُحصر الأمور التي استفاد بها العرب من الكتابة على قلتها في جوانب شتى تظهر بالاستقراء مثل:
أـ كتب الديانات السابقة.
ب ـ كتابة العهود والمواثيق المنظمة لشؤون الأفراد والمجتمعات.
ج ـ الصكوك التجارية وحفظ الحقوق.
د ـ الرسائل الشخصية.
هـ ـ مكاتبة الرقيق.
وـ القصائد الشعرية والمفاخر القبلية والأنساب (2) .
ز ـ الحكم والوصايا (3) .
ح ـ كتب الأساطير القديمة (4) .
ط ـ النقوش الحجرية كشواهد القبور (5) .
وقد ورد عن العرب إقامة كتاتيب لتعليم القراءة والكتابة، في أماكن مختلفة مثل مكة المكرمة، والطائف ودومة الجندل.
(1) مصادر الشعر الجاهلي /77 فما بعدها.
(2)
مصادر الشعر الجاهلي /61 ـ 73، 109، 164، 165.
(3)
المعمرون والوصايا/ 23، 24.
(4)
سيرة ابن هشام 1/358.
(5)
في شمال غرب الجزيرة (الفهارس) .